موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١١

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ١٠٩

رعايته لأنّها في تلك العصور العمود الفقري للاقتصاد العام للبلاد ، وقد أكّد الإمام في عهده لمالك الأشتر على ضرورة إصلاح الأرض قبل أخذ الخراج منها فلنستمع لقوله :

وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج ، لأنّ ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة ؛ ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد ، وأهلك العباد.

أرأيتم كيف نظر الإمام بعمق وشمول إلى الإصلاح الزراعي الذي يتولّد منه زيادة الدخل الفردي ، ويرتبط به نشر الرخاء والرفاه بين الناس؟ وفي نفس الوقت فإنّه من العناصر الأساسية في القضاء على البطالة.

الحرية :

من المبادئ التي طبّقها الإمام في أيام حكومته منح الناس الحرية الكاملة شريطة أن لا تستغلّ في الاعتداء على الناس ، ولا تضرّ بمصالحهم ، وأن لا تتنافى مع قواعد الشرع ، ومن معالمها ما يلي :

الحرية السياسية :

ونعني بها أن تتاح للناس الحرية التامّة في اعتناق أي مذهب سياسي من دون أن تفرض السلطة عليهم رأيا معاكسا ، وقد منح الإمام عليه‌السلام هذه الحرية حتى لأعدائه الذين أعلنوا رفض بيعته التي قام عليها إجماع المسلمين كسعد بن أبي وقّاص وعبد الله بن عمر ، وكعب بن مالك ، ومسلمة بن مخلد ، وأبي سعيد الخدري ، وأمثالهم من أنصار الحكم المباد الذي كان يغدق عليهم بهباته وأمواله ولم يجبرهم الإمام على بيعته ، ولم يتّخذ معهم أي إجراء حاسم كما اتّخذه أبو بكر ضدّ المتخلّفين من بيعته.

كان الإمام عليه‌السلام يرى الناس أحرارا في اتّجاهاتهم وميولهم ، ويجب على الدولة

٤١

أن توفّر لهم الحرية الكاملة ما لم يعلنوا التمرّد على الحكم القائم أو يحدثوا فسادا في الأرض ، وقد منح الإمام الحرية للخوارج فلم يحرمهم العطاء ولم تطاردهم الشرطة والجيش مع العلم أنّهم كانوا من ألد أعدائه وخصومه ، ولمّا سعوا في الأرض فسادا ، وأذاعوا الذعر والخوف بين الناس انبرى إلى قتالهم حفظا على المصلحة العامّة.

وعلى أي حال فيتفرّع عن الحرية السياسية ما يلي :

١ ـ حرية القول :

من مظاهر الحرية الواسعة التي منحها الإمام عليه‌السلام للمواطنين حرية القول ، وإن كان في غير صالح الدولة ما لم يتعقّبه فساد ، فالعقاب يكون عليه.

وقد روى المؤرّخون أنّ الإمام لمّا رجع من النهروان استقبل بمزيد من السبّ والشتم ، فلم يتّخذ الإمام مع القائلين أي إجراء ، ولم يقابلهم بالعقوبة والحرمان (١) ، وقد التقى أبو خليفة الطائي بجماعة من اخوانه وكان فيهم أبو العيزار الطائي وهو ممّن يعتنق فكرة الخوارج فقال لعدي بن حاتم : يا أبا طريف ، أانم سالم أم ظالم آثم؟

وقد عرّض بذلك إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال له عدي :

بل غانم سالم ..

الحكم ذاك إليك ..

وأوجس منه خيفة الأسود بن زيد ، والأسود بن قيس ، فألقيا القبض عليه ، ونقلا كلامه المنطوي على الشرّ والخبث إلى الإمام ، فقال الإمام لهما :

« ما أصنع؟ .. ».

نقتله ..

« أقتل من لا يخرج عليّ؟ ».

__________________

(١) الغارات ١ : ٣١.

٤٢

تحبسه ..

« ليس له جناية ، خلّيا سبيل الرّجل » (١).

ولم يشاهد الناس مثل هذه الحرية في جميع مراحل التأريخ ، فلم يحاسب الإمام الناس على ما يقولون وإنّما تركهم وشأنهم ، فلم يفرض عليهم رقابة تحول بينهم وبين حرّيتهم.

٢ ـ حرية النقد :

ومنح الإمام الحرية الواسعة لنقد حكمه ، ولم يتعرّض للناقدين له بسوء ، وكان ابن الكوّاء من ألدّ أعدائه ، فقد اعترض عليه وقال له :

( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) ، فردّ عليه عليه‌السلام :

( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ )، ولم يتّخذ الإمام ضدّه أي إجراء وإنّما عفا عنه وخلّى سبيله.

٣ ـ حرية التنقّل :

ولم يفرض الإمام عليه‌السلام الإقامة الجبرية على أي أحد من الصحابة وغيرهم كما فرضها عمر بن الخطّاب ، وقد سمح الإمام لطلحة والزبير بالخروج من المدينة مع علمه أنّهما يريدان الغدرة لا العمرة.

هذه بعض مظاهر الحرية التي منحها الإمام عليه‌السلام للمواطنين ، وقد حقّقت العدل بين الناس بجميع رحابه ومفاهيمه.

الرقابة على السوق :

الإمام عليه‌السلام أوّل خليفة في الإسلام قام بالرقابة على السوق ، وكان يتجوّل بين

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٣ : ٧٣.

٤٣

الباعة ، ويوصيهم بتقوى الله تعالى ، وينهاهم عن معصيته ، ويأمرهم بالاستقامة في معاملاتهم وكان يقول لهم : أحسنوا ، أرخصوا بيعكم على المسلمين فإنّه أعظم للبركة.

١ ـ مع التجّار :

كان عليه‌السلام يسير في الأسواق وفي يده الدرّة ، ويقول للتجّار :

« يا معشر التجّار! خذوا الحقّ وأعطوا الحقّ تسلموا » (١).

٢ ـ مع القصّابين :

كان عليه‌السلام يمشي وحده في الأسواق ، ويأمر الناس بتقوى الله ، وحسن البيع ويقول : « أوفوا الكيل والميزان ولا تنفخوا اللّحم » (٢).

٣ ـ مع غالب بن صعصعة :

ووفد غالب بن صعصعة أبو الفرزدق فقال له الإمام :

« ما فعلت بإبلك الكثيرة؟ ».

فقال غالب : ذعذعتها الحقوق ، أي فرّقتها ، فقد أنفقتها في أداء حقوق الناس. وأثنى عليه الإمام قائلا :

« ذاك أحمد سبيلها » (٣).

مع مجنون :

كان رجل مجنون في عهد الإمام يمشي أمام الجنائز وينادي : الرحيل

__________________

(١) أخبار القضاة لوكيع ١ : ١٩٦. وفي ربيع الأبرار ٤ : ١٤٤ زيادة على ذلك : « ولا تردّوا قليل الحقّ فتحرموا كثيره ، ما منع من حقّ إلاّ ذهبت في باطل أضعافه ».

(٢) طبقات ابن سعد ٢ / ق ١ / ١٨.

(٣) خزانة الأدب ١ : ٢٢٢.

٤٤

الرحيل ، ولا تكاد جنازة تخلو منه ، فمرّت جنازة بالإمام ولم ير أمامها المجنون فسأل عنه ، فقيل له : هو هذا الميّت ، فقال عليه‌السلام :

« لا إله إلاّ الله » ثمّ تمثّل بهذا البيت :

« ما زال يصرخ بالرّحيل مناديا

حتّى أناخ ببابه الجمّال » (١)

مع أهل الكوفة :

قال عليه‌السلام لأهل الكوفة :

« إذا تركتم عدتم إلى مجالسكم عزين تضربون الأمثال ، وتنشدون الأشعار » (٢).

في سوق الإبل :

خرج الإمام عليه‌السلام إلى سوق الإبل فلمّا توسّطه رفع صوته قائلا : « يا معشر التجّار! إيّاكم اليمين الفاجرة فإنّها تنفق السّلعة ، وتمحق البركة » (٣).

عدم شرائه ممّن يعرفه :

كان الإمام عليه‌السلام لا يشتري أيّة سلعة ممّن يعرفه خوفا من أن يسامحه فيها ، فقد روى الرواة أنّه جاء إلى سوق الكرابيس فقصد رجلا وسيما فقال له :

« يا هذا! عندك ثوبان بخمسة دراهم؟ ».

فقال الرجل : نعم ، يا أمير المؤمنين ، فلمّا عرفه تركه الإمام وانصرف (٤).

__________________

(١) فوات الوفيات ٢ : ٢٦٩.

(٢) العقد المفصّل ٩ : ٢٢٠.

(٣) الغارات ١ : ١٠٥.

(٤) المصدر السابق ١ : ٩٩.

٤٥

وبهذا العرض الموجز ينتهي بنا الحديث عن بعض معالم سياسته الهادفة إلى تحقيق مجتمع متوازن لا ظلّ فيه للغبن والتأخّر.

٤٦

حرب الجمل

٤٧
٤٨

والشيء المؤكّد الذي اتّفق عليه المؤرّخون والرواة هو أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد عهد إلى وصيّه وباب مدينة علمه بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين (١) ، أمّا الناكثون فهم الذين قاموا بحرب الجمل ، ومهّدوا الطريق إلى معاوية وحزبه لحرب الإمام ، وهم الذين سمّاهم النبيّ بالقاسطين ، وأمّا المارقون فهم الخوارج الذين مرقوا عن الإسلام وحاربوا الإمام ، وقد أجمع فقهاء المسلمين على تأثيمهم وتجريحهم وخروجهم عن الطريق القويم ، فقد اثر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله غير مرّة قوله : « من حمل علينا السّلاح فليس منّا » ، وقوله : « لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض » ، لقد واكبوا أهواءهم ، واستجابوا لأطماعهم ، وفيما يلي عرض لاولى تلك الحروب.

حرب الجمل

أمّا الذين قاموا بهذه الحرب فقد نكثوا بيعة الإمام وخاسوا ما عاهدوا عليه الله تعالى من الطاعة للإمام ، ومتابعة أمره ، وقد عناهم الإمام بقوله :

« من نكث بيعته لقي الله أجذم ليس له يد » (٢).

وعلى أي حال فإنّ الذين أشعلوا هذه الحرب قد أثاروا الفتنة بين المسلمين ،

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ : ١٣٩. تاريخ بغداد ٨ : ٣٤٠. اسد الغابة ٤ : ٣٣. كنز العمّال ٦ : ٨٢.

مجمع الزوائد ٩ : ٢٣٥.

(٢) النجوم الزاهرة ٢ : ٣٠٢.

٤٩

وخالفوا ما أمر الله تعالى به من الاعتصام بحبله جميعا وأن لا يتفرّقوا ، وهم قد فارقوا الجماعة ، وسفكوا دماء المسلمين بغير حقّ ، وأشاعوا فيهم الحزن والحداد ، والله تعالى هو الذي يتولّى حسابهم على ما اقترفوه من إثم عظيم ..

ونعرض ـ بإيجاز ـ لبعض أعلام هؤلاء المنحرفين مع بيان أسباب تمرّدهم على حكومة الإمام :

السيّدة عائشة :

وقبل الحديث عن تمرّد عائشة وخروجها على حكومة الإمام عليه‌السلام نعرض إلى شيء بالغ الأهمية وهو موقف عائشة من عثمان.

أمّا عائشة فقد كانت في طليعة الحاقدين على عثمان والناقمين عليه ، وقد روى المؤرّخون صورا من إنكارها الشديد عليه كان منها :

١ ـ روى محمّد بن إسحاق عن مشايخه عن حكيم بن عبد الله قال :

دخلت المدينة وأتيت إلى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإذا بكفّ مرتفعة ، وصاحب الكفّ يقول : هذان نعلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقميصه ، وكأنّي أرى ذلك القميص يلوح ، وإنّ فيكم فرعون هذه الأمّة ، فإذا هي عائشة وعثمان يقول لها : اسكتي ، ثمّ يقول للناس : إنّها امرأة وعقلها عقل النساء ، فلا تصغوا إلى قولها.

٢ ـ روى الحسن بن سعد قال :

رفعت عائشة ورقة من المصحف بين عودتين من وراء حجابها ، وعثمان قائم ، ثمّ قالت : يا عثمان ، أقم ما في هذا الكتاب ، فقال لتنتهنّ عمّا أنت عليه أو لأدخلنّ عليك حرّ النار ، فقالت له عائشة : أما والله! لأن فعلت ذلك بنساء النبيّ يلعنك الله ورسوله ، وهذا قميص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يتغيّر ، وقد غيّرت سننه يا نعثل!

٣ ـ روى الليث بن أبي سليمان ، عن ثابت الأنصاري ، عن ابن أبي عامر

٥٠

مولى الأنصار قال :

كنت عند المسجد فمرّ عثمان فنادته عائشة : يا غادر! يا فاجر! حقّرت أمانتك ، وضيّعت رعيّتك لو لا الصلوات الخمس لمشى إليك الرجال حتى يذبحوك ذبح الشاة. فقال عثمان :

( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (١).

إنّ السيّدة عائشة كانت في طليعة الثائرين على حكومة عثمان ، وقد أشعلت العواطف ، وألهبت القلوب ضده ، فأباحت دمه وجرّدته من جميع الشرعية للحكم ، ولمّا علمت بدنوّ مصرعه على أيدي الثوّار غادرت يثرب ، واتّجهت صوب مكّة تترقّب أخباره بفارغ الصبر.

موقفها من بيعة الإمام :

وغادرت عائشة مكّة متّجهة صوب المدينة ، فلمّا انتهت إلى سرف (٢) لقيها عبيد بن أمّ كلاب فبادرت مسرعة تسأله عن الأحداث قائلة له :

مهيم ـ يعني ما عندك من نبأ؟

قتلوا عثمان.

ولم تهتمّ بقتله ، وإنّما كانت تترقّب الخليفة من بعده ، فقالت :

ثمّ صنعوا ما ذا؟

أخذها أهل المدينة بالإجماع فجازت بهم الأمور إلى غير مجاز ، اجتمعوا إلى

__________________

(١) التحريم : ١٠.

(٢) سرف : موضع يقع على مسيرة ليلة من مكّة.

٥١

عليّ بن أبي طالب ...

وفقدت عائشة إهابها وراحت تقول بحرارة وجزع وبصرها يشير إلى السماء ثمّ ينخفض إلى الأرض :

ليت هذه ـ أي السماء ـ انطبقت على هذه ـ أي الأرض ـ إن تمّ الأمر لصاحبك ، ويحك انظر ما تقول؟

هو ما قلت لك يا أمّ المؤمنين ..

فولولت وجزعت ، وأصابها ذهول ورعدة ، فبهر عبيد وقال لها :

ما شأنك يا أمّ المؤمنين؟ والله! لا أعرف بين لابتيها (١) أحدا أولى بها ـ أي الخلافة ـ منه ـ أي من الإمام ، ولا أحقّ ولا أرى له نظيرا في جميع حالاته ، فما ذا تكرهين منه؟

وراحت تلتمس المعاذير لموقفها ، فتمسّكت بما هو أوهى من بيت العنكبوت قائلة :

قتل عثمان والله مظلوما! وأنا طالبة بدمه ...

فأنكر عليها عبيد ، وأبدى دهشته قائلا :

إنّ أوّل من طعن عليه ـ أي على عثمان ـ لأنت ، وأطمع الناس في قتله ، وقلت : اقتلوا نعثلا فقد فجر.

وأبدت معاذيرها الواهية قائلة :

والله! قلت وقال الناس ، وآخر قولي خير من أوّله ...

وسخر عبيد من قولها وقال :

عذر والله! ضعيف يا أمّ المؤمنين!

__________________

(١) لابتيها : موضعان يكتنفان المدينة.

٥٢

وخاطبها عبيد بهذه الأبيات التي ارتجلها قائلا :

فمنك البداء ومنك الغير

ومنك الرياح ومنك المطر

وأنت أمرت بقتل الإمام

وقلت لنا : إنّه قد كفر

ولم يسقط السقف من فوقنا

ولم تنكسف شمسنا والقمر

وقد بايع الناس ذا تدرإ

يزيل الشّبا ويقيم الصعر

ويلبس للحرب أثوابها

وما من وفى مثل من قد غدر

ويقول شاعر مصر :

أثار عثمان الذي شجاها

أم غصّة لم ينتزع شجاها

ذلك فتق لم يكن بالبال

كيد النساء موهن الجبال

وقفلت عائشة راجعة إلى مكّة ، فلمّا انتهت إليها استقبلها القرشيّون فقالت لهم :

يا معشر قريش ، إنّ عثمان قتل ، قتله عليّ بن أبي طالب ، والله! لليلة من عثمان خير من عليّ الدهر كلّه ... (١).

وتناست عائشة أنّ عليّا نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأحبّ الناس إليه ، وأنّه منه بمنزلة هارون من موسى .. لقد نسيت عائشة ذلك أو لم تحفل به في سبيل أغراضها وأطماعها السياسية.

خطاب عائشة بمكّة :

أحاطت جماهير أهل مكّة بعائشة ، فخطبت فيهم خطابها السياسي ، وخلاصته أنّها حمّلت المسئولية في إراقة دم عثمان على الغوغاء ، فهم الذين استباحوا سفك دمه في البلد الحرام وفي الشهر الحرام ، وذلك بعد ما أقلع من ذنوبه ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ١٧٢. أنساب الأشراف ٥ : ٩١. الإمامة والسياسة ١ : ٥٣.

٥٣

وأخلص في توبته ، ولا حجّة لهم فيما اقترفوه من سفك دمه ... (١).

وحفل خطابها بالمغالطات السياسية ، فقد اتّهمت الغوغاء بسفك دم عثمان ، مع أنّهم بريئون منه ، وإنّما الذي أجهز عليه القوّات العسكرية من المصريّين والعراقيّين ، وانضمام كبار الصحابة إليهم كعمّار بن ياسر ومالك الأشتر وطلحة والزبير ، وهي بالذات فقد كانت تخاطب الجماهير قائلة : اقتلوا نعثلا فقد كفر.

وأمّا توبة عثمان فهي كما تقول : إلاّ أنّه تراجع عنها بسبب ضغط الأمويّين عليه.

وعلى أي حال فإنّ خطاب عائشة بمكّة كان أوّل صوت انطلق ضدّ حكومة الإمام عليه‌السلام.

دوافع تمرّدها :

ولم يكن تمرّد عائشة على حكومة الإمام عفويا وإنّما كان ناشئا عن أسباب هذه بعضها :

١ ـ وهو من أوثق الأسباب ، أنّها كانت تروم إرجاع الخلافة إلى ابن عمّها طلحة ، وجعلها في تيم اسرتها ، وقد أعربت عن ذلك حينما كانت في مكّة فجعلت تناجي ابن عمّها طلحة وتخاطبه قائلة :

إيه ذا الإصبع! إيه أبا شبل! إيه ابن عمّ! لله أبوك! أما إنّهم وجدوا طلحة لها ـ أي الخلافة ـ كفوا ، لكأنّي أنظر إلى اصبعه ، وهو يبايع حثو الإبل (٢).

لقد جهدت عائشة وبذلت جميع طاقاتها لإرجاع الخلافة لاسرتها وعلى رأسهم طلحة إلاّ أنّها باءت بالفشل إذ لم تكن له قاعدة شعبية يستند إليها.

__________________

(١) نصّ خطابها الكامل في تاريخ الطبري ٣ : ٢٦٨.

(٢) أحاديث أمّ المؤمنين عائشة : ص ١١٨.

٥٤

٢ ـ ومن بواعث حقد عائشة على الإمام هو أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان دوما يشيد بفضله ، ويقدّمه على سائر أصحابه واسرته ، وكانت له عنده المنزلة الرفيعة التي لم يحظ بمثلها أحد غيره ، ومن المؤكّد أنّ ذلك يتنافى مع ما طبعت عليه المرأة من كراهية من هو أقرب إلى زوجها منها.

٣ ـ ومن الأسباب التي أدّت إلى حقد عائشة على الإمام وزوجته سيّدة نساء العالمين أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أخلص في الحبّ كأعظم ما يكون الإخلاص لابنته وبضعته ، وأضفى عليها أوسمة مشرقة من التكريم كان منها :

ـ أنّ الله تعالى يرضى لرضاها ويغضب لغضبها.

ـ أنّها شجنة منه ، يرضيه ما يرضيها ويسخطه ما يسخطها.

ـ أنّها بضعة منه ، يؤذيه ما يؤذيها.

ـ أنّها إذا مرّت في الموقف يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش : يا أهل الموقف ، غضّوا أبصاركم لتعبر فاطمة بنت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (١). وأمثال هذه الأحاديث في سموّ شأنها كثيرة ، ولم تظفر عائشة بشيء.

من أمثال ذلك التكريم الذي ظفرت به زهراء الرسول ، وهذا ممّا أوجب حقدها عليها وعلى زوجها ، كما حدثت منافرة بين سيّدة النساء فاطمة وعائشة ، وكانت بضعة الرسول ترفع شكواها منها إلى أبيها ، الأمر الذي أدّى إلى شيوع الحقد والعداء بينهما.

٤ ـ وممّا زاد في حقد عائشة على زهراء الرسول أنّها قد حظيت بالذرّية المباركة سيّدي شباب أهل الجنّة ، وشبيهة مريم بنت عمران السيّدة زينب سلام الله عليها ، وقد أخلص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم في الحبّ ، وكان يسمّيهم بأبنائه ويوسعهم تقبيلا ،

__________________

(١) الأحاديث مجمع عليها روتها الصحاح والسنن.

٥٥

ويشيد بفضلهم وسموّ مكانتهم عنده ، وقد حرمت عائشة من البنين الأمر الذي أثار كوامن الحسد والحقد في نفسها على الإمام وزوجته وأبنائه وظلّ ذلك ملازما لها طوال حياتها ، فقد منعت من دفن جنازة سبط الرسول الإمام الحسن عليه‌السلام بجوار جدّه ، وقالت : لا تدخلوا بيتي من لا أحبّ.

٥ ـ ومن بواعث حقد عائشة على الاسرة النبوية أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان دوما يشيد بامّ الزهراء عليها‌السلام السيّدة خديجة ويترحّم عليها ، وكان إذا ذبح شاة اختار أطيب ما فيها من لحم وبعثه إلى صديقات خديجة ، وكانت عائشة تتميّز غيظا من ذلك وتقول له بحرارة : ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين قد أبدلك الله خيرا منها؟

ويسارع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله رادّا عليها :

« ما أبدلني الله خيرا منها ، آمنت بي حين كفر بي النّاس ، وواستني بمالها حين حرمني النّاس ، ورزقت منها الولد ـ وهي سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها‌السلام ـ وحرمته من غيرها ».

هذه بعض الأسباب ـ فيما نحسب ـ هي التي أدّت إلى حقد عائشة على الإمام ومناهضتها لحكومته.

عائشة مع أمّ سلمة :

وخفّت عائشة مسرعة إلى السيّدة أمّ سلمة تطلب القيام معها لإسقاط حكومة الإمام .. وهو من الغرابة بمكان ، فإنّ أمّ سلمة قد شاع عنها ولاؤها للإمام ، وكانت تكنّ له خالص المودّة ، فهل خفي ذلك على عائشة؟ الأمر الذي يدلّ على عدم عمقها بالاتّجاهات الفكرية والسياسية.

وعلى أي حال فقد التقت عائشة بامّ سلمة ، وقدّمت لها هذه الكلمات الناعمة لإغرائها قائلة لها :

يا بنت أبي أميّة ، أنت أوّل مهاجرة من أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنت كبيرة

٥٦

امّهات المؤمنين ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقسم لنا من بيتك ، وكان جبرئيل أكثر ما يكون في منزلك ...

ورمقتها أمّ سلمة بريبة ، وقالت لها :

لأمر قلت هذه المقالة؟

فأجابتها عائشة مخادعة :

إنّ القوم استتابوا عثمان ، فلمّا تاب قتلوه صائما في الشهر الحرام ، وقد عزمت على الخروج إلى البصرة ، ومعي طلحة والزبير ، فاخرجي معنا لعلّ الله يصلح هذا الأمر على أيدينا ...

وأنكرت أمّ سلمة مقالتها وراحت تبدي لها النصيحة في التخلّي عن هذا الاتّجاه قائلة :

يا بنت أبي بكر ، أبدم عثمان تطلبين؟ والله! لقد كنت من أشدّ الناس عليه عداوة ، وما كنت تسمّينه إلاّ نعثلا ، فما لك ودم عثمان؟ وعثمان رجل من بني عبد مناف ، وأنت من بني تيم بن مرّة؟

ويحك يا عائشة! أعلى عليّ تخرجين وهو ابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد بايعه المهاجرون والأنصار؟

وأخذت أمّ سلمة تذكّر عائشة بفضائل الإمام ، وقرب منزلته من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان عبد الله بن الزبير ، وهو من ألدّ أعداء الإمام يسمع حديث أمّ سلمة ، وخاف أن تستجيب لها عائشة ، ويفسد عليها الأمر فصاح بها :

يا بنت أبي أميّة ، قد عرفنا عداوتك لآل الزبير ...

فنهرته أمّ سلمة ، وقالت له بعنف :

والله! لتوردنّها ، ثمّ لا تصدرنّها أنت ، ولا أبوك ، أتطمع أن يرضى المهاجرون

٥٧

والأنصار بأبيك الزبير وصاحبه طلحة ، وعليّ بن أبي طالب حيّ ، وهو وليّ كلّ مؤمن ومؤمنة كما يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ...

فردّ عليها ابن الزبير قائلا :

ما سمعنا هذا من رسول الله ساعة قطّ ...

فأجابته أمّ سلمة بمنطق الحقّ قائلة :

إن لم تكن أنت سمعته ، فقد سمعته خالتك عائشة ، وها هي فاسألها .. فقد سمعته يقول : « عليّ خليفتي عليكم في حياتي ومماتي ، من عصاه فقد عصاني » ، أتشهدين يا عائشة بهذا أم لا؟

ولم يسع عائشة الإنكار فقالت :

اللهمّ نعم.

ومضت أمّ سلمة تسدي نصائحها لعائشة قائلة :

اتّقي الله يا عائشة! في نفسك ، واحذري ما حذّرك الله ورسوله ولا تكوني صاحبة كلاب الحوأب ، ولا يغرّنك الزبير وطلحة فإنّهما لا يغنيان عنك من الله شيئا.

ولم تحفل عائشة بنصائح أمّ سلمة ، واستجابت لعواطفها المترعة بالحقد والكراهية للإمام.

وبادرت أمّ سلمة فرفعت للإمام عليه‌السلام رسالة سجّلت فيها ما دار بينها وبين عائشة من شجار وعرّفته بتمرّدها على حكومته (١).

مؤتمر مكّة :

وعقدت عائشة مع طلحة والزبير وغيرهما من الحاقدين على الإمام

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٢ : ٧٩.

٥٨

والخالعين لبيعته مؤتمرا ، وقد وجدوا في هذا البلد الحرام تجاوبا فكريا لهم ، وتعاطفا من أبناء الاسر القرشية الحاقدة على الإمام ، والتي ناجزت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بجميع ما تملكه من الوسائل ، وقد عرضنا لذلك في بحوث هذه الموسوعة.

مقرّرات المؤتمر :

وتداول زعماء الفتنة الآراء في البلد الذي يغزونه ويتّخذونه مقرّا لتمرّدهم ، والشعارات التي يرفعونها :

١ ـ احتلال البصرة :

وقرّر المؤتمر الزحف إلى البصرة واحتلالها ، واتّخاذها المركز الرئيسي للثورة على حكومة الإمام ؛ لأنّ بها حزبا وأنصارا لهم ، وقد أعرضوا عن الزحف إلى المدينة لأنّ فيها الخليفة الشرعي ، وهو يملك قوّة عسكرية لا طاقة لهم بمقابلتها ، كما أعرضوا عن النزوح إلى الشام لأنّها خاضعة لهم ففيها معاوية ، وخافوا من تصدّع حكومته المعادية للإمام.

٢ ـ المطالبة بدم عثمان :

واختاروا الشعار الذي يرفعونه وهو المطالبة بدم عثمان ، فقد قتل مظلوما في البلد الحرام واتّخذوا دمه وقميصه شعارا لتمرّدهم على السلطة الشرعية.

٣ ـ مسئولية الإمام عن دم عثمان :

وقرّر المؤتمر تحميل الإمام المسئولية الكاملة في إراقة دم عثمان وأنّه قد آوى قتلته ولم يقدّمهم للقضاء ... هذه بعض قرارات مؤتمر مكّة.

خديعة معاوية للزبير وطلحة :

قام معاوية بخديعة الزبير وطلحة واتّخاذهما سلّما يعبر فيه لأهدافه ، فقد منّاهما بالخلافة والبيعة لهما إن خلعا بيعة الإمام ، وقد كتب للزبير هذه الرسالة :

٥٩

لعبد الله الزبير أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان :

سلام عليك ، أمّا بعد فإنّي قد بايعت لك أهل الشام فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الجلب ، فدونك الكوفة والبصرة ، لا يسبقك إليهما ابن أبي طالب ، فإنّه لا شيء بعد هذين المصرين ، وقد بايعت لطلحة من بعدك فأظهرا الطلب بدم عثمان وادعوا الناس إلى ذلك ، وليكن منكما الجدّ والتشمير ، أظفركما الله ، وخذل مناوئكما ...

ولمّا وصلت الرسالة إلى الزبير لم يملك صوابه من الفرح والسرور وخفّ مسرعا إلى طلحة يخبره بذلك ، فلمّا قرأ طلحة رسالة معاوية لم يشكّ هو والزبير في صدق هذا الذئب ، وتحفّزا بصورة جادّة إلى إعلان الثورة على الإمام لتكون لهما الخلافة بعد الإجهاز على حكومة الإمام ، وقد اتّخذا ـ كما عهد إليهما معاوية ـ دم عثمان بن عفّان شعارا لهما ... (١).

وتكشف هذه الصورة المؤسفة عن مدى ضعف الإيمان في نفوس القوم ، وتهالكهم على الحكم والسلطان ليتّخذاه وسيلة إلى التحكّم في رقاب المسلمين.

تجهيز الجيش بالأموال :

وقام ولاة عثمان بتجهيز جيش عائشة بالأموال التي نهبوها من الخزينة المركزية ، فجهّز يعلي بن اميّة ـ الذي كان واليا من قبل عثمان على اليمن ـ الجيش بستمائة بعير وستمائة ألف درهم (٢) وأمدّهم عبد الله بن عامر والي عثمان على البصرة بمال كثير كان قد اختلسه من بيت المال (٣) ، ولم يتحرّج أعضاء القيادة العامّة في جيش عائشة من هذه الأموال المحرّمة.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ٢٣١.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ : ١٠٦.

(٣) تاريخ ابن الأثير ٣ : ١٠٦.

٦٠