تحرير الأصول - ج ١

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني

تحرير الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني


المحقق: حمزة حمزوي
الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٦

تعالى شرعا.

ويشهد لعدم وقوعه كذلك عدم التزام احد من الاصحاب بالبناء على التملك وترتب آثاره من حين صدور العقد مع العلم بلحوق الاجازة ، بل يبقى الحال عندهم مراعى حتى تجيء الاجازة من المالك ، فاذا جاءت الاجازة بنى على تملك المال من حين العقد وفائدته تملك نمائه الذى حصل فى المال من حين العقد وقبل الاجازة ، فيكون الجعل على هذا مقارنا مع الاجازة ، وان كان المجعول الذى هو الملكية متقدما عليها ، فلا يلزم من ذلك اللازم المزبور من البناء على الملكية من حين صدور العقد حتى ينكر بأنه مما لم يلتزم به احد.

«فى فساد القول بأن الشرط هو تعقب الاجازة»

ومنه يظهر فساد ما التزم به الفصول وقال : بأن الشرط هو تعقب الاجازة. (١) اذ لازمه الالتزام بالملكية من حين صدور العقد ، لتحقق العقد مع شرطه الذى هو التعقب فيجب الوفاء به ، وهذا كما عرفت مما لم يلتزم به احد.

مضافا الى ان شرطية التعقب مما لا يفى به الادلة القائمة على شرطية الاجازة اذ ليس ذلك إلّا قوله تبارك وتعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ)(٢) وظاهر ان مقتضاه ليس إلّا شرطية الرضا دون تعقب

__________________

(١) ـ الفصول فى الاصول : ٨٠ قال فى آخر مبحث المنجز والمعلق ما هذا لفظه قده : ... كل شىء يكون وقوعه مراعى بحصول شىء آخر كالصحة المراعاة بالاجازة فى الفضولى ، فان شرط الصحة فيه كون العقد بحيث يتعقبه الاجازة وليست مشروطة بنفس الاجازة وإلّا لامتنعت قبلها.

(٢) ـ سورة النساء : ٢٩.

٢٠١

العقد به كما زعمه قده.

ان قلت : كما لم تكن الادلة وافية بالدلالة على شرطية التعقب كذلك هى غير وافية بالدلالة على اعتبار مقارنة الجعل للرضا ، فلم لا يجوز تقدم الجعل للرضا! فان اطلاق دليل شرطية الرضا لا يقضى إلّا باعتبار نفسه من غير نظر الى تقدمه عليه او تأخره عنه ، او مقارنته له ، فيستدل بإطلاقه على كفاية الرضا بجميع انحائه.

قلت : لا اشكال فى كفايته ولو متأخرا إلّا انه ليس المتأخر الا متأخرا عن المجعول دون الجعل والسر فى ذلك ان الجعل انما يتحقق بتمامية العقد وصدوره من اهله لظهور ان اوفوا بالعقود معناه لزوم الوفاء بعقودكم ، كما ان التجارة فى الآية الكريمة يراد بها تجارتكم ، ومعلوم ان هذه الاضافة لا تتحقق إلّا بالرضا والاجازة ، فمن حين حصول الاجازة والرضا من المالك تحصل الاضافة وعندها يتنجز فى حقه الوفاء بعقده وتجارته ، فلا تنجعل الملكية حينئذ الا من حين حصول اضافة العقد التجارة الى المالك نفسه ، ونتيجة ذلك اقتران الجعل بالرضا ، فهذا برهان جزمى على التقارن بين الرضا والجعل ، لكن المجعول لما كان امرا اعتباريا جاز تقدمه على المجعول وتصير الملكية السابقة فى باب الاجازة مجعولة بالجعل المتأخر ، كما ان الملكية اللاحقة فى باب الوصية تكون مجعولة بالجعل المتأخر ، وهذا هو الوجه فيما سمعته آنفا من عدم التزام احد يترتب آثار الملكية للعالم بتعقب الاجازة كما هو لازم تقدم الجعل على الاجازة.

ان قلت : قد تقرر فى باب المشتق ان المشتقات لا دلالة فيها على الزمان ، بل هى صادقة على ما يكون متحققا قبل النسبة وبعدها وحينها فان الضارب فى جاء الضارب اذا لم يكن دالا الا على اتصاف الذات بالضرب تلبسها به كما هو التحقيق الرشيق فى وضع المشتقات ، فلا

٢٠٢

يكاد يستفاد منه الا اقتران صفة الضاربية بزمان المجيء ، بل يجوز ان يكون ضاربا قبل المجيء وحينه وبعده ، وكذلك المقام فان التراضى المأخوذ شرطا فى جعل الملكية لم تعتبر مقارنته له خاصة ، بل يجوز مقارنته له وتأخره عنه وتقدمه عليه.

قلت : قد بينا هناك ان وضع المشتق وان لم يكن يقتضى المقارنة ، بل مفاده اعم من ذلك ، إلّا ان للهيئة الكلامية دلالة على اقتران زمان الجرى مع زمان النسبة الحكمية ما لم تقم قرينة على خلافه ، ولازم ذلك اقتران زمان الرضا مع زمان تحقق عنوان اضافة العقد الى المالك ، وهو حين الاجازة فيتحقق بها الاضافة القاضية بتحقق الجعل من حين تحقق الاجازة.

فإن قلت : ظاهر قوله تبارك وتعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) هو اعتبار تقدم الرضا على تحقق التجارة بمقتضى كلمة «عن» الدالة على نشو التجارة عن التراضى ، وهو لا يكون إلّا بلحاظ تقدم الرضا على التجارة.

قلت : كلمة «عن» لا تقتضى الا التقدم ولا ينحصر ذلك فى التقدم الزمانى ، بل يتحقق التقدم فى التقدم الرتبى ايضا وهو حاصل بين الرضا والتجارة وان لم يكن بينهما تقدم زمانى كما هو ظاهر.

فتحصل من جميع ما ذكرناه ان الاجازة لا يعتبر تقارنها الا مع جعل الملكية دون الملكية نفسها ، بل يجوز تقدم الملكية المجعولة على الاجازة كما يجوز تقدمها على الجعل ايضا ، هذا كله الكلام فى الاحكام الوضيعة.

واما الاحكام التكليفية فيمتنع تقدمها على الانشاء فيما لو كانت مشروطة بالشرط المتأخر لاستحالة انشاء وجوب السابق على زمان الانشاء ، ضرورة ان التكليف بعث العبد نحو المطلوب ، ولا ريب ان

٢٠٣

البعث يستحيل اعتباره بالنسبة الى ما سبق من اليوم السابق الذى مضى وانقضى ، فان ورد شرط متأخر فلا بد وان يكون متأخرا من الانشاء والوجوب المنشا معا ، فيكون المتقدم فى زمانه تكليف وجوبى قد انشاء بإنشاء من حينه بملاحظة ما يلحقه من الشرط المتأخر حتى يصح بذلك البعث نحو العمل فى الزمان المتقدم.

لا يقال : ينبغى خروج الشرط المتأخر للمأمور به عن حريم النزاع لاستحالة ترشح الوجوب من المأمور به اليه ، ضرورة ان المأمور به اذا كان متقدما على شرطه زمانا فعند اتيانه فى زمانه يسقط التكليف المتعلق به واذا سقط تكليفه امتنع ترشح الوجوب منه الى مقدمته الآتية ، لان الترشح منه اليها فرع بقاء الطلب الوجوبى وقد فرض سقوطه بالامتثال.

لانه يقال : اما فى عالم اللحاظ والتصور فليس ثمة مانع من سراية الوجوب الى ذلك الشرط المتأخر لان الامر بعد ان علم بالتوقف جرت الملازمة بين وجوب المشروط ووجوب شرطه ، واما فى عالم الخارج فقد عرفت ان دخالة الشرط المتأخر فيما سبقه من مشروطه ليس إلّا بصيرورة الماهية به متكيفة بكيفية خاصة قابلة لان يفاض اليها التأثير من ناحية السبب ، فاذا جاء المكلف بذات المشروط او لا لم يسقط عنه التكليف إلّا اذا اتى به متخصصا بخصوصية الخاصة المعتبرة فيه شرعا ، وهى لا تحصل الا بإلحاقه بشرطه فذلك التكليف المتعلق بالمشروط بالنحو الخاص يبعثه على اتيان الشرط لتحصيل الخصوصية وهو ظاهر لا يكاد يخفى على المتأمل.

٢٠٤

«حول تقسيمات الواجب»

«الامر الثالث فى تقسيمات الواجب ، منها تقسيمه الى المطلق والمشروط.»

وربما يستشكل فى هذا التقسيم بأنه ينافى المعهود لديهم من اشتراط جميع التكاليف بالشرائط العامة من البلوغ والعقل والقدرة والاختيار ، اذ عليه تكون الواجبات كلها مشروطة ، ولا يبقى مجال لصيرورتها مطلقة حتى يتجه التقسيم المذكور.

ويدفعه ان التقسيم ناظر الى مرتبة الخطاب دون التنجز ولا خطاب متوجه الى الطفل والمجنون ، اما غير المميز منهما فلامتناع خطابهما اقتضاء فعلية ، واما المميز منهما فلرفع الخطاب عنهما بنص الشارع ، واما القدرة والاختيار فهما كالعلم من شرائط التنجز دون الاقتضاء ، فالخطاب الاقتضائى متحقق فى حق العاجز والجاهل وان لم يتنجز فى حقه التكليف فعلا ، فصح لنا حينئذ تقسيم الواجبات بحسب مرتبة الخطاب الاقتضائى الى واجب مطلق ومشروط بلا محذور فيه اصلا كما هو اوضح من ان يخفى.

ثم ان غرض الاقصى من هذا التقسيم التنبيه على ان الذى هو محط النزاع ، ما يكون مقدمة للواجب المطلق دون المشروط ، واما مقدمة المشروط فلا يجب من ناحية وجوب المشروط لامتناع ترشح الوجوب الى المقدمة قبل حصول وجوب ذيها لاستحالة تقدم المعلوم على علته ، وحينئذ اذا اتفق للشىء مقدمتان مقدمة وجوب ومقدمة وجود ، كالحج بالنسبة الى الاستطاعة التى هى مقدمة وجوبها ، والى

٢٠٥

الزاد والراحلة اللتين هما مقدمة وجوده ، فلا تكون المقدمة الوجوبية واجبة ، بخلاف المقدمة الوجودية فانها تبتنى على الخلاف.

«فى تقسيم الواجب الى المعلق والمنجز»

ثم ان ظاهر التعليق بالشرط ان يكون المعلق على الشرط هو مضمون ما يستفاد من صيغة الامر الذى هو الطلب والبعث ، وقضيته انتفاء الوجوب مع عدم تحقق المعلق عليه ففى مثال ان جاءك زيد فأكرمه يكون المعلق على المجيء وجوب الاكرام لا نفس الاكرام ، ومقتضى انتفاء الوجوب عن الاكرام عند انتفاء المجيء خارجا ، وهذا مما لا يكاد يرتاب به احد.

وقد اعترف به الماتن قده فى هذا المقام حيث قال : «الظاهر ان الواجب المشروط كما اشرنا اليه ان نفس الوجوب فيه مشروط بالشرط ، بحيث لا وجوب حقيقة ولا طلب واقعا قبل حصول الشرط كما هو ظاهر الخطاب التعليقى.» انتهى موضع الحاجة من كلامه قده.

ولا يخفى ان كلامه هذا ينافى ما سبق منه فى المبحث السابق حيث جعل الشرط فى شرائط التكليف والوضع هو الملحوظ بوجوده اللحاظى دون الخارجى ، وكيفما كان فالتحقيق الذى يساعد عليه النظر الدقيق هو ما ذكره فى هذا المقام دون سابقه ، كما انه لا ينبغى انكار ظهور الجملة الشرطية المتلوة بالامر فى تعليق الطلب بالشرط دون المطلوب ، لكن المنقول عن شيخنا المرتضى قده الخروج عن هذا الظاهر بقرينتين لغوية وعقلية ، اما القرينة اللغوية فهى ان المعنى الحرفى الذى هو مدلول للهيئة جزئى حقيقى بناء على مختاره فلا يكون قابلا للتقييد اذ «لا اطلاق فى الفرد الموجود من الطلب المتعلق بالفعل المنشا بالهيئة ، حتى يصح القول بتقييده بشرط ونحوه ، فكلما يحتمل رجوعه الى الطلب الذى يدل عليه الهيئة فهو عند

٢٠٦

التحقيق راجع الى نفس المادة.»

ومقتضى هذا الوجه انحصار استفادة القرينية ، فيما اذا كان الجزاء بصيغة الامر ، اما اذا كان بمادته نحو ما لو قال المولى ان جاءك زيد فأنت مأمور باكرامه او يجب اكرامه ، فلا اقتضاء فى مثله للخروج عن الظهور لان المواد قابلة للتقييد كما هو ظاهر.

واما القرينة العقلية فهى ان الطلب تابع للعلم بالمصلحة ، ولا شك ان العلم بالمصلحة سابق على تحقق الشرط خارجا ، فيكون الطلب سابقا عليه ايضا ، غاية ما فى الباب ان الطلب يختلف بحسب اختلاف العلم بالمصلحة فان علم بها على نحو الاطلاق بأن كان الشىء يحتوى على المصلحة على جميع التقادير والانحاء ، كان ذلك الشىء مطلوبا على الاطلاق ويسمى بالواجب المطلق ، وان لم يكن يحتوى على المصلحة الا على تقدير دون تقدير كان ذلك الشىء مطلوبا على تقدير خاص ، فالقصور حينئذ يكون فى ناحية المطلوب دون الطلب ، ومقتضى هذه القرينة اعم من مقتضى القرينة السابقة ، لظهور ان ما اقامه من الدليل العقلى اللبى على امتحالة تعليق الطلب ، لا يفرق فيه بين انحاء التعبير المذكور فى تالى الشرطية مادة وهيئة ، بخلافه على القرينة السابقة لما عرفت من اختصاصها بالمنع على تقدير ورود العبارة فى تالى الشرطية بصيغة الامر لا مادته هذا حاصل ما تحصلناه مما نقل الينا من كلام شيخنا الانصارى قده. (١)

والجواب عنه اما عن القرينة الاولى فبأنها مبنية على ان الحروف والهيئات موضوعة بالوضع العام والموضوع له الخاص ، وهو خلاف التحقيق والمختار عندنا ، بل وضعها عام والموضوع له عام ايضا

__________________

(١) ـ مطارح الانظار ص : ٥٢.

٢٠٧

فلا بأس حينئذ بطرو التقييد على مداليلها ، والى ذلك نظر الماتن فأجاب بما افاده من منع المبنى نظرا الى «ان كل واحد من الموضوع له والمستعمل فيه فى الحروف يكون عاما كوضعها ، وانما الخصوصية من قبل الاستعمال كالاسماء ، وانما الفرق بينهما انها وضعت لتستعمل وتقصد بها المعنى بما هو هو ، والحروف وضعت لتستعمل وتقصد بها معانيها بما هى آلة وحالة لمعانى المتعلقات ، فلحاظ الالية كلحاظ الاستقلالية ، ليس من طوارى المعنى ، بل من مشخصات الاستعمال كما لا يخفى على اولى الدراية والنهى ، فالطلب المفاد من الهيئة المستعمل فيه مطلق قابل لان يقيد.»

لكن فى قوله هنا : فلحاظ الالية كلحاظ الاستقلالية ، دلالة على ان لحاظ المعنى الحرفى تبعى وعلى نحو الالية والمرآتية للغير وليس مقصودا فى نفسه وبحياله ، ولا ريب ان اللحاظ الالية والتبعية فى اللحاظ يمنع عن التقييد ، اذ التقييد موقوف على تعلق القصد بالمعنى على نحو الاستقلال ، وان كان المعنى فى ذاته تبعيا كما هو المختار عندنا فى معانى الحروف ، فالتبعية عندنا انما هى فى الملحوظ وعند الماتن فى اللحاظ وكم من فرق بينهما فانه على الاول لا يمتنع التقييد ، بخلافه فانه يستحيل تقييد المعنى الغير المقصود باللحاظ الا تبعا لغيره كما هو ظاهر لا يكاد يخفى.

وقد اعترف الماتن قده فى حاشيته على المكاسب عند قول شيخنا الانصارى فى خبر ابى ولاد ، نعم قيمة بغل يوم خالفته حيث ذهب الشيخ الى ان المدار فى القيمة على يوم المخالفة ، على ان يكون يوم مضافا الى البغل ثم اضيف المؤتلف من المضاف والمضاف اليه الى يوم المخالفة ، فأورد عليه الماتن ثمة بأن ذلك يستدعى تقييدا فى ناحية الاضافة المتحصلة من قيمة البغل وهى غير صالحة للتقييد ،

٢٠٨

لان الاضافة المستفادة من هيئة التركيب معنى حرفى غير ملحوظ بالاستقلال ، بل على نحو الالية وهذا النحو من اللحاظ الآلي مما يستحيل اعتباره مقيدا بيوم المخالفة. (١)

وبالجملة اذا اعتبر المعنى ملحوظا باللحاظ الآلي كما هو مختار الماتن امتنع تقييده وبذلك يظهر ما فى جوابه عن كلام شيخنا الانصارى قده فى هذا المقام.

نعم لا بأس على تقييده على ما نختاره من كون التبعية فى المعانى الحرفية قد اعتبرت فى جانب الملحوظ دون اللحاظ ، فجوابه او لا بما سمعت غير متجه على مبناه.

ثم قال الماتن : «مع انا لو سلم انه فرد فانما يمنع عن التقييد لو انشاء اولا غير مقيد ، لا ما اذا أنشأ من الاول مقيدا ، غاية الامر قد دل عليه بدالين وهو غير انشائه او لا ثم تقييده ثانيا فافهم.»

اقول : ولعل قوله : فأفهم اشارة الى عدم تمامية جوابه هذا ايضا كسابقه ، اذ الهيئة اذا كان تدل على ان مفادها هو الطلب المنوط ، فذلك المعنى انما هو معنى للجزاء ، فتبقى الهيئة الجملة الشرطية تدل على ان الجزاء المنوط بالشرط منوط بالشرط وهذا واضح الفساد كما لا يخفى.

ثم ان الماتن بعد ان ذكر ما سمعته من الجواب المتعلق بالقرينة الاولى ، اجاب عن القرينة الثانية بما حاصله ان الطلب تابع للعلم بتحقق المصلحة فى الشىء الغير المزاحمة بالمفسدة ، واما لو زوحمت بالمفسدة يستحيل تعلق الطلب بذلك الشىء ، بل ينتظر فى تعلقه به الى زوال تلك المفسدة ، فقبل زوالها لا تكليف ولا طلب فاذا جاز

__________________

(١) ـ الحاشية على المكاسب : ص : ٢٣.

٢٠٩

ذلك فى حد ذاته لم يكن ممتنعا فى نفسه فعند ورود القضية الشرطية لا مانع من الاخذ بظاهرها والحكم بإناطة الطلب بالشرط.

ويرد عليه اولا ان الشرط ربما يكون بوجوده الخارجى منافيا للطلب ، كما فى التعليق بالنوم والموت نحو قول الشاعر :

اذا مت فادفنى مجاور حيدر

أبا شبر اعنى به وشبير

ونحو ما اذا قال المولى لعبده : اذا نمت كنس الدار وامثال ذلك ، وحينئذ يستحيل فى مثل هذه القضايا اعتبار الطلب متأخرا عن تحقق الشرط اذ لا طلب بعد الموت والنوم ، فمثل هذا كاشف جزمى على ان الطلب فى مثل هذه القضايا الشرطية سابق على زمان الشرط ولا مجاز فيها قطعا ، لانها على حذو غيرها من القضايا الشرطية الغير المبتنية على رعاية عناية وملاحظة علاقة كما لا يخفى على اولى الدراية.

وثانيا ان الانشاء مقدمة من مقدمات حصول المراد ، ولا ريب ان مثل هذا الانشاء قد صدر عن ارادة واختيار ، فكان مثل هذا الانشاء مرادا بارادة غيرية مقدمة لحصول المراد الذى هو الاكرام فى فرض المثال ، ومن المعلوم الواضح استحالة انفكاك الارادة الغيرية عن الارادة النفسية ، فلا بد وان يكون الاكرام مرادا عنه ارادة انشاء الطلب والارادة المتعلقين بالاكرام.

وثالثا ان الالتزام بتقييد الهيئة ليس فيه محافظة على ظهور الكلام المشتمل على التعليق ، اذ الظاهر المستفاد من مجموع الكلام ليس إلّا اناطة الجزاء بمدلوله على الشرط نفسه لا على ما يقارنه من عدم المفسدة كما هو مبنى كلام الماتن ، اذ على مبناه لا يكون للاستطاعة التى هى شرط الوجوب دخالة فى تحقق الوجوب للحج وتعلق الطلب به بل الدخيل فيه ليس إلّا ارتفاع مانع المفسدة.

٢١٠

ان قلت : كفى فى دخالتها فيه توقف الوجوب على تحققها منضمة الى عدم المانع ، فهى بالنسبة الى وجوب الحج كنسبة المقتضى الى مقتضاه لا يؤثر فيه الا بعد ارتفاع ما يقارنه من المانع.

قلت : ليست الاستطاعة على هذا شرطا فى حصول الارادة ولا دخيلة فيها ، بل انما هى من قيود الموضوع ويتعرف ذلك من أنا لو فرضنا انتفاء المفسدة من حين الانشاء فأنا نجد الارادة والطلب متحققين ومع ذلك هما متعلقان بالحج بعد الاستطاعة ، فلو كانت الاستطاعة شرطا فى تحقق الارادة لما تخلفت عنها فى هذا الفرض لعدم مانع عن تحققها كما هو المفروض فهذا دليل على ان الاستطاعة لم تعتبر الا فى موضوع الحكم وفى متعلق الطلب والارادة لا فى حصول الارادة نفسها كما هو ظاهر لا اظن ان يخفى.

ثم ان الماتن قده بعد ما اختار مذهب المشهور من تعليق الطلب بالشرط قال : «هذا بناء على تبعية الاحكام لمصالح فيها فى غاية الوضوح ، واما بناء على تبعيتها للمصالح والمفاسد فى المأمور بها والمنهى عنها فكذلك ، ضرورة ان التبعية كذلك انما تكون فى الاحكام الواقعية بما هى واقعية لا بما هى فعلية فان المنع عن فعلية تلك الاحكام غير عزيز كما فى موارد الاصول والامارات على خلافها» انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد فى علو مقامه.

اقول : فرق بين المقام وما ذكره من موارد الاصول والامارات ، فان الاحكام بناء على تبعيتها لمصالح فى المأمور به ، لا يرتفع فعليتها الا حيث تكون المصلحة فى موردها مزاحمة بالمفسدة الاهم المانعة عن تنجز التكليفات الواقعية ، وليس المقام من هذا القبيل ، لظهور ان الحج مثلا قبل الاستطاعة التى هى شرط التكليف بالحج ان اشتمل على مفسدة كان ذلك من باب اشتمال الشىء على مفسدة

٢١١

غير لازمة المراعاة ، لانها مفسدة تترتب على الفعل اذا اتى به قبل وقته المقرر له وظاهر ان مثل هذه المفسدة لا تصلح ان تكون رافعة لفعلية الخطاب قبل ، اذ لا مصادمة لمثل هذه المفسدة لفعلية الطلب ، لعدم استتباعه الفعل الا فى زمانه المضروب له شرعا او على الصفة المعتبرة فيه كذلك ، وهذا بخلاف موارد الاصول والامارات فان مقتضى المصلحة فيها وان كان هو فعلية الطلب الباعث الى العمل من حين ورود الخطاب ، إلّا ان ابتلاء المورد بما يزاحمه من المفسدة الاهم ، اوجب ارتفاع الفعلية عن ذلك المورد وصار مرخصا فى تركه مثلا بعد ان كان مقتضى المصلحة فيه المنع عن تركه كما ورد ذلك فى السواك.

فتلخص من جميع ما مر ان كلام الشيخ اعلى الله مقامه سالم عن الايراد عليه بما فى الكفاية ، ومحصل اختياره ان لا واجب عندنا الا واجب مطلق مردد بين منجز ومعلق ، فالتقسيم حينئذ ثنائية لا ثلاثية كما ذهب اليه المشهور ، فان اقترن زمان الوجوب والواجب كان من الواجب المنجز الحالى وان اختلفا كان من الواجب المعلق ، وفى قباله من وافقه بتثنية القسمة إلّا انه احال المعلق وحصر التقسيم فى قسميه المشروط والمنجز الحالى.

«فى ابطال ما افيد من استحالة الواجب المعلق»

وحاصل ما افيد فى تقريب المنع واستحالة الواجب المعلق وجهان :

احدهما : ان الارادة التى هى ملاك الوجوب ليست إلّا ما توجب حركة العضلات نحو المراد وهى فى الارادة التكوينية تبعث المريد على التحرك نحو المراد ، وفى الارادة التشريعية تبعث العبد على

٢١٢

التحرك نحوه ، وهى لا تكون الا مقارنة للعمل فما لم تكن مقارنة له لم تكن تلك الارادة منشأ انتزاع الوجوب والطلب ، وحينئذ يستحيل تأخر الواجب عن الوجوب ، بل لا محيص من ان يكون الوجوب والواجب مقارنين ، فان كان الواجب فعليا كان وجوبه كذلك ويصير الوجوب منجزا حاليا ، وان كان استقباليا كان وجوبه كذلك وصار الوجوب مشروطا بشرطه الاستقبالى ، فانحصرت القسمة فى القسمين الواجب المشروط والواجب المطلق الحالى ولازم ذلك انحصار الواجبات فى الواجبات النفسية ، اذ الواجب الغيرى لو فرض تحققه يلازم انفكاك الارادة عن المراد النفسى زمانا لحيلولة الواجب الغيرى بينهما.

قلت : هذا النزاع يشبه ان يكون لفظيا اذ لا يتحاشى الفريقان فى ان لنا فى نفس الامر والواقع ارادة ليست هى مقارنة للعمل وانما هى تقارن مقدماته ، فمن ذهب الى الواجب المعلق نظر الى ان مثل هذه الارادة هى الموضوع لحكم العقل بوجوب الامتثال ، فمتى تحققت وجب موافقتها وهى باعتبار تعلقها بالمقدمات ارادة توصلية غيرية فتتصف المقدمات من اجلها بالوجوب الغيرى وباعتبار تعلقها بذى المقدمة ارادة نفسية ويتصف ذو المقدمة من اجلها بالوجوب النفسى.

ومن انكر الواجب المعلق منع حكم العقل بوجوب امتثال مثل هذه الارادة وانما التزم بأن الواجب امتثاله من الارادة ، هى الارادة المقارنة للعمل فيكون جميع المقدمات خارجة عن حيز مثل هذه الارادة ولا تكون موصوفة بالوجوب الغيرى ، فلا وجوب الا ما يكون مقارنا لنفس العمل المطلوب بنفسه ، فان كان قد حضر وقت العمل كان الوجوب منجزا ، وإلّا كان الوجوب مشروطا لم يكن له تحقق الا عند حضور شرطه ووقته الذى هو يقارن وقت العمل هذا.

٢١٣

ولكن الذى يقوى فى النظر صحة القول الاول بشهادة الوجدان ، ويظهر ذلك فيما لو تماهل العبد المأمور بشراء اللحم الموقوف على مقدمات حتى فات عليه بعض تلك المقدمات ، فلا اظن ان يرتاب احد فى استحقاقه العقوبة على ترك الشراء ، فلو كان من قبيل الواجب المشروط لم يكن يستحق على ذلك العقوبة ، بل له الاعتذار بأن الطلب المصحح للعقوبة على مخالفته لم يكن قد توجه اليه الا بعد فوات بعض المقدمات المانع ذلك عن توجه التكليف اليه ، ولا ريب فى بطلان التالى بالوجدان وشهادة العيان.

ثانيها : ان يردد الواجب الاستقبالى بين ان يكون مطلوبا على وجه التقييد بالزمن المستقبل بحيث يكون التكليف متوجها الى مجموع القيد والمقيد معا ، او يكون مطلوبا بذاته لا مع قيده ، فعلى الاول يستحيل التكليف لان القيد غير مقدور لعدم التمكن من تحصيله فيستحيل التكليف بالمركب من القيد والمقيد معا.

وعلى الثانى فان كان الطلب كالمطلوب غير مقيد بشىء كان التكليف منجزا وهو خلاف المفروض ، وان كان الطلب معلقا على حصول القيد كان ذلك من قبيل المشروط وهو عين المطلوب فلا واجب معلق حينئذ.

وفيه ان الاستناد الى هذا الوجه ان كان مبنيا على اعتبار مقارنة الارادة للمراد ، فقد عرفت ما فى المبنى فى السابق بما لا مزيد عليه ، وان لم يبتن على ذلك واجتزى بالارادة المقرونة مع المقدمات قلنا : اختيار تعلق الطلب بذات المقيد ولا محذور فيه اصلا ، اذ الذات لم تكن مطلوبة إلّا بنحو تكون مقرونة مع القيد بنحو خروج القيد ودخول التقييد فى المطلوب ، من غير ان يكون للذات اطلاق وتوسعة شاملة لصورة التجرد من القيد.

٢١٤

ويظهر الفرق بين هذا النحو من اعتبار الذات ، وبين اعتبارها مقيدة بنحو دخول القيد ، بأنه على فرض خروج القيد جاز تعلق التكليف بالمقيد لامكانه فى زمانه ، فلا مانع من البعث نحوه على ان يؤتى به فى وقته وزمانه بنحو الواجب المعلق ، وهذا بخلافه على فرض دخول القيد ، فانه غير مقدور التحصيل مطلقا حتى فى زمانه فيستحيل تعلق التكليف به الا مشروطا بحصول قيده لا مطلقا.

فقد انقدح انه ان بنى على اعتبار مقارنة الارادة للعمل انحصرت القسمة فى الواجب الحالى والمشروط دون المعلق ، وان لم يبن على ذلك انحصرت القسمة فى الواجب الحالى والمعلق دون المشروط ، فالقسمة لا تكون حينئذ الا ثنائية.

«فى دفع الاشكال عن مبنى المشهور فى تثليث الاقسام»

ويبقى الاشكال على المشهور فى بنائهم على تثليث الاقسام ، ولكن الاشكال عليهم بذلك يبتنى على ان يكون دخالة القيد والمقدمة فى المطلوب بنحو واحد فى قسمى الواجب المشروط والمطلق ، وانما الاختلاف بينهما فى ذات المقدمة ، فان كانت لازمة التحصيل كان ذلك الواجب من قسم الواجب المطلق ، وان لم تكن لازمة التحصيل كان ذلك الواجب من قسم الواجب المشروط ، فيتجه الاشكال عليهم حينئذ بما ذكر من انحصار القسمة فى قسمين وتكون حينئذ ثنائية ، لا كما بنو عليه من كونها ثلاثية ، فان كانت المقدمة من غير المقدور ، كالوقت ، او كانت مطلوبة ولكن لم يطلب حصولها من داعى الامر ، خرجت المقدمة عن حيز الارادة وصار الواجب مشروطا على قول او معلقا على قول آخر ، وان كانت مقدورة وكانت لازمة التحصيل

٢١٥

من داعى الامر كان الواجب منجزا حاليا ، فلا تخرج الاقسام حينئذ عن امرين.

ويرد عليهم مضافا الى ما سمعت من ان ذلك ينافى بنائهم الذى بنوا عليه من تثليث الاقسام انه يلزمهم مع ذلك تعلق الحب والاشتياق بغير المقدور من المقدمات ، لان عدم القدرة لا يكون مانعا الا عن تعلق الارادة بغير المقدور من المقدمات ، واما مباديها من الحب والاشتياق فلا مانع من تعلقها بالمقدمات وهو على خلاف الوجدان ، فأنا نجد المقدمات فى الواجبات المشروطة خارجة عن حيز الارادة بمباديها ، فإن الاستطاعة وكذا الوقت ليسا محبوبين ، كما انهما ليسا بمرادين ولا مبعوث اليهما فى ظاهر التكليف هذا ما تحصل من كلام شيخنا الاستاذ.

ويمكن الخدشة فيه بأن الاشكال على من ثلث القسمة ان كان بملاحظة ما بنى عليه من اتحاد الدخالة فى القيود فذلك لم يقع فى صريح كلامه حتى يورد عليه بما ذكر ، ولعله يرى اختلاف الدخالة كما يراه استادنا العلامة على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى.

ولو سلم ابتناء كلامه على ذلك فأقصى ما يمكن الاشكال عليه بأن ذلك على خلاف ما هو المشاهد من مرحلة التقييد ، اذ التقييد تارة يكون تقييدا فى صفة الاحتياج ، واخرى فى وجود المحتاج اليه كما يأتى توضيحه قريبا اما مع تسليم اتحاد الدخالة واعتبار وحدة التقييد فلا مجال للاشكال عليه ببطلان تثليث القسمة ، لظهور انه نحن نجد المقدمات الواقعة فى حيز الارادة على انحاء ، اذ ربما يراد حصولها من داعى الارادة كما فى مقدمات الواجب المطلق ، وهى على ضربين ، فان كانت المقدمة مقدمة لواجب متوقع الحصول فى الزمان الآتي كانت مقدمة للواجب المعلق ، وان كانت مقدمة لواجب منجز

٢١٦

حالى ، كانت مقدمة لواجب منجز ، وربما يراد حصولها من غير داعى الارادة وان كانت مطلوبة الحصول ، إلّا ان مطلوبيتها ينحصر بوقوعها من غير دعوة الارادة كمن حضر عنده ضيف فى وقت مضيق ، وكان يكره المضيف حضوره عنده فى مثل هذا الحال ، فان خروج الضيف عن داره فى مثل ذلك كان مرادا له قطعا ، إلّا انه لا يرضى بأن يكون خروجه عنه بداعى ارادته خوفا من العار وانما يريد خروجه عنه بغير داعى ارادته ، بل بسائر الدواعى الخارجية غير دعوة ارادته ، فان كانت المقدمة بهذا النحو كانت مقدمة لواجب مشروط.

والحاصل انه يمكن تعقل كون القسمة ثلاثية مع فرض الاتحاد فى الدخل فلا مجال للاشكال على من ثلث القسمة بمنع صحة التقسيم كذلك على هذا الفرض ، وانما يتجه الاشكال عليه بمنع الاتحاد فى الدخل لو كان قد صرح فى كلامه بكيفية الاتحاد فى الدخالة ، ولم نقف على تصريح بذلك فى الكلمات فلا موقع حينئذ للاشكال عليه بوجه من الوجوه اصلا كما هو اظهر من ان يخفى.

ومنه يتبين لك ما فى الايراد عليه باستلزام اعتبار الاتحاد محبوبية المقدمات الغير المقدورة وان لم تكن مرادة لابتناء الايراد عليه بذلك على ان يكون اختيار الخصم غير ما يختاره هو مد ظله من الاختلاف فى كيفية القيود فى دخالتها فى المطلوب ولم يعلم ذلك ، ولعلهما متوافقان فى المبنى.

على ان دخول المقدمات الغير المقدورة تحت مبادى الارادة انما هو حيث تتقدم الارادة على تلك المقدمات لا مطلقا ، فلا يرد الاشكال على تقدير تسليم وروده الا على شيخنا الانصارى قده الذى

٢١٧

بنى على رجوع الواجبات المشروطة كلها الى الواجبات المعلقة ، (١) اما على مبنى قول الآخر الذى ارجع المعلقات الى الواجبات المشروطة بواسطة اعتبار مقارنة الارادة للعمل المطلوب بما بيناه آنفا ، فهو فى فسحة من هذا الاشكال ، لعدم سبق الارادة على حصول المقدمات الغير المقدورة ، حتى يستشكل عليه بأن السبق يقتضى تعلق الارادة بتلك المقدمات ، وبعد تعذره بخروج المقدمات عن المقدورية يرتفع عنها فعلية الارادة ، ويبقى فى المقدمة ما لا ينافيه الخروج عن المقدورية من مبادى الارادة التى هى الحب والاشتياق والرغبة والميل وذلك اظهر من ان يخفى.

«التحقيق فى تثليث القسمة»

وكيف كان فتحقيق القول فى محل البحث والكلام على وجه يرتفع عنه الاشكال ويصح به تثليث القسمة بلا محذور فيه ولا ارتياب يبتنى على مقدمتين :

الاولى : ان يقال : ان اختلاف القيود والمقدمات فى المطلوب المعتبر حصوله من بعدها على نحوين فان اعتبر القيد دخيلا فى الاتصاف بالمصلحة ، كان ذلك مقدمة للواجب المشروط وسمى مقدمة الاحتياج كالمرض بالنسبة الى الاسهال مثلا فان الاسهال لا يصير صلاحا ولا يوصف به الا بعد حصول المرض.

وان اعتبر دخيلا فى ترتب الاسهال وحصوله ، كان ذلك مقدمة للواجب المطلق وسمى مقدمة الوجود المحتاج اليه كشرب السقمونيا ، والفارق بين المقدمتين باعتبار الارادة ان المقدمة الاولى خارجة

__________________

(١) ـ مطارح الانظار : ٥١.

٢١٨

عن الارادة بمباديها ، لظهور ان مثل هذه المقدمة لا تكون متعلقة للارادة فى نظر العقلاء ، فلا يتطلب المرض لكن يتحقق به صلاح الاسهال ولا يشتاق اليه ولا يكون محبوبا لديهم إلّا اذا كان ذلك وسيلة لتحصيل مطلوب آخر اهم لديهم من دفع المرض ، وربما كان يتطلبه تخلصا من الوقوع فيما هو اعظم منه مفسدة ومضرة عليه ، كمن كان يرى عنده المرض سببا للاعتذار عن الدخول فى زمرة الخارجين لقتال ابى عبد الله الحسين روحى له الفداء فحينئذ يكون المرض محبوبا لديه ، وربما تكون مثل تلك المقدمة مطلوبة بنفسها لا للغير كما نجده فى ان الانسان يحب ان يولد له مع انه اذا ولد له يلزمه القيام بوظائف التكليف المتوجه الى الآباء من الانفاق على ابنائهم بالاكل ، والشرب والكسوة ، وسائر ما يحتاجون اليه فى تعيشهم ، ولكن مثل هذا ليس إلّا اتفاقيا غير دائمى فى مثل هذه المقدمات الاحتياجية.

نعم هو دائمى فى المقدمة التى تكون معتبرة فى ترتب الغرض المطلوب كشرب المسهل والمنضج فى المثال فانه اذا اتفق الابتلاء بالمرض فلا يكاد ينفك ذلك عن ارادة شرب السمقونيا والمنضج ، فمثل هذه المقدمات تكون مطلوبة للمريض بعد ابتلائه بالمرض ، ومرادة له قطعا بلا ريب واشكال ولا ينفك عن كونها مرادة له ، فصح بهذا تثليث القسمة حيث ان القيد ان كان من قيود الاحتياج خرج عن حيز الارادة وكان الواجب من قبيل الواجب المشروط ، وان كان من القيود التى يترتب عليها وجود المحتاج اليه كان الواجب من قبيل الواجب المطلق ، فإن كانت تلك القيود سابقة على زمان الفعل كان من قسم الواجب المعلق ، وان كانت مقترنة معه كان من قسم الواجب المنجز فتمت القسمة ثلاثية مشروط ، والواجب المعلق بقسميه ، فمثل هذا نتيجة مبنى المختار من اختلاف الدخل ، ومن نتائجه ايضا خروج

٢١٩

قيود الاحتياج عن الارادة بمباديها من الحب وغيره كما يساعد عليه الوجدان السليم ، ومن نتائجه ايضا استحالة اعتبار مثل هذه القيود الاحتياجية فى الموضوع ، لان الموضوع متعلق الحكم ومورد تعلق الارادة به ، وقد عرفت ان قيود الاحتياج بأسرها خارجة عن حيز الارادة فيكون الحكم قد تعلق بذات الموضوع الذى هو توأم مع القيد على وجه خروج القيد والتقيد عنه فأفهم واغتنم.

«فى تعلق الامر بالطبيعة»

المقدمة الثانية : ان الطبيعة اذا لوحظت فى عالم التصور تارة تلحظ مقيدة باللحاظ الذهنى وهو المسمى باعتبار التحلية بالحاء المهملة اى اعتبار حلول الطبيعة فى الذهن ، واخرى مجردة عن ذلك اللحاظ وان كانت متحققة فى الذهن وهو المسمى باعتبار التخلية بالخاء المعجمة اى اعتبار خلوها عن الوجود الذهنى وعلى الثانى فأما ان ترى الطبيعة بهذا اللحاظ غير ما بإزائها من الوجود الخارجى على وجه ترى الاثنينية بينها ، واما ان ترى عينه بالنظر الا الى المرآتى وقد تقرر فى بحث تعلق الاوامر بالطبائع او الافراد ان التحقيق تعلقها بالطبائع على النحو الا حيز كما سيأتى بيانه إن شاء الله تعالى فى محله.

وعليه فكل ما يقع فى حيز الامر يكون هو الطبيعة الحاكية عما فى الخارج بنحو الاتحاد معه وليس الامر متعلقا بالوجود الخارجى لظهور ان الشىء بعد وجوده لا يتعلق به الطلب وإلّا لزم تحصيل الحاصل وهو محال كما انه ليس الخارج بمعزل عن مرام الطالب ، فلا يكون الطبيعة بما هى طبيعة مطلوبة كما هو مقتضى الصورة الاولى من

٢٢٠