تحرير الأصول - ج ١

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني

تحرير الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني


المحقق: حمزة حمزوي
الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٦

الاستلزام والتوقف

لا يقال : محذور الدور من تقدم الشىء على نفسه متحقق هنا وان لم يكن دورا اصطلاحيا ، وذلك لانه اذا كان الامر الاستقلالى قد تعلق بشىء ينحل بالتعمل العقلى على جزءين ، عمل وداعي الامر فهناك امران ضمنيان تعلقا بكل واحد من هذين الجزءين التحليليين ، ومن البديهى ان هذين الامرين الضمنيين فى رتبة واحدة ليس لاحدهما تقدم على الآخر ، لكونهما معلولى علة واحدة التى هى الامر الاستقلالى ، واذا كان هذان الامران الضمنيان فى رتبة واحدة ، فما يتقدم على احدهما لا بد وان يكون متقدما على الآخر ، وحيث ان داعى الامر المقرون بالعمل جعل متعلقا لواحد من هذين الامرين الضمنيين وموضوعا له ، فلا بد وان يكون له جهة تقدم طبعى على امره الضمنى المتعلق به ، لتقدم الموضوع على حكمه طبعا واذا كان متقدما على امره الضمنى لزم من تلك تقدمه على الامر الضمنى الآخر الذى فرض تعلقه بالعمل نفسه ، لتشارك الامرين فى الرتبة فكان الامر الضمنى المتعلق بالعمل متأخرا عن داعى الامر ، والمفروض ان الامر المتعلق بالعمل سبب لان يؤتى بالعمل بداعيه ، ضرورة استحالة وقوع العمل بداعى الامر ما لم يكن ثمة امر متعلق بالعمل ، وحينئذ يجىء المحذور المشار اليه فى السابق ، من تقدم الشىء على نفسه ، لان داعى الامر الذى هو التقرب مقدم على امره الضمنى المتعلق به قطعا ، ومقتضى اتحاد الرتبة بين الامرين هو تقدمه على الامر الضمنى الآخر المتعلق بالعمل ، واذا كان داعى الامر متقدما على الضمنى المتعلق بالعمل ، كان مقدما على داعى الامر الذى سمعت انه مسبب عن الامر المتعلق بالعمل ، فلزم من ذلك تقدم داعى الامر على نفسه ، وهو محال نشأ ذلك من اعتبار القربة فى المامور به و

١٤١

صيرورتها متعلقا للامر فيكون اعتبارها فى المأمور به محالا ايضا.

لانه يقال : هذا انما يتجه اذا لم يكن فرق وتغاير بين الداعوية فى الجانبين ، والفرق بينهما اوضح من ان يخفى على المتأمل البصير ، لوضوح ان تأخر دعوة الامر المتعلق بالعمل انما هو فى مقام الامتثال والوجود الخارجى ، اذ الامر ما لم يكن له وجود فى الخارج لا يتفرع عليه الداعوية ولا يكون داعيا لاتيان العمل وهذا بخلاف الداعوية الواقعة متعلقا للامر الضمنى الآخر فانها متقدمة على الامر بحسب التصور فإن الامر ما لم يتصور الموضوع والمتعلق لا يتمكن من الامر به ، فصار داعى الامر بحسب التصور مقدما على داعى الامر بحسب الخارج ، ولا بأس به بعد اختلاف المحل خارجا وذهنا.

فإن قلت : اى فائدة فى الامر المتعلق بداعى الامر اذا لم يكن داعيا الى متعلقه؟

قلت : فائدة اعلامك بأن الامر المتعلق بالعمل هو امر ضمنى لا استقلالى حتى يكون اذا اتيت بالعمل تأتى به بداعى الامر الضمنى لا الاستقلالى.

ان قلت : ان كان هذا غرض المولى فى امره ، لزم منه منافاة الغرض ، لان مثل هذا الامر اذا لوحظ بكلا حيثيتيه لم يكن مستتبعا للعقوبة اذ هو من حيث تعلقه بالعمل توصلى لم يعتبر فيه القربة ، ومن حيث تعلقه بالقربة ارشادى قصد به الاعلام والتنبيه ، على ان اللازم فى مقام الامتثال قصد امتثال الامر الضمنى بالعمل دون الاستقلالى.

قلت : لا نسلم الارشادية فيما يتعلق بالقربة فان مجرد كون الغرض الاعلام والتنبيه على اعتبار ملاحظة الضمنية فى مقام الامتثال ، لا يستلزم الارشادية التى هى على خلاف ظاهر الامر

١٤٢

الصادر من المولى الواجب الاطاعة ، لامكان ان يكون ذلك الاعلام داعيا لصدور امر المولوى وهو يستتبع العقوبة على مخالفته اذا تعلق بالعبادى.

وان قلت : الامر الضمنى المتعلق بالقربة بمعنى داعى الامر كيف يصلح ان يكون داعيا الى متعلقه ، اذ الامر حينئذ يكون داعيا على داعى الامر ولا معنى له.

قلت : قد تقرر فى غير هذا الموضع ان داعى الداعى معنى متعقل وهو واقع فى الخارج فإن رجاء المثوبة والفرار من العقوبة يدعو ان الى اتيان العمل بداعى امره فقد وقع داعى الامر مسببا عنهما فكانا داعيين على حصول داعى الامر ، وهنا ايضا يكون الامر الضمنى المتعلق بداعى الامر داعيا الى ان يؤتى بالعمل بداعى امره المتعلق به ضمنا

ان قلت : الامر الضمنى المتعلق بذات العمل كاف فى دعوته الى العمل ، فلا حاجة معه الى التوصل الى اتيانه بداعى امره ، الى توجه امر آخر ضمنى الى داعى الامر.

قلت : غير خفى ان الامر المتعلق بالعمل اذا لم يقترن بامر آخر متعلق بداعى الامر ، فلربما كان ذلك منافيا لغرض الامر ، اذ ربما يؤتى بالعمل بلا داعى الامر بل بداع نفسانى ، فيكون كسائر التوصليات الواقعة فى حيز الامر ، فانه يجتزى بها اذا وقعت غير مقرونة بالقربة وداعى الامر ، وحينئذ فلا مناص للمولى بعد محافظته على غرضه من تعليق امره بالعمل القربى المنحل امرين ضمنيين.

ان قلت : اتيان العمل بداعى الامر عبارة اخرى عن ارادته للعمل بدعوة الامر ، ولا شك ان الارادة غير اختيارية وإلّا لافتقرت الى ارادة اخرى ، وهكذا حتى يتسلسل وهو محال ، واذا كانت الارادة

١٤٣

غير اختيارية ، امتنع تعلق الامر بها ، لان الامر انما يتعلق بالامور الاختيارية لا غيرها.

قلت : لا نسلم عدم اختيارية الارادة ، ضرورة انه يمكن ان تنبعث عن مقدمات اختيارية بأن يتصور العاقبة والفائدة المترتبة على ذلك العمل الذى لم يكن متعلق ارادته ، فاذا راى فيه فائدة حسنة اراده واتى به ، واذا راى فيه مفسدة او مضرة اجتنبه وتحرز منه.

فان قلت : ان المصلحة اذا كانت قائمة بالعمل بشرط صدوره عن داعى الامر ، فلا بد للمولى ان يلحظ العمل او لا بما هو معلول للامر حتى يكون تحقق العمل فى عالم الخارج منبعثا عن ذلك الامر الذى يريد ابرازه ، فهو بهذا النظر وهذا اللحاظ ينظر الى العمل معلولا للامر ومتأخرا طبعا عن الامر ، واذا كان ملحوظا بهذا النحو يستحيل تعلق هذا الامر الملحوظ بمثل هذا العمل ، لاستدعاء الامر بالشىء تقدم ذلك الشىء على حكمه الذى هو الامر ، فلزم ان يكون شىء واحد متقدما على غيره فى الرتبة ومتأخرا عنه كذلك وهو محال بلا اشكال ، فلا بد من تعدد الامر من جانب المولى ليكون احدهما موضوعا للآخر فيأمر بالعمل او لا ساذجا من قيد القربة ، ثم يأمر ثانيا بإتيان ذاك العمل بداعى الامر الاول ، فلا محيص من الالتزام بأمرين فى مقام الانشاء والبعث نحو العمل بداعى الامر.

قلت : نعم لا يمكن اندراج الامر الملحوظ داعيا على العمل فى الامر المتعلق بالعمل ، لما ذكرت من اختلاف الرتبة ، إلّا انه يجوز الاقتناع بأمر واحد فى مقام البعث والداعوية باعتبار تنقيح المناط للجزم بعدم مدخلية شخص الامر الآخر فى حصول الغرض والمصلحة الباعثة على ذلك الامر ، وانما يحتاج الى امر آخر من حيث قصور البيان عن اداء المقصود بما يشمل هذا الامر المتعلق بالعمل المقرون

١٤٤

بداعى الامر ، فإذا كان مناط الامر الآخر متحققا فى هذا الامر الصادر ، جاز للحكيم الاكتفاء به فى مقام الداعوية اتكالا على المناط الجارى فيه عقلا.

وبمثل هذا يتفصى عن شبهة امتناع دليل شمول التصديق لخبر الواسطة فراجع محله.

فتلخص مما ذكرناه انه يمكن اعتباره التقرب فى متعلق الامر ويترتب على ذلك جواز التمسك بالاطلاق اللفظى لنفى اعتباره شرطا او شطرا ، كما يجوز التمسك باطلاق المقامى لنفى اعتباره ايضا.

هذا كله اذا كان اعتباره فى المأمور به بأمر واحد واما اذا كان بأمرين تعلق احدهما بذات الفعل وثانيهما بإتيانه بداعى امره ، فمما ينبغى الجزم بصحته اذ لا محذور فيه اصلا كما لا يخفى.

ان قلت : موافقة الامر الاول ان لم يفتقر الى نية التقرب خرج المأمور به عن كونه عباديا وهو خلاف المفروض ، وان افتقر اليها لغى الامر الثانى لقضاء العقل بلزوم مراعاة الفرض واستيفائه وهو لا يكون إلّا باقتران العمل بنية التقرب.

قلت : هذا انما يتجه لو علم عبادية المأمور به ، واما اذا لم يعلم ذلك وخلينا ونفس الامر الاول ، اشكل الحال فى الحكم بعبادية المأمور به ، سيما واطلاق المقام قاض بالتوصلية بل واطلاق اللفظ ايضا كما هو المختار عندنا خلافا للماتن ، ولا اقل من الرجوع الى البراءة العقلية النافية لاعتبار امر زائد على ما هو الواقع فى حيز الامر ، فلا مناص حينئذ للمولى الحكيم اذا كان من قصده مطلوبية الفعل بداعى التقرب ، من التوسل الى اعلام العبد بذلك اتماما للحجة عليه وسدا لباب الاعتذار له فيأمره ثانيا بأن يأتى بالعمل بداعى الامر

١٤٥

الاول.

«فى جريان اصالة الاطلاق عند الشك فى اعتبار القربة»

وبالجملة لا بأس باعتبار القربة فى المأمور به مطلقا سواء كان اداؤه بالامر الواحد او الامرين ، وحينئذ اذا شك فى اعتبار القربة فى المطلوب وعدمه كان المرجع عندنا اصالة الاطلاق ، سواء بنى على ان اصالة الاطلاق اصلا وجوديا او عدميا مرجعه الى اصالة عدم التقييد كما بنى عليه شيخنا الانصارى قده (١) واما بناء على مختار الماتن الذاهب الى استحالة التقييد وامتناع اعتبار داعى الامر فى المأمور به ، فلا يجوز الركون الى اصالة الاطلاق إلّا اذا اعتبرت اصلا وجوديا متبعا فى مقام الشك والدوران بين الاطلاق وعدمه كما هو الحق.

واما بناء على ما اختاره شيخنا الانصارى ، من رجوع ذلك الى اصالة عدم التقييد لم يجز التمسك باصالة الاطلاق لظهور ان مثل هذا الاصل لا يتأتى بناء على ذلك الا حيث يمكن التقييد وهو خلاف المفروض

ولكنك قد عرفت ان التحقيق اعتباره اصلا وجوديا لا عدميا ، فصح لنا التمسك باطلاق المادة ، على التوصلية ضرورة ان التعبدية تقتضى ضيقا فى دائرة العمل المأمور به ، لانحصار دخالته فى الغرض بوجه لا يشمل صورة فقد قيده لا على انه مقيد ، بل انه حصة خاصة تساوى التقييد وذلك مناف لظاهر الاطلاق الواجب اتباعه بدليل بناء العقلاء.

__________________

(١) ـ الظاهر ان المراد من كون اصالة الاطلاق اصلا عدميا ، هو ما قال شيخنا العلامة فى الرسائل «من ان مال اصالة الحقيقة والعموم والاطلاق الى أصالة عدم القرينة» راجع الرسائل ص : ٣٤.

١٤٦

«فى جريان البراءة عند الشك فى اعتبار القربة»

هذا كله الكلام فيما يتعلق بالدليل الاجتهادى ، واما من حيث الدليل الفقاهتى والاصل العملى ، فهل يرجع فيه الى اصالة الاشتغال او البراءة؟ فيه خلاف ينشأ من الخلاف المذكور فى مسئلة الاقل والاكثر الارتباطيين ، فإن الاصحاب فى تلك المسألة على قولين ، قول بالاشتغال وقول بالبراءة فمن قال فيها بالاشتغال قال به فى المقام ، ومن قال فيها بالبراءة قال بها هنا ايضا.

وتفصيل ذلك ان اعتبار القربة لما كان امرا وراء التكليف بنفس العمل ، كان التكليف بالعمل نفسه امرا يقينيا لا شك ولا شبهة فيه ، وانما الشك فى اعتبار القربة زائدا على ذات العمل ، فيدور الامر حينئذ بين الاقل والاكثر ، ويندرج فى تلك المسألة ، فمن ذهب فيها الى الاشتغال استند الى العمل الاجمالى الدائر طرفاه بين الاقل والاكثر ، فيلزم مراعاته باتيان الاكثر ومن ذهب فيها الى البراءة نظر الى انحلال العلم الاجمالى الى العلم التفصيلى بالاقل ، والشك البدوى فى الاكثر ، وبنى فى المشكوك على البراءة.

والحاصل ان مرجع الخلاف فى المقام الى المسألة المعروفة فى الشك بين الاقل والاكثر الارتباطيين وانها من قبيل الشك فى التكليف او المكلف به.

ان قلت : فرق بين المقام ومسئلة الاقل والاكثر الارتباطيين «اذ لا مجال هاهنا الا لاصالة الاشتغال ولو قيل باصالة البراءة فيما اذا دار الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين ، وذلك لان الشك هاهنا

١٤٧

فى الخروج عن عهدة التكليف المعلوم مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها فلا يكون العقاب مع الشك وعدم احراز الخروج عقابا بلا بيان ، والمؤاخذة عليه بلا برهان ، ضرورة انه بالعلم بالتكليف تصح المؤاخذة على المخالفة وعدم الخروج عن العهدة لو اتفق عدم الخروج عنها بمجرد الموافقة بلا قصد القربة.»

قلت : يرد عليه اولا ان هذا الوجه من التقريب ان تم لم يكن له اختصاص بالمقام ، بل كان جاريا فى مسئلة الاقل والاكثر الارتباطيين ايضا ، وذلك لان الاقل بعد ان كان معلوم الوجوب وكان اليقين بالخروج عن عهدة التكليف به منحصرا فى اتيان الاكثر ، وجب فيه الاحتياط بإتيان الاكثر والى هذا الوجه استند صاحب الفصول قده فى الحكم بالاشتغال فى تلك المسألة. (١)

وبالجملة لا يجتمع الركون الى هذا الوجه هنا فى القول بالاشتغال مع القول بالبراءة ثمة فالتفصيل بين المقامين غير سديد.

نعم يمكن التفصيل بينهما لو كان مستند الاشتغال ثمة هو العلم الاجمالى المردد طرفاه بين الاقل والاكثر ، اذ يمكن دعوى الانحلال فيه الى معلوم تفصيلى بالتكليف بالاقل ، وشك بدوى فى التكليف بالاكثر ، فيرجع فيه الى البراءة وهذا الانحلال لا يتأتى هنا ، للعلم بانتفاء التكليف عن الاكثر بناء على استحالة اعتبار القربة فى المأمور به ، فلا مجال فيها الا الاشتغال بملاحظة احتمال اعتبارها فى طريق الامتثال الذى يحكم العقل فيه بلزوم مراعاته بتحصيل اليقين بالفراغ عنه بمراعاة احتمال التكليف بالاكثر ، إلّا ان هذا فى الحقيقة راجع الى الوجه الاول الذى قد عرفت اقتضائه الاشتغال فى المقامين ،

__________________

(١) ـ الفصول فى الاصول : ٤٩.

١٤٨

لظهور ان العقل لا يحكم بتحصيل اليقين بالفراغ عن التكليف الذى يحتمل اشتغال الذمة به ، بل عن التكليف المعلوم ، والمفروض انه لا تكليف معلوم عندنا الا التكليف المتعلق بالاقل وهو جار فى المقامين فالتفرقة بينهما غير مستقيمة.

وثانيا ان الشك فى الاطاعة تارة ينشأ من الشك فى اتصاف الشىء بالواجبية ، واخرى من الشك فى اتيان المعلوم اتصافه بالوجوب ، وهم العقل فى مسئلة قاعدة الاشتغال ليس إلّا تحصيل المشكوك على النحو الثانى دون الاول ، ومسئلة الاقل والاكثر فى مقامنا هذا وفيما يأتى ليس إلّا من قبيل الاول الذى لا تجرى فيه قاعدة الاشتغال ، فانه اذا اقتصر على الاقل كان شاكا فى اتيانه بالواجب ، إلّا ان شكه ذلك ناش عن الشك فى اتصاف المأتى به بصفة الوجوب لا عن الشك فى وجود الواجب المعلوم ، وما هذا شأنه لا يجرى فيه قاعدة الاشتغال ، وتتمة الكلام يأتى إن شاء الله تعالى فى محلها.

هذا كله فى الكلام فيما يتعلق بالبراءة العقلية ، واما البراءة النقلية ففى جريانها وعدمه خلاف ، منشؤه الخلاف فى ان العلم الاجمالى هل هو علة تامة للتنجز او هو مقتض؟ فبناء على الاول لا يجوز الترخيص فيه على الخلاف لانه ترخيص فى المعصية ، بخلافه على الثانى اذ لا مانع منه الا شبهة تعارض الاصلين وهى ساقطة فى صورة الشك الدائر طرفاه بين الاقل والاكثر ، اذ لا معارض للاصل الجارى فى طرف الاكثر بجريانه فى طرف الاقل لان الاقل معلوم التكليف ، فلا يجرى الاصل فيه حتى يكون معارضا للاصل الجارى فى طرف الاكثر.

ان قلت : كيف تجرى البراءة هنا وهى انما تنفى التكليف ولا تكليف بالاكثر حسب الفرض ، لاستحالة البعث نحو القربة مولويا لانه لغو يقبح صدوره عن الحكيم ، اذ الكلام مبنى على احتمال اعتبار

١٤٩

القربة فى طريق الامتثال الذى يحكم العقل فيه بالاشتغال ، واذا حكم العقل بالاشتغال لم يبق ثمة مجال لحكم الشرع به مولويا ، فلا تكليف محتملا فى البين حتى ينفى ذلك بالبراءة.

قلت : ليس من شأن البراءة نقليها وعقليها الا رفع استحقاق العقوبة على مخالفة التكليف المحتمل وهنا كذلك اذ بلوغ التكليف الى مرتبة الفعلية المانعة عن مخالفته من ناحية تفويت القربة ، غير معلوم ، وانما هو محتمل مرفوع بالبراءة.

نعم لا يجوز تفويته بترك الاقل رأسا لانه معلوم التنجز والفعلية من هذا الوجه قطعا. هذا بناء على القول بامتناع تعلق الامر بالقربة بمعنى داعى الامر ، واما بناء على التحقيق الذى قلناه من جواز تعلقه بها مولويا فلا اشكال فى صحة جريان البراءة عن محتمل التكليف.

«الامر المطلق يحمل على النفسى والعينى والتعيينى»

«المبحث السادس : قضية اطلاق الصيغة كون الوجوب نفسيا عينيا يقينيا لكون كل واحد مما يقابلها يكون فيه تقييد الوجوب وتضييق دائرته ، فاذا كان فى مقام البيان ولم ينصب قرينة عليه فالحكمة تقتضى كونه مطلقا ، وجب هناك شىء آخر او لا ، اتى بشىء آخر او لا ، اتى به آخر او لا كما هو واضح ...» كوضوح الثمرة فيما بين كل واحد من الوجوه الثلاثة وبين ما يقابلها من الغيرية ، والكفائية ، والتخييرية ، إلّا انه ربما يشكل الحال فيما لا يقبل التكرار كالدفن مثلا لو شك فيه انه من قبيل الواجب الكفائى او العينى فانه ربما يقال : لا ثمرة فيما بينهما لظهور ان الدفن اذا تحقق سقط التكليف ، ولا يبقى مجال للامتثال من غير فرق بين العينية والكفائية ، فلو ورد

١٥٠

امر بالدفن وشك فى انه عينى على جميع المكلفين او هو كفائى يسقط بقيام البعض ، كان حال الاول كالثانى فى سقوط التكليف فيه بقيام البعض لارتفاع موضوع التكليف ، فلا يبقى مجال لامتثاله على كلا الوجهين.

قلت : يمكن الفرق بينهما بأنه على العينية يجب الاقدام والتحرك نحو الامتثال فى صورة احتمال قيام الغير بالدفن ، لانه من قبيل الشك فى القدرة على الامتثال ، وهو مما يحكم العقل فيه بلزوم مراعاته مهما امكن حتى يتبين العجز عنه ، وهذا بخلافه على الثانى لانه من قبيل الشك فى التكليف اذ المفروض انه على الكفائية لا تكليف عليه الا مشروطا بعدم قيام الغير بالمأمور به ، وهو شاك فى حصول الشرط المستلزم ذلك للشك فى المشروط المنفى بالبراءة.

فظهر الفرق بين العينية والكفائية فى هذا الصورة لكن ذلك انما يتجه حيث لا يكون فى البين اصل موضوعى يقضى بعدم قيام الغير بالدفن وإلّا فلا فرق بينهما.

«فى الامر الواقع عقيب الحظر»

المبحث السابع : هل الامر الواقع عقيب الحظر او فى مقام توهمه باق على ظهوره فى الوجوب او هو ظاهر فى الاباحة او هو مجمل غير ظاهر فى شىء من المعنيين؟ فيه خلاف اقربهما الاخير عند شيخنا الاستاذ دام ظله ، وصاحب الكفاية.

ولا يبعد ظهوره فى المعنى الثانى بشهادة التبادر العرفى ، وعلى القول بالاجمال يكون ذلك من باب اقتران الكلام بما يصلح للقرينية على ارادة خلاف الظاهر ولم يجز التمسك به. إلّا ان يقال : باعتبار

١٥١

اصالة الحقيقة تعبدا حتى فيما اذا احتف بالكلام ما لا يكون ظاهرا معه فى معناه الحقيقى كما عن بعض الفحول.

ثم اعلم ان النهى اما ان يكون تشريعيا او تحريميا كما هما محتملان فى حرمة عبادة الحائض ، فإن كان النهى تشريعيا ثم استخلفه الامر فلا مجال حينئذ للاباحة اصلا ضرورة لزوم الرجحان فى العبادة. نعم غاية الامر يلائم مع الاستحباب والوجوب.

واما لو كان النهى تحريميا فهو يلائم مع جميع الاقوال ما لم يكن النهى عن العبادة ، ضرورة عدم معقولية الإباحة فى العبادة ، وتظهر الثمرة بين الاقوال فى الفقه فى موارد متعددة :

منها : ما يدل على الامر بالقراءة فى الصلاة ، ثم النهى عن القراءة فى الجماعة ، ثم الامر بها فيها لو لم تسمع الهمهمة. (١) وموارد ظهور الثمرة كثيرة جدا فراجع وتأمل.

«فى المرة والتكرار»

المبحث الثامن : هل الامر يدل على المرة ، او التكرار او لا يدل على شىء منهما ، بل لا دلالة فيه الا على طلب الطبيعة؟ والمختار هو الاخير وفاقا للماتن وجماعة من المحققين وقبل الخوض فى تحقيق الحق فى المسألة ينبغى تمهيد مقدمات :

الاولى : هل المراد بالمرة او التكرار الدفعة والدفعات ، او

__________________

(١) ـ الوسائل ج : ٥ باب : ٣١ ابواب صلاة الجماعة حديث : ١ و ٢ محمد بن على بن الحسين باسناده عن الحلبى عن ابى عبد الله «ع» انه قال : اذا صليت خلف امام تأتم به ، فلا تقرأ خلفه سمعت قراءته ام لم تسمع ، إلّا ان تكون صلاة تجهر فيها بالقراءة ولم تسمع فاقرأ. وباسناده عن عبيد بن زرارة عنه «ع» انه ان سمع الهمهمة فلا يقرأ.

١٥٢

الفرد والافراد؟ احتمالان إلّا ان الظاهر من كلماتهم هو الاول.

الثانية : ربما يتخيل اتحاد الخلاف هنا مع الخلاف المعروف فى تعلق الاوامر بالطبائع او الافراد ، بناء على تفسير المرة والتكرار بالفرد والافراد ، ولكن ذلك خيال فاسد ، اذ المقصود من الفرد والافراد على القول به فى هذا المقام ليس إلّا صرف الوجود الواحد والوجودات المتعددة ، فى قبال القول الآخر المبتنى على تعلق الامر بالطبيعة ، وهذا بخلاف البحث الآتي فى مسئلة تعلق الاوامر بالطبائع او الافراد اذ المنظور اليه هناك هو خصوصية الفرد والافراد.

وتظهر الثمرة فيمن قصد الامتثال بخصوصية الفرد فعلى المرة تكون الخصوصية خارجة عن المطلوب غير داخلة فيه فقصد الامتثال فيها تشريع محرم ، بخلافه على القول بتعلق الامر بالفرد فان الخصوصية حينئذ تكون مطلوبة ولا يكون قصد الامتثال فيها من التشريع المحرم.

الثالثة : هل التكرار عند القائل به يراد به على نحو الارتباط الذى يتوقف الامتثال فيه على الحاق بقية الافراد او الدفعات فلو اقتصر على فرد واحد او دفعة واحدة كان عاصيا محضا غير ممتثل بالمرة ، او يراد به على نحو الاستقلال الذى يعد المقتصر فيه على المرة مطيعا فيما اتى به وعاصيا فيما لم يأت به؟ احتمالان واذ قد عرفت ما تلوناه عليك من المقدمات الثلث ، فنقول : مما يدل على المختار التبادر العرفى المحكم فى باب الالفاظ فانه اذا قال المولى لعبده اضرب لا ينسبق منه المرة ولا التكرار ولا يستفاد منه الا طلب طبيعة الضرب ، وما تراه من الاكتفاء بالمرة فى مقام الامتثال فانما هو لحصول الامتثال بها فى الامر بالطبيعة كما لا يخفى.

ويمكن الاستدلال للمختار ايضا بما فى الفصول : من انحلال صيغة الامر الى هيئة ومادة ولا دلالة فى الهيئة الا على الطلب واما

١٥٣

المادة لو كان فيها دلالة على مرة او تكرار لكان فى المصدر دلالة على احدهما ، ولا ريب ان الاتفاق واقع على ان المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا يدل إلّا على الماهية على ما حكاه السكاكى ، ولا يرد عليه ما فى الكتاب من ان كون المصدر كذلك لا يوجب الاتفاق ، على ان مادة الصيغة لا تدل الا على الماهية ، ضرورة ان المصدر ليس مادة لسائر المشتقات ، بل هو صيغة مثلها ، كيف وقد عرفت فى باب المشتق مباينة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى ، فكيف بمعناه يكون مادة لها ، فعليه لا يمكن دعوى اعتبار المرة او التكرار فى مادتها كما لا يخفى انتهى. (١)

والوجه فى عدم وروده ان المقصود من الاستشهاد بالمصدر استكشاف حال المادة المأخوذة فى ضمن الصيغة ، فانه لو كانت المرة او التكرار من معانى المادة المشتركة فى جميع الصيغ لما تخلف ذلك فى المصدر ، فان ما يكون معنى للقدر المشترك بين جميع الصيغ ، لا يجوز تخلفه فى واحد منها ، فلو تخلف فى بعضها كشف ذلك عن عدم كونه معنى لذلك القدر المشترك ، فمن تخلف مثل هذه الدلالة فى المصدر يستدل على ان المرة والتكرار ليسا مدلولين ، كما انهما ليسا مدلولين للصيغة ، فلا وقع حينئذ لما ذكر من الايراد.

ان قلت : لا وجه لتخصيص مورد التخلف بالمصدر بل يشاركه الماضى والمضارع ، فإن ضرب ويضرب لا دلالة فيهما على الاخبار بوقوع الضرب فيما مضى وفيما يأتى مرة واحدة ، فلو كان المقصود من ذكر المصدر بيان مورد التخلف لما حسن الاختصار فى ذلك على خصوص المصدر.

__________________

(١) ـ الفصول فى الاصول : ٧١.

١٥٤

قلت : ليس من المستبعد عن القائل بدلالة صيغة الامر على المرة الذهاب الى دلالتهما عليها فى الاخبار بوقوع الضرب كما يقتضيه استدلاله لمختاره فى صيغة الامر حيث انه استدل للقول بالمرة بأن الصيغة لو لم يكن دالة على المرة لما اجتزى بالمرة الواحدة فى مقام الامتثال ، فالاجتزاء بها دليل على دلالة صيغة الامر على المرة.

وبمثل هذا التقريب يجرى الكلام فى صيغة الماضى والمضارع لصحة الاخبار عما مضى وما يأتى بوقوع الضرب وان كان الواقع من الضرب مرة واحدة فيكون ذلك دلالة على المرة الواحدة فى مقام الاخبار ، لكن لا تجرى مثل هذا الكلام فى المصدر ، لما سمعت من الاتفاق المعتضد بالفهم العرفى على تمحضه للدلالة على الحدث خاصة ، فكان المصدر على هذا اظهر موارد التخلف واولى من غيره بأن يتخذ شاهد الخلوص المادة عن الجهة الزائدة عن دلالتها على الحدث ، ويصح الاستدلال به على المختار من غير ان يرد عليه ايراد الكتاب.

نعم يتجه ذلك الايراد بناء على وحدة الوضع للمجموع المؤتلف من الهيئة والمادة فى المشتقات حتى يكون وضعها وضعا عاما مع وحدة الموضوع ، ولعل ذلك الايراد الذى اورده الماتن قده مبنى على ذلك القول كما هو مختار المصنف قده ، إلّا ان التحقيق خلافه وقد عرفت فى بحث المشتق بما لا مزيد عليه ، ان للمشتق وضعين يتعلق احدهما بالهيئة والآخر بالمادة فاذا لم تجد للهيئة فى نفسها دلالة الا على الطلب كما ان المادة لا دلالة فيها الا على الحدث بشهادة التخلف فى المصدر ، كان ذلك برهانا جزميا على ان صيغة الامر متمحضة للدلالة على طلب الطبيعة ، واذا كانت دالة على طلب الطبيعة فهل الاقتصار فى مقام الامتثال على المرة او لا بد من التكرار؟ ظاهر القوم هو الاول وهو مبنى على ان مدلول المطلق هو الحصة الشائعة فى افرادها على

١٥٥

سبيل التبادل كما هو مختار المشهور فى بحث المطلق والمقيد فانه بناء على ذلك يتجه الاجتزاء بالمرة لانطباق الطبيعة المطلوبة حينئذ على اول الوجود ، واما بناء على التحقيق الذى اختاره سلطان المحققين ، من ان المطلق موضوع للماهية المهلة التى تقبل الانطباق على القليل والكثير ، فلا يكون فيها حينئذ دلالة على الاجتزاء بالمرة كما كان ذلك بناء على مذهب المشهور ، فيحتاج فى الاجتزاء بها الى الاستعانة بمقدمات الحكمة ، وهى كما تجرى فى المتعلق الذى هو المادة ، كذلك تجرى فى الطلب الذى هو مدلول الهيئة ، ومقتضى جريانها فى كل منهما التعاكس ، اذ هى ان جرت فى المتعلق دلت على جواز الاقتصار بالمرة ، وان جرت فى الطلب دلت على التكرار ، اذ المرة تحديد لدائرة الطلب يفتقر الى بيان من الحكيم ولا بيان.

وهذا بخلاف جريانها فى المادة المتعلق بها الطلب ، اذ الماهية بما هى هى صالحة للانطباق على اول الوجود وصادقة عليه فيجتزى بالمرة الواحدة فى انطباق المطلوب عليها ، فجاء التنافى من ملاحظة اقتضاء القرينة العقلية الجارية فى جانبى الطلب والمطلوب.

فينقدح من ذلك الاشكال فى كلامهم بأن القول بمطلوبية الطبيعة ، يقتضى الاجتزاء بالمرة ، بل الاجمال الناشى من قضية تعاكس مقدمات الحكمة الجارية فى كل واحد من مدلولى الهيئة والمادة يقتضى بالتوقف بالنظر الى الدليل الاجتهادى لا الجزم بمراعاة اطلاق المادة ، كما يقتضيه كلامهم هذا.

وربما يوجه كلامهم ذلك بأن مراعاة اطلاق المادة ، اولى بالتقديم من جانب الهيئة ، اذ المادة فى المعنى موضوع للحكم الطلبى وهو مقدم على حكمه طبعا ، فيختص جريان المقدمات فى الموضوع نفسه قبل الحكم.

١٥٦

وفيه ان الموضوع انما يقدم على حكمه فى مرحلة الثبوت دون الاثبات خاصة وهما فى هذه المرحلة على حد سواء نسبة مقدمات الحكمة اليهما على السوية ، لا فرق فيها بالنسبة الى الحكم وموضوعة ، بل قد يكون مراعاة الاطلاق فى جانب الحكم اولى بالتقديم من حيث انه علة لحصول المطلوب فى عالم الخارج فيكون الطلب على هذا مقدما على متعلقه وموضوعه خارجا ، ومن ثم تراهم يعتبرون الاطلاق فى النهى بالنسبة الى جانب الطلب دون المطلوب ، فيحكمون من اجل ذلك بدلالته على الاستمرار والدوام فانه لو لا اعتبار مقدمات الحكمة فى جانب الطلب ، لكان يكفى فى سقوط النهى عصيانه بالمرة الاولى ولا يلزمه العصيان لو خالف النهى مرة ثانية وثالثة وهكذا ، والتالى باطل بالضرورة.

والاولى فى بيان الفارق بين الامر والنهى ان يقال : ان ارتكاز الذهن لما كان على إباء هذه الشريعة عن التكليف الحرجى ، وكان فى تكرار الافعال والمداولة عليها حرج غالبا ، بخلاف التروك صار ذلك مانعا عن مراعاة التقديم فى جانب الطلب الالزامى بالفعل دون الترك ، وهذا هو السر في الفرق بين الامر والنهى ، وان شئت قلت مقتضى الترتيب الطبيعى ، ان يقدم الاطلاق الملحوظ بالنسبة الى جانب الطلب على الاطلاق الملحوظ ما لم يمنع عن تقديمه ، مانع وقد حصل المانع فى جانب الامر بالحرج فى التزام المداومة على تكرار الفعل فتأمل.

١٥٧

«فى ثمرة المسألة»

بقى الكلام : فى ثمرة المسألة وهى لا تكاد تخفى على المتأمل لوضوح الفرق بين القول بالطبيعة والتكرار فى الاجتزاء بالمرة الواحدة على الاول دون الثانى ، وبينه وبين القول بالمرة فيما لو اريد منها الفرد واتى بالافراد دفعة ، فانه بناء على القول بالطبيعة يقع الافراد بأسرها امتثالا واحدا لانطباق الطبيعة على الجميع دفعة واحدة وهذا بخلافه على القول بالمرة فإن الامتثال انما يتحقق بواحد من تلك الافراد واما لو اريد من المرة الدفعة ، فربما يشكل الفرق بين القول بالطبيعة والمرة فى مقام الامتثال ، وقد تظهر الثمرة بينهما على القول بجواز الامتثال عقيب الامتثال فى الدفعة الثانية ، فإن الامتثال يتكرر على القول بالطبيعة دون القول بالمرة.

ثم انه ربما تزيل هذه المسألة بمسألة اخرى اختلف فيها كلمات القوم وهى مسئلة تعليق الامر بالشرط فهل يستفاد منه التكرار عند تكرر الشرط او لا يستفاد؟ والاولى الحاق هذه المسألة بالمفاهيم الشرطية لان القول بالتكرار فيها انما هو ناش عن استفادة تعليق الجزء بالشرط بنحو الطبيعة السارية ، لا من حيث نفس الامر كما ان القول بعدمه ناش عن استفادة التعليق بحدوث الشرط وحصوله اول مرة.

١٥٨

«فى الفور والتراخى»

«المبحث التاسع الحق انه لا دلالة للصيغة لا على الفور ولا على التراخى ، نعم قضية اطلاقها جواز التراخى والدليل عليه تبادر طلب ايجاد الطبيعة منها بلا دلالة على تقييدها بأحدهما ، فلا بد فى التقييد من دلالة اخرى.»

بل ربما تكون مقدمات الحكمة هنا اولى بالدلالة على الاطلاق من المسألة السابقة ، لما عرفت آنفا من وجود المانع المزاحم للاطلاق فى جانب المادة ، بجريان المقدمات فى جانب الطلب ايضا ، وانما رفعنا اليد عنها فى جانب الطلب بواسطة ارتكازية الذهن من مانعية العسر والحرج عن توجه التكليف الالزامى نحو الافعال ، فكان ذلك مانعا عن فهم الاطلاق فى جانب الطلب ، ومثل هذا لا ينافى فى المقام ، لعدم اقتضاء مقدمات الحكمة هنا جريانها فى جانب الطلب ، فلا مقتضى من طرف الطلب للدلالة على الفورية ولا على التراخى ، فيبقى اطلاق المادة بحاله من اقتضائه التوسعة فى مقام الامتثال فورا او تراخيا ، وهذا هو عمدة الوجه فى القول المختار من ان الصيغة بنفسها لا تدل على فور ولا تراخ.

وقد يستدل للمختار بوجه آخر لا يخلو عن ضعف وحاصله ان الامر لو دل على الفورية ، لكان فيه دلالة على الزمان الحالى وقد تقرر فى باب المشتق تجرد الصيغ المشتقة عن الدلالة على الزمان.

ويضعفه ان الفورية عبارة اخرى عن المسارعة والتعجيل وهو غير الزمان الحالى بحسب الوجود وفرق بين كون ذلك معنى للفورية وبين كونه ملازما لها.

١٥٩

«فيما استدل به للفورية»

وقد يستدل للفورية بوجهين : احدهما بالدليل العقلى وهو يبتنى على انكار الواجب المعلق بما بين وجهه فى مقدمة الواجب.

وحاصل ما ذكر فى وجه انكاره ان الطلب ناش عن الارادة الفعلية الباعثة لتحريك العضلات نحو المراد والمطلوب ، وتلك الارادة فى التكوينيات لا تفتقر الى توسيط ارادة الغير فى حصول المراد ، بل المريد بنفسه يتكفل القيام بتحصيله من غير توسيط واستعانة بإرادة الغير وفى الارادة التشريعية تفتقر الى الاستعانة بارادة الغير وتصير ارادة الغير كالآلة فى تحقق المراد ، واذا كانت الارادة فعلية فلا بد وان يكون كل ما يترتب عليها فعليا بفعلية تلك الارادة ، فلا بد حينئذ من استتباع الطلب فى عالم تحققه لتحقق المطلوب ولا يكاد يتخلف عنه ولازم ذلك الفورية وسيأتى ما فيه فى محله إن شاء الله تعالى.

ثانيها : بالدليل النقلى وهو آيتا المسارعة والاستباق (١) بتقريب ان الامر بظاهره يدل على الوجوب ومقتضى ذلك حينئذ وجوب المسارعة الى الخيرات واسباب المغفرة.

وتوهم ان المسارعة الى مثل ذلك مما يحكم بحسنه العقل ولا يبقى مجال المولوية فى الامر ، فلا بد حينئذ من حمله على الارشاد وهو

__________________

(١) ـ آل عمران : ١٣٣ (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) وآية الاستباق فى السورة البقرة : ١٤٨ (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

١٦٠