موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١١

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ١٠٩

٢ ـ قبائل همدان :

أمّا قبائل همدان فقد عرفت بالولاء والإخلاص للإمام ، وقد زحفت إلى المدينة بقيادة زعيمها رفاعة بن وائل ، وهي تقدّم ولاءها للإمام ودعمها الكامل لحكومته ، وكان ممّا قاله رفاعة زعيم الوفد :

نسير إلى عليّ ذي المعالي

بخير عصابة يمن كرام

٣ ـ وفد جهينة :

ومن جملة الوفود المهنّئة وفد جهينة بزعامة كيسون بن سلمة الجهني ، وقد أنشد عند مقابلته للإمام أبياتا منها هذا البيت :

أجبنا عليّا بعل بنت نبيّنا

على كلّ حنذيذ من الخيل سابح

٤ ـ وفد بجيلة :

ووفدت بجيلة على الإمام ترفع تهانيها له ، وعلى رأسها شاعرها رويبة العجلي وهو ينشد :

أجبناه دون الهاشميّ سوابح

ومواه براق مقفرات موادخ (١)

هذه بعض الوفود التي أقبلت إلى المدينة ، وهي تهنّئ الإمام عليه‌السلام بالخلافة ، ولم يعهد نظير ذلك في بيعة الخلفاء الذين سبقوا الإمام.

الدعاء على المنابر للإمام :

أمّا الإمام عليه‌السلام فهو أوّل خليفة دعي له على المنابر بالتأييد والنصر ، ولم يحظ بمثل ذلك غيره ، وكان أوّل من دعا له عبد الله بن عباس ، فقال :

__________________

(١) حياة الإمام الحسن عليه‌السلام ١ : ٣٧٩ ـ ٣٨٠.

٢١

اللهمّ انصر عليا على الحقّ .. (١).

وجوم القرشيّين :

واستقبلت قريش خلافة الإمام عليه‌السلام بكثير من الفزع والوجوم والاضطراب ؛ لأنّ الإمام عليه‌السلام قد وترهم في سبيل الدعوة الإسلامية ، وقضى على الكثيرين من أعيانهم ووجوههم ، فقد قتل من أعلام بني أميّة عتبة بن ربيعة جدّ معاوية ، والوليد ابن عتبة خال معاوية ، وحنظلة أخاه ، وغيرهم من أقطاب الشرك والالحاد ، فكانت نفوسهم مترعة بالحقد والعداء للإمام ، ومضافا لذلك فإنّ سياسة الإمام ومنهجه في الحكم يتصادم مع مصالحهم ومنافعهم ، فالإمام يحارب الأثرة والاستغلال ، ولا يقرّ بحال من الأحوال سياسة النهب التي سار عليها عثمان ، لذلك كرهت قريش حكومة الإمام وأعلنت عليه التمرّد والعصيان.

وقد سارع الوليد ومعه بنو أميّة إلى الإمام ليبايعوه على الغضّ بما في أيديهم من الأموال التي استأثروا بها في أيام عثمان ، وقال الوليد للإمام :

إنّك قد وترتنا جميعا ، أمّا أنا فقتلت أبي صبرا يوم بدر ، وأمّا سعيد فقتلت أباه يوم بدر ، وكان أبوه من نور قريش ، وأمّا مروان فشتمت أباه ، وعبت على عثمان حين ضمّه إليه ، فنبايع على أن تضع عنّا ما أصبنا ، وتعفو لنا عمّا في أيدينا ، وتقتل قتلة صاحبنا ـ يعنى عثمان ..

فردّ عليه الإمام بمنطق الحقّ الذي لا تعيه قريش قائلا :

« أمّا ما ذكرت من وتري إيّاكم فالحقّ وتركم ، وأمّا وضعي عنكم عمّا في أيديكم فليس لي أن أضع حقّ الله عنكم ولا عن غيركم ، وأمّا إعفائي عمّا في أيديكم فما كان لله

__________________

(١) مآثر الانافة في معالم الخلافة ٢ : ٢٣١ ، وجاء فيه : « أنّ الناس بعد الدعاء للإمام اقتدوا به للدعاء للخلفاء ».

٢٢

وللمسلمين فالعدل يسعكم ، وأمّا قتلي قتلة عثمان فلو لزمني قتالهم اليوم لزمني قتالهم غدا ولكن لكم أن أحملكم على كتاب الله وسنّة نبيّه ، فمن ضاق عليه الحقّ فالباطل عليه أضيق ، وإن شئتم فالحقوا بملاحقكم .. » (١).

إنّ بني اميّة ومعها قريش تريد من الإمام أن يهبها الأموال التي اختلسوها في أيام عثمان ، وتريد منه الانحراف عن منهجه وإيثاره لمصالح المسلمين على كلّ شيء ، ولكن الإمام لم يحفل بهم ، وقد عاهد الله أن يسير بين المسلمين سياسة قوامها العدل الخالص ، وأن يقف بالمرصاد لكلّ ظالم ، وأن لا يخضع للأحداث مهما كانت قاسية وشديدة ، فلذا تنكّرت له القوى الباغية من قريش التي ما آمنت بالله طرفة عين ، وقد وصف ابن أبي الحديد حالهم حينما آلت الخلافة للإمام بقوله :

« كأنّها حاله لو أفضت الخلافة إليه يوم وفاة ابن عمّه من إظهار ما في النفوس ، وهيجان ما في القلوب حتّى انّ الأخلاف من قريش ، والأحداث والفتيان الذين لم يشهدوا وقائعه وفتكاته في أسلافهم وآبائهم فعلوا ما لو كانت الأسلاف أحياء لقصرت عن فعله » (٢).

لقد امتحن الإمام امتحانا عسيرا بالأسر القرشيّة ، وراح يصعّد آلامه وزفراته منهم قائلا :

« ما لي ولقريش! والله! لقد قاتلتهم كافرين ، ولأقاتلنّهم مفتونين ، ... والله! لأبقرنّ الباطل حتّى أخرج الحقّ من خاصرته! فقل لقريش : فلتضجّ ضجيجها ».

إنّ قريشا حالت بين الإمام والخلافة منذ وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فصرفتها تارة لتيم ، وأخرى إلى عدي ، وثالثة إلى بني اميّة ، وهي جادّة في خلق الفتن والمشاكل حتى تجهز على حكومته.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٥.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١١ : ١١٤.

٢٣

القعّاد :

وتخلّف عن بيعة الإمام جماعة سمّاهم المسعودي بـ « القعّاد » (١) ، وسمّاهم أبو الفداء بـ « المعتزلة » (٢) ، وقال فيهم الإمام :

« اولئك قوم قعدوا عن الحقّ ، ولم يقوموا مع الباطل » (٣) ، وهم : سعد بن أبي وقّاص ، وعبد الله بن عمر ، وحسّان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، ومسلمة بن مخلد ، وأبو سعيد الخدري ، ومحمّد بن مسلمة ، والنعمان بن بشير ، وزيد بن ثابت ، ورافع ابن خديج ، وفضالة بن عبيدة ، وكعب بن عجرة ، وعبد الله بن سلام ، وصهيب بن سنان ، وسلامة بن سلامة ، واسامة بن زيد ، وقدامة بن مظعون ، والمغيرة بن شعبة (٤) ، وهؤلاء قد انحرفوا عن الحقّ ، ومالوا عن الطريق القويم ، وليس لهم أي مبرّر في تخلّفهم عن بيعة الإمام رائد العدالة في دنيا الإسلام.

واعتذر سعد بن أبي وقّاص ـ وهو أحد العشرة المبشّرة في الجنّة ـ كما يقولون عن سبب اعتزاله عن بيعة الإمام وعن بني اميّة أيام المحنة الكبرى ، فقال : إنّي لا اقاتل حتى يأتوني بسيف مبصر ، عاقل ، ناطق ينبئني أنّ هذا مسلم وهذا كافر .. ، وهو اعتذار مردود مرفوض ؛ فإنّ بيعة الإمام عليه‌السلام كانت شرعية ، فقد صرّح بها الإمام وبايعه جمهور المسلمين ، ولم تكن بيعته فلتة ، ولم يتخلّف عنها إلاّ من شذّ عن طريق العدل ، ألم يسمع سعد وغيره حديث النبيّ في عليّ : « عليّ مع الحقّ ، والحقّ مع عليّ »؟ بلى والله! قد سمعوا ذلك ، وسمعوا ما هو أكثر من ذلك ، ولكنّ الأحقاد والأضغان هي التي دفعت سعدا لأن يتخلّف عن البيعة ، وقد ردّ عليه الطيّب

__________________

(١) مروج الذهب ( المطبوع بهامش ابن الأثير ) ٦ : ٧٨.

(٢) تاريخ أبي الفداء ١ : ١٧٦ ـ ١٧٨.

(٣) الاستيعاب ٣ : ٥٥.

(٤) الكامل في التاريخ ٣ : ٧٤.

٢٤

ابن الطيّب عمّار بن ياسر فقال له :

ويحك يا سعد! أما تتّقي الله الذي إليه معادك؟ أيدعوك أمير المؤمنين إلى البيعة فتسأله أن يعطيك سيفا له لسان وشفتان؟ والله! إنّ فيك لهنات ، وأنشأ أبياتا مطلعها :

قال سعد : لدى الإمام وسعد

في الذي قاله حقيق ظلوم (١)

وأخيرا ندم سعد على ما فرّط في أمره ، وودّ أن يكون مع الإمام.

أمّا عبد الله بن عمر فقد اترعت نفسه بالحقد على الإمام ، وقد انبرى إليه رافعا عقيرته قائلا : يا عليّ ، اتّق الله ولا تنزونّ (٢) على أمر الأمّة بغير مشورة (٣).

الإمام الذي انتزى على الامّة بغير مشورتها كما يقول عبد الله ، وقد بايعه المسلمون على اختلاف طبقاتهم وميولهم .. وقد ندم على تخلّفه عن بيعة الإمام حيث لم يجد الندم شيئا ، وكان يقول عند موته : إنّي لم أخرج من الدنيا وليس في قلبى حسرة إلاّ تخلّفي عن عليّ .. وقد انتقم الله منه وأراه الذلّ ، فقد عاش إلى زمن عبد الملك ، فجاء الحجّاج ليأخذ البيعة له ، فجاء عبد الله في آخر الناس لئلا يراه أحد ، فعرف الحجّاج ذلك فاحتقره ، وقال له :

لم لم تبايع أبا تراب؟ وجئت تبايع عبد الملك آخر الناس؟ أنت أحقر من أن أمدّ لك يدي ، دونك رجلي فبايع ...

ومدّ إليه رجله وفيها نعله فبايعها (٤).

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ١ : ٣٨٤ ، نقلا عن الفتوح ٢ : ٢٥٨.

(٢) كذا في الأصل ، والصحيح : « لا تنزونّ » أي لا تثبنّ.

(٣) أنساب الأشراف ٢ : ١٤٩.

(٤) حياة الإمام الحسن عليه‌السلام ١ : ٣٨٤ ـ ٣٨٥.

٢٥

أرأيتم هذه الاستهانة والتحقير؟ فإنّ الله تعالى بالمرصاد لكلّ ظالم منحرف عن الطريق القويم.

إنّ هؤلاء القعّاد على علم أنّ الإمام عليه‌السلام أولى بمقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأحقّ بمركزه من بعد وفاته مباشرة ، وذلك لسابقته إلى الإسلام ، وجهاده في قمع أئمّة الكفر والضلالة ، بالاضافة إلى مواهبه وعبقرياته ، ولكن الأهواء باعدت بين القوم وبين دينهم ، فناصبوه العداء ، وأزالوه عن مركزه ومقامه ، وقال فيهم الإمام أولئك قوم قصدوا عن الحقّ (١).

مصادرة الأموال المنهوبة :

وأوّل عمل باشره الإمام بعد توليته للخلافة أنّه أصدر قراره الحاسم بمصادرة القطائع التي أقطعها عثمان لبني اميّة وغيرهم ، واسترجاع الأموال الهائلة التي وهبها لهم ؛ لأنّها اخذت بغير وجه مشروع ، وقد صودرت أموال عثمان حتى سيفه ودرعه ، وفي ذلك يقول الوليد بن عقبة مخاطبا بني هاشم :

بني هاشم ردّوا سلاح ابن اختكم

ولا تنهبوه لا تحلّ مناهبه

بني هاشم كيف الهوادة بيننا

وعند عليّ درعه ونجائبه

بني هاشم كيف التودّد منكم

وبزّ ابن أروى فيكم وحرائبه

بني هاشم إلاّ تردّوا فإنّنا

سواء علينا قاتلاه وسالبه

بني هاشم إنّا وما كان منكم

كصدع الصفا لا يشعب الصدع شاعبه

قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه

كما غدرت يوما بكسرى مرازبه

وحكت هذه الأبيات لوعة الأمويّين وخوفهم من مصادرة أموالهم

__________________

(١) الرياض النضرة ٢ : ٣٢٤.

٢٦

وممتلكاتهم التي استأثروا بها بغير وجه مشروع .. وشاعت هذه الأبيات بين الناس فردّ عليه عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بأبيات منها :

فلا تسألونا سيفكم إنّ سيفكم

اضيع وألقاه لدى الروع صاحبه

وشبّهته كسرى وقد كان مثله

شبيها بكسرى هديه وضرائبه (١)

ومعنى هذا الشعر أنّه ليس للأمويّين المطالبة بسيف عثمان ولا بما اخذ منه لأنّ السلطة الشرعية قد صادرته بحقّ ، كما أنّ الشاعر قد صادق الوليد في تشبيهه لعثمان بكسرى فقد كان مثله في هديه وسلوكه.

وعلى أي حال فقد كانت هذه الإجراءات العادلة التي اتّخذها الامام ضدّ الأمويّين متّفقة مع قواعد الشرع ، فإنّ تلك الأموال التي اختصّ بها عثمان وبنو اميّة كانت من بيت مال المسلمين ، وقد أخذت بغير وجه مشروع ، فالواجب على الحاكم الشرعي إرجاعها إلى بيت المال ..

وقد أثارت هذه السياسة سخط الأمويّين وفزعهم ، كما أثارت فزع الذين منحهم عثمان الأموال الهائلة ، فقد أوجس خيفة في نفسه كلّ من طلحة والزبير وغيرهما ممّن وهبهم عثمان الثراء العريض. وقد كتب عمرو بن العاص إلى معاوية رسالة جاء فيها :

ما كنت صانعا فاصنع إذا قشّرك ابن أبي طالب من كلّ مال تملكه ، كما تقشّر عن العصا لحاها ..

لقد خافت الفئة التي غرقت بالأموال من حكم الإمام بمصادرتها ومصادرة كلّ مال نهب من أموال المسلمين .. ولهذا السبب وغيره أظهرت هذه القوى النفعية بوادر الشقاق والبغي ، وأعلنت العصيان المسلّح ضدّ حكومة الإمام.

__________________

(١) حياة الإمام الحسن عليه‌السلام ١ : ٣٨٥.

٢٧

عزل الولاة :

وثمّة إجراء آخر قام به الإمام ضدّ حكومة عثمان ، فقد بادر إلى عزل ولاته واحدا بعد واحد ممّن أظهروا الجور والفساد في الأرض ، فقد أقصى جميع الأمويّين عن جهاز دولته لأنّ إبقاءهم في مناصبهم إقرار للظلم والطغيان ، وقد عزل بالفور معاوية بن أبي سفيان الذي هو من أعظم ولاة عمر وعثمان ، وقد نصحه جماعة من المخلصين له بإبقائه على عمله حتى تستقرّ الأوضاع ، فأبى وامتنع من المداهنة في دينه ، وقد دخل عليه زياد بن حنظلة ليعرف رأيه في معاوية فقال له الإمام :

لأي شيء يا أمير المؤمنين نغزوا الشام؟ .. الرفق والأناة أمثل ..

فأجابه الإمام :

« متى تجمع القلب الذّكيّ وصارما

و أنفا حميا تجتنبك المظالم »

وعبأ جنوده لغزو الشام ، والقضاء على معاوية إلاّ أنّه فوجئ بتمرّد طلحة والزبير وعائشة ، فانشغل بهم ، وانصرف إلى البصرة لانقاذها منهم.

سياسته الداخلية :

وأجهد الإمام نفسه على أن يسوس الناس بسياسة مشرقة قوامها العدل الخالص ، والحقّ المحض ، وينشر الرفاه والأمن ، ويوزّع الخيرات على العباد بالسواء ، فلا يختصّ بها قوم دون آخرين ..

وهذه شذرات من سياسته الداخلية :

المساواة :

وتبنّى الإمام عليه‌السلام في جميع مراحل حكمه المساواة والعدالة بين الناس ، فلا امتياز لأي أحد على غيره ، وهذه بعض مظاهر مساواته :

٢٨

١ ـ المساواة في العطاء :

وساوى الإمام عليه‌السلام في العطاء بين المسلمين وغيرهم ، فلم يقدّم عربيا على غيره ، ولا مسلما على مسيحي (١) ، ولا قريبا على غيره ، وسنتحدّث عن كثير من مساواته في العطاء الأمر الذي نجم منه أنّه تنكّرت له الأوساط الرأسمالية وأعلنوا الحرب عليه.

٢ ـ المساواة أمام القانون :

وألزم الإمام عمّاله وولاته على الأقطار بتطبيق المساواة الكاملة بين الناس في القضاء وغيره ، قال عليه‌السلام في إحدى رسائله إلى بعض عمّاله :

« فاخفض لهم جناحك ، وألن لهم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، واس بينهم في اللّحظة والنّظرة ، حتّى لا يطمع العظماء في حيفك لهم ، ولا ييأس الضّعفاء من عدلك ... » (٢).

٣ ـ المساواة في الحقوق والواجبات :

ومن مظاهر المساواة العادلة التي أعلنها الإمام عليه‌السلام المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات ، فلم يفرض حقّا على الضعيف ويعف عن القوي ، بل الكلّ متساوون أمام عدله.

المواساة :

من برامج سياسة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام مواساته للفقراء والضعفاء في جشوبة العيش ومكاره الدهر ، وقد أعلن عن مواساته للشعوب الإسلامية بقوله :

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٩.

(٢) نهج البلاغة ٣ : ٥٦٣.

٢٩

« أأقنع من نفسي بأن يقال : هذا أمير المؤمنين ، ولا أشاركهم في مكاره الدّهر ، أو أكون اسوة لهم في جشوبة العيش! .. ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ...

وحسبك داء أن تبيت ببطنة

وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ »

هذه مواساته للمحرومين والفقراء ، وليس في تاريخ الإسلام وغيره حاكم واسى رعيّته في آلامهم وبؤسهم وفقرهم غيره.

إلغاء التفاخر بالآباء :

ونهى الإمام عليه‌السلام رعيّته عن التفاخر بالآباء والأجداد والمباهات بالبنين والأموال (١) ، وغير ذلك من التفاخر بما يؤول أمره إلى التراب.

إنّ التفاخر والتفاضل إنّما هو بعمل الخير ، وما يسديه الإنسان لوطنه وامّته من ألطاف ينتعش بها الجميع وتتطوّر بها حياتهم الفكرية والاجتماعية ، أمّا غير ذلك فهو من الفضول الذي ليس وراءه إلاّ السراب.

منع الشطرنج :

ومنع الإمام في دور حكومته من اللعب بالشطرنج ، فقد مرّ على قوم يلعبون به فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ، وقلب الرقعة عليهم (٢).

نهيه عن الجلوس في الطريق :

ومنع عليه‌السلام الناس في الكوفة من الجلوس على ظهر الطريق ؛ لأنّه مظنّة للتعرّض لأعراض الناس ، فكلّمه الكوفيون في ذلك فقال لهم :

« أدعكم على شريطة؟ ».

__________________

(١) خزانة الأدب ٣ : ٥٩.

(٢) الفروسية ـ ابن الجوزي : ٧٣.

٣٠

قالوا : وما هي يا أمير المؤمنين؟

قال : « غضّ الأبصار ، وردّ السّلام ، وإرشاد الضّالّ » ، قالوا قد قبلنا فتركهم.

حرقه لمحلاّت الخمر :

أمّا الخمر فإنّه من الجرائم التي تصدّ عن ذكر الله وتلقي الناس في شرّ عظيم ، وقد اتّخذ الإمام جميع الإجراءات لمنع انتشاره بين الناس ، وقد حرق الإمام قرية من قرى الكوفة يباع فيها الخمر.

إحداثه للسجن :

والإمام هو أوّل خليفة أحدث السجن ، وقد بنى سجنا يسمّى نافعا ، ولم يكن بناؤه محكما ، فكان السجناء يخرجون منه ، فهدّمه وبنى سجنا سمّاه نحيسا وقال :

« ألا تراني كيّسا مكيسا؟

بنيت بعد نافع نحيسا

حصنا حصينا وأميرا كيسا »

انشاؤه بيتا للمظالم :

وأنشأ الإمام بيتا للمظالم أنشاه للذين لا يتمكّنون من الوصول إلى السلطة ، وكان عليه‌السلام يشرف عليه بنفسه ولا يدع أحدا يصل إليه فيطّلع على الرقاع ، ويبعث خلف المظلوم ويأخذ بحقّه من الظالم ، ولمّا صارت واقعة النهروان ورجع إلى الكوفة فتح باب البيت فوجد الرقاع كلّها مليئة بسبابه وشتمه ، فألغى ذلك البيت (١).

شرطة الخميس :

وأحدث الإمام عليه‌السلام جهازا للمحافظة على الأمن ومراقبة الأحداث ، وقد سمّاه ( شرطة الخميس ) ، وقد اختار لها خيرة الرجال في إيمانهم وتحرّجهم في الدين ،

__________________

(١) صبح الأعشى ١ : ٤٧١.

٣١

وكان منهم المجاهد الشهيد حبيب بن مظاهر وعفاق بن المسيح الفزاري (١).

مع رجل طويل الذيل :

رأى الإمام عليه‌السلام رجلا طويل الذيل في لباسه فقال عليه‌السلام :

« يا هذا ، قصّر من هذا ، فإنّه أنقى ، وأبقى ، وأتقى » (٢).

تقديمه لقنبر عليه :

وكان من مظاهر عدله وسموّ ذاته أنّه قدّم خادمه قنبرا على نفسه في لباسه وطعامه ، فقد اشترى ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم والآخر بدرهمين ، فقال لقنبر : خذ الثوب الذي بثلاثة دراهم ، فقال قنبر :

أنت أولى به يا أمير المؤمنين ، أنت تصعد المنبر وتخطب؟ فقال عليه‌السلام :

« يا قنبر ، أنت شابّ ، ولك شره الشّباب ، وأنا استحي من ربّي أن اتفضّل عليك .. » (٣).

أمره بكتابة الحوائج :

وأصدر الإمام عليه‌السلام مرسوما بكتابة الحوائج وعدم ذكر أسمائهم ، فقد قال عليه‌السلام لأصحابه :

« من كانت له إليّ منكم حاجة فليرفعها في كتاب لأصون وجوهكم من المسألة » (٤).

__________________

(١) خزانة الأدب ٧ : ١٣٠.

(٢) التمثيل والمحاضرة : ٢٨٤.

(٣) الغارات ١ : ٩٩.

(٤) العقد الفريد ١ : ٢٣٨.

٣٢

مدير شرطة الإمام :

أمّا مدير شرطة الإمام فهو من خيار الرجال ، وهو معقل بن قيس الرياحي (١).

كاتبه :

أمّا كاتبه فهو سعيد بن نمران سيّد همدان (٢) ، وكان الإمام يقول للكاتب : « فرّج ما بين السّطور ، وقرّب بين الحروف » (٣).

ومن الجدير بالذكر أنّ الخلفاء الذين سبقوا الإمام كانوا يستكتبون بعض الأشخاص من الذين خانوهم ، فكان مروان كاتبا لعثمان وقد خانه ، وهو الذي أشعل الرعية حربا عليه ، ولكن لمّا آل الأمر إلى عليّ اشتدّ في الأمر ، وبذل المزيد من الاهتمام بما لم ير مثله (٤).

وكان من كتّابه عبيد الله بن أبي رافع مولى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٥).

الصراحة والصدق :

والشيء البارز في سياسة الإمام عليه‌السلام التزام الصراحة والصدق في جميع شئون حياته ، فلم يوارب ولم يخادع ولم يداهن في دينه ، وسار على منهج أخيه وابن عمّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو أنّه التزم بالأعراف السياسية السائدة في عصره وغيره لمّا آلت الخلافة إلى عثمان بن عفّان ، فقد ألحّ عليه عبد الرحمن بن عوف أن يبايعه شريطة أن يسير بسيرة الشيخين ، فامتنع من إجابته ، وصارحه أنّه يسوس الأمّة بمنهاج الكتاب والسنّة وليس غيرهما رصيدا يستند إليه في عالم السياسة والحكم ، لقد أبى

__________________

(١) المجد : ٣٧٣.

(٢) المجد : ٣٧٧. لطائف المعارف : ٥٩.

(٣) تاج العروس ٥ : ٢٠٤.

(٤) رسائل الجاحظ ٢ : ١٨٩.

(٥) صبح الأعشى ١ : ١٢٦.

٣٣

ضميره الحيّ أن يخادع أو يماكر في سبيل الوصول إلى السلطة ، فقد زهد فيها ، وتنكّر لجميع مغرياتها ، وكان كثيرا ما يتنفّس الصعداء من الآلام المحيطة به من جرّاء خصومة القرشيين ، فكان يقول :

« وا ويلاه! يمكرون بي ، ويعلمون أنّي بمكرهم عالم ، وأعرف منهم بوجوه المكر ، ولكنّي أعلم أنّ المكر والخديعة في النّار ، فأصبر على مكرهم ولا أرتكب مثل ما ارتكبوا » (١).

وردّ على من قال فيه إنّه لا دراية له بالشؤون السياسة وإنّ معاوية خبير بها قال عليه‌السلام :

« والله! ما معاوية بأدهى منّي ، ولكنّه يغدر ويفجر. ولو لا كراهية الغدر لكنت من أدهى النّاس » (٢).

وأنكر على بعض الناس الذين يتوسّلون ويستخدمون جميع الوسائل للوصول إلى الحكم ، وقد برّروا ذلك بأنّها حيلة منهم قال عليه‌السلام :

« وما يغدر من علم كيف المرجع. ولقد أصبحنا في زمان قد اتّخذ أكثر أهله الغدر كيسا ، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة. ما لهم! قاتلهم الله! قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه ، فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها ، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدّين (٣).

على هذا الخلق الرفيع بنى الإمام سياسته الرشيدة التي لا التواء ولا خداع فيها ، والتي كانت السبب في خلوده في جميع الأجيال والآباد.

__________________

(١) جامع السعادات ١ : ٢٠٢.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٢٠ : ٢٠٦.

(٣) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ١ : ٤٢٣.

٣٤

إلغاء المهرجانات الشعبية :

ولم يحفل الإمام عليه‌السلام بالمهرجانات الشعبية ونفر منها ، وكان من ذلك أنّه لمّا قدم من حرب الجمل واجتاز على المدائن خرج أهلها لاستقباله ، وعلت زغردة النساء ، وذهل الإمام من ذلك فسألهم عن مهرجانهم ، فقالوا له : إنّا نستقبل ملوكنا بمثل ذلك ، فقال لهم الإمام بما مضمونه : إنّه ليس ملكا وإنّما هو كأحدهم ، يقيم فيهم الحقّ والعدل ، ولم ينصرف عن مكانه حتى انصرف الناس إلى أعمالهم.

إقامة الحدّ على النجاشي :

كان النجاشي شاعرا رقيقا في نظمه ، موهوبا في أدبه ، وهو من شعراء الإمام عليه‌السلام ، والشعراء في تلك العصور ألسنة الأمّة ، ووسائل إعلامها ، وقد شرب النجاشي الخمر في شهر رمضان ، فقد أغراه أبو سمّال العدويّ ، وقال له : ما تقول في رءوس حملان في كرش في تنوّر قد أينع من أوّل الليل إلى آخره؟ فقال له النجاشي : ويحك! في شهر رمضان تقول هذا؟ فقال له : ما شهر رمضان وشوّال إلاّ سواء ، وقال له النجاشي : فما تسقيني عليه؟ قال : شرابا كأنّه الورس يطيّب النفس ويجري في العظام ويسهّل الكلام ، ودخلا المنزل فأكلا وشربا ، فلمّا أخذ الشراب منهما مأخذا تفاخرا ، وعلت أصواتهما ، فسمع جار صوتهما فسارع إلى الإمام فأخبره ، فأرسل للقبض عليهما بعض شرطته ، فأمّا أبو سمّال فقد هرب ولم يقبض عليه ، وأمّا النجاشي فقد قبضت عليه الشرطة وجاءت به مخفورا إلى الإمام فقال له :

« ويحك! إنّنا صيام وأنت مفطر؟ ».

ثمّ أمر أن يضرب ثمانين سوطا ، وزاده عشرين سوطا ، فقال النجاشي :

ما هذه الزيادة يا أبا الحسن؟ ..

فقال عليه‌السلام : « لجرأتك على الله في شهر رمضان » ، ثمّ رفعه إلى الناس في

٣٥

تبّان (١) ، وذلك لإهانته حتى يرتدع الناس من شرب الخمر ، ولم يقم أي وزن لمدح النجاشي له ، ومن جيّد شعره في الإمام قوله مخاطبا معاوية :

واعلم بأنّ عليّ الخير من بشر

شمّ العرانين لا يعلوهم بشر

نعم الفتى هو إلاّ أنّ بينكما

كما تفاضل نور الشّمس والقمر

وما أظنّك إلاّ لست منتهيا

حتّى يمسّك من أظفارهم ظفر

إنّي امرؤ قلّما اثني على أحد

حتّى أرى بعض ما يأتي وما يذر

لا تحمدنّ امرأ حتّى تجرّبه

ولا تذمّنّ من لم يبله الخبر (٢)

سياسته المالية :

كان للإمام عليه‌السلام منهج خاصّ متميّز في سياسته المالية ، ومن أبرز مناهجه أنّه كان يرى المال الذي تملكه الدولة مال الله تعالى ومال المسلمين ، ويجب إنفاقه على تطوير حياتهم ، وإنقاذهم من غائلة البؤس والحاجة ، ولا يختصّ ذلك بالمسلمين ، وإنّما يعمّ جميع من سكن بلاد المسلمين من اليهود والنصارى والصابئة ، فإنّ لهم الحقّ فيها كما للمسلمين ، وقد تقدّم في البحوث السابقة ما يدعم ذلك. كان الإمام عليه‌السلام يرى الفقر كارثة اجتماعية مدمّرة يجب القضاء عليه بجميع الوسائل ، وقد اثر عنه أنّه لو كان رجلا لأجهز عليه ..

ونلمّح ـ بإيجاز ـ إلى بعض معالم سياسته المالية :

توزيع المال :

من المناهج في السياسية المالية التي انتهجها الإمام عليه‌السلام في حكومته توزيع الأموال التي تجبى للخزينة المركزية حين وصولها ، فكان يبادر إلى إنفاقها على

__________________

(١) التبّان : سراويل صغيرة تستر العورة فقط يستعملها الملاّحون.

(٢) خزانة الأدب ١ : ٤٢٠.

٣٦

مستحقّيها ، والجهات المختصّة كتعمير الأراضي وإصلاح الري ، الأمر الذي يعود على البلاد بالفائدة ، وكانت هذه سيرته ومنهجه.

ويقول الرواة : إنّ ابن النباح وهو أمين بيت المال جاءه وقال : يا أمير المؤمنين ، امتلأ بيت المال من الصفراء والبيضاء ، فقال عليه‌السلام : « الله أكبر » ، وقام متوكّئا على ابن النباح ، فلمّا انتهى إلى بيت المال قال :

« هذا جناي وخياره فيه

وكلّ جان يده إلى فيه »

ثمّ أمر الإمام عليه‌السلام باتباع الكوفة (١) فحضروا ، ووزّع جميع ما في بيت المال ، وهو يقول : « يا صفراء! ويا بيضاء! غرّي غيري » ولم يبق فيه دينارا ولا درهما ، ثمّ أمر بنضحه ، وصلّى فيه ركعتين (٢) ، وورد إليه مال فقسّمه ، ففضل منه رغيف فقسّمه سبعة أقسام وأعطاها لهم ، كما وردت إليه زقاق من عسل ، فقسّمه عليهم ، ثمّ جمع الأيتام فجعل يطعمهم ما بقي في الزقاق من عسل.

لقد كانت هذه سيرة إمام الحقّ ورائد العدل في الأموال التي تجبى للخزينة المركزية ، ثمّ لا يستأثر بأي شيء منها لا هو ولا أهل بيته.

__________________

(١) هكذا ورد ، والصحيح الأسباع لأنّ الجيش في عهد الإمام عليه‌السلام قد وزّع سباعيا ، وهي :

السبع الأوّل : يضمّ كنانة ، وحلفاءها من الأحابيش وغيرهم وجديلة.

السبع الثاني : يضمّ قضاعة وغسّان وبجيلة وخشعما وكندة وحضرموت والأزد.

السبع الثالث : يضمّ مذحجا وحميرا وهمدان وحلفاءهم ، وهؤلاء قد اتّسموا بالولاء للإمام والكراهية لبني اميّة.

السبع الرابع : ويضمّ تميما وسائر الرباب وحلفاءهم.

السبع الخامس : يضمّ أسدا وغطفان ومحاربا وضبيعة وتغلب.

السبع السادس : يضمّ أيادا وعكا وعبد القيس وأهل هجر والحمراء وهم الفرس.

السبع السابع : ويضمّ طيّا .. جاء ذلك في حياة الإمام الحسين عليه السلام ٢ : ٦٤٥.

(٢) حلية الأولياء ١ : ٨١.

٣٧

المساواة في العطاء :

وانتهج الإمام عليه‌السلام طريقة خاصّة في العطاء ، وهي التسوية بين المسلمين ، فلم يميّز قوما على قوم ، ولا فئة على فئة ، وقد جرت له هذه السياسة الأزمات ، وخلقت له المصاعب ، فقد فسد عليه جيشه وتنكّرت له الوجوه والأعيان ، وناهضته الرأسمالية القرشية التي استأثرت بأموال المسلمين في عهد الخلفاء.

وقد خالف الإمام عليه‌السلام بذلك سياسة عمر التي بنيت على التفاوت بين المسلمين في العطاء فقد فضّل البدريّين على غيرهم ، وفضّل الأنصار على غيرهم ، وبذلك فقد أوجد الطبقيّة والرأسمالية بين المسلمين ..

لقد ألغى الإمام هذه السياسة إلغاء تامّا ، وساوى بين المسلمين كما كان يفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولمّا مني جيش الإمام عليه‌السلام بالانحلال والتخاذل واتّجهوا صوب معاوية سارع ابن عباس نحو الإمام عليه‌السلام فعرض عليه حالة جيشه ، وما يصلحه قائلا :

يا أمير المؤمنين ، فضّل العرب على العجم ، وفضّل قريشا على سائر العرب ..

فرمقه الإمام بطرفه ، وردّ عليه قائلا :

« أتأمرونّي أن أطلب النّصر بالجور؟ ولو كان المال لي لسويت بينهم ، فكيف وإنّما المال مال الله ».

لقد تبنّى هذا العملاق العظيم مصالح البؤساء والمحرومين وآثرهم على كلّ شيء ، فمن مظاهر عدله في مساواته أنّ سيّدة قرشية ، وفدت عليه طالبة منه زيادة مرتبها ، فلمّا انتهت إلى الكوفة لم تهتد إلى محل إقامته ، فسألت سيّدة عنه ، وطلبت منها أن تأتي معها لتدلّها عليه وسارت معها السيّدة ، فسألتها القرشية عن مرتبها فأخبرتها به ، وإذا هو يساوي مرتبها ، وسألتها عن هويّتها فأخبرتها أنّها أعجمية ،

٣٨

فلمّا انتهت إلى الجامع الأعظم الذي يقيم فيه الإمام ، أمسكت بها القرشية ، ولمّا انتهت إلى الإمام أخذت تصيح :

أمن العدل يا ابن أبي طالب أن تساوي بيني وبين هذه الأعجمية؟ فالتاع الإمام منها ، وأخذ قبضة من التراب وجعل يقلّبها بيده وهو يقول :

« لم يك بعض هذا التّراب أفضل من بعض » ، وتلا قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ).

لقد أدّت هذه السياسة المشرقة التي انتهجها الإمام إلى إجماع القوى المنحرفة والباغية على الاطاحة بحكومته وشلّ فعاليّاتها.

يقول المدائني : « إنّ من أهمّ الأسباب التي أدّت إلى تخاذل العرب عن الإمام اتّباعه لمبدإ المساواة حيث كان لا يفضّل شريفا على مشروف في العطاء ولا عربيا على أعجمي » (١)

.إنّ الإنسانية على ما جربت من تجارب ، وبلغت من رقي وإبداع في الأنظمة الاقتصادية التي تسير عليها الدولة ، فإنّها لم تستطع بحال من الأحوال أن تنشئ أو تقيم مثل هذا النظام.

احتياطه في أموال الدولة :

واحتاط الإمام كاشدّ ما يكون الاحتياط في أموال الدولة ، وقد روى المؤرّخون صورا مدهشة من احتياطه فيها كان منها ما يلي :

١ ـ مع عقيل :

وفد عليه عقيل طالبا منه أن يرفّه عليه ويمنحه الصلة ، فأخبره الإمام أنّ ما في

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ١٨٠.

٣٩

بيت المال للمسلمين ، وليس له أن يأخذ منه قليلا ولا كثيرا ، وإذا منحه وأعطاه منه فإنّه يكون خائنا ومختلسا ، وأخذ عقيل يلحّ عليه ويجهد في مطالبته ، فأحمى له الإمام حديدة وأدناها منه ، فظنّ أنّها صرّة فيها مال ، فألقى نفسه عليها ، فلمّا مسّها كاد أن يحترق من ميسمها ، وضجّ ضجيج ذي دنف منها ، فلمّا أفاق أجمع رأيه على الالتحاق بمعاوية لينعم في صلاته وأمواله التي اختلسها من بيت مال المسلمين.

٢ ـ مع الحسن والحسين :

ولم يمنح الإمام أي شيء من بيت المال لسبطي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعاملهما كبقيّة أبناء المسلمين. يقول خالد بن معمر الأوسي لعلياء بن الهيثم وكان من أصحاب الإمام : اتّق الله يا علياء! في عشيرتك ، وانظر لنفسك ولرحمك ، ما ذا تؤمّل عند رجل أردته أن يزيد في عطاء الحسن والحسين دريهمات يسيرة ريثما يرأبان بها ظلف العيش فأبى وغضب فلم يفعل (١)؟

٣ ـ مع عبد الله بن جعفر :

ووفد عبد الله بن جعفر ومعه زوجته عقيلة بني هاشم طالبا منه أن يسعفه بالأموال ، ويهبه الثراء العريض ، فتنكّر له الإمام ، وأعرض عنه ، وخطب خطبة بليغة ذكر فيها ما يريد تحقيقه من إقامة العدل بين الناس ، فتنكّر له القريب والبعيد.

إنّ النظام الاقتصادي الذي أقامه الإمام يهدف إلى إقامة مجتمع متوازن لا تقف فيه الرأسمالية ولا يوجد فيه بائس وفقير ومحروم.

الانتاج الزراعي :

اهتمّ الإمام عليه‌السلام اهتماما بالغا بتنمية المشاريع الزراعية وأولاها المزيد من

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١٠ : ٢٥٠.

٤٠