تحرير الأصول - ج ١

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني

تحرير الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني


المحقق: حمزة حمزوي
الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٦

اوامر صورية يتخيل الناظر انها اوامر وليست هى اوامر ، فهى كسراب بقيعة يحسبه الضمان ماء حتى اذا جاءه لم يجده شيئا ، فاذا لا بد فى الامر ان يكون صدوره عن جد وارادة حقيقية ، فالطلب الحقيقى يعتبر ان يكون داعيا للانشاء ولا يكون داخلا فى مفهوم الامر ، فهو من قبيل الشرط فى تحقق معنى الامر يعد خارجا عنه وان كان المعنى موقوفا عليه.

فتلخص مما ذكرنا ان الامر حقيقة هو الطلب الانشائى عن داعى الجد والطلب الحقيقى ، وببيان اوضح انهم عرفوا الامر بأنه الطلب بالقول وما يحتمل ارادته من لفظة الطلب احد امور ، اما الطلب الحقيقى الذى هو عين الارادة الحقيقية او غيرها على الخلاف ، او الطلب المفهومى الذى هو المعنى المتصور عند ارادة استعمال اللفظ فيه ، او الطلب الانشائى الذى هو الطلب المفهومى المبرز بعالم اللفظ مع قصد الموجدية للمعنى.

فإن اريد المعنى الاول فلا بد ان يكون المراد من القول فى التعريف هو القول بمفهومه الذى هو مفهوم الطلب ، اذ الطلب الحقيقى لا يكون مظهرا بالقول نفسه من غير اعتبار دلالة على مفهوم الطلب الذى هو معناه المطابقى ، وان اريد المعنى الثانى كان المراد من القول نفسه بلا ملاحظة اعتباره دالا على معناه ، وان اريد المعنى الاخير فلا بد من مراعاة التسامح فى صيرورته متعلقا للقول ، اذ الانشائية لا يلحق الطلب إلّا بلحاظ الاستعمال ، ويستحيل اعتبار ما يتأتى من ناحية الاستعمال فى المستعمل فيه.

والحاصل ان المعانى الثلاثة محتملة فى الطلب المذكور فى التعريف ، والمتعين ارادته من تلك المحتملات بحسب الظاهر هو المعنى الاول ، خلافا لما فى الكفاية حيث انه قده بنى على ان المراد

١٢١

من الطلب فى تعريفهم ذلك هو الطلب الانشائى.

لنا على المختار امران : احدهما ان التعريف لما كان مبنيا على شرح مدلول الامر بحسب ما يتفاهم منه المعنى عرفا ، فلا بد وان يتبع فى استخراج المراد من القيود المذكورة فى التعريف ما ينطبق عليه الامر بحسب نظر العرف ، والمشاهد لدى العرف انهم لا يرون الامر الخالى عن الطلب الحقيقى امرا ، كما انه ليس مورد حكم العقل بلزوم الامتثال والاطاعة ، فدل ذلك على انحصار الامر فى خصوص ما يقترن بالطلب الحقيقى.

ثانيهما : ان الصيغ المستعملة فى الطلب من نحو اضرب واشرب ونحوهما هى مصاديق للامر جزما ، ولا يعقل ان يكون مدلولها مفهوم الطلب لكونه معنى اسميا ، فلا يصلح ان يكون مدلولا لهيئتها بل الهيئة تدل على النسبة التحريكية والحث على العمل والبعث اليه ، فهذا دليل على ان ما ذكر فى التعريف من لفظة الطلب ، لا يراد به الا الطلب الحقيقى الداعى الى هذا التحريك وليس هو مدلولا للصيغة بل مظهرا بها بواسطة قرنية ظهور شاهد الحال الدال على ان الامر اذا امر كان امره عن جد وارادة حقيقية.

ثم ان الطلب الحقيقى بناء على اتحاده مع الارادة ، حيثما يتحقق يكون داعيا على الانشاء البعثى والتحريك نحو العمل ، فيكون الانشاء بالنسبة اليه واسطة فى الاثبات حيث انه بالانشاء البعثى يستعلم ارادة المولى التى هى منشأ حكم العقل بلزوم الاطاعة المتفرع عليها الوجوب والايجاب.

نعم لو قلنا بالمغايرة كان الانشاء البعثى هو السبب فى تحقق الطلب الحقيقى فيكون نسبة الانشاء الى هذا الطلب على هذا التقدير من قبيل الواسطة فى الثبوت ، ويكون نظير انشاء الملكية والزوجية اللتين

١٢٢

لا يتحقق وجودهما فى عالم الخارج إلّا بانشاء فهو واسطة ثبوت فى تحققهما لا واسطة اثبات.

«الكلام فى ان الطلب هل هو عين الارادة او غيرها؟»

ثم ان الطلب هل هو عين الارادة كما عليه المعتزلة او غيرها كما عليه الاشاعرة؟ فيه نزاع معروف بين الفريقين ، وربما يحمل الطلب فى كلام القائل بالمغايرة على الانشائى وتحمل الارادة فى كلامه على الارادة الحقيقية ، فيكون المحتمل من القول بالمغايرة على هذا الوجه ، هو دعوى المغايرة بين الطلب الانشائى والارادة الحقيقية ، وهذا المقدار من المغايرة لا يتحاشاه القائل بالاتحاد والعينية فيرجع النزاع بين الفريقين لفظيا.

وقريب من هذا الوجه حمل الطلب فى كلام القائل بالمغايرة على البعث والايجاب المترتب على الطلب الانشائى ، حيث انه بعد انشاء الطلب يحكم العقل بلزوم الموافقة والطاعة ، فينتزع من ذلك الوجوب والالزام ، وهذا هو الطلب المدعى مغايرته مع الارادة.

وربما يؤيد ذلك تقسيمهم الطلب الى الوجوب والاستحباب ، فإن الطلب المنقسم اليهما متحد معهما ولا يكون هو الارادة الحقيقية ، اذ الارادة هو السبب الباعث الى وجود هذه المرتبة من الطلب الانشائى المنقسم الى هذين القسمين ، فكيف تتحد الارادة معها وليس نسبتها الى الطلب الانشائى الا كنسبة العلة الى معلولها هذا.

ولكنك خبير بأنه من المستبعد كمال البعد لفظية مثل هذا النزاع العظيم ، وهذا التشاجر الواقع من سالف الزمان بين المعتزلة والاشاعرة ، بل الظاهر ان مدعى المغايرة يدعى المغايرة المعنوية

١٢٣

بينهما على ان يكون الطلب بمعناه القائم بالنفس يغايره الارادة الحقيقية.

ويشهد لذلك انه يجعله منشأ حكم العقل بلزوم الموافقة وحرمة المخالفة ، وظاهر ان هذا لا يوافق الوجهين المزبورين اذ لا يجب امتثال الطلب والالزام الغير المنبعثين عن الارادة الحقيقية كما لا يخفى.

فلو علم المأمور ان المتوجه اليه من الامر هو الامر الصورى الخالى عن الارادة لم يجب عليه امتثاله عقلا ، مضافا الى ان ظاهر استدلال القائل بالاتحاد بانا لا نجد فى انفسنا شيئا وراء العلم والارادة يقتضى بأن محط البحث بينه وبين القائل بالمغايرة ، ليس هو الطلب الانشائى والوجوب المنتزع منه ، كما هو مقتضى الوجهين المتقدمين ، بل هو امر معنوى قائم بالنفس يثبته القائل بالمغايرة وينفيه القائل بالاتحاد ، ضرورة ان الطلب الانشائى وما يترتب عليه من الالزام المنتزع منه ، ليسا من المعانى القائمة بالنفس حتى يتجه الاستدلال على نفيهما بعدم مشاهدة شىء آخر وراء العلم والارادة فى النفس ، فمثل هذه الامور من شواهد النزاع المعنوى بين الفريقين دون اللفظى كما هو مآل الوجهين المتقدمين ، وحينئذ فاللازم تطلب ذلك المعنى الثالث الذى يراه القائل بالمغايرة انه معنى طلبى غير الارادة النفسانية.

والظاهر ان ذلك المعنى الثالث هو من قبيل ما يذكرونه الفقهاء فى التشريع المحرم الذى هو من الاعمال الجنانية ، وما يذكرونه فى البناء على الثلث او الاربع فى الشكوك الصلاتية التى امر المكلف فيها بالبناء على الاربع فيما لو شك بين الثلث والاربع ، او البناء على الثلث لو شك بين الاثنين والثلث وغير ذلك ، فإن البناء على احدهما عمل جنانى وان كان نتيجته العمل الجوارحى.

١٢٤

وكذا ما يذكرونه المتكلمون فى لزوم عقد القلب فى الاعتقاديات التى يتيقن بها من الامور الحقه ، فلربما يكون الانسان معتقدا للحق ولا يدين به قلبا كما قال تبارك وتعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا)(١) فإذا كان مثل هذه الامور الجنانية متحققة ، فلا يبعد ان يكون مراد القائل بالمغايرة هو تحقق القصد وعقد القلب على تحريك العبد نحو العمل ، وهذا مما يصلح ان يكون مورد توهم لزوم موافقته عقلا ، كما انه صالح لتعلقه بالمحال عنه القائل بالمغايرة.

ومن ثم فرع على المغايرة جواز الامر الامر بشىء مع علمه بانتفاء شرطه ، وهذا المعنى هو الطلب عنده وهو معنى ثالث غير العلم والارادة ، ومثل هذا المعنى لا يفتقر فى تحققه وانقداحه فى النفس الى مصلحة فى المتعلق كما هو مقتضى القول بالاتحاد على ما ستعرفه إن شاء الله تعالى.

بل يجوز ان يكون ثمة مصلحة فى ايراد مثل هذا الطلب من غير ان يكون هناك مصلحة فى المتعلق.

فتلخص مما حققناه ان ما ينبغى ان يكون محلا للنزاع وموردا للنقض والابرام هو هذا المعنى الجنانى المغاير للعلم والارادة.

وربما يكون القائل بالاتحاد ينكر تعقل مثل هذا المعنى كما انكره جمع فى التشريع ، والانصاف انه غير قابل للانكار بل هو كالنار على المنار بشهادة الوجدان.

لكن ذلك لا يجدى القائلين بالمغايرة اذ لا نسلم ان مثل هذا المعنى هو موضوع حكم العقل بوجوب الموافقة وحرمة المخالفة ما لم يقترن بالارادة الحقيقية ، ضرورة ان الاوامر الصورية اذا لم يكن لها مصلحة

__________________

(١) ـ النمل : ١٤.

١٢٥

الا فى ابرازها من المولى بصورة الطلب والارادة ، لم يجب موافقتها للعالم بصدورها على هذا النحو قطعا ، لان المصلحة الباعثة على ايراد الامر لم تكن الا فى اظهار الطلب وقد حصلت باظهار المولى طلبه بالامر ، فلم يبق فى البين ما يقتضى التحرك نحو العمل بعد فرض انحصار المصلحة فى ابراز الطلب والارادة.

نعم لو كان العبد جاهلا بكيفية الحال ولم يعلم ان المصلحة فى الامر او المأمور به ، امكن القول بلزوم امتثاله للامر بحكم العقل اذ الامر بحسب ظاهر الصدور طريق الى واقع الارادة التى هو موضوع حكم العقل بلزوم الموافقة وحرمة المخالفة.

ولئن قلت : ان الاوامر الامتحانية يجب الحركة على مقتضاها حتى عند العالم بامتحانيتها وإلّا لانتفت فائدة الامتحان ، واذا وجب موافقتها عقلا تم مرام الخصم فيما يقوله من المغايرة بين الطلب والارادة ، اذ لو لا المغايرة لما تخلف مثل هذا الطلب اللازم موافقته عن الارادة.

قلت : مثل هذا الطلب لم يتخلف عن الارادة فلا يصلح نقضا على ما قلناه ، فان المأمور به بهذا الامر الامتحانى وان لم يكن فى نفسه ذات مصلحة ملزمة للاتيان به ، إلّا انه بعنوانه الثانوى الامتحانى مشتمل على مصلحة قطعا ، لظهور ان الامتحانية لا تحصل بغير التصدى للموافقة الحركة نحو المأمور به ، فهذا المأمور به بعنوانه الثانوى الامتحانى مراد مطلوب ايضا ، فلم تتخلف فيه الارادة عن الطلب ، وانما يتصور التخلف فى الصورة المزبورة التى لم يكن ثمة مصلحة الا فى ابراز الطلب واظهار الارادة ، فالامر فى هذه الصورة يريد الامر ولا يريد المأمور به فقد تخلف الطلب عن ارادة المطلوب ، وقد عرفت ثمة ان مثل هذا الطلب لا يحكم العقل فيه بوجوب موافقته وحرمة

١٢٦

مخالفته ، فصح لنا حينئذ اطلاق القول بأنه ليس لنا ما يكون موضوع حكم العقل بوجوب موافقته وحرمة مخالفته ، الا الارادة ، كما انه ظهر مما بيناه بطلان استدلال القائل بالمغايرة بصدور الاوامر الامتحانية وهى متخلفة عن الارادة ، لما عرفت من عدم تخلفها عن الارادة بما لا مزيد عليه.

وليس لك ان تقول : ان احتمال صدور الامر بغير داعى الارادة يسد باب الطاعة.

لانا نقول : هذا الاحتمال لا يجدى العبد فى صحة الاعتذار ما لم يقم عليه قرنية من حال او مقال ، لان ظاهر الطلب بقرينة شاهد الحال والاصل العقلائى هو انبعاثه عن داعى الارادة الجدية فيجب اطاعته بالموافقة ويحرم عصيانه بالمخالفة.

نعم اذا ظهر بقرينة انه ليس فى البين الا ابراز طلب خال عن ارادة اصلا جاز له التماهل والمسامحة فى الطاعة.

والحاصل ان محط البحث ومورد النزاع بين الفريقين فى ان موضوع حكم العقل بوجوب الموافقة ، هل هى هذه الحالة النفسانية المسماة فى لسان المتشرعة ، بالتشريع المنعقد عليه القلب قبل بروزه فى عالم الخارج ، غاية ما فى الباب انه تشريع صادر من اهله فكان واجب الاطاعة فى قبال التشريع المحرم الصادر من غير اهله او هى الارادة النفسانية؟ المختار هو الثانى والشاهد على ذلك هو الوجدان ولا ننكر تحقق معنى غير العلم والارادة ، كما يظهر ذلك من كلمات القائلين بالاتحاد ، بل نقول به وانما ننكر ان يكون ذلك موضوع حكم العقل بلزوم الاطاعة فكان المناسب للقائل بالاتحاد والعينية نفى المعنى الثالث بهذا القيد لا مطلقا كما وقع من الماتن قده.

ثم انك بعد ما عرفت من دوران الاطاعة مدار الارادة ، فأعلم ان

١٢٧

الارادة يستحيل انبعاثها عن مصلحة قائمة بنفسها ، اذ مبادى الارادة من الاشتياق والمحبوبية لا يتعقل حصولها من غير ملاحظة مصلحة فى المتعلق وبلا اعتبار خصوصية ملائمة مع احد قواه داعية الى اشتياقه وسيلة اليه ، ومن المعلوم استحالة تعلق الارادة بشىء من دون تحقق هذه المبادى بمحض مصلحة فى نفسها ، فلا بد وان يكون المصلحة حينئذ فى نفس المراد الذى هو العمل ، كما انه يستحيل بلوغ الارادة الى مرتبة البعث والزجر ، الا حيث تنتفى الموانع المانعة عن تحميل العبد بالتكليف ، ومن هذه الجهة قيل : ان الاحكام الشرعية الطاف فى الاحكام العقلية ، لظهور ان التكليف البعثى الصادر من المولى الحكيم لا يتحقق إلّا حيث يشتمل المأمور به على المصلحة ولم يكن ثمة ما يمنع عن التكليف به اصلا ، وحينئذ يتوجه بهذا البيان اطلاق القضية المعروفة «كلما حكم به الشرع حكم به العقل» من دون العكس لجواز ان يكون فى الشىء مصلحة يدركها العقل ولكن يكون هناك مانع عن تعلق حكم الشرع به ، كما هو كذلك فى المسواك المصرح به فى الخبر «لو لا ان أشقّ على امتى لامرتهم بالسواك.».

ومن هنا يتضح لك الوجه فى منع الملازمة المدعاة بين حكمى العقل والشرع من الطرفين اذ لا دليل على ان ما يحكم به العقل لا بد وان يحكم به الشرع ، لما عرفت من افتقار حكم الشارع الى مصلحة غير مزاحمة فى الامر والمأمور به معا ، واقصى ما يتصور فى ادراك العقل انه يرى المصلحة فى العمل نفسه ، ومجرد ذلك غير كاف فى استكشاف حكم الشرع.

نعم لا بأس بدعوى الكلية من الجانب الآخر ، وهى كلما حكم به الشرع حكم به العقل اذ ما لم تتم الجهات المصلحة للامر من حصول المصلحة فيه ومتعلقه لا يتوجه حكم من الشارع ، فيستكشف من حكم

١٢٨

الشرع فى مورد تمامية العلة فى تشريع الحكم وحصول المصلحة فى المأمور به اذا الامر مظهر الارادة ، ولا تتعلق الارادة بشىء الا حيث يكون مصلحة مقتضية لتعلق الامر به ، فيتحقق بذلك موضوع حكم العقل.

هذا على المختار من دوران تحتم الاطاعة مدار تحقق الارادة. واما بناء على القول الآخر فالملازمة منتفية من الجانبين ، اذ عليه ربما يتحقق الحكم الشرعى عن مصلحة فى حكمه وبعثه نحو الفعل من غير ان يكون هناك مصلحة فى الفعل نفسه ، واذا لم يكن مصلحة فى الفعل نفسه لم يحكم العقل فيه بشىء ، فيحصل بذلك انفراد حكم الشرع عن حكم العقل وبطلت الملازمة من الجانبين.

فتحصل من جميع ما مر من الكلام ان مدار الطاعة على تحقق الارادة.

لا يقال : هذه الارادة هل هى متحققة فى تكاليف الكفار والعصاة من غيرهم او غير متحققة؟ فإن كانت متحققة وجب فيها تحقق المراد وامتنعت المخالفة ، لان ارادة الله سبحانه لا يتخلف عن مراده كما نطقت به الآية الكريمة : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(١)

وان كانت غير متحققة جازت المخالفة منهم لانتفاء الارادة منه سبحانه وتعالى ، فما وجه استحقاقهم للعقوبة بالمخالفة؟

لانه يقال : نختار الشق الاول اعنى تحقق الارادة منه سبحانه فى تكاليفه ونمنع استحالة المخالفة فى مثل هذه الارادة المسماة بالارادة التشريعية وانما المستحيل تخلفها عن المراد ، وكانت مورد انطباق الآية الكريمة عليها هى الارادة التكوينية خاصة لا مطلق الارادة.

__________________

(١) ـ يس : ٨٢ وفى سورة النحل : ٤٠ قال تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.)

١٢٩

وتوضيح الفرق بين الارادتين وبيان السر فى اختلافهما يظهر بملاحظة جهات انعدام الشىء ، ضرورة ان انعدام الشىء تارة يكون بعدم مقتضيه ، واخرى بوجود الموانع المانعة عن وجوده ، وثالثة بفوات بعض مقدمات وجوده فاذا تعلقت ارادة المولى بوجوده من جميع الجهات وكان قادرا مع ذلك على الايجاد فلا محيص من حصول ذلك الشىء عند تعلق ارادته بوجوده ، ولا يكاد يتخلف المراد عن ارادته وهذه هى الارادة التكوينية.

واما اذا تعلقت ارادته بحفظ الوجود من قبل عدم المقتضى بمعنى انه اراد المولى احداث مقتضى الوجود من قبل امره لكى يتحقق بذلك مورد حكم العقل بلزوم الموافقة ، امكن تخلف هذه الارادة عن المراد بواسطة فوات بقية المقدمات او وجود المزاحمات ، بل فى هذا الشق الثانى اذا تحقق المأمور به ، فقد تخلفت ارادته عن المراد وهذه الارادة هى المسماة بالارادة التشريعية.

«الكلام فى صيغة الامر»

«الفصل الثانى فيما يتعلق بصيغة الامر وفيه مباحث :»

الاول هل صيغة الامر متحدة المعنى او متعددة؟ صريح الكفاية هو الاول والعلة كالاقوى وظاهر جمع هو الثانى فجعلوها مشتركة بين معان ، وقد عد منها الترجى والتمنى والتهديد والإنذار والإهانة والتسخير الى غير ذلك لكن الظاهر انها من الدواعى دون المعانى وعلى المختار من كونها متحدة المعنى هل معناها انشاء الطلب كما اختاره فى الكفاية او غيره؟ الاقرب الثانى اذ الطلب الانشائى ان كان غير الارادة كان من مقوله الفعل ، وان كان عينه كان من مقولة الكيف لكونه من

١٣٠

الكيفيات النفسانية ، وعلى كلا التقديرين لا يصلح مثله ان يكون من المداليل ، اذ هى من قبيل الحروف التى يعتبر فى مداليها ان تكون نحوا من الإضافة والارتباط لا معنى مرتبط بغيره كما هو كذلك فى الطلب الانشائى ، فاذن لا محيص من الذهاب فى صيغة الامر الى انها دالة على معنى نسبى يتحصل من الارسال والبعث نحو العمل ، فهذه النسبة الارسالية والبعثية هى معنى صيغة الامر ، فكانت الصيغة بمادتها دالة على معنى الحدثى وبهيئتها دالة على النسبة الارسالية فاين الطلب الانشائى؟

ثم ان هذه النسبة الارسالية ليست بخارجها مدلولا للصيغة اذ الصيغة كسائر الالفاظ التى هى موضوعة على التحقيق للمفاهيم الحاكية عما بازائها من الخارجيات ، لا للخارجيات نفسها وهى مع ذلك تدل على الطلب بالالتزام ، اذ المفاهيم والصور الذهنية لما كانت متحدة مع الخارجيات فى عالم اللحاظ يلزم انتقال الذهن من الارسال الخارجى الى الطلب الحقيقى ، لما بينهما من الملازمة الخارجية فالعالم بالملازمة لا بد له من الانتقال الى اللازم عند تصور ملزومه ، ولكن الملازمة بين المعنيين انما هى بحسب التصور دون التصديق ، بل يفتقر التصديق بتحقق الطلب الحقيقى الى مقدمات تدل على ان الامر فى مقام الجد وبيان واقع الارادة ، دون الهزل والسخرية مثلا فإن علم من حال المتكلم انه فى مقام بيان الارادة الحقيقة فبها ، وإلّا كان المرجع لدى الشك الى ظاهر حاله الدال على انه فى مقام الارادة الحقيقة كما هو الاصل المعتمد عليه العقلاء واهل اللسان فى محاوراتهم.

١٣١

«فى ان الصيغة حقيقة فى الوجوب»

«المبحث الثانى فى ان الصيغة حقيقة فى الوجوب او فى الندب او فيهما او فى المشترك بينهما؟ وجوه» بل اقوال لا يبعد ظهورها فى الوجوب ، كما ربما يؤيد ذلك بما جرى عليه ديدن الاصحاب فى الفقه فأنهم لا زالوا يحملون الامر على معنى الوجوب بلا توقف منهم.

ويؤيده ايضا ما نشاهده فى محاورات العرف من عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال ارادة الندب مع الاعتراف بعدم دلالته عليه بحال او مقال ، وهل هذا الظهور يستند الى الوضع او الاطلاق؟ كل محتمل ولا يهم الاصولى تنقيحه ، لانه يبحث عما هو متعلق باستنباط الاحكام الفرعية والبحث عن منشإ الظهور ومستنده اجنبى عن ذلك.

نعم ربما يتوهم الاحتياج اليه فى مقام احتمل فيه ان لا يكون المتكلم بصدد بيان تمام جهات المطلق فحينئذ تظهر الثمرة بين البناء على استناد الظهور الى الوضع او الى الاطلاق ، فعلى الاول لا اطلاق فى اللفظ بل هو ظاهر بالوضع فلا يبقى مجال لمراعاة قواعد المطلقات وتشخيص حال المتكلم من انه فى مقام البيان او لا؟ بخلافه فى الثانى.

ولكنك خبير بأن هذا المقدار من الفرق ايضا لا يجدى فرقا بين ملاحظة الاصل المؤسس فى المطلقات انها تحمل على ورودها للبيان دون الاهمال ، فيجب البناء فى العمل على مقتضى ظهور اللفظ وان لم يحرز فيه وروده للبيان عملا. والحاصل ان البحث فى تشخيص

١٣٢

المعنى الحقيقى بعد احراز الظهور مما لا طائل تحته.

ان قلت : نمنع الظهور كما فى المعالم لشيوع استعمال الصيغة فى معنى الندب فى الكتاب والسنة وغيرهما. (١)

قلت : ذلك «لا يوجب نقلها اليه او حملها عليه لكثرة استعماله فى الوجوب ايضا.»

على ان المجاز المشهور المبحوث عنه انه يترجح على الحقيقة او يتوقف فيه على الخلاف المسطور فى بحث المجاز المشهور ، ليس مثل هذا المجاز الذى لم يتفق فى موارد استعمالاته فى الندب الا مقرونا بقرينة معتمدا عليها ، فإن المجاز المشهور ما يكون الاعتماد فيه على الشهرة ، ليس إلّا بواسطة انس الذهن وكمال ملائمته مع ارادة المعنى المجازى وليست الصيغة هنا كذلك.

«فى ظهور الجمل الخبرية فى الوجوب»

«المبحث الثالث الجمل الخبرية التى تستعمل فى مقال الطلب والبعث مثل يغسل ويتوضأ ويعيد ...» هل هى منسلخة عن معنى الاخبارى ومستعملة فى الطلب او انها بعد على معناها الاخبارى ، ولكن الداعى فيها غير الاعلام بل هو البعث والطلب وانها فى مقام الاخبار بداعى الاعلام بوقوع المخبر به ، لكن ذلك فى ظرف وجود العلة التى هى ارادته للعمل ، فكان العمل عند المتكلم محقق الوقوع فى المستقبل لمكان وجود علته التشريعية التى هى ارادة المولى؟ احتمالات

__________________

(١) ـ المعالم الدين فى الاصول : ٤٨.

١٣٣

وكيف كان وهل الطلب المستفاد منها على معناه الاعم من الوجوب والاستحباب ، او هو مختص بالوجوب خاصة؟ لا يبعد ظهورها فى الطلب الوجوبى ، ولا يتأتى هنا احتمال استناد الظهور فيها الى الوضع كما فى صيغة الامر اذ لا ريب فى وضع الجملة الخبرية للاخبار بل يتعين استناده الى مقدمات الحكمة ، فإن الحكيم فى مقام الطلب اذا كان لا يبغض الترك ، كان الواجب عليه التنبيه والاعلام بأن طلبه هذا لم يبلغ الى حد الكمال الذى يبغض فيه ترك العمل ، فإن الندب مرتبة ناقصة من الطلب ، فمع عدم التنبيه والاعلام يحكم العقل بأن الطلب قد وقع من المولى على وجه الكامل المساوق ذلك للحتم والوجوب.

تنبيه اختلف كلام الماتن قده هنا وفى شرح التكملة (١) فقد اختار هنا ما اخترناه من ظهور الجملة الخبرية المستعملة فى مقام الطلب والبعث فى الوجوب ، واختار فى شرح التكملة خلاف ذلك حيث قال : فى مستحبات الغسل يستحب فيه امور : احدها الاستبراء بالبول اذا كانت الجنابة بالانزال لصحيح البزنطى سألت أبا عبد الله (ع) عن غسل الجبابة قال : تغسل يديك وتبول ان قدرت على البول ثم تدخل يدك الاناء (٢).

__________________

(١) ـ لم اجد كتابا مسمى بشرح التكملة للماتن قده نعم له تعليقة على تبصرة العلامة قده المسمى بتكملة التبصرة ولتلميذه كتاب المسمى بشرح تكملة التبصرة ولم اجده قال فى الذريعة ج ١٣ ص : ١٥١ شرح تكملة التبصرة للسيد حسن بن محمد باقر الموسوى القزوينى الحائرى المشهور ، بالحاج آغامير تلميذ شيخنا المولى محمد كاظم الخراسانى مؤلف المتن واسم الشرح «اكمال الدين فى شرح تكملة تبصرة المتعلمين.

(٢) ـ لم اجد رواية بهذه العبارة وعن هذا الراوى عن ابى عبد الله عليه‌السلام فما ذكر فى الوسائل ـ الباب ٣٤ من ابواب الجنابة ـ حديث ٣ رواه عن الرضا عليه

١٣٤

وجه الاستدلال به انه لو لا ظهوره فى الاستحباب فلا اقل من عدم ظهوره فى الايجاب ، لعدم وضع الجملة الخبرية له وكثرة استعمالها فى الاستحباب ايضا فيكون دليلا عليه ولو بضميمة التسامح فى ادلة السنن ، انتهى كلامه رفع مقامه فتأمل.

«فى ان الاصل فى مورد الشك هل التوصلية او التعبدية»

«المبحث الخامس : ان اطلاق الصيغة هل يقتضى كون الوجوب توصليا فيجزى اتيانه مطلقا ، ولو بدون قصد القربة ،» او يقتضى التعبدية فلا يجزى اتيانه بغير قصد القربة ، او لا يقتضى شيئا منها ، «فلا بد من الرجوع فيما شك فى تعبديته وتوصليته الى الاصل العملى؟»

«لا بد فى تحقيق ذلك من تمهيد مقدمات :»

«تعريف التعبدى والتوصلى»

«احدها : الوجوب التوصلى هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرد حصول الواجب ويسقط بمجرد وجوده» كما فى غسل الثياب الغير المتوقف حصول طهارتها على نية التقرب وهذا «بخلاف التعبدى فان الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك ، بل لا بد فى سقوطه وحصول غرضه من الاتيان به متقربا به منه تعالى» كما انه لا بد فيما يتقرب

__________________

السلام «وعنه عن احمد بن محمد يعنى ابن ابى نصر قال : سالت أبا الحسن الرضا (ع) عن غسل الجنابة ، فقال : تغسل يدك اليمنى من المرفقين الى اصابعك وتبول ان قدرت على البول ثم تدخل يدك فى الاناء ... وفى رجال النجاشى ص : ٥٤ «احمد بن محمد عمرو بن ابى نصر ... المعروف بالبزنطى كوفى لقى الرضا وأبا جعفر عليهما‌السلام ... وفى الفهرست ص : ٣٦ احمد بن محمد بن ابى نصر ... المعروف بالبزنطى كوفى ثقة لقى الرضا عليه‌السلام.

١٣٥

به من صلاحية التقرب به الى الله تعالى ، فلو كان ثمة مانع من التقرب به الى الله من حيث العامل او من حيث العمل ، لم يكد يجدى نية التقرب بذلك العمل ، فمن ثم بطلت عبادة الكافر وان اشتملت عليه نية التقرب ، لان الكفر فى العامل مانع عن صلاحية التقرب بعمله كما ان الجاهل بالحكم المقصر فى السؤال اذا صلى فى الدار المغصوبة ، كانت صلاته باطلة وان اشتملت على نية التقرب لقصورها عن صلاحية التقرب بمانع الغصبية.

«فى معنى القربة»

ثانيها : ان العبادة على ضربين ، اذ هى تارة يفتقر عباديتها الى قصد التقرب الى الله بداعى امره او رجاء مثوبته ، او للفرار من عقوبته ، او كونه اهلا للعبادة ، واخرى لا تفتقر الى ذلك بل تكون هى بنفسها عبادة بواسطة كونها نحوا من الخضوع والتذلل للمولى ، كالسجود والتعفير بالوجه والخدين ، ولا يختص هذا النحو من العبادة بما يكون محبوبا للمولى ، بل قد يكون مبغوضا له كما فى التكتف فى الصلاة فإن المبغوضية فى مثله غير قادحة فى عباديته ، وان كانت قادحة فى مقربيته ، لاستحالة التقرب بعبادة مبغوضة للمولى ، وان كان العمل بذاته مقتضيا للتقرب إلّا انه لا اثر للمقتضى مع وجود المانع كما لا يخفى.

ثم ان المعتبر فى العبادة لما كان هو القربة ، وكانت تتحقق بقصد الامتثال كما تتحقق برجاء المثوبة والفرار من العقوبة ، فربما يتخيل من ذلك ان قصد الامتثال هو بعينه القربة المعتبرة فى العبادة كما هو ظاهر كلام الماتن قده.

١٣٦

والذى يقرب فى النظر ان القربة معنى متولد من قصد الامتثال وليست هى عينه بل هى متسببة عنه اذ لو كانت القربة بمعنى قصد الامتثال فلم لا يجتزى بعبادة الجاهل المقصر اذا اتى بالعبادة قاصدا بها الامتثال والموافقة للامر ، وكذا ما ذكروه فى بطلان عبادة الكافر من تعليلهم البطلان بعدم صلاحية عمله للمقربية فإن ظاهره انحصار سبب المنع عن انعقاد العمل صحيحا بعدم صلوحه للمقربية بسبب الكفر ، لا لفقد شرطية الايمان.

وربما يرشد الى ذلك ما روى ان العامل لا ثواب فى عمله ، ما لم يعرف ولاية ولى الله وتكون اعماله بدلالة ولى الله (١) فإن التعبير بلسان لا ثواب فى عمله يشعر بقصور العمل بالنسبة الى مرحلة القبول والمقربية ، لا من حيث فقده شرطية الايمان ، فهذا واشباهه شاهد على ضعف القول بأن القربة المعتبرة فى العبادة «بمعنى الامتثال والاتيان بالواجب بداعى امره.»

«فى اعتبار قصد القربة فى المأمور به»

ثالثها : هل يمكن اعتبارها بكل من المعنيين فى المأمور به شرعا او لا يمكن؟ قولان اقواهما الاول لامكان تصور الشىء متعلقا للامر ، ثم يؤمر به ويبعث اليه مشروطا باتيانه مع التقرب سواء كان

__________________

(١) ـ الوسائل : ج ١ ابواب مقدمة العبادات باب : ٢٩ ـ حديث ٢ ... عن زرارة عن ابى جعفر «ع» فى حديث قال : ذروة الامر وسنامه ومفتاحه وباب الاشياء ورضا الرحمن ، الطاعة للامام بعد معرفته ، اما لو ان رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولى الله فيواليه ويكون جميع اعماله بدلالته اليه ، ما كان له على الله حق فى ثوابه ولا كان من اهل الايمان.

١٣٧

التقرب بالمعنى الناشى عن اتيان العمل بداعى الامر ، كما اخترناه او كان هو نفس اتيان العمل بداعى امره.

ان قلت : لا مجال لاعتبار القربة فى متعلق الامر ، لاستلزامه الدور المحال وذلك لان القربة بمعنى الامتثال بداعى الامر موقوفة على تحقق الامر سابقا ، اذ لو لم يكن امر يستحيل اتيان العمل بداعى امره ، ولا ريب ان الامر موقوف على القربة ايضا لفرض اعتبارها فى متعلقه فجاء الدور ، وهو جاء ايضا فى القربة بالمعنى الناشى عن دعوة الامر ، اذ فرض انحصار سببها فى دعوة الامر.

قلت : القربة انما تتوقف على صدور الامر خارجا ، لا تصورا لاستحالة التقرب بالعمل ما لم يكن مأمورا به فعلا ، واما الامر بالعمل القربى فهو انما يتوقف على تصور الامر الداعى الى العمل ، فاختلف طرفا التوقف وبطل الدور.

وربما يستشكل فيه من وجه آخر اشار اليه فى الكفاية وهو انه «لا يكاد يمكن الاتيان بها بداعى امرها لعدم الامر بها فإن الامر حسب الفرض تعلق بها مقيدة بداعى الامر ولا يكاد يدعو الامر الا الى ما تعلق به لا الى غيره» وببيان آخر ان دعوة الامر الخارجى موقوفة على تعلقه بالعمل نفسه والمفروض انه تعلق بالعمل منضما الى القربة فكأن العمل بنفسه خاليا عن امر فكيف يؤتى به بداعى امره؟

ويمكن الجواب عنه بما افاده فى الكفاية بصورة الاعتراض قائلا : «ان قلت : نعم ولكن نفس الصلاة ايضا صارت مأمورا بها بالامر بها مقيدة انتهى»

وقد يورد بما اورده الماتن فى صورة الجواب قائلا : «ان ذات المقيد لا تكون مأمورا بها فإن الجزء التحليلى العقلى لا يتصف

١٣٨

بالوجوب اصلا ، فانه ليس إلّا وجودا واحدا واجبا بالوجوب النفسى كما ربما يأتى فى باب المقدمة انتهى.»

وحاصله ان المقيد هنا بلحاظ نفسه لا يعد إلا جزءا تحليليا لا خارجيا ، وما يقع فى حيز الامر هى الاجزاء الخارجية التى يكون لكل جزء منها وجود منحاز بعضها عن بعض وليست الاجزاء التحليلية كذلك.

هذا ولا يخفى ما فيه اذ التفرقة بين الاجزاء التحليلية والخارجية بما ذكره غير ظاهر الوجه ، كيف والكليات الطبيعية بأسرها متعلقة للاوامر مع انها متحدة مع التشخصات فى عالم الخارج.

مضافا الى امكان قيام المصلحة بشىء بسيط ذى حيثيّتين ويكون لكل منهما دخالة فى حصول المصلحة ، كما جاز قيام المصلحة بالمركب الخارجى ويكون لكل واحد من اجزائها الخارجية دخالة فى مصلحة المجموع واذا امكن قيام المصلحة بالمجموع ، استتبع ذلك تعلق الارادة بالمجموع على وجه يكون جزء وحيثية منها واقعا فى حيز الارادة ، ويتعلق بكل منها حصة من تلك الارادة المسماة بالارادة الضمنية ، فما المانع من قصد الامتثال بدعوة هذا المقدار من الامر الضمنى المتعلق بالعمل المقيد بالقربة بناء على الشرطية ، او المركب معها بناء على الجزئية؟

فإن قلت : دعوة الامر الضمنى لا تكون الا بعد حصوله وهو لا يحصل إلّا بعد تمامية الاجزاء ، اذ مع عدم لحوق بقية الاجزاء لم يكن فى البين امر حينئذ ، لفرض انتفاء الامر الاستقلالي بهذا الجزء ، والامر الضمنى تبع تحقق الامر المنبسط على تمام الاجزاء ، فيفتقر تحققه وحصوله على لحقوق بقية الاجزاء ، والمفروض ان الجزء الآخر لا يتحقق إلّا بعد حصول الامر الضمنى للعمل ، اذ المفروض ان لا جزء

١٣٩

آخر الا التقرب وهو يفتقر الى اتيان العمل بداعى امره فجاء الدور فى مرحلة الامتثال ، وهذا غير الدور السابق اذ الاول يتعلق بمقام صدور الامر من المولى ، وهذا يتعلق بمقام الامتثال.

قلت : لا نسلم توقف داعوية الامر بالجزء على لحوق بقية الاجزاء ، بل انما يتوقف على العلم بانطباق الواجب على المأتى به فى مقام الامتثال ، وهذا يستلزم العلم بلحوق بقية الاجزاء ولا يتوقف على لحوق بقية الاجزاء ، فاذا كان يعلم بأنه يأتى بالقربة فله الاتيان حينئذ بالعمل بداعى امره الضمنى الحاصل من تعلق الامر الاستقلالى بالعمل المتقرب به ولا محذور فيه اصلا.

وان قلت : فى تقريب الدور ، هكذا الامر الضمنى المتعلق بالعمل موقوف على الجزم بلحوق الجزء الآخر الذى هو القربة ، والجزم بلحوق الجزء الآخر لا يتحقق إلّا مع الامر الضمنى المتعلق بالعمل ، فيتوقف الامر الضمنى على نفسه.

قلت : الامر الضمنى المتعلق بالعمل لا يتوقف على خصوص الجزم بلحوق الجزء الآخر ، بل على الجامع بين هذا والجزم بوفاء العمل على المصلحة ، اذا اتى به بداعى امره.

فان قلت : وفائه بالمصلحة لا يكون إلّا مع لحوق الجزء الآخر ، وحينئذ فيكون العلم بوفائه بالمصلحة بعينه العلم بلحوق الجزء الآخر لا تغاير بينهما وحينئذ فيعود الدور.

قلت : هما متغايران قطعا ضرورة ان العلم بأحد المتلازمين غير العلم بالآخر ، ومجرد تلازمهما الخارجى غير قاض بالاتحاد كما لا يخفى. فلو سلم توقف الامر الضمنى على خصوص الجزم بلحوق الجزء الآخر منعنا التوقف من الجانبين ، اذ الجزم بلحوق الجزء الآخر لا يتوقف على تحقق الامر الضمنى بل يستلزمه ، وفرق بين بين

١٤٠