موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١١

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ١٠٩

حقن الدماء وإصلاح أمر الامّة فليمكّننا من قتلة عثمان فهم معه ، ويخلع نفسه ، ويردّ الأمر ليكون شورى بين المسلمين فيولّوا من شاءوا ، فإنّما عليّ رجل كأحدنا ، وإنّ أبى أعطيناه السيف فما له عندنا غير هذا ...

وحفل كلام طلحة بالمغالطات ، فليست عنده حجّة أو دليل يركن إليه ، أيستقيل الإمام من منصبه بعد ما بايعه المسلمون بيعة عامّة لم يظفر بمثلها أحد من الخلفاء؟ إذ لم تكن بيعته فلتة ، ولم تكن عن الشورى الهزيلة التي دبّرت ضدّ الإمام فكيف يتخلّى الإمام عن منصبه ويغرق الأمّة بالفتن والخطوب؟ وردّ عليه ابن عبّاس بقوله :

يا أبا محمّد ، لست تنصف ، ألم تعلم أنّك حضرت عثمان ، حتّى مكث عشرة أيام يشرب من ماء بئره ، وتمنعه من شرب ماء الفرات حتى كلّمك عليّ في أن تخلّي الماء له ، وأنت تأبى ذلك.

ولمّا رأى أهل مصر فعلك ، وأنت صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دخلوا عليه بسلاحهم فقتلوه ، ثمّ بايع الناس رجلا له من السابقة والفضل والقرابة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والبلاء العظيم ما لا يدفع وجئت أنت وصاحبك طائعين غير مكرهين حتى بايعتما ثمّ نكثتما ، فعجب والله! إقرارك لأبي بكر وعمر وعثمان بالبيعة ، ووثوبك على ابن أبي طالب ، فو الله! ما عليّ دون أحد منكم.

وأمّا قولك : يمكّنني من قتلة عثمان ، فما يخفى عليك من قتل عثمان.

وأمّا قولك : إن أبى عليّ فالسيف ، فو الله! إنّك تعلم أنّ عليّا لا يتخوّف ....

لقد فنّد ابن عبّاس أغاليط طلحة وحججه الواهية الرخيصة التي تذرّع بها لمحاربة الحقّ ، والخروج على إمام زمانه ، ومضى طلحة يهدّد ويتوعّد قائلا :

أيها الآن دعنا من جدالك ..

٨١

وعرض ابن عبّاس حديث طلحة على الإمام عليه‌السلام فقال بألم :

( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ ) (١).

مع عائشة : وندب الإمام عليه‌السلام ابن عبّاس للقيى عائشة ، وأمره أن يقول لها :

« إنّ هذه الامور لا تصلحها النّساء ، وإنّك لم تؤمري بذلك ، فلم ترضين بالخروج عن أمر الله في تبرّجك؟ وبيتك الّذي أمرك النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمقام فيه؟ حتّى سرت إلى البصرة فقتلت المسلمين؟ وعمدت إلى عمّالي فأخرجتهم؟ وأمرت بالتّنكيل بالمسلمين؟ وأبحت دماء الصّالحين؟ فارعي وراقبي الله عزّ وجلّ ، فقد تعلمين أنّك كنت أشدّ النّاس على عثمان ، فما عدا ممّا بدا » (٢).

وفي الحقيقة الدعوة إلى الحقّ بجميع رحابه ، فقد سدّ على عائشة كلّ نافذة تسلك فيها لتبرير خروجها على الإمام ، فليس لها أي مشروعيّة في خروجها من بيتها الذي أمرها الله تعالى أن تقرّ فيه ، كما أنّه لا سبيل لها في قتل المسلمين ، ونهب ما في بيت المال كلّ ذلك لا سبيل لها فيه ... وعرض ابن عبّاس حديث الإمام عليه‌السلام على عائشة فقالت له :

يا ابن عبّاس ، ابن عمّك يرى أنّه قد تملّك البلاد ، لا والله! ما بيده أي شيء منها إلاّ وبيدنا أكثر منها ...

وردّ عليها ابن عبّاس قائلا :

يا امّاه ، إنّ أمير المؤمنين له فضل وسابقة في الإسلام ، وعظم عناء ...

وسارعت عائشة قائلة :

ألا تذكر طلحة وعناءه يوم احد؟

__________________

(١) الأعراف : ٨٩.

(٢) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ٤ : ٧٧ ـ ٧٨.

٨٢

فأجابها ابن عبّاس :

والله! ما نعلم أحدا أفضل من علي ...

ولم يجد نصح ابن عبّاس لعائشة ، ولم تخضع لمنطقه الفيّاض ، وأصرّت على تمرّدها ، فانبرى إليها ابن عبّاس قائلا :

الله الله في دماء المسلمين! وسارعت عائشة قائلة :

وأي دم يكون للمسلمين إلاّ أن يكون عليّ يقتل نفسه ومن معه ..؟

وتبسّم ابن عبّاس من منطقها الرخيص ، وعدم اهتمامها بإراقة دماء المسلمين ، فأنكرت ذلك عائشة وقالت له :

مم تضحك يا بن عبّاس؟

فقال لها : إنّ عليّا معه قوم على بصيرة من أمرهم يبذلون مهجهم دونه ...

ثمّ تركها وانصرف ، ولم يلق معها أي استجابة لنصحه ، فقد أصرّت على رأيها.

مع الزبير : وسارع ابن عبّاس إلى الزبير ، فالتقى به وحده ، وكان يخشى أن يكون معه ابنه عبد الله الذي كان من ألدّ أعداء الإمام عليه‌السلام ، وعرض عليه نصيحة الإمام ، ودارت بينهما بعض الأحاديث ، وكاد أن يلين لها الزبير ، إلاّ أنّ بعض الحاضرين سارع إلى ولده عبد الله فأخبره بمجيء ابن عبّاس فخشي من استجابة أبيه فبادر مسرعا إلى أبيه ، وجرت مناظرة بينه وبين ابن عبّاس ، فصرف أباه ، وأفسد الأمر ، فانصرف ابن عبّاس وقد فشل في مهمّته ، فأخبر الإمام عليه‌السلام بذلك.

الإمام مع طلحة والزبير :

ولم يكتف الإمام عليه‌السلام بالوفد الذي أرسله للزبير وطلحة وعائشة ، فقد خرج بنفسه ليقيم الحجّة عليهم ، فالتقى بطلحة والزبير ، وقال لهما :

٨٣

« استحلفا عائشة بحقّ الله ، وبحقّ رسوله على أربع خصال أن تصدق فيها : هل تعلم رجلا من قريش أولى منّي بالله ورسوله ، وإسلامي قبل كافّة النّاس أجمعين ، وكفايتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كفّار العرب بسيفي ورمحي ، وعلى براءتي من دم عثمان ، وعلى أنّي لم أكن أستكره أحدا على بيعتي ، وعلى أنّي كنت أحسن قولا في عثمان منكما؟ ».

فأجابه طلحة جوابا منكرا ، ورقّ له الزبير ، وقفل الإمام راجعا إلى أصحابه فقالوا له : بم كلّمت الرجلين؟ فقال عليه‌السلام :

« إنّ شأنهما لمختلف ، أمّا الزّبير فقاده اللّجاج ، ولن يقاتلكم ، وأمّا طلحة فسألته عن الحقّ فأجابني بالباطل ، ولقيته باليقين فقابلني بالشّكّ ، فو الله! ما نفعه الحقّ ، وأضرّ به الباطل ، وهو ـ أي طلحة ـ مقتول في الرّعيل .. » (١).

وتحقّق ما تنبّأ به الإمام عليه‌السلام ، فقد صرع طلحة ، وزهقت نفسه لا على حقّ ، وإنّما على باطل صريح واضح.

الإمام مع الزبير :

ورأى الإمام عليه‌السلام أن يكسب الزبير ، وينقذه من الضلالة فخرج إليه ، وقد اعتلى بغلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الشهباء ، وكان عاريا من السلاح ، فنادى أين الزبير؟ فخرج إليه شاكّا بسلاحه ، فقيل لعائشة إنّ الزبير قد خرج للإمام ، فخافت عليه وصاحت :

واحرباه يا أسماء (٢)!

فقيل لها : إنّ عليّا خرج حاسرا فاطمأنّت ، واعتنق الإمام الزبير وقال له

__________________

(١) واقعة صفّين ـ محمّد بن زكريا : ٣٥.

(٢) أسماء : هي بنت أبي بكر ، اخت عائشة ، وهي زوجة الزبير ، وقد خافت عائشة عليه من القتل بيد الإمام فقالت : وا حرباه يا أسماء!

٨٤

بلطف : « ما الّذي أخرجك؟ ».

دم عثمان.

ولم يحفل الإمام بهذا الاعتذار الذي لا نصيب له من الصحّة ، فأشاح عنه ، وأخذ يذكّره بما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه :

« اناشدك بالله ، هل تعلم يا زبير أنّي كنت أنا وأنت في سقيفة بني فلان تعالجني واعالجك فمرّ بي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : كأنّك تحبّه؟ قلت : وما يمنعني إنّه على ديني وهو ابن عمّتي. فقال رسول الله : أما إنّه ليقاتلنّك وهو الظّالم ».

ولم يسع الزبير إنكار ذلك ، وراح يقول بأسى وحزن : اللهمّ نعم.

« فعلام تقاتلني؟ ».

نسيتها والله! ولو ذكرتها ما خرجت إليك ، ولا قاتلتك ...

وانصرف الزبير ، وقد طافت به موجات من الأسى ، وندم كأشدّ ما يكون الندم على ما فرّط في أمر نفسه ، وقفل الإمام راجعا إلى أصحابه فبادروا قائلين :

يا أمير المؤمنين ، سرت إلى رجل في سلاحه ، وأنت حاسر؟

فأجابهم الإمام :

« أتدرون من الرّجل؟ إنّه الزبير بن صفيّة عمّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أما أنّه قد أعطى عهدا لا يقاتلكم ... إنّي ذكرت له حديثا قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : لو ذكرته ما أتيتك ... ».

وصاح أصحاب الإمام : الحمد لله يا أمير المؤمنين! ما كنّا نخشى في هذه الحرب غيره ، ولا نتّقي سواه (١).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٧٣.

٨٥

الدعوة إلى كتاب الله :

ولمّا باءت بالفشل جميع الوسائل والجهود التي بذلها الإمام من أجل السلم وحقن الدماء ، ندب أصحابه لرفع كتاب الله تعالى والدعوة إلى الحكم بما فيه ، وأحاطهم علما أنّ من يقوم بهذه المهمّة فإنّه يستشهد ، فوجم أصحابه سوى فتى نبيل مؤمن من أهل الكوفة ، فانبرى قائلا :

أنا له يا أمير المؤمنين!

وقد وطّن الفتى نفسه على الموت ، فأشاح الإمام بوجهه عنه ، وندب أصحابه لهذه المهمّة فلم يستجب له أحد منهم سوى الفتى ، فناوله الإمام المصحف ، فانطلق به إلى ساحة الحرب ، وهو يلوّح به أمام عسكر عائشة ، وقد رفع صوته بالدعوة إلى تحكيم القرآن الكريم ، فحمل القوم عليه ، وقطعوا يمينه ، فأخذ المصحف بيساره ، وهو يناديهم ويدعوهم إلى العمل بما في كتاب الله تعالى ، فحملوا عليه وقطعوا يساره ، فأخذ المصحف بأسنانه ، وقد نزف دمه ، وهو يقول :

الله في دمائنا ودمائكم ...

وانثالوا عليه من كلّ جانب يرشقونه بالسهام ، فهوى إلى الأرض جثّة هامدة ، فانطلقت إليه امّه تبكيه وترثيه بذوب روحها قائلة :

يا ربّ إنّ مسلما أتاهم

يتلو كتاب الله لا يخشاهم

فخضّبوا من دمه لحاهم

و امّه قائمة تراهم (١)

ورأى الإمام بعد شهادة هذا الفتى أنّه لا وسيلة إلاّ الحرب ، فقال لأصحابه :

« الآن حلّ قتالهم ، وطاب لكم الضّراب ... ».

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٢٤٦.

٨٦

التهيّؤ للحرب :

ودعا الإمام الحصين بن المنذر ، وكان شابّا ، فقال له :

« يا حصين ، دونك هذه الرّاية ، فو الله ما خفقت قطّ فيما مضى ، ولا تخفق فيما بقي راية أهدى منها إلاّ راية خفقت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ».

وأنشد الإمام :

« لمن راية سوداء يخفق ظلّها

إذا قيل قدّمها حصين تقدّما

يقدّمها للموت حين يزيرها

حياض المنايا يقطر الموت والدّما » (١)

الحرب العامّة :

ولمّا يئس الإمام عليه‌السلام من السلم وحقن الدماء ، عبّأ جيشه تعبئة عامّة وأسند قيادة جيشه إلى الزعيم مالك الأشتر ، والصحابي العظيم عمّار بن ياسر وغيرهما من أعلام الصحابة ، ودعا بدرع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلبسه ، واعتلى على بغلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووقف أمام صفوف جيشه ، ونشر عليه اللواء ، فوقف قيس بن عبادة أمامه وأنشأ يقول :

هذا اللّواء الّذي كنّا نخفّ

مع النّبيّ وجبريل لنا مددا

ما ضرّ من كانت الأنصار عيبته

أن لا يكون له من غيرها أحدا

قوم إذا حاربوا طالت أكفّهم

بالمشرفيّة حتّى يفتحوا البلدا

وصفّ جند عائشة صفوفهم ، وجاءوا بالجمل الذي يقلّ عائشة وخطامه بيد كعب بن شور ، وقد رفع صوته قائلا :

يا معشر الأزد عليكم امّكم

فإنّها صلاتكم وصومكم

__________________

(١) أنساب الأشراف ١ : ١٨٠.

٨٧

والحرمة العظمى الّتي تعمّكم

فأحضروها جدّكم وحزمكم

لا يغلبن سمّ العدوّ (١) سمّكم

إنّ العدوّ إن علاكم زمّكم

وخصّكم بجوره وعمّكم

لا تفضحوا اليوم فداكم قومكم (٢)

وتقدّم رجل من بني ضبّة وبيده السيف أمام جمل عائشة ، وقد رفع عقيرته قائلة :

أضربهم ولو أرى عليّا

عمّمته أبيض مشرفيّا

أريح منه معشرا غويّا فشدّ عليه رجل من أصحاب الإمام يقال له اميّة العبدي فردّ عليه بقوله :

هذا عليّ والهدى سبيله

والرشد فيه والتقى دليله

من يتبع الحقّ يكن خليله وحمل الإمام عليه‌السلام عليهم ، وقد رفع اللواء بيسراه ، وشهر بيمينه سيفه ذا الفقار الذي ذبّ به عن دين الله ، وحارب به المشركين على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واقتتل الفريقان كأشدّ ما يكون القتال يريد أصحاب الإمام أن يحموا إمامهم ، وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويريد أصحاب عائشة أن يحموا أمّهم.

وحمل رجل من أصحاب عائشة يقال له أبو الحرباء على جيش الإمام وهو يقول :

أنا أبو الحرباء واسمي عاصم

وأمّنا أمّ لها محارم

وأرداه قتيلا ، وحمل رجل من جند عائشة على أصحاب الإمام وقد رفع صوته عاليا :

__________________

(١) يريد بالعدو : الإمام أمير المؤمنين صدّيق المؤمنين وعدوّ المنافقين.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٢ : ٨١.

٨٨

نحن نوالي أمّنا الرضيّه

وننصر الصحابة المرضية

فشدّ عليه رجل من أصحاب الإمام وهو يقول :

دليلكم عجل بني اميّة

وامّكم حاسرة شقيّة

هاوية في فتنة عميّة

وضربه على هامته ففلقها وخرّ إلى الأرض صريعا ، وقد استخدم الرجز في هذه الحرب من الفريقين كلّ منهما يعلن أهدافه ، وسبب حربه إلى الفريق الآخر.

ابن الزبير ومالك الأشتر :

وبرز عبد الله بن الزبير لحومة الحرب ، فبرز إليه الزعيم مالك الأشتر فعلا صدر ابن الزبير فصاح مستجيرا :

اقتلوني ومالكا

واقتلوا مالكا معي

وأخذ الأشتر برجل ابن الزبير وألقاه في الخندق ، وقال : والله! لو لا قرابتك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما اجتمع منك عضو إلى عضو أبدا.

وعلمت عائشة بمبارزة ابن اختها عبد الله إلى مالك الأشتر ففقدت صوابها وراحت تقول : من بشّرني بسلامته فله عشرة آلاف درهم ، ودخل عليها بعد ذلك الأشتر فقالت له معاتبة :

يا أشتر ، أنت الذي أردت قتل ابن اختي يوم الواقعة ...

فردّ عليها الأشتر بهذه الأبيات :

أعائش لو لا أنّني كنت طاويا

ثلاثا لألفيت ابن اختك هالكا

غداة ينادي والرّجال تحوزه

بأضعف صوت : اقتلوني ومالكا

٨٩

فنجّاه منّي أكله وشبابه

وأنّي شيخ لم أكن متماسكا (١)

مصرع الزبير :

أمّا الزبير فكان رقيق القلب ، وشديد الوله لأهل البيت عليهم‌السلام وقد زجّ به في هذه المهالك حبّه للملك ، وإغراء ولده له ، إلاّ أنّه بعد اجتماعه بالإمام عليه‌السلام ثاب إلى رشده ، وراح يقول :

اخترت عارا على نار مؤجّجة

ما أن يقوم لها خلق من الطين

نادى عليّ بأمر لست أجهله

عار لعمرك في الدنيا وفي الدين

فقلت : حسبك من عذل أبا حسن

فبعض هذا الذي قد قلت : يكفيني (٢)

وملكت الحيرة صوابه ، واتّجه صوب عائشة ، وراح يقول لها :

يا أمّ المؤمنين ، إنّي والله! ما وقفت موقفا قطّ إلاّ عرفت أين أضع قدمي فيه إلاّ هذا الموقف؟ فإنّي لا أدري أمقبل فيه أم مدبر؟

وعرفت عائشة دخائل ذاته ، وأنّه قد استجاب لنداء الحقّ ، فأثارت عواطفه ، وقالت له بسخرية :

يا أبا عبد الله ، خفت سيوف بني عبد المطّلب؟

وعاثت هذه السخرية فسادا في نفسه ، والتفت إليه ولده عبد الله فعيّره بالجبن قائلا له :

إنّك خرجت على بصيرة ، ولكنّك رأيت رايات ابن أبي طالب ، وعرفت أنّها تحتها الموت ...

__________________

(١) النجوم الزاهرة ١ : ١٠٥ ـ ١٠٦.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٢٤٧.

٩٠

إنّ الزبير لم يخرج على بصيرة من أمره ـ كما يقول ولده ـ وإنّما خرج محاربا لله ورسوله ، من أجل الملك والسلطان ، فهو على علم لا يخامره شكّ أنّ عليّا مع الحقّ ، والحقّ معه ، كما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكيف يكون خروج الزبير لحرب الإمام عليّ على بصيرة؟

وعلى أي حال فقد التاع الزبير من تعيير ابنه له بالجبن ، وهي من أبغض الصفات وأمقتها عند الزبير (١) والتفت إلى ولده فقال له :

ويحك! إنّي قد حلفت له ـ أي للإمام ـ أن لا اقاتله ...

فقال له ولده :

كفّر عن يمينك بعتق غلامك سرجس ...

فأعتق الزبير غلامه ، وراح يجول في ساحة الحرب ليرى ولده شجاعته ...

وأخذت تراوده الأفكار ، واستبان له أنّه على ضلال فانصرف عن ساحة القتال ، وأخذ يجدّ في السير حتّى انتهى إلى وادي السباع ، فلقيه عمرو بن جرموز ، فقال له :

يا أبا عبد الله ، أحييت حربا ظالما أو مظلوما ، ثمّ تنصرف ، أتائب أنت أم عاجز؟

فسكت الزبير ولم يجبه ، وأعاد ابن جرموز عليه الحديث فقال له : حدّثني عن خصال خمس : أسألك عنها؟

هات.

خذلك عثمان ، وبيعتك عليّا ، وإخراجك أمّ المؤمنين ، وصلاتك خلف ابنك ، ورجوعك عن الحرب ...

نعم ، اخبرك .. أمّا خذلي عثمان فأمر قدّم الله لي الخطيئة وأخّر لي فيه التوبة ،

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٢٤٧.

٩١

وأمّا بيعتي عليّا فو الله! ما وجدت من ذلك بدّا ، حيث بايعه المهاجرون والأنصار وخشيت القتل .. ، وأمّا إخراج أمّنا عائشة فأردنا أمرا وأراد الله غيره .. ، وأمّا صلاتي خلف ابني فإنّما قدّمته عائشة أمّ المؤمنين ، ولم يكن دون صاحبي أمر .. ، وأمّا رجوعي عن الحرب فظنّ بي ما شئت غير الجبن ..

ولم يقتنع ابن جرموز بهذه الأجوبة الواهية ، فصمّم على قتله ، وأخذ يدبّر الحيلة في اغتياله ، فأعرب له عن شفقته وحرصه عليه قائلا :

يا أبا عبد الله ، إنّ دون أهلك مسافة فخذ نجيبي هذا وخلّ فرسك ودرعك فإنّهما شاهدتان عليك بما نكره ...

انظر في ذلك ..

ولم يلتفت إلى مكره ، وأخذ يلحّ عليه ، فاستجاب له وأعطاه فرسه ودرعه وبقي حاسرا ليس معه سلاح يدافع به عن نفسه ، وسارع ابن جرموز إلى الأحنف بن قيس فأخبره بما صمّم عليه من قتل الزبير فأقرّه على ذلك ، وقال له :

اقتله ، قتله الله مخادعا ...

ورأى رجل الزبير ، وهو عار عن السلاح ، وعرف ما دار بينه وبين ابن جرموز ، فقال له ناصحا :

يا أبا عبد الله ، أنت لي صهر ، وابن جرموز لم يعتزل هذه الحرب مخافة لله ، ولكنّه كره أن يخالف الأحنف ... وقد ندم الأحنف في خذلانه لعليّ ، وقد أراد أن يتقرّب بك إليه ، فأخذ درعك وفرسك ، وهذا تصديق ما قلت : فبت عندي الليلة ، ثمّ اخرج بعد نومه فإنّك إن فتهم لم يطلبوك ...

وتهاون الزبير عن نصيحة الرجل ، وطلب أن يرشده إلى أمر آخر فقال له :

ما نرى يا أخا بني كلب؟

٩٢

فأشار عليه بالصواب قائلا :

أرى أن ترجع إلى فرسك ودرعك فتأخذهما فإنّ أحدا لا يقدم عليك وأنت فارس ...

ولم يستجب الزبير لهذا النصح الخالص الذي يضمن حياته ، فقد أعرض عنه ، وأصبح وابن جرموز معه قد لبس درعه واعتلى فرسه ، وقد غفل الزبير عمّا دبّر له ، وبينما هو في غفلة وذهول من أمره بادر إليه ابن جرموز فطعنه ثمّ أجهز عليه ، فاحتزّ رأسه وأتى به وبسيفه إلى الإمام عليه‌السلام ، فأخذ السيف وبدا عليه الحزن ، وقال بنبرات تقطر أسى :

« سيف والله! طالما جلى به عن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الكرب .. ».

لقد انتهت حياة الزبير بمثل هذا المصير المؤلم ، وقد كان من أعلام المجاهدين في الإسلام. لقد ختم حياته بالتمرّد وإعلان الحرب على وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وباب مدينة علمه ، وقد ألقاه في هذا المستوى السحيق جشعه وحبّه للدنيا وولده عبد الله الذي هام في حبّ الملك والسلطان ، وعلى أي حال فقد فجعت زوجته عاتكة بنت زيد ، وقالت ترثيه بذوب روحها ، كما عرضت إلى غدر ابن جرموز به قالت :

غدر ابن جرموز بفارس بهمة

يوم اللقاء وكان غير مسدّد

يا عمرو ، لو نبّهته لوجدته

لا طائشا رعش الجنان ولا اليد

شلّت يمينك إن قتلت لمسلما

وجبت عليك عقوبة المتعمّد (١)

مصرع طلحة :

أمّا طلحة فهو ثاني شخصيّة في هذه الحرب الظالمة ، وكان من الحاقدين على

__________________

(١) طبقات ابن سعد ٣ : ١١٢.

٩٣

الإمام لموقفه من بيعة أبي بكر الذي هو من ألصق الناس بطلحة وهو الذي أغرى الزبير بالتمرّد على حكومة الإمام عليه‌السلام.

وعلى أي حال فقد اتّفق الرواة على أنّ مروان بن الحكم قد انتهز غفلته ورماه بسهم أجهز عليه ، وقال : لا أطلب ثارا بعد اليوم .. إنّ دم عثمان عند هذا ، وقال لبعض ولد عثمان :

لقد كفيتك ثأر أبيك من طلحة .. وبمقتله ومصرع الزبير فقد انتهت القيادة العامّة في جيش عائشة.

قيادة عائشة للجيش :

وتولّت عائشة القيادة العامّة للجيش بعد هلاك الزبير وطلحة ، فكانت هي التي تتولّى إصدار الأوامر في العمليات الحربية ، وقد احتفّ بهودجها بنو ضبّة وهم من أغلظ الناس قلوبا وطباعا وهم ينشدون :

نحن بنو ضبّة أصحاب الجمل

ننازل القرن إذا القرن نزل

والقتل أشهى عندنا من العسل

نبغي ابن عفّان بأطراف الأسل

ردّوا علينا شيخنا ثمّ بجل

كما أحاطت بجمل عائشة الأزد وبنو ناجية ، وقد هاموا بحبّها والإخلاص إليها فكانوا يأخذون بعر جملها ويشمّونه ويقولون : بعر جمل أمّنا ريحه ريح المسك ...

وكان جملها ـ عسكر ـ هو الراية التي يقاتل تحتها اولئك البسطاء ، ويتساقطون جملة وأفرادا ، وخرج كعب بن سور مع اخوة له ثلاثة أو أربعة ، وفي عنقه مصحف ، فقتلوا جميعا وتتابع الرجال بلهفة بأخذ خطام جملها ، حتى قتل سبعون من قريش خاصّة ، وكانت عائشة تسأل عن الآخذ بخطام جملها فتمجّده ، وتغريه للدفاع

٩٤

عنها ، وجاءت بنو ناجية فأخذت بزمام ناقتها ، وكانوا مشكوكين في انتسابهم لقريش فقالت لهم :

صبرا بني ناجية فإنّي أعرف فيكم شمائل قريش ...

لقد أضفت عليهم لقب الانتساب لقريش ليتفانوا في الدفاع عنها ، وفعلا فقد فنوا جميعا .. وبادرت بنو ضبّة بأخذ خطام جملها ، وشاعرهم يرتجز ..

نحن بنو ضبّة لا نفرّ

حتى نرى جما جما تخرّ

يخرّ منها العلق المحمرّ

يا أمّنا يا زوجة النبيّ

يا زوجة المبارك المهديّ

وقابلوا الموت بشوق حتى قتل منهم أربعون رجلا ، وسارعت الأزد بأخذ خطام الجمل ، فقالت عائشة :

من أنتم؟

الأزد.

فألهبت في نفوسهم العواطف قائلة : إنّما يصبر الأحرار ، ما زلت أرى النصر مع بني ضبّة ، فلمّا فقدتهم أنكرته واندفع هؤلاء السذّج إلى القتال حتى قتل معظمهم ، واشتدّ القتال كأشدّ وأعنف ما يكون القتال ، وملئت الأرض بأشلاء القتلى والجرحى ، يقول الواقدي : إنّهم كانوا حول الجمل يحامون عنه ، وقد كانت الرءوس تندر عن الكواهل ، والأيدي تطيح من المعاصم ، وأقتاب البطون تنزلق من الأجواف ، وهم كالجبال الثابتة حول الجمل (١).

لقد أريقت الدماء ، وازهقت الأنفس حول جمل عائشة ، وقد تهافت هؤلاء

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١٠ : ٨٤.

٩٥

الأعراب عليه لا يريمون عنه ، ويقدّمون نفوسهم بسخاء للحفاظ عليه.

عقر الجمل :

رأى الإمام عليه‌السلام أنّ الحرب لا تنتهي ما دام الجمل موجودا فرفع صوته عاليا :

« اعقروا الجمل ، فإنّه شيطان ، اعقروه وإلاّ فنيت العرب ، لا يزال السّيف قائما وراكعا حتّى يهوي هذا البعير إلى الأرض » (١).

فحمل عليه ـ في رواية ـ الإمام الحسن عليه‌السلام فقطع يده اليمنى ، وشدّ عليه الإمام الحسين فقطع يده اليسرى فهوى إلى جنبه وله عجيج منكر لم يسمع مثله ، كأنّه عجل بني إسرائيل.

وفرّ حماة الجمل في البيداء لا يلوون على شيء فقد تحطّم صنمهم الذي قدّموا له هذه القرابين ، وأمر الإمام عليه‌السلام بحرقه وذري رماده في الهواء لئلاّ تبقى منه بقيّة تكون مصدر فتنة وبلاء ، وبعد الفراغ من حرقه قال عليه‌السلام :

« لعنه الله من دابة ، ما أشبهه بعجل بني إسرائيل » ، ثمّ مدّ بصره نحو الرماد الذي تناهبته الريح وتلا قوله تعالى : ( وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً ) (٢).

وبذلك فقد وضعت الحرب أوزارها ، وكتب النصر الحاسم للإمام ـ وباءت القوى المعادية له بالهزيمة والخسران.

مع عائشة :

وأوفد الإمام الممتحن للقيى عائشة السبطين الحسن والحسين عليهما‌السلام ومحمّد بن

__________________

(١) وقعة الجمل : ٤٥.

(٢) طه : ٩٧.

٩٦

أبي بكر فانطلقوا إليها ، ومدّ أخوها محمّد بيده في هودجها فجفلت منه ، وصاحت به :

من أنت؟

أبغض أهلك إليك ..

ابن الخثعميّة؟

نعم ، أخوك البرّ ..

عقوق ..

هل أصابك مكروه؟

سهم لم يضرّني ..

فانتزعه منها ، وأخذ بخطام هودجها ، وأدخلها في الهزيع الأخير من الليل إلى دار عبد الله بن خلف الخزاعي ، وفيه صفيّة بنت الحارث فأقامت فيه أياما.

ضحايا الحرب :

وأشاعت هذه الحرب الظالمة الحزن والحداد في بيوت البصرة وغيرها ، فقد قيل إنّ عدد القتلى أكثر من ثلاثين ألفا ، وقيل : أقلّ من ذلك (١) ، ففي ذمّة الله ما لاقى إمام المتّقين من الخطوب من الاسر القرشية التي ملئت نفوسها بالحقد والعداء له.

الإمام مع القتلى :

ولمّا انجلت الحرب سار الإمام ومعه خيار أصحابه كعمّار بن ياسر ، فجعل يطوف على القتلى من أصحاب عائشة ، فرأى عبد الرحمن بن عتاب وقد قتل فقال :

__________________

(١) جاء في العقد الفريد ٤ : ٣٢٦ أنّ عدد القتلى من أصحاب عائشة عشرون ألفا ، وعدد القتلى من أصحاب الإمام خمسمائة ، وجاء مثل ذلك في أنساب الأشراف ١ : ١٨٠.

٩٧

هذا يعسوب قريش (١) ، ومرّ بعبد الله بن خلف الخزاعي وعليه ثياب حسّان مشهرة فقال الناس : هذا والله رأس الناس ، فقال عليه‌السلام :

« ليس برأس النّاس ولكنّه شريف منيع النّفس ».

وجعل يستعرض القتلى رجلا رجلا ، فرأى أشراف قريش صرعى فقال :

« هذه قريش جدعت أنفي ، أما والله! إنّ مصرعكم لبغيض إليّ ، ولقد تقدّمت إليكم احذّركم عضّ السّيوف ، وكنتم أحداثا لا علم لكم بما ترون ... ولكنّه الحين وسوء المصرع ، نعوذ بالله من سوء المصرع .. ».

واجتاز الإمام على كعب بن سور القاضي ، وهو صريع وفي عنقه المصحف فأمر بإخراج المصحف من عنقه ووضعه بمكان طاهر وأمر بجلوسه ، فاجلس ، وخاطبه الإمام فقال :

« يا كعب ، قد وجدت ما وعدني ربّي حقّا ، فهل وجدت ما وعدك ربّك حقّا؟ ».

ومرّ الإمام بطلحة صريعا فقال : « أجلسوا طلحة » ، فاجلس ، فقال له :

« يا طلحة بن عبيد الله ، قد وجدت ما وعدني ربّي حقّا ، فهل وجدت ما وعدك ربّك حقّا »؟ ثمّ قال : « اضجعوه .. ».

وانبرى إلى الإمام رجل من القرّاء فقال له :

ما كلامك لهذه الأموات التي لا تسمع؟

« إنّهم ليسمعون كلامي كما سمع أصحاب القليب كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر ، ولو اذن لهم في الجواب لرأيت عجبا ».

__________________

(١) مجالس ثعلب : ١٥٦.

٩٨

ومرّ بعبد الله بن ربيعة وهو في القتلى فقال :

« هذا البائس ما كان أخرجه؟ أدين أخرجه أم نصر لعثمان ، والله! ما كان رأي عثمان فيه ولا في أبيه بحسن ».

واجتاز على جماعة آخرين صرعى فنعى عليهم مصيرهم الأسود وتأسّف عليهم كأشدّ ما يكون الأسف.

العفو العامّ :

وأصدر الإمام عليه‌السلام عفوا عامّا عن جيش عائشة ، وسار فيهم سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أهل مكّة فآمن الأسود والأحمر على حدّ تعبير اليعقوبي (١).

ونادى مناديه بتنفيذ المواد التالية :

١ ـ لا يجهز على جريح.

٢ ـ لا يطعن مدبر.

٣ ـ لا يستحلّ فرج.

٤ ـ لا يستحلّ مال.

٥ ـ لا يتبع مولّ.

وعفا عن عائشة ، ومروان بن الحكم ، وموسى بن طلحة ، وعمر بن سعيد بن العاص ، وهم قادة ذلك الجيش الضالّ والمنحرف عن الحقّ.

الإمام مع عائشة :

وسار الإمام عليه‌السلام نحو عائشة ، فاستقبلته صفيّة بنت الحارث شرّ لقاء ، فقالت

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٥٦.

٩٩

له : يا قاتل الأحبّة ، أيتم الله بنيك كما أيتمت بني ، وكانوا قد قتلوا في المعركة ، فأعرض عنها ، ولم يجبها بشيء ، ومضى حتى دخل على عائشة ، فقالت له : ملكت فأسجح (١).

وأمرها الإمام بمغادرة البصرة ، وأن تقرّ في بيتها كما أمرها الله ورسوله ، ولمّا قفل راجعا استقبلته صفيّة بمثل ما قالت له أوّلا فردّ عليها الإمام قائلا :

« لو كنت قاتل الأحبّة لقتلت من في هذا البيت ».

وأشار الإمام إلى بعض البيوت ، وقد كمن فيه كثير من الجرحى فسكتت صفيّة وخافت عليهم ، وأراد من كان مع الإمام البطش بهم فنهاهم عن ذلك.

لقد منح الإمام العفو العامّ لألدّ أعدائه وخصومه الذين ناجزوه الحرب ، وخلعوا يد الطاعة ، فلم يقابلهم بأيّ لون من ألوان العنف.

تسريح عائشة :

وعهد الإمام عليه‌السلام إلى ابن عبّاس أن يأتي إلى عائشة ويأمرها بالرجوع إلى بيتها في المدينة ، فاستأذن عليها فأبت أن تأذن له ، فدخل عليها بلا إذن ، ومدّ يده إلى وسادة في البيت فجلس عليها فأنكرت ذلك ، وقالت له :

أخطأت السّنة مرّتين : دخلت بيتي بغير إذني ، وجلست على متاعي بغير أمري ..

فردّ عليها ابن عبّاس بمنطقه الفيّاض قائلا :

والله! ما بيتك إلاّ الذي أمرك الله أن تقرّي فيه .. إنّ أمير المؤمنين يأمرك أن ترجعي إلى بلدك الذي خرجت منه ..

__________________

(١) التمثيل والمحاضرة : ٣٩.

١٠٠