تحرير الأصول - ج ١

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني

تحرير الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني


المحقق: حمزة حمزوي
الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٦

طهارة الثوب بعد انكشاف الخلاف وهو مما لا يلتزم به احد. هذا.

ويرد عليه ايضا ان جعل الطهارة للشىء تابع لتحقق موضوعه فان كان هناك شىء بنى على طهارته بحسب جعل الشارع وإلّا فلا ، مع انا نجدهم يحكمون بطهارة الشىء بعد انقضاء زمانه ، مثلا لو تيقنت طهارة ماء وتوضأت به وصليت ثم تبدل يقينك فى طهارة الماء الى الشك السارى ، فعلى القول بالجعل لا مجال للبناء على طهارة ذلك الماء المتوضى به لانتفاء موضوع الطهارة بعد انقضاء زمان الوضوء بالماء ، لظهور ان الطهارة الحقيقية المجعولة فى زمان الشك لا بد لها من محل تقوم فيه ، وهو فى مورد المثال هو الماء المتوضى به وقد انعدم باستعماله فى الوضوء ، وهذا بخلافه على المختار من كونها حكما عذريا جعل للشاك ما دام شاكا ، اذ يجوز الامر بالمعاملة معاملة الطاهر بعد انقضاء زمان الوضوء ، حتى يترتب على ذلك الاجتزاء بما وقع منه فى زمان اليقين.

واما الكلام فى ما يتعلق بالامارات فقد اختلف فيها انها معتبرة على وجه الطريقية او السببية ، وعلى الاول فهل لسانها تنزيل المؤدى منزلة الواقع او ان لسانها تتميم الكشف؟ وتحقيق الحق فيها وبيان الثمرة فى اختلاف كيفية النظر والدلالة موكول الى محله ولا يهمنا فى «هذا» المقام إلّا ان نذكر ان الاصل ليس «بخلاف» الامارة ، بل هو مثله فى الحكم بعدم الاجزاء وان اختلفا فى المفاد و «فيما» يقتضيه دليل اعتبارهما اذ الاصل اعتبر وظيفة عملية فى مرتبة الشك ، ومن ثم «كان» الاصل متأخرا رتبة عن الامارة ، اذ المستفاد «منها» اعتبار الطهارة «بلسان انه ما هو الشرط واقعا» لظهور ان مفاد هذا النحو من اللسان ظهور الواقع تعبدا وانكشافه لدى المكلف تنزيلا ، ولا يبقى معه مجال للشك الذى هو موضوع الاصل

١٨١

لابتنائه على الغاء الشك ، سيما على المختار من دلالة دليل التنزيل على تتميم الكشف «كما هو لسان» دليل اعتبار «الامارات فانه لا يجزى ما يكون» مفاده ذلك «فإن دليل حجيته حيث كان بلسان انه واجد لما هو شرطه الواقعى فبارتفاع الجهل ينكشف انه لم يكن كذلك ، بل كان لشرطه فاقدا ، هذا على ما هو الاظهر الاقوى فى الطرق والامارات من ان حجيتها ليست بنحو السببية ، واما بناء عليها وان العمل بسبب ادعاء امارة الى وجدان شرطه او شطره» فان كان مفاد دليلها توسعة الواقع على ان يكون الفاقد مصداقا حقيقيا للمأمور به فلا ريب فى انه على هذا الوجه «يصير حقيقة صحيحا» ويكون «كانه واجد له مع كونه فاقده ، فيجزى» مطلقا وان كان مفاده بدلية الفاقد عن الواجد اجراء ذلك عن الواقع «اذا كان الفاقد معه فى هذا الحال كالواجد فى كونه وافيا بتمام الغرض» ، كما هو قضية اطلاق مفاد الامارة «ولا يجزى لو لم يكن كذلك» وحينئذ «فيجب الاتيان بالواجد لاستيفاء الباقى ان وجب ، وإلّا لاستحب» على اشكال تقدم نظيره فى الامر الاضطرارى «هذا مع امكان استيفائه وإلّا فلا مجال لاتيانه» الا مع الشك فى امكان استيفائه فانه يلزمه الاعادة فى الوقت لكونه شكا فى القدرة على الامتثال وهو يوجب الاحتياط «، كما عرفت» ذلك «فى الامر الاضطرارى.»

وان كان مفاده اثبات حكم مستقل لموضوعه بلا نظر فى لسانه الى بدليته عن شىء ، او مصداقيته بطبيعة اخرى ، فلا يقتضى مثله الاجزاء عن الواقع بعد انكشاف الخلاف الا مع فرض المضادة بين المصلحتين ، «و» مع الشك «فلا» يكاد «يخفى» حكمه بعد ما سمعت منا مرارا من لزوم مراعاة احتمال القدرة على الامتثال ، بل مقتضى اطلاق دليل الواقع هو لزوم تدارك الواقع مهما امكن بلا انتهاء

١٨٢

النوبة الى الاصل العملى ، ومن فروع المسألة ما لو تبدل راى المجتهد الى الحكم بمقتضى امارة اخرى غير ما ادى اليه اجتهاده الاول ، فانه يلزمه العمل على موجب الاجتهاد الثانى وما قامت عليه الامارة الثانية مراعاة لحجيتها الثابتة له بحسب اجتهاده الثانى ، ولا يجتزى بما اتى به على وفق الامارة الاولى ، سواء بنى على ان حجيتها من باب الطريقية او السببية وسواء انكشف له الخلاف بالقطع او بالظن المعتبر «لان قضية اطلاق دليل الحجية» القائم على اعتبار الامارة الثانية «على هذا» التقدير من تبدل الراى والاجتهاد هو انحصار الوظيفة فى العمل على الامارة الثانية وعلى مقتضى الاجتهاد الثانى «والاجتزاء بموافقته» اذ كما لا يجوز بناء العمل على الاجتهاد الاول بعد تغيره الى الاجتهاد الثانى كذلك لا يجوز الاجتزاء بما وقع موافقا للاجتهاد الاول «ايضا».

«هذا فيما اذا احرز ان الحجية بنحو الكشف والطريقية او بنحو الموضوعية والسببية ، واما اذا شك ولم يحرز انها على اى الوجهين» فان كان لدليل الواقع اطلاق بنى عليه ولزمته الاعادة وإلّا فان تردد الحال فيه بين الطريقية والسببية ، فإن كانت السببية المحتملة على النحو الاول فلا يجب الاعادة وكان الحكم فيه الاجزاء ، لانه قبل ظهور الخلاف كانت له حجة قائمة على عدم وجوب غير ما اتى به على حسب الامارة السابقة ، وبعد ظهور الخلاف ينقدح له علم اجمالى بتكليف مردد بين التكليف الاول والثانى ، وقد خرج الاول عن محل ابتلائه فيبطل اثر العلم بالنسبة الى التكليف الثانى فلا يلزمه مراعاته بالاعادة ، لاصالة البراءة.

«واما اصالة عدم الاتيان بما يسقط معه التكليف» التى بنى عليها فى الكفاية وقال : انها «مقتضية للاعادة فى الوقت» فهى ساقطة عندنا

١٨٣

بعد ما سمعت من اقتضاء اصالة البراءة عدم لزوم الاعادة والاجتزاء بما وقع على حسب ما أدّت اليه الامارة قبل ظهور الخلاف.

وان كانت على النحو الثانى فان كان يمكن استيفاء الباقى ، وجبت الاعادة ولا يجتزى بالمأتى به اولا اذ على الطريقية لا يجتزى بما وقع ناقصا ، وعلى السببية لم يكن المأتى به وافيا بتمام المصلحة وكان ممكن التدارك حسب الفرض فيجب اعادته لتدارك الباقى.

وان كان لا يمكن استيفاء الباقى فالكلام فيه كما فى النحو الاول من عدم وجوب الاعادة ، لانه قبل ظهور الخلاف كان له حجة على عدم وجوب الاعادة ، وبعد ظهور الخلاف حدث له علم اجمالى مردد الاطراف بين ما وقع وبين ما لم يقع ، وفى مثله لا اثر للعلم الاجمالى بالنسبة الى ما وقع فيرجع الامر حينئذ الى الشك فى وجوب العمل على ما لم يقع والاصل فيه يقضى بالبراءة كما لا يخفى.

وان كان لم يعلم حاله هل يمكن الاستيفاء او لا يمكن؟ كان ذلك شكا فى القدرة على الامتثال وقد مر منا مرارا ان الشك فى القدرة يجب الاحتياط فيه بحكم العقل ، وان كانت بالنحو الاخير لم يجب بالوجه الذى عرفته آنفا من الرجوع الى اصل البراءة.

هذا كله الكلام فيما اذا كان احد طرفى الترديد احتمال الطريقية فان لم يحتمل ذلك وتردد الامر بين اقسام السببية ، فان كان احد طرفى الترديد احتمال السببية بالنحو الاول كان الحكم فيه الاجزاء وعدم لزوم الاعادة ، لانه مع فرض دوران الامر بين السببية على النحو الاول وبينها على النحو الثانى يعلم بوجوب الجامع بين الناقص والكامل ، وانما الشك فى وجوب ما يزيد على ذلك بنحو تعدد المطلوب ، ويجرى فيه البراءة ، ومع فرض الدوران بينها على النحو الاول والنحو الاخير ، يجرى حديث العلم الاجمالى المزبور فانه

١٨٤

حين قيام الامارة كانت له حجة على عدم وجوب الزائد وبعد ظهور الخلاف وانكشاف الواقع لديه يحدث له العلم الاجمالى ، لوجوب احد الامرين عليه اما الجامع بين الناقص والكامل ، واما خصوص الكامل ، فان كان الواجب هو الجامع فقد فرغ عنه بالعمل على مقتضى الامارة القائمة على وجوب الناقص ، وان كان الواجب عليه خصوص الكامل ، فبعد لم يأت به ، وكل مورد يكون العلم الاجمالى مرددا بين طرفين خرج احدهما عن محل الابتلاء دون الآخر ، لم يكن للعلم الاجمالى تأثير بالنسبة الى الطرف الآخر المبتلى به.

وان لم يكن احد طرفى الترديد احتمال السببية بالنحو الاول بل تردد الاحتمال بين السببية بالنحو الثانى والنحو الثالث وجبت الاعادة ، اذ الواقع بعد لم يؤت به تماما وكما لا حسب الفرض ، وما اتى به يحتمل قيامه بعض مراتب الواقع ان كانت السببية بالنحو الثانى ، ويحتمل عدم قيامه مقامه ان كانت السببية بالنحو الثالث ، فهو يعلم بتوجه تكليف اليه واقعا وبعد لم يخرج عن عهدته فيجب عليه مراعاته بالاعادة.

«حول مقدمة الواجب»

«فصل فى مقدمة الواجب وقبل الخوض فى المقصود ينبغى رسم امور :»

«هل المسألة فرعية او اصولية»

الاول : هل البحث فى هذه المسألة بحث عن مسئلة فرعية ، او عن مسئلة اصولية ، او هى من مبادى الاحكام؟ وجوه يحتمل الاول نظرا

١٨٥

الى ان البحث عن وجوب المقدمة وعدم وجوبها كالبحث عن وجوب السورة وعدم وجوبها ، لا حق لفعل المكلف فيندرج فى المسائل الباحثة عن الاحكام المتعلقة بأفعال المكلفين ، ويحتمل الثانى نظرا الى ان مرجع الخلاف وجوبها وعدم وجوبها الى الخلاف فى تحقق الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها وعدم تحققها ، وهذا بحث عما يقع فى طريق الاستنباط فيكون مسئلة اصولية ، ويحتمل الثالث نظرا الى ان وجوب المقدمة يعد من لوازم وجوب ذيها فيكون مرتبطا بالاحكام ارتباط اللازم بملزومه ، ويكون حينئذ من المبادى الاحكامية.

وخير الوجوه اوسطها ، لان الاحتمال الاول يفتقر الى ان يكون مسئلة المقدمة كسائر المسائل الفرعية تحتوى على محمول ثابت لموضوعه بمنشإ خاص ، مثلا الصلاة واجبة مسئلة فرعية تشتمل على موضوع هو الصلاة ومحمول هو الوجوب ومنشأ انتساب الوجوب اليها ، كونها مما يترتب عليها الانتهاء عن الفحشاء والمنكر ، وهكذا سائر المسائل الفرعية ، لها موضوعات خاصة ، ومحمولات خاصة ، واغراض خاصة ، وليست هى عناوين جامعة لمسائل متعددة كما هو كذلك فى مسئلة المقدمة ، فإن البحث فيها عن الملازمة فى سريان الحكم من ذى المقدمة اليها من غير اختصاص ذلك الحكم بالحكم الوجوبى ، ولا بالحكم الاستحبابى ، وربما يختلف الحكمان بحسب اختلاف مراتبهما شدة وضعفا ، فكان التعبير بالمقدمة فى كلامهم كالعنوان العام الحاكى عن موضوعات عديدة مختلفة الحقيقة ، محكومة بأحكام مختلفة خصوصية ومناطا ، فهو كما لو قيل : فعل المكلف محكوم بأحد الاحكام الخمسة فإن مثل هذا لا يليق بالمسائل الفرعية ، مع انه مهما امكن جعل المسألة عن مسائل العلم المبحوث عنه لا وجه لجعله من مسائل

١٨٦

علم آخر كى تكون استطراديا كما لا يخفى.

واما احتمال كونها من المبادى الاحكامية ، فهو غير مناسب لعد المسألة فى كلماتهم فى طى مسائل الاصول ، فكان مثل هذا شاهدا على ان مسئلة المقدمة من جملة مسائل الاصول كما صرح به غير واحد من الفحول.

هذا ما تحصلته من كلام الاستاذ دام ظله فى مجلس البحث.

واقول : لم يذكر الماتن صاحب الكفاية قده احتمال عد المسألة من مبادى الاحكام ، ولعله ناظر الى ان المبادى على نظرهم وقضاء عليه فى اصطلاحاتهم فى كتب الاصول والمنطق ، هى المسائل التى يتوقف عليها تصور الموضوع واجزائه وجزئياته ، او ما يتوقف الشروع فى ذلك العلم عليها ، وهذا المعنى لا ينطبق على مسئلة المقدمة المبحوث عنها هنا ، او يكون ناظرا الى انحصار البحث فى المقام عن حكم المقدمة او عن ملازمة حكمها لحكم ذى المقدمة ولا احتمال ثالث متصور فى البين حتى يندرج ذلك فى مبادى الاحكام ، فإن كان البحث فيه من قبيل الاول كانت المسألة باحثة عما يلحق فعل المكلف فتكون مسئلة فرعية ، وان كان البحث ثمة عن الملازمة كانت المسألة تتعلق بما يقع فى طريق الاستنباط فتكون مسئلة اصولية.

ثم ان ما ذكره مد ظله فى خروج هذه المسألة عن المسائل الفرعية ، لم يعلم له معنى محصل لما تقرر عندهم من ان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات كما وقع ذلك فى كلمات الاوائل ، او بتمايز الاغراض كما وقع ذلك فى كلمات الاواخر ، فامتياز المسألة الاصولية عن المسائل الفرعية اما يكون بامتياز الموضوع او بامتياز الغرض لا بوحدة الموضوع والمنشا ، فإن هذا خارج عن طريقتهم فيما

١٨٧

جعلوه مائزا بين مسائل العلوم بعضها عن بعض.

«فى تقسيم المقدمة الى داخلية وخارجية»

الثانى : ربما تقسم المقدمة الى داخلية وخارجية وجعلوا الاول فى مقدمية الجزء للكل حيث ان الاجزاء اذا اعتبرت لا بشرط كانت مقدمة ، واذا اعتبرت بشرط الاجتماع بعينها الكل ، فيتوصل من المقدمة بهذا الاعتبار الى ذيها بالاعتبار الآخر ولا محذور فيه كما هو ظاهر ، ولا يلزم من ذلك مقدمية الشىء لنفسه كما ربما يتوهم لاختلاف الاعتبار.

هذا ملخص ما يوجه به القول بالمقدمة الداخلية ، ولكن للنظر فيه مجال لظهور ان الهيئة الاجتماعية وان كانت تقتضى الاثنينية ، والاختلاف بين الشىء بلحاظ انفراده وبينه بلحاظ اجتماعه مع غيره ، إلّا ان مناط وحدة الواجب ليس بذلك اللحاظ الاجتماعى ، كيف ولو كان ذلك هو المناط فى وحدة الواجب لكان ينبغى الالتزام بوحدة الواجب عند اختلاف المصالح ، وتعددها بحسب تعدد الاجزاء والتالى باطل قطعا ، فلو كان ثمة اشياء متلازمة الوجود وكان لكل واحد منها مصلحة خاصة متعلقة به ، فينبغى البناء على ان مثل ذلك واجب واحد ، وفساده ظاهر بالبداهة ، كما انه يلزم البناء على تعدد الواجبات فى الاجزاء التى يترتب عليها غرض وحدانى ومصلحة واحدة ، اذا لم تعتبر مجتمعة بحسب الوجود الخارجى وهذا باطل قطعا ، فلو لم يكن لاكرام العشرة الا مصلحة واحدة من دون اعتبار ترتيب ولا موالاة بينها ، لزم البناء على تعدد الواجب بحسب تعدد العشرة ، وهذا مما تشهد البداهة بفساده ، فمثل هذا اقوى شاهد على ان مدار الوحدة والتعدد فى

١٨٨

الواجب ليس على وحدة الهيئة وتعددها فلم يبق إلّا ان يكون وجه توهم الاتحاد والتعدد هو وحدة المصلحة وتعددها ، او وحدة اللحاظ وتعدده ، او وحدة الحكم وتعدده ، ولا يجوز ان يكون الوجه فيه هو الاول لان وحدة المصلحة انما تعتبر فى المتكثرات بعد رعاية المصلحة فهى منتزعة عن ملاحظة المصلحة بحسب تقررها الواقعى ، وظاهر ان ما ينتزع من المتأخر فى الرتبة يستحيل اعتباره فيما هو متقدم عليه كذلك فوحدة المصلحة يمتنع اعتبارها فى المتكثرات التى يترتب عليها المصلحة ، فما هو ذو المصلحة ليس إلّا المتكثرات بما هى متكثرات لا بوحدتها الطارية عليها من ناحية المصلحة.

وهكذا الكلام فى وحدتى اللحاظ والحكم ، فأنهما منتزعان من اللحاظ والحكم اللاحقين للمتكثرات بما هما متكثرات ، ولا ريب ان الاشياء فى حال تكثرها ليست منشأ انتزاع الجزء والكل ، إلّا اذا لوحظت واحدة بالمصلحة واللحاظ والحكم ، فقبل اعتبار الوحدة فيها لم يكن ثمة كلية ولا جزئية وبعد اعتبارها فيها تنتزع الكلية والجزئية فى رتبة واحدة لاتحاد المنشا فلا يكون حينئذ للجزئية تقدم على الكلية حتى يتحقق بذلك المقدمية.

ان قلت : هب ان الواحدة الحكمية يستحيل اعتبارها فى موضوع الحكم ، ولكنه من الجائز اعتبار الوحدة اللحاظية فى متعلق الحكم فيكون المتكثرات المتحددة باللحاظ موضوعا للحكم بالوجوب.

قلت : لم يعتبر اللحاظ الا توطئة للحكم الوجوبى مثلا ولم يتعلق اللحاظ الا بالمتكثرات ، فكانت المتكثرات بأنفسها وذواتها موضوعا للحكم الوجوبى.

وان شئت قلت ان الحكم لا يتعلق بشىء الا بعد لحاظه فلم يكن يعتبر اللحاظ الا توطئة لورود الحكم على ذلك الملحوظ فذلك الملحوظ

١٨٩

بعينه يكون محكوما عليه ، وقد عرفت استحالة اعتبار الوحدة اللحاظية فى الملحوظ فلم يكن الملحوظ محكوما عليه إلّا بما هو عليه المتكثرات من دون اعتبار وحدة فيه بالوحدة اللحاظية او الحكمية ، ومن المعلوم ان المتكثرات قبل اعتبار الوحدة فيها عارية عن صفتى الجزئية والكلية وبعد اعتبارها فيها ينتزع الكلية والجزئية عن منشأ واحد ، فلا يكون فى البين تقدم لاحدهما على الآخر حتى يتأتى فيه اعتبار المقدمية للجزء على الكل ، ويكون من المقدمة الداخلية فكونها مقدمة وكونها داخلية مما لا يجتمعان ، ضرورة ان المقدمية يستدعى التقدم على ذى المقدمة وذو المقدمة حسب الفرض هو الكل ومقدمته جزئه ، قد انتزع هذا العنوانان اى الجزئية والكلية من الوحدة الاعتبارية الطارية على المتكثرات ، فيكونان فى رتبة واحدة لا تقدم لاحدهما على الآخر ، فقبل اعتبار الوحدة لا جزء ولا كل وبعد اعتبارها لا مقدمية للجزء على الكل.

فتلخص مما ذكرناه ان الوحدة التى هى منشأ انتزع الجزئية والكلية ، يمتنع اعتبارها فى المتكثرات الا فى رتبة متأخرة عن ذواتها وبهذا الاعتبار لا تكون منشأ اعتبار المقدمية للجزء.

نعم لو جاز انتزاع الكلية والجزئية فى الواجب عن وحدة الهيئة الاجتماعية ، امكن تصوير اجتماع الجزئية مع صفة المقدمية ، لكن قد عرفت فيما مر ان ذلك غير جائز لاستلزام ذلك اتحاد الواجب وتعدده بحسب وحدة الهيئة وتعددها وليس كذلك. ومن ثم يستحق على المخالفة عقوبات متعددة على حسب تعدد المتكثرات التى هى ذوات مصالح متعددة ، وان كانت مجموعة تحت هيئة واحدة كما انه لو قصد الامتثال بمجموعها كان مشرعا ، وهذا بخلاف ما لو كانت المتكثرات ذات مصلحة واحدة وغرض واحد فانها تعد واجبا واحدا

١٩٠

وان لم تكن مجموعة بهيئة واحدة ، ولئن سلم انتزاع الوحدة فى الواجب عن وحدة الهيئة ، قلنا : منع تمامية القول بالمقدمية الداخلية على اطلاعه ، ومنع دخولها فى محل نزاع القوم ، اذ الواجب ان فرض هو الاجزاء بشرط الانضمام فلا ريب ان الجزء على هذا الفرض ليس مقدمة وإلّا واجبا غيريا ، بل هو واجب نفسى وتكون الهيئة واجبة غيرية لاعتبارها على هذا الفرض شرطا فى تحقق الواجب ، وان فرض هو الهيئة بنفسها واجبة بالوجوب النفسى ، وتكون الاجزاء حينئذ خارجة عن المأمور به واجبة بالواجب الغيرى ، وان فرض هو الاجزاء مع الهيئة وهذا وان اجتمع فيه الجزئية مع المقدمة الداخلية إلّا انه يستحيل اتصاف الاجزاء بالوجوب الغيرى ، فلا تصلح ان تكون مورد نزاع القوم فى ترشح الوجوب اليها من ذى المقدمة.

وتوضيح ذلك : ان الاجزاء من حيث كونها علة لتحقق الهيئة تكون مقدمة لها ، ومن حيث تعلق الوجوب النفسى بها مع الهيئة تكون داخلة فى الواجب ، إلّا ان مرتبة الوجوب النفسى لما كانت متقدمة على الوجوب الغيرى فقد اتصفت الاجزاء او لا بالوجوب النفسى وامتنع اتصافها ثانيا بالوجوب الغيرى لاستلزام ذلك اجتماع المثلين وهو كاجتماع الضدين محال.

واحتمال حصول التأكد باجتماع الوجوبين ، يدفعه ان التأكد لا يكون إلّا فيما يتوارد عليه صفة الوجوب بنحو العرض كالعالمية والهاشمية مثلا لو كانا واجبين لا بنحو الترتب بنحو العلية ، كما هو كذلك فى المقام حيث ان احد الوجوبين مترتب على الآخر ، لظهور ان الوجوب الغيرى فى الاجزاء معلول للوجوب النفسى الطارى عليها منضمة الى الهيئة ، فيكون بين الوجوبين تخللا بالفاء ، فيقال وجبت الاجزاء والهيئة نفسيا فوجبت الاجزاء غيريا ، ويستحيل التأكد فى

١٩١

مثل ذلك وحينئذ تتمحض الاجزاء للوجوب النفسى ، ويبقى فيها ملاك الوجوب الغيرى. هذا حاصل ما استفيد من كلام شيخنا الاستاذ دام ظله فى مجلس الدرس.

واقول : يمكن الذهاب الى دعوى وحدة فى ضمن المتكثرات تكون مؤثرة لما يترتب على تلك المتكثرات من الغرض الوحدانى ، والدليل عليه ما تقرر فى غير المقام من الواحد لا يصدر إلّا من الواحد ، فوحدة الغرض والمصلحة فى المتكثرات ادل دليل على ان المؤثر فى حصولها ليس إلّا جامع وحدانى متحقق فى ضمن تلك المتكثرات ، او هو خارج عنها يحصل بحصولها كالطهارة الخارجة عن اجزاء الوضوء المحتوى على الغسلتين والمسحتين ، يترتب عليه استباحة الدخول فى الصلاة بواسطة الطهارة المتحصلة من الوضوء.

لكنك قد عرفت فى الصحيح والاعم بما لا مزيد عليه ، ان الصلاة ليست من قبيل الوضوء يتحصل منها الجامع كما يتحصل من الوضوء بل نسبة الجامع اليها كنسبة الكل الى جزئه ، ومن ثم كان مقتضى الاصل فى الصلاة عند الشك فى اعتبار شىء فيها هو البراءة ، بخلاف الوضوء لان الشك فى اعتبار شىء فيه من باب الشك فى المحصل ومقتضى القاعدة فيه الاحتياط ، فالجامع الصلاتى مندك فى ضمن المتكثرات ، نظير ما سمعت منافى تصوير المعانى الحرفية على المختار ، من كونها موضوعة بالوضع العام والموضوع فيها عام ايضا.

١٩٢

«فى تقسيم المقدمة الى العقلية والشرعية والعادية»

فان كانت الملازمة بين المقدمة وذيها عقلية كانت المقدمة عقلية ، وان كانت الملازمة شرعية كانت المقدمة شرعية ، وان كانت الملازمة عادية كانت المقدمة عادية ، وليست هذه الاقسام على نسق واحد فإن العقل فى المقدمات ليس إلّا واسطة فى اثبات الملازمة دون ثبوتها ، بل الواسطة فى الثبوت ليس إلّا ذات الشىء بما هو هو ، وهذا بخلاف المقدمتين الاخيرتين ، فان الشرع والعادة واسطة فى ثبوتها دون الاثبات ، لظهور ان الملازمة فى المقدمات الشرعية والعادية لا تتحقق الا بعد اعتبار الشرع مشروطية الصلاة بالطهارة مثلا فى المقدمة الشرعية ، او اقتضاء العادة فى حصول العلم بالتعلم مثلا فى المقدمة العادية ، فلو لا اعتبار مطلوبية الصلاة مقيدة بالطهارة ، وكذا تحصيل العلم من طريق التعلم ، لما كان ثمة ملازمة بين الطهارة والصلاة ولا بين العلم والتعلم.

«فى تقسيم المقدمة الى الوجودية والوجوبية والصحة والعلمية»

ومنها تقسيمها الى مقدمة وجودية ، ومقدمة وجوبية ، ومقدمة الصحة ، ومقدمة علمية ، ولا يخفى ان مقدمة الصحة لا تخرج عن المقدمتين الاولين ، لظهور ان القصور فى طرو الوجوب على الشىء تارة يكون لقصور فى موضوعه وأخر لقصور فى حكمه ، فان كان من قبيل الاول كانت المقدمة من المقدمة الوجودية كالطهارة بالنسبة

١٩٣

الى الصلاة ، فإن وجود الصلاة الواجبة منوط بالطهارة ، وان كان من قبيل الثانى كانت المقدمة مقدمة وجوبية كالوقت بالنسبة الى الصلاة فإن الصلاة الواقعة قبل الوقت لم يكن فيها قصور باعتبار وجودها ، وانما القصور فى توجه الحكم نحوها فلا تكون واجبة قبل الوقت.

هذا ما افاده شيخنا الاستاذ دام ظله فى مقدمة الصحة وكأنه يومئ فى كلامه هذا الى الاعتراض على ما فى الكفاية من تخصيصه رجوع مقدمة الصحة الى مقدمة الوجود خاصة ، حيث قال الماتن فى الكفاية :

«لا يخفى رجوع مقدمة الصحة الى مقدمة الوجود ولو على القول بكون الاسامى موضوعة للاعم ، ضرورة ان الكلام فى مقدمة الواجب لا فى مقدمة المسمى بأحدها كما لا يخفى» انتهى كلامه رفع مقامه.

وهو عندى جيد متين لا يرد عليه مقالة الاستاذ ، اذ حال الصلاة اذا وقعت قبل الوقت كحالها اذا وقعت من غير طهارة ، لا توصف بالواجبية الا بعد الوقت فما يوقع قبل الوقت ليس هو الواجب كما ان الواقع من غير طهارة لم يكن هو الواجب ، فالصلاة بصفة الواجبية لا تتحقق الا بعد الوقت والطهارة فكل منهما مقدمة لوجود الواجب بصفة واجبيته.

اللهم إلّا ان يكون نظر شيخنا الاستاذ الى ان الدخيل فى الواجب يختلف حاله ، تارة يكون دخالته فى تحقق ذات الواجب المتصف بصفة الوجوب ، وذلك كالطهارة التى هى مقدمة الوجود فى اصطلاحهم واخرى يكون دخالته فى لحوق صفة الوجوب للواجب ، وذلك كالوقت الذى هو مقدمة وجوب الصلاة بمقتضى قوله «ع» اذا دخل الوقت وجب الصلاة والطهور (١).

__________________

(١) ـ الوسائل ج ١ ابواب الوضوء : باب ٤ : ٢٦١.

١٩٤

وكيف كان فالامر سهل.

واما المقدمة العلمية فتارة يكون من قبيل الشبهة المحصورة ، لتوقف اجتناب النجس المعلوم تحققه بين الاطراف ، على اجتناب الاطراف ، ومعلوم ان ذلك من الوجوب العقلى الثابت للعلم الذى هو ذو المقدمة ولا يرتبط بمحل البحث ، واخرى يكون من قبيل الفحص الذى هو مقدمة للتعلم فان كان التعلم واجبا نفسيا كما هو مختار صاحب المدارك قده (١) كان الفحص مقدمة وجود لا مقدمة علمية ، وان كان واجبا للغير كان الفحص مثله مقدمة لحصول العلم الذى هو ذو المقدمة فكان ذلك مقدمة وجود ايضا ، وان كان اعتبر طريقا الى الواقع فيخرج ذلك عن المقدمة العلمية فى جميع الفروض.

«فى تقسيم المقدمة الى سبب وشرط وعدم المانع»

ومنها تقسيمها الى سبب وشرط وعدم المانع ، وعرف السبب بأنه ما يلزم من وجوده الوجود ، وعرف الشرط بأنه ما يلزم من عدمه العدم ، وعرف المانع بأنه ما يلزم من وجوده العدم.

وربما يستشكل فى تعريف السبب بأنه غير جامع ، لعدم شموله للسبب المقرون مع المانع فانه لا يلزم من وجوده الوجود ، ومن ثم قيده بعضهم (٢) بقيد لذاته تخلصا من هذا الاشكال ، ومع ذلك هو غير سالم من الاشكال لانتقاضه بالجزء الاخير من العلة التامة فانه يلزم من وجوده الوجود ، مع ان ذلك الجزء الاخير ربما لا يكون من قبيل الاسباب فلا يكون التعريف حينئذ مانعا.

__________________

(١) ـ كما نسب اليه شيخنا العلامة الانصارى قده فى الرسائل ص : ٣٠٣.

(٢) ـ هو المحقق القمى فى القوانين ص : ١٠٠.

١٩٥

والاولى ان يفرق بين السبب وتالييه ، بأن السبب له دخالة فى مسببه بنحو التأثير ، بخلاف الشرط وعدم المانع فإن دخالتهما فى المشروط وحصول الممنوع بنحو افاضة القابلية ، وصيرورة الماهية بهما قابلا للتأثير من ناحية الاسباب.

ويظهر لك كمال الفرق بينهما فى مثال النار واليبوسة والرطوبة المانعة عن تأثير النار فى احراق الخشب فان النار سبب للتأثير فى الخشب دون الاخيرين ، فأنهما مما يتحقق بهما قابلية التأثير من قبل النار لظهور ان النار هى المحرقة للخشب واليبوسة شرط فى تأثير الخشب بالاحتراق من قبل النار كما ان الرطوبة مانعة عن تأثره بها ، فعدم الرطوبة كاليبوسة له دخالة فى قبول الخشب للاحتراق.

والحاصل ان الاول يحقق الاثر ويوجده فى الخارج والاخيرين محققان للقابلية فى الخشب.

وبهذا البيان يندفع ما قد يورد على تعريف الشرط بأن منقوض بجزئه فانه يلزم من عدمه العدم ايضا ، فيلزم من ذلك ان يلحق الجزء وجوب غيرى له ، ثم يلحقه وجوب آخر باعتبار ملاحظة انضمامه مع الجزء الآخر ، ثم وجوب ثالث بملاحظة انضمامهما مع الجزء الثالث وهكذا ، فيكون هناك وجوبات متركبة على جزء واحد وهذا محال بالضرورة.

وتوضيح الاندفاع بأن يقال : ان مناط اعتبار الشرط هو افاضة القابلية وهذا المناط يقضى بلحوق وجوب واحد للشرط بتمام اجزائه بوجوب واحد لكل واحد من تلك الاجزاء وجوب ضمنى لا وجوب مستقل ، وكذلك فى السبب لما كان مناط الوجوب هو افاضة الوجود والتأثير فى المسبب وهذا قائم فى السبب بمجموع اجزائه ، لا بكل جزء جزء ، ولازم ذلك ان يلحق بكل واحد من الاجزاء وجوب ضمنى يتعلق به لا وجوب مستقل حتى يتأتى فيه اشكال اجتماع

١٩٦

الوجوبات على جزء واحد.

ثم انه قد ظهر من البيان المزبور الفرق بين السبب واخويه وعرفت ان دخالة الشرط وعدم المانع فى تحقق المشروط ووجود الممنوع ليس بنحو التأثير كما هو كذلك فى السبب والمقتضيات ، بل بنحو تصير الماهية بهما قابلة للوجود والتحقق ، ويكون ذلك هو الوجه فى تقدمهما على ذى المقدمة.

وببيان آخر ان الماهية لما كانت ذات اثر خاص ، وربما يكون ترتب الاثر عليها منوطا بتخصصها بخصوصية خاصة ونحو خاص ، فان كانت الخصوصية منتزعة عن وجود شىء ، او كونها فى طرف خاص ، سمى ذلك المنشا الانتزاع شرطا ، وان كانت منتزعة عن عدمه سمى ذلك المنشا الانتزاع بالمانع ، فالمانع على هذا لا يكون له دخالة فى الممنوع إلّا باعتبار ان قابلية الماهية للتأثر من قبل السبب منوط بعدمه لا بنحو التأثير ، ضرورة ان الاعدام غير قابلة للتأثير ولا سنخية بين العدم والوجود ، كما انه ليس مناط الدخالة هو المضادة لكمال المنافرة بين الضدين والنقيضين.

مضافا الى ان الضدين فى رتبة واحدة ، فعدم احدهما فى رتبة وجود الآخر فلا يصلح مثله ان يكون منشأ لتقدم عدم احدهما على وجود الآخر ، بل ليس منشؤه الا صيرورة الماهية به قابلة للتأثر من قبل الاسباب والمقتضيات ، فكان تقدم الشرط وعدم المانع على المشروط ووجود الممنوع من باب تقدم منشأ الانتزاع على الامر الانتزاعى دون المؤثر على المتأثر ، وهذا فى المانع كالضرورى بعد ما عرفت من قيام البرهان الجزمى على استحالة الدخالة التأثيرية فيه لامتناع تأثير الاعدام فى الوجودات.

١٩٧

«فى الشرط المتاخر»

واما الشرط فهو وان امكن التشكيك فيه بأنه لم يقم ما يدل على امتناع دخالة التأثير فيه بالنسبة الى مشروطه ، إلّا انه من الجائز ان يكون اعتباره فى المشروط بملاحظة كونه منشأ انتزاع الخصوصية فى مشروطه ، فليحمل عليه كلما يرد من الشرع مشروطا بشرط متأخر كالاجازة فى الفضولى والغسل الليلى فى المستحاضة ونحو ذلك مما ظاهره اعتبار المتأخر شرطا فى صحة المتقدم.

فتلخص مما قررناه ان الذى يستحيل تأخره عن المعلول ما يكون مؤثرا فيه نحو المقتضيات والاسباب لا ما يكون بنحو يفيده قابلية التأثر والانفعال من قبل المقتضيات ، فلا يجب فى اجزاء العلة بتمامها ان تكون مقارنة لمعلولها ، الا ما يكون دخالته فيه نحو التأثير دون افاضة القابلية هذا.

وفى الكفاية لما بنى على اعتبار التأثير فى تمام اجزاء العلة استشكل فيما ورد مما ظاهره الشرط المتأخر او المتقدم ، وتخلص عنه بأن الشرط ان اعتبر شرطا للتكليف او الوضع فليست شرطيته له الا بوجوده العلمى لا بوجوده الخارجى وما هو متأخر هو الوجود الخارجى كما فى الشرط المقارن وهذا معنى قوله قده «فكما فى المقارن يكون لحاظه فى الحقيقة شرطا كان فيهما كذلك فلا اشكال وكذا الحال فى شرائط الوضع مطلقا.» وفيه ان الوجود العلمى ليس له دخالة فى تحقق المصلحة القائمة فى التكليف او الوضع ، وانما الدخيل فيهما الوجود الخارجى المتأخر او المتقدم ، فليس العلم

١٩٨

بالنسبة اليهما الا طريقا محضا ، ولا موضوعة له فيهما لظهور انتفاء التكليف مع انكشاف الخلاف وعدم تحقق المعلوم من الشرط المتقدم او المتأخر.

ومما يشهد للطريقية ان لو فرض امكان اجتماع العلم بتحقق الشرط فى الزمن المتأخر مع احتمال عدم تحققه ، لم يكد ينقدح فى نفس الطالب ارادة متعلقة بالفعل باعثة للتحرك نحوه ، وحينئذ اذا كانت المصلحة منوطة بالشرط المتأخر عاد المحذور بالنسبة الى المصلحة ، حيث انها صارت مشروطة بشرط متأخر.

ولئن قلت : ان هذا التكليف او الوضع يستعقبان الشرط المتأخر وهذا التعقب صفة مقارنة لهما وكفى بذلك فى تصحيح القاعدة العقلية وعدم انخرامهما.

قلت : ان كانت هذه الصفة صفة حقيقية ، فكيف تكون منتزعة عن المعدوم المتأخر ، وان كانت اعتبارية فمنشأ انتزاعها ليس إلّا الوجود المتأخر ، واذا صلح انتزاعها عن المتأخر وجودا ، فليكن الشرط هو الوجود المتأخر على حسب ما يقتضيه ظاهر دليل الشرط ، بلا حاجة الى تمحل ارتكاب التأويل فيه بارجاع الشرط فيه الى صفة التعقب الذى هو خلاف ظاهر الدليل ، اذ الداعى الى ذلك لم يكن إلّا ان المؤثر لا بد وان يكون مقارنا للمتأثر ، ومع فرض الصفة اعتبارية يمتنع تأثيرها فى الموصوف ، بل انما تكون الماهية بها متكيفة بكيفية تقبل التأثير من قبل الاسباب والمقتضيات ولا اشكال فى ان هذا المعنى لا ينحصر تحصله بالمقارنات ، بل يتحصل بالمتأخر الذى هو منشأ انتزاع الكيفية فى الماهية المتقدمة ، وحينئذ يكون المتأخر هو الشرط للمأمورية كما يقتضيه ظاهر الدليل ، «وليس مفاده إلّا ان يحصل لذات المأمورية بالاضافة اليه وجه وعنوان به يكون حسنا

١٩٩

او متعلقا للغرض بحيث لولاها لما كان كذلك ، واختلاف الحسن والقبح والغرض باختلاف الوجوه والاعتبارات الناشئة عن الاضافات ، مما لا شبهة فيه ولا شك يعتريه ، والاضافة كما تكون الى المقارن تكون الى المتأخر او المتقدم بلا تفاوت اصلا كما لا يخفى على المتأمل.»

«فى الكشف الحقيقى»

ثم انه بعد ان عرفت ان دخالة المتأخر ليس بنحو التأثير بل بنحو اعطاء القابلية وصيرورته منشأ انتزاع الملكية فى السابق ، وثمرته الالتزام بترتب الآثار من حين صدور العقد وهذا معنى الكشف عند القائلين به. وهل الكشف حقيقى او حكمى؟ المختار الاول ، خلافا لشيخنا الانصارى قده حيث انه اختار الثانى نظرا الى ان للشرط دخلا فى المشروط بنحو التأثير ، ويستحيل تأثر المتقدم من قبل المتأخر فلا بد من اعتبار الكشف حكميا لا حقيقيا. (١)

ولكنك قد عرفت بما لا مزيد عليه ان دخالة الشروط فى مشروطاتها ليس إلّا من قبيل معطيات القابلية وهى خفيفة المئونة لا تختص بالمقارنات ، بل تتأتى فى الشروط المتقدمة والمتأخرة ايضا.

وهل لا بد فى الاجازة التى هى شرط فى صحة العقد ان تكون مقارنة لجعل الملكية ، او يجوز تقدم الجعل عليها ايضا كتقدم المجعول فيستكشف من حين الاجازة تقدم الجعل على زمان الاجازة سابقا عليها ومحققا من حين صدور العقد؟ الوجه ان ذلك جائز عقلا وان كان غير واقع شرعا ، وستعرف الوجه فى عدم وقوعه إن شاء الله

__________________

(١) ـ كتاب المتاجر المشهور بالمكاسب : ١٣٣.

٢٠٠