تحرير الأصول - ج ١

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني

تحرير الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني


المحقق: حمزة حمزوي
الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٦

يوجب سقوط الاستدلال بالآيتين.

مدفوع بأن القدر الذى يحكم العقل فيه بالحسن ليس هو مفاد الامر ، بل الامر دال على الحتم والالزام الذى يقصر العقل عن ادراكه ، فلا مانع حينئذ من اعمال جهة المولوية فيه.

والجواب عن هذا الوجه ان سوق الآيتين مساق الترغيب دون الحتم والالزام ، وكان مثل ذلك كالقرينة الحافة بالكلام المانعة عن ظهور الامر فى ارادة معنى الوجوب.

«حول الاجزاء»

«الفصل الثالث الاتيان بالمأمور به على وجهه يقتضى الاجزاء فى الجملة بلا شبهة ، وقبل الخوض فى تفصيل المقام وبيان النقض والابرام ينبغى تقديم امور :»

«فى مقدمات المسألة»

احدهما : هل المراد من وجهه فى العنوان بيان المأمور به نفسه بعنوانه الاولى ، او بعنوانه الثانوى الذى يلحقه بسبب تعلق الامر به ويصير من اجله متصفا بوصف المأمور به ، او ان المراد منه النهج الذى ينبغى ان يؤتى به بقصد التقرب فى العبادة؟ احتمالات استظهر الماتن منها الاخير لما يرد على الاحتمالين الاولين من الاشكال باستلزام اعتبار التقييد بالوجه توضيحيا وهو خلاف الظاهر ، وتوضيحه ان على الاحتمال الاول يكون المراد من الوجه عين المأمور به ، فكان التعبير بالمأمور به يغنى عن التقييد بهذا القيد ، وهكذا على الاحتمال الثانى ،

١٦١

بل مقتضاه الاجزاء حتى مع خلو العمل عن التقرب بناء على عدم اعتبار القربة فى المأمور به ، وهو لا يتم فى العبادات المفتقرة الى نية القربة.

نعم بناء على ان المأمور به حصة من الطبيعة تكون توأما مع التقييد لا يرد الاشكال الاخير الذى ذكرناه من اقتضاء العنوان الاجزاء حتى مع تجرد العبادة عن نية القربة ، لعدم انفكاك المأمور به حينئذ عن الاقتران بالقرنية ، فلم يبق عليه الا اشكال اخذ القيد توضيحيا الذى هو خلاف ظاهر التقييد ، فتعين الاحتمال الاخير الثالث.

ولا يجوز ان يراد بهذا القيد الوجه المعتبر عند بعض الاصحاب ، فانه مع عدم اعتباره عند المعظم وعدم اعتباره عند من اعتبره الا فى خصوص العبادات لا مطلق الواجبات ، لا وجه لاختصاصه بالذكر على تقدير الاعتبار فلا بد من ارادة ما يندرج فيه من المعنى وهو ما ذكرناه من الاحتمال الثالث كما لا يخفى.

ثانيها : ان المراد من الاقتضاء فى المقام على الظاهر هو الاقتضاء بنحو العلية والتأثير الراجع ذلك الى مرحلة الثبوت دون الاثبات.

ثالثها : ان الاجزاء يراد به معناه اللغوى الذى هو الكفاية ، ويكون اختلافها من حيث سقوط التعبد بالمأمور به ثانيا ، او سقوط القضاء ، اختلافا فيما يكتفى عنه لا اختلافا فى معنى الاجزاء.

رابعها : ان الفرق بين هذه المسألة ، ومسئلة المرة والتكرار مما لا يكاد يخفى لما عرفت فى المقدمة الثانية من ان البحث هنا راجع الى مرحلة الثبوت دون الاثبات ، وهذا بخلاف مسئلة المرة والتكرار فإن البحث فيها راجع الى مرحلة الاثبات دون الثبوت ، فكان البحث فى مسئلة المرة والتكرار مآله الى تنقيح الصغرى للبحث فى هذه المسألة ، فانه بحسب الترتيب الطبيعى يبحث اولا فى حال الصيغة ومقدار ما تدل عليه من المرة والتكرار ، فاذا تنقح مدلولها واستفيد منها مراد

١٦٢

المتكلم وانه اراد المرة او التكرار ، اتجه البحث حينئذ فى الاجزاء وعدمه ، كما انه يظهر من ذلك الفرق بين هذه المسألة ومسئلة تبعية القضاء للاداء ، اذ المبحوث عنه هنا فى اعادة المأمور به بعد اتيانه اولا وهذا بخلافه فى المسألة الاخرى فإن المبحوث عنه فيها هو اتيانه بعد فواته فى وقته.

اذا عرفت هذه الامور فتحقيق المقام يستدعى البحث والكلام فى موضعين :

«الاتيان بالمأمور به دليل على الاجزاء»

«الاول : ان الاتيان بالمامور به بالامر الواقعى بل بالامر الاضطرارى او الظاهرى ايضا يجزى عن التعبد به ثانيا لاستقلال العقل بأنه لا مجال مع موافقة الامر بإتيان المأمور به على وجهه لاقتضاء التعبد به ثانيا» من غير فرق فى ذلك بين ان يكون الاتيان بالمامور به علة تامة لحصول الغرض او كان جزء العلة ، اما على الاول فواضح لاستحالة بقاء الامر بعد امتثاله وحصول الغرض. واما على الثانى فلان اقتصار الحكيم على البعث نحو هذا الجزء دليل على تكفله لضم بقية الاجزاء المتوقف عليها ترتب الغرض بل ربما نقول : بأن اتيان المامور به لا ينفك عن ترتب الغرض الباعث الى الامر فلو امر المولى عبده بإتيان الماء ليشربه واتى به العبد يترتب عليه الغرض الداعى الى ذلك الامر ، اذ الغرض من ذلك الامر ليس الاسد باب العدم من طرف الاتيان بالماء وقد حصل ذلك بالبديهة ، وعدم حصول الشرب مستند الى انعدام بقية المقدمات التى لم يؤمر بها العبد ، وان شئت قلت رفع العطش بشرب الماء ليس هو غرض مترتب

١٦٣

على الامر المتوجه الى العبد ، وانما هو غرض الاغراض بل الذى هو غرض من امر العبد هو القدرة على تناول الماء وهذا حاصل بامتثال العبد.

نعم لو علم العبد ان ذلك الغرض الاصلى المسمى بغرض الاغراض بعد لم يحصل توجه اليه امر آخر بإتيان الماء وهكذا فكلما يمتثل ويأتى ويراق ذلك الماء ، يلزمه العود عقلا حتى يعلم بحصول ذلك الغرض الاصلى الذى هو رفع العطش ، بل لو شك فى حصول الغرض واحتمل عدم حصوله لزمه المعاودة فى الامتثال حتى يحصل له العلم بحصول الغرض المطلوب تحصيله بحكم العقل ، ولعله الى هذا الوجه نظر عبد الجبار وصاحبه (١) فيما يحكى عنهما من ذهابهما الى عدم الاجزاء.

وربما يقوى كلامهما على القول بمقدمة الموصلة ، ضرورة ان مأتي به مقدمة لحصول الغرض فاذا بنى على وجوب المقدمة الموصلة فلا يتحقق الامتثال الا بموافقة الامر المتعلق بالواجب ولا يحرز الواجب الا بعد احراز ترتب الغاية عليه ، اذ مع احتمال عدم ترتب الغاية لا يتيقن بموافقة الامر المعلوم توجهه اليه ، اذ من الجائز ان يكون المأتى به غير ما هو المترتب عليه الغاية المطلوبة ، فيلزمه تكرار الامتثال حتى يتيقن معه حصول الغرض هذا.

ويمكن التفصى عنه بما مرت الاشارة اليه آنفا من ان اقتصار

__________________

(١) ـ قال المحدث القمى قده : القاضى عبد الجبار المعتزلى ابن احمد بن عبد الجبار الهمدانى الأسدآبادي شيخ المعتزلة فى عصره ... توفى سنة ٤١٥ راجع الكنى والالقاب ج ٣ ص : ٤٣.

والظاهر ان صاحبه هو ابو هاشم الجبائى اسمه عبد السلام بن محمد من رؤساء المعتزلة كما فى الكنى والالقاب ج ٢ ص : ١٢٧.

١٦٤

الحكيم على محض اتيان المأمور به من دون ضم شىء آخر اليه ولا الزامه بالمعاودة فى مقام الامتثال دليل على اقتناعه بمجرد ذلك المأتى به اولا بلا حاجة الى تكرار وامتثال عقيب امتثال ، فيكون ذلك دليلا انيا على تكفله لبقية المقدمات التى يتوقف عليها حصول الغرض.

«الكلام فى الاجزاء وعدمه بالفعل الاضطرارى ثبوتا»

«الموضع الثانى : ففيه مقامان المقام الاول» فى الاجزاء بالفعل الاضطرارى عن الاختيارى اعادة او قضاء وعدم الاجتزاء به كذلك.

ويقع الكلام فى ذلك او لا : بالنسبة الى مرحلة الامكان وعالم الثبوت وثانيا : بالنسبة الى مرحلة الاثبات والوقوع.

اما الكلام فى الاول : فهو يتصور على انحاء تارة يكون الفعل الاضطرارى وافيا بتمام مصلحة الاختيارى واخرى يكون وافيا ببعض المصلحة والبعض الآخر اما ان يكون ممكن التدارك بعد طرو الاختيار او لا؟

فهذه محتملات ثلث فى مرحلة الامكان قبل ملاحظة ادلة الوقوع ، وفى الكفاية ربع المحتملات بتقسيم الاحتمال الثانى الى احتمالين من حيث ان الباقى الممكن التدارك اما ان يكون واجب التدارك او مستحبة.

ويمكن منع الاحتمال الثانى بأنه خلاف الفرض ، لان المصلحة الوجوبية اذا كان لازمة المراعاة فكل ما يبقى منها شىء يكون لازم التحصيل ، وإلّا لم تكن تلك البقية من بقايا المصلحة الوجوبية وحينئذ فلم يبق مجال لاحتمال بقاء بقية من المصلحة الغير اللازمة المراعاة.

١٦٥

ان قلت : لا نحتمل الاحتمال الاول ايضا من مرحلة الثبوت لان لازمه انقلاب الاضطرارى الى الاختيارى ، وذلك لان المصلحة اذا كانت قائمة بالجامع بين فردى الاختيار والاضطرار بلا مزية للاختيارى فى وفائه بالمصلحة التامة ، بل كانت المصلحة التامة ممكنة الاستيفاء بكل من فردى الاختيارى والاضطرارى ، فليجز للمكلف حينئذ ان يصلى صلاته مع الطهارة المائية والترابية من دون اعتبار ملاحظة الترتيب فيما بينهما وهو خلاف المفروض ، ضرورة ان المتمكن من الماء لا يجوز له الصلاة مع التيمم.

قلت : ان قيام المصلحة بالجامع لا يستلزم التساوى فى مقام الفردية لجواز ان يكون فردية كل فرد منوطة بانتفاء فرد الآخر فيكون الجامع فى مقام التفرد طوليا لا عرضيا بمعنى انه لا يتحقق للجامع فرد ثان إلّا بانتفاء الفرد الاول ، فلا يكون الصلاة متيمما فردا للجامع الا حيث يتعذر الصلاة مع الوضوء.

وان قلت : لا موقع للاحتمال الثانى ، اذ لا نتعقل وفاء كل من الاضطرارى والاختيارى بمقدار من المصلحة الوجوبية ، ومع ذلك يبقى منها بقية تكون لازمة الاستيفاء ، ضرورة ان وفاء كل منهما بالمقدار الملزم دليل على قيام المصلحة الملزمة بالجامع بينهما فمع استيفائها بالفرد الاضطرارى ، فان بقى منها شىء لا بد وان تكون خارجة عن حد الالزام ووجوب التحصيل ، لان المصلحة على هذا تكون قائمة بالجامع بين فردى الاختيار والاضطرار ، فخصوصية الفرد الاختيارى تكون مشتملة على المصلحة الوجوبية وعلى زيادة غير لازمة المراعاة.

قلت : من الجائز ان يكون الطلب الوجوبى المتعلق بالفرد الاختيارى منحلا الى طلبين من باب تعدد الطلب والمطلوب كما فى

١٦٦

الحج حيث انه قد طلب الحج فورا فى السنة الاولى فاذا عصى ذلك بقى معه المصلحة الوجوبية بالنسبة الى ذات الحج نفسه ، فيجب عليه الحج فى السنة الثانية وهكذا ، فينحل الطلب الوجوبى فى مثل الحج الى طلبين طلب لنفس الحج ، وطلب آخر لفوريته ، فاذا فاتت الفورية بقيت المصلحة الوجوبية فى نفس الحج بحالها ، فيلزم تحصيلها بإتيان الحج فى السنة الثانية وهكذا.

هذا كله ما يتعلق بالاحتمالين الاولين ، واما الاحتمال الاخير فيختلف حاله بحسب النظر الى مرحلة امكانه ، اذ لا يخلو اما ان يكون اتيان الفعل الاضطرارى علة لتفويت الفعل الاختيارى فى زمانه واما لا يكون كذلك ، بل يكون منشأ عدم امكان تدارك الباقى فى ضمن الفرد الاختيارى من جهة المضادة المتحققة فيما بين الفعلين ولازم الاول حرمة المبادرة الى الفعل الاضطرارى ، لانه علة لحصول الحرام الذى هو تفويت ما هو لازم المراعاة ، ومقتضى المضادة بناء الحكم على مسئلة الضد فإن قلنا فيها بالترتب كان مأمورا بالصلاة فى زمان الاضطرار اذا كان بانيا على العصيان فى ترك الواجب فى زمان الاختيار ، وإلّا حرم عليه الصلاة فى حال الاضطرار ولزمه الانتظار حتى يتضيق عليه الوقت او يتبدل حاله الى حالة الاختيار ، فاذا كان عنده الماء وكان يعلم بطرو الاختيار له فى الوقت فهل له اراقة ما عنده من الماء فى اول الوقت اعتمادا على تمكنه من استعمال الماء فى آخر الوقت ، او ليس له ذلك؟ التحقيق يقتضى التفصيل بين من كان عازما على ان يأتى بالصلاة مع تلف الماء وبين من لم يكن عازما على ذلك ، فعلى الاول لا يجوز له اراقة الماء لانه مؤد الى تفويت الواجب وفى الثانى يجوز له ذلك هذا.

وبقى الكلام فيما يقتضيه الاحتمالات الثلاثة المزبورة من الاحكام

١٦٧

اما الاحتمال الاول ، فمقتضاه الاجزاء قطعا ، اذ لا يبقى مجال للاعادة ولا للقضاء بعد استيفاء تمام المصلحة.

ان قلت : هذا اذا لم يكن صحة الفعل الاضطرارى مشروطة باستمرار الاضطرار الى آخر الوقت ، اذ لو كانت مشروطة بذلك ثم تبدلت حالة الاضطرار الى حالة الاختيار ، تبين من ذلك عدم صحة الفعل الاضطرارى وعدم وفائه بشىء من المصلحة فضلا عن تمامها.

قلت : لا بد للمتنازعين فى الاجزاء وعدمه فى هذه المسألة ، من فرض الكلام فى غير صورة الاشتراط باستمرار الاضطرار الى آخر الوقت ، اذ لا مجال للنزاع فى الاجزاء وعدمه مع هذا الشرط ، ضرورة انه مع عدم الاستمرار يتبين انتفاء الامر الاضطرارى ، وان كان يتخيل فى اول الامر تحققه ، فيكون حينئذ من الامر الخيالى الوهمى فيخرج بذلك عن فرض الكلام.

واما الاحتمال الثانى فظاهر ان قضية عدم الاجزاء لامكان تدارك الباقى من المصلحة اللازمة المراعاة.

واما الاحتمال الثالث فمقتضاه الاجزاء بمعنى سقوط الاعادة والقضاء لا صحة المأتى به فى زمان الاضطرار اذ ذلك لا يتجه على اطلاقه لما سمعت آنفا من حرمة الفعل الاضطرارى اذا كان علة لتفويت الباقى من المصلحة الوجوبية ، ومثله على تقدير الفوات للتضاد مع عدم القول بالترتب كما لا يخفى.

١٦٨

«الكلام فى الاجزاء بالفعل الاضطرارى بالدليل وعدمه»

واما الكلام فى الثانى : الذى هو مرحلة الوقوع والاثبات ، فربما يتمسك للاجزاء تارة بالدليل الاجتهادى واخرى بالاصل العملى.

اما الدليل الاجتهادى فهو اطلاق ما دل على شرطية التيمم فى حال الضرورة من الكتاب والسنة.

اما الكتاب : قوله تعالى : ... (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً.)(١)

واما السنة : قوله «ع» التراب احد الطهورين (٢) ويكفيك الصعيد عشر سنين (٣) فإن قضية الاطلاق فيه هو الاجزاء وعدم وجوب الاعادة او القضاء.

واما الاصل العملى : فهو اصالة البراءة الحاكم بعدم وجوب الاعادة والقضاء ، لكونه شكا فى التكليف.

ويرد عليه اما على الاستدلال بالدليل الاجتهادى فبان الاجزاء المدعى استفادته من الاطلاقات ، اما ان يكون بمناط الوفاء بتمام المصلحة او بمناط الوفاء ببعضها ويكون البعض الباقى غير ممكن التدارك فإن كان بالمناط الاول يستلزم ذلك جواز اراقة الماء لمن كان قد حضر عنده الماء وامكنه الصلاة مع الطهارة المائية ، اذ الفعل الاضطرارى حسب الفرض واف بتمام المصلحة التى يقوم بها الفعل الاختيارى فيكون كالحاضر له ان يسافر حتى يصلى قصرا ، ولا ريب فى بطلان اللازم فى مفروض البحث بالاجماع فاذا لم يكن الاضطرار

__________________

(١) ـ النساء : ٤٣ وفى سورة المائدة : ٦.

(٢ و ٣) ـ الوسائل ج ٢ ابواب التيمم باب : ٢٣ ـ حديث : ٤ و ٥.

١٦٩

بسوء الاختيار وافيا بتمام المصلحة ولم يكن قائما مقام الفعل الاختيارى فى تمام المصلحة ، جرى ذلك فى الاضطرارى الغير الناشى عن سوء الاختيار ايضا بعدم القول بالفصل.

وببيان اوضح انما يستفاد الاجزاء بالمناط الاول من الاطلاق باعتبار دلالته على بدلية التيمم عن الوضوء من غير تقييد ببعض المراتب دون بعض ، اذ لا اشكال فى ان ذلك قاض بقيام التيمم مقام الوضوء فى جميع مراتب مصلحته ، كما انه يستفاد من عدم تقييد الامر بقيد الوجوب النفسى لدلالة اطلاقه عليه فكذلك هاهنا يستفاد من اطلاق البدلية قيام البدل مقام المبدل فى تمام ما للمبدل من المصلحة ، وحينئذ نقول فى مقام الايراد عليه ان الاجماع على حرمة الاراقة وعدم القوم بالفصل بين صورتى الاضطرار بسوء الاختيار او بغيره ، مانع من التشبث بمثل هذا الاطلاق ، وان كان بالمناط الثانى فانما ذاك بمعونة استفادته من اطلاق لسان الدليل الناطق بسقوط الاعادة والقضاء.

وبعبارة اخرى لسان تيمموا له جهتا اطلاق : احدهما من حيث وفائه بتمام المصلحة وثانيهما من حيث سقوط الاعادة والاجتزاء بالفعل الاضطرارى ، والاطلاق الاول قد عرفت فساده بالاجماع على حرمة التفويت مع عدم القول بالفصل.

واما الاطلاق الثانى فهو الذى يقتضى الاجزاء بمناط عدم امكان تدارك الباقى من المصلحة ، ولكنه معارض باطلاق دليل الاختيار القاضى بلزوم مراعاة التكليف الاختيارى مهما امكن فيشمل ذلك حال طرو الاختيار ، بعد زمان الاضطرار وبعد التعارض فيما بين الاطلاقين وعدم المرجّح فى البين ، فيبقى الحكم من حيث الاجزاء وعدمه غير معلوم الحال ، وتخرج الادلة الاجتهادية عن صلاحية

١٧٠

الاستدلال بها للقول بالاجزاء.

ان قلت : اطلاق دليل السقوط حاكم على دليل الاختيار لنظره اليه وتعرضه له وقد تقرر فى باب التعادل والتراجيح تقديم الحاكم على المحكوم.

قلت : انما يقدم الحاكم على المحكوم لو كان للحاكم قوة نظر الى المحكوم على وجه ولو لم يقدم عليه لكان يبقى الكلام لغوا عاريا عن الفائدة ، مثلا لو قال الشارع اكرم العلماء ، ثم ورد منه الاعلام بأن الفاسق ليس بعالم وفرض ان لم يكن للعالم اثر مجعول يمكن نفيه سوى الحكم بوجوب اكرامه ، فحينئذ لا بد وان يقدم فى مثل هذا الدليل الثانى على الاول ويحكم بعدم وجوب اكرام الفاسق من العلماء ، اذ لو لم يقدم عليه يبقى الكلام بأن الفاسق ليس بعالم لغوا لا اثر له مجعول يمكن نفيه بحكم الشارع ، واما اذا كان للعالم اثر آخر مجعول غير وجوب الإكرام يمكن تسليط النفى عليه كالاقتداء مثلا ، لم يكن للدليل الثانى قوة نظر فى اطلاقه على وجه يلزم تقديمه على المحكوم ، اذ يبقى الكلام مع عدم تقديمه عليه لغوا لجواز ان يكون نظر النفى فى الدليل الثانى الى الاقتداء خاصة ، فلا يلزم من عدم تقديمه على المحكوم لغوية فى الدليل الثانى ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، لان الاضطرار لم يكن متمحضا لحيثية الاسقاط خاصة ، بل لسانه يتكفل بيان الاسقاط والبدلية جميعا ، فاذا الغيت منه جهة الاسقاط بواسطة التعارض بينه وبين دليل الاختيار لم يبق خاليا عن معنى لكى يلزم منه اللغوية ، بل قيامه بالبدلية كاف فى خروجه عن اللغوية.

١٧١

«التفصيل فى الاجزاء وعدمه بالفعل الاضطرارى باصل العملى»

واما ما يرد على الاستدلال بالاصل العملى فنقول : ان قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً) ، قضية تحتوى على موضوع ومحمول موضوعها غير الواجد للماء محمولها التيمم بالصعيد ، ولكل من الموضوع والمحمول فى نفسه اطلاق غير اطلاق الآخر اما اطلاق الموضوع ، فهو باعتبار عمومه لغير الواجد الناشى من سوء الاختيار او من غير سوء الاختيار ، واما اطلاق المحمول فهو تارة من حيث دلالته على الوفاء ، بتمام المصلحة القائمة فى المبدل ، واخرى من حيث دلالته على السقوط والاجتزاء عن التكليف الاختيارى فاذا لوحظ اطلاق الموضوع مع اطلاق المحمول من وجه البدلية ، كان المتحصل من ملاحظة مجموعى الاطلاقين ان غير الواجد بكلا قسميه الناشى من سوء الاختيار او من غير سوء الاختيار يتيمم بدلا عن الطهارة المائية ويكون تيممه ذلك وافيا بتمام مراتب مصلحة المبدل ، ولازم ذلك الاجزاء قطعا كما ان لازمه جواز الاراقة لمن كان عنده الماء. ولا اشكال فى عدم جوازه بالاجماع فيستكشف ببركة هذا الاجماع عدم وفاء الاضطرارى بتمام مراتب مصلحة الاختيارى ، وإلّا لجازت الاراقة.

غاية ما فى الباب ان القدر المعلوم استكشافه من هذا الاجماع ، انما هو عدم الوفاء بتمام المصلحة فى صورة يكون الاضطرارى بسوء الاختيار لا مطلقا.

اللهم إلّا ان يدعى عدم الفصل بين اقسام الاضطرار ، فيكون ذلك اجماعا آخر قاضيا بمساوات الاضطرار فى كلا قسمية ، وحينئذ

١٧٢

نقول : بعد فرض تمامية مثل هذين الاجماعين لم يبق مجال لاحتمال الاجزاء بمناط الوفاء بتمام المصلحة ، بل ينحصر احتماله فى تعذر استيفاء ما يبقى من المصلحة وحينئذ يكون الشك فى الاجزاء وعدمه ، ناشيا عن الترديد فى الباقى من المصلحة ، هل يكون ذلك مما يمكن استيفائه او لا يمكن؟ فيرجع ذلك الى الشك فى القدرة على تحصيل ما يلزم تحصيله من المصلحة ، وكل شك رجع الى الشك فى القدرة وجب مراعاته حتى يتحقق له العجز عن تحصيل الغرض ، ومقتضى ذلك عدم الاجزاء فى كل مورد شك فيه فى الاجزاء وعدمه ، سواء كان يعلم المكلف بطرو الاختيار له بعد زمان الاضطرار ، او لم يكن يعلم بذلك شاكا فيه ، او عالما باستدامة اضطراره الى آخر الوقت ، ثم تبين له الخلاف فى آخر الوقت ، هذا ان تحقق اجماع آخر على عدم الفصل بين قسمى الاضطرار ، وإلّا فان لم يكن لنا الا الاجماع على حرمة الاراقة المساوقة مع الاضطرار الناشى من سوء الاختيار ، فيبقى الاضطرار الآخر يحتمل فيه الوفاء بتمام المصلحة او ببعضها وعلى الثانى يحتمل امكان استيفائه فى زمان الاختيار وعدمه ، فهناك احتمالات ثلث ، ومحصلها احتمال قيام المصلحة الكاملة بالجامع بين الاضطرارى والاختيارى ، ان كان الاضطرارى وافيا بتمام المصلحة واحتمال قيامها فى خصوص الاختيارى المشكوك فيه القدرة على تحصيلها به فيكون ذلك من باب الشك المردد بين التعيين والتخيير ، والقاعدة فى مثله الاحتياط بالاقتصار على احتمال التعيين كما قرر فى محله ، ونتيجة ذلك عدم الاجزاء فى صورتين والاجزاء فى صورة واحدة.

اما صورتا عدم الاجزاء فذاك فيما لو اتفق للمكلف العلم بطرو الاختيار له فى آخر الوقت او كان شاكا فى ذلك ، فان الحكم فى هاتين الصورتين عدم الاجزاء قضاء للعلم الاجمالى الدائر طرفاه بين

١٧٣

التعيين والتخيير.

واما صورة الاجزاء فانما هى فيما لو اتفق للمكلف العلم باستمرار اضطراره الى آخر الوقت ، ثم ينكشف الامر على خلاف ما عمله ، فانه يحكم فيه بالاجزاء لاصالة البراءة اذ لا اثر لما علمه بالاجمال بعد خروج احد طرفى المعلوم عن محل الابتلاء ، فانه لما علم باستمرار اضطراره الى آخر الوقت لم يكن عنده علم اجمالى على النهج المزبور دائرا بين التعيين والتخيير ، فإذا اتى بالفعل الاضطرارى ثم انكشف له الخطاء فى علمه حدث عنده علم اجمالى فى تكليف يحتمل تعلقه بالجامع او بخصوص الاختيارى ، وحيث انه كان آتيا بالفعل الاضطرارى فقد لغى احتمال تعلقه بالجامع ، ويبقى معه احتمال تعلقه بخصوص الاختيارى خاصة وهو غير معتد به لاصالة البراءة.

ومن هذا البيان ظهر لك الخدشة فى اطلاق القول بأن الاصل يقتضى البراءة من ايجاب الاعادة لكونه شكا فى اصل التكليف كما وقع ذلك فى الكفاية بل ينحصر اقتضائه ذلك فى الصورة الاخيرة خاصة وفيما عداه يقتضى الاشتغال ، اما لانه شك فى القدرة ، او لانه من الشك الدائر بين التعيين والتخيير.

ان قلت : بعد الغض عن الاجماع القائم على عدم الفصل بين اقسام الاضطرار ، يندرج الاضطرار بغير سوء الاختيار فى اطلاق الآية موضوعا وحكما ، اذ المتحصل من ملاحظتهما ان غير الواجد بغير سوء الاختيار يقوم تيممه مقام الطهارة المائية وقضية اطلاق الحكم بالبدلية والقيام مقام المبدل ، هو وفاء البدل بتمام مراتب المصلحة المترتبة على المبدل ، ولا يكون الاجماع القائم على حرمة اراقة الماء لمن عنده الماء ، صادا عن هذا الاطلاق ، لانحصاره بالاضطرار الناشى عن غير سوء الاختيار حسب الفرض ، بعد البناء على عدم

١٧٤

تمامية الاجماع الثانى النافى للفصل بين قسمى الاضطرار ، وحينئذ يكون مثل هذا الدليل الاجتهادى دالا باطلاقه على ان التيمم وافيا بتمام مراتب المصلحة الطهارة المائية ولازمه الاجزاء وعدم انتهاء التوبة الى الشك فى التعيين والتخيير.

قلت : بعد تسليم انحصار الاجماع بعدم جواز اراقة الماء لمن كان عنده ، لا يلزم ارتكاب التقييد فى جانب الموضوع حتى يبقى الاطلاق فى طرف الحكم والمحمول بحاله قاضيا بوفاء التيمم بتمام مراتب مصلحة الاختيارى ، بل يجوز تقييد الحكم به حتى يبقى الاطلاق فى طرف الموضوع بحاله ويكون المتحصل من ذلك ان غير الواجد مطلقا سواء كان عدم وجدانه نشاء من سوء الاختيار او من غير سوء الاختيار ، يتيمم ويقوم تيممه ذلك مقام الطهارة المائية فى بعض مراتب مصلحتها ، ويكون سبب الحرمة المجمع عليها تعذر استيفاء ما يبقى من المصلحة اللازمة لاستيفاء من غير اختصاص لذلك بما يكون اضطراره ذلك ناشيا عن سوء الاختيار او من غير الاختيار ، وحيث انه لم يتعين ارتكاب التقييد فى خصوص واحد من طرفى القضية موضوعا ومحمولا ، جاءت الاحتمالات الثلث المزبورة التى مرت الاشارة اليها آنفا ، فإن التقييد ان كان فى طرف الموضوع جرى احتمالان احتمال الوفاء بتمام المصلحة فى الاضطرار الغير الناشى عن سوء الاختيار ، واحتمال الوفاء ببعضها مع امكان استيفاء البقية.

وان كان فى طرف الحكم والمحمول جرى الاحتمال الاخير الذى هو تعذر استيفاء بقية المصلحة المطلوبة فى الطهارة المائية ومع حصول هذه الاحتمالات الغير الملغاة بالآية الشريفة ، وظاهر الدليل الاجتهادى تنحصر الوظيفة بالعمل بمقتضى الاصول العملية ، وهى تقتضى الاشتغال الا فى صورة واحدة كما سمعت.

١٧٥

هذا كله ما يتعلق بالاعادة واما القضاء فلما كان التكليف بالاضطرارى فى الوقت متيقن الحصول فإن وقع شك فانما هو فى تكليف آخر المتعلق بالقضاء فى خارج الوقت فينفى بالبراءة.

ان قلت : مصلحة الاختيارى لازمة الاستيفاء قطعا ، ولم يعلم استيفائها بما فعله فى الوقت لجواز عدم وفاء الفعل الاضطرارى المأتى به فى الوقت إلّا ببعض المصلحة لا تمامها ، فلم يعلم استيفائها حينئذ الا بالقضاء وذلك دليل عدم الاجزاء.

قلت : مصلحة الاختيارى البالغة حد الالزام ، لم يعلم تحققها فى خارج الوقت ، وغاية ما افاده دليل الاختيار بلوغ المصلحة فى ذلك الفعل الى درجة الالزام ما دام الوقت ، واما اقتضائها الالزام فيما بعد الوقت فهو ايضا مشكوك منفى بالبراءة.

«الكلام فى اجزاء الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهرى وعدمه»

«المقام الثانى فى اجزاء الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهرى وعدمه.

ويقع الكلام فيه تارة فيما يتعلق بالاصول ، واخرى فيما يتعلق بالامارات.

اما الكلام فى الاول فغير خفى ان الاصل ان كان اصل البراءة فغاية ما يقتضى مفاده ، رفع فعلية التكليف بالجزئية المشكوكة ما دام الجهل والنسيان ، ولا يرتفع به الجزئية الواقعية الدخيلة فى المصلحة فأدلة اعتبار الجزء تبقى بحالها دالة على لزوم مراعاته عند التذكر ، فيجب حينئذ بمقتضى القائدة اعادة المنسى بعد التذكر إلّا ان يقوم دليل خاص يدل على عدم لزوم الاعادة كما ورد ذلك فى باب الصلاة بحديث

١٧٦

لا تعاد (١).

وان كان اصل الطهارة فالتحقيق فيه عدم الاجزاء ، لعموم دليل الواقع القاضى بلزوم موافقته عند التذكر وظهور المخالفة ، فلو شك فى طهارة ماء وبنى على طهارته بقاعدة الطهارة وتوضأ به وصلى ، كان معذورا فى زمان جهله فاذا انكشف له الخلاف ، تنجز فى حقه التكليف الواقعى فلزمته الاعادة فى الوقت والقضاء فى خارجه ، اذ لا يستفاد من القاعدة الا الامر بالمعاملة فى مشكوك الطهارة معاملة الظاهر.

وربما يقال ان هذا لا يتأتى «فيما كان منه يجرى فى تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلقه وكان بلسان تحقق ما هو شرطه او شطره» كما هو كذلك فى «قاعدة الطهارة والحلية.»

اذ لا ريب فى اقتضاء مثل ذلك الاجزاء بمناط الحكومة ، بتقريب ان دليل اعتبار الطهارة فى ماء الوضوء مثلا اقتضى اعتبار الطهارة الواقعية فيه خاصة ، إلّا انه بلحاظ قاعدة الطهارة ، لا بد من التزام التوسعة فى الطهارة المعتبرة فى ماء الوضوء فيكون المتوضئ بالماء المحكوم بالطهارة عند الشك ، قد اتى بالوضوء على حسب ما شرط فيه ببركة قاعدة الطهارة.

ونحوه الكلام فى قاعدة الحلية «بل واستصحابهما فى وجه قوى ونحوها بالنسبة الى كل ما اشترط بالطهارة والحلية فيجزى» ذلك الوضوء الذى دخل به فى الصلاة حتى بعد انكشاف الخلاف «فإن دليله» الدال على البناء على طهارة الماء المتوضئ به «يكون حاكما على

__________________

(١) ـ الوسائل ج ٤ ابواب افعال الصلاة : باب ١ حديث : ١٤ عن زرارة عن ابى جعفر (ع) قال : لا تعاد الصلاة الا من خمسة : الطهور ، والوقت ، والقبلة ، والركوع ، والسجود ، ثم قال القراءة سنة ، والتشهد سنة ، والتكبير سنة ، ولا تنقض السنة الفريضة.

١٧٧

دليل الاشتراط ومبينا لدائرة الشرط وانه اعم من الطهارة الواقعية والظاهرية فانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجبا لانكشاف فقدان العمل لشرطه ، بل بالنسبة اليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل.»

ويرد عليه : ان مدار الحكومة على ان يكون للحاكم جهة نظر الى المحكوم ، فيكون نسبته اليه كنسبة الشارح المبين للمراد من محكومه ، ومن المعلوم انه ليس لقاعدة الطهارة نظر الى غيره من سائر الموارد المشروطة بالطهارة الواقعية.

وقد يقال : بالاجزاء فيه بمناط الورود دون الحكومة بتقريب ان مفاد القاعدة جعل حكم ظاهرى فى رتبة الشك بالطهارة الواقعية فيستدل بقاعدة الطهارة حينئذ على اندراج التوضى بماء مشكوك الطهارة فى عموم ما دل على شرع الحكم بالوضوء بالماء الطاهر بناء على التعميم فى الظاهر وشموله للظاهر الواقعى والظاهرى.

ويرد عليه : ان دليل الحكم باشتراط الوضوء بالماء الطاهر غير واف للدلالة على التعميم والشمول لما يكون طاهرا ظاهرا وانما الظاهر المنسبق اليه منه فى نظر العرف هو اعتبار الطهارة الواقعية فى ماء الوضوء لا الاعم منها ومن الطهارة الظاهرية.

هذا مع انا نجد التنافى بين الطهارة والقذارة ، فاذا كان الشىء بحسب واقعه قذرا كيف يجعل له الطهارة فى مرتبة الظاهر فإن الطهارة والقذارة من الاضداد المستحيل اجتماعهما على موضوع واحد.

ولئن سلم الاجتماع فى الاحكام التكليفية ظاهرا وواقعا فلا نسلمه فى الاحكام الوضعية ، فلا بد من تنزيل القاعدة حينئذ على ما ذكرناه من الامر بالمعاملة فى شكوك الطهارة معاملة الطاهر لا جعل الطهارة فى مرحلة الظاهر.

ولئن قلت : يمكن الجمع بين الطهارة الظاهرية والقذارة الواقعية

١٧٨

باختلافهما بحسب مرتبتى الشانية والفعلية فيراد من الظاهر فى لسان القاعدة ما يكون محكوما بالطهارة الفعلية ، وهى لا تنافى القذارة الشأنية الثابتة للشىء بحسب الواقع.

قلت : هذا انما يتجه فى غير ما يكون مغيا بالعلم بالقذارة ، لظهور الغاية فى تعلق العلم بالقذارة الفعلية ، فيستفاد منه ان مصب القاعدة ، من بدو الكلام على التعرض لحكم ما يشك فى قذارته الفعلية ، وانه محكوم بالطهارة إلّا اذا علمت قذارته الفعلية ، وحينئذ يجىء التنافى بين الطهارة الفعلية والقذارة كذلك.

ولئن التزم بأن القذارة تصير فعلية بالعلم ، حتى يكون المتحصل من القاعدة ان شكوك الطهارة محكوم بالطهارة حتى يعلم قذارته فيصير بالعلم قذرا فعليا.

قلنا : هذا خلاف ظاهر القضية ، لظهورها فى فعلية القذارة قبل تعلق العلم بها ، لا انه بالعلم تصير القذارة فيها فعلية ، وليس ارتكاب خلاف الظاهر فيها من هذا الوجه باولى من تنزيلها على الحكم العذرى والامر بالمعاملة فى مشكوك الطهارة معاملة الطاهر ، فما دام جاهلا ولم يكن الواقع لديه مكشوفا ، له المعاملة فى المشكوك معاملة الطاهر ، فإذا تبين الحال وظهر ان الواقع على القذارة ، بنى على قذارته وترتب عليه الحكم بالقذارة من اول الامر ، فيلزمه اعادة الاعمال السابقة المبتنية على طهارته ، فلو كان قد لاقى الثوب مشكوك الطهارة وبنى على طهارته بقاعدة الطهارة ثم ظهر الخلاف ، كان اللازم تطهير كل ما لاقى الثواب فى زمان الجهل كما عليه العمل ، فلو كان مفاد القاعدة جعل طهارة فى مرحلة الظاهر ، لم يجب تطهير ذلك الملاقى بعد ظهور الخلاف وانكشاف الواقع لديه ، ولم اظن التزامه من احد ، وما ذاك إلّا لما عرفت من كون القاعدة لا دلالة فيها الا

١٧٩

على الحكم العذرى كما بيناه ولازمه عدم الاجتزاء بما وقع ولزوم الاعادة.

وان قلت : لا يرد النقض بما ذكرت فى ملاقات الثوب لمشكوك الطهارة ولو قلنا بلزوم تطهيره بعد ارتفاع الجهل ولا شهادة فيه على ما ترومه من العذرية ، اذ الطهارة الظاهرية المجعولة فى مرحلة الشك لا تمانع القذارة الاقتضائية الثابتة للشىء لذاته فى نفس الامر والواقع ، وحينئذ يكتسب الثوب من الماء نجاسة اقتضائية عند ملاقاته له فى زمان الشك ، وتلك القذارة باقية على حالها حتى يعلم ، فتصير حينئذ فعلية بالنسبة الى الملاقى والملاقى كليهما ويترتب على ذلك لزوم غسل الثوب فلا يستكشف حينئذ من بناء الاصحاب على غسل الثوب ورود القاعدة لبيان الغدرية كما ذكرت.

قلت : هذا لا يجديك فيما ترومه من القول بالاجزاء ، لظهور ان الاجتزاء بما وقع يكون مقصورا على زمان الشك خاصة دون ما بعد العلم ، واما بعده فيلزم العمل على ما كان تقتضيه الملاقاة فى زمان الجهل لتبدل حالة الاقتضاء الى حالة الفعلية ، فلو كان قد صلى مع الطهارة المائية بحكم القاعدة القاضية بطهارة الماء المشكوك نجاسته ثم تبين الخلاف وان الماء كان نجسا فى زمان الجهل به ، لزمه اعادة الصلاة من حين العلم بالقذارة لبلوغ الاقتضاء الى مرتبة الفعلية ، فكانت الصلاة الى زمان العلم محكومة بالصحة وبعده محكومة بالبطلان واذا بطلت وجب اعادتها قطعا.

وبالجملة ان بنى على النجاسة الاقتضائية فى مشكوك الطهارة ، اتجه عليه الالتزام بعدم الاجزاء ولزوم الاعادة ، وهو غير مرضى عند القائل بالجعل فى مؤدى القاعدة كما هو أوضح من ان يخفى ، وان لم يبن على ذلك اتجه عليه الاشكال المزبور من لزوم البناء على

١٨٠