موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١١

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ١٠٩

يا أمير المؤمنين ، ليس عليك بأس ، إنّما هو خدش ...

فأجابه الإمام آيسا من حياته قائلا :

« إنّي مفارقكم ».

ثمّ اغمي عليه فبكت السيّدة أمّ كلثوم بكاء عاليا ، فانتبه الإمام ، فلمّا رآها تبكي قال لها :

« يا أمّ كلثوم ، لا تؤذيني فإنّك لو ترين ما أرى ، إنّ الملائكة من السّماوات السّبع بعضهم خلف بعض ، والنّبيّين يقولون : انطلق فما أمامك خير لك ممّا أنت فيه » (١).

إنّ ملائكة السماء ـ ومعهم النبيّون ـ يستقبلون روح إمام المتّقين وسيّد العابدين الممتحن والصابر على ما ألمّ به من الأحداث الجسام التي مزّقت قلبه أسى وحزنا ، وكان من أعظمها فجيعة انتصار معاوية الباغي الأثيم ، وافول دولة الحقّ.

٤ ـ صعصعة بن صوحان :

أمّا صعصعة فكان من الأخيار الزاهدين في الدنيا ، والمتحرّجين في دينه ، وكان على اتّصال وثيق بالإمام عليه‌السلام ، وقد هرع لعيادته وقال للرجل الذي يتولّى الإذن بالدخول عليه ، قل له :

يا أمير المؤمنين ، يرحمك الله ، فلقد كنت خفيف المئونة ، كثير المعونة (٢).

ودخل صعصعة على الإمام فرآه يجود بنفسه قد خيّم عليه الموت ، فاضطرب صعصعة ، وودّ أنّ المنية قد وافته ولم يشاهد الإمام بمثل هذه الحالة.

٥ ـ حجر بن عدي :

أمّا حجر بن عدي الشهيد الخالد في دنيا الإسلام فكان من خيار أصحاب

__________________

(١) أمالي الشيخ الطوسي : ١٢٣.

(٢) مقاتل الطالبيّين : ٥٠.

٢٦١

الإمام ، ومن أكثرهم ولاء وإخلاصا له ، وقد استولى عليه الحزن ، فدخل على الإمام وهو يقول بذوب روحه :

فيا أسفي على المولى التّقيّ

أبي الأطهار حيدرة الزّكيّ

ولمّا بصر به الإمام قال له برفق وعطف :

« كيف بك ـ يا حجر ـ إذا دعيت إلى البراءة منّي فما عساك أن تقول ...؟ ».

وانبرى حجر بإيمان وصدق قائلا :

والله! يا أمير المؤمنين لو قطّعت بالسيف إربا إربا ، واضرم لي النار ، والقيت فيها لآثرت ذلك على البراءة منك.

فشكره الإمام على ولائه وإخلاصه ، وقال له :

« وفّقت لكلّ خير يا حجر! جزاك الله خيرا عن أهل بيت نبيّك » (١).

وصدق حجر فيما عاهد عليه الإمام ، فقد أخلص له كأعظم ما يكون الإخلاص ، فقد طلب منه ابن هند معاوية البراءة من الإمام فلم يجبه ، فنفّذ فيه الإعدام في مرج عذراء ، وكانت شهادته من الأحداث الجسام في ذلك العصر.

٦ ـ الإذن للناس لعيادته :

وأذن الإمام عليه‌السلام للناس إذنا عامّا لعيادته ليتزوّدوا بالنظر إليه قبل رحيله إلى دار الحقّ ، وازدحمت الجماهير على عيادة الإمام ، وهم يذرفون الدموع ويندبون حظّهم التعيس على ما فرّطوا في عصيانهم للإمام ، فقد خسروا القائد والمربّي الذي كان يحنو عليهم ويعطف ، والتفت إليهم وهو يعاني الآلام القاسية قائلا :

« سلوني قبل أن تفقدوني ، وخفّفوا سؤالكم لمصيبة إمامكم » (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٢ : ٢٩٠.

(٢) بحار الأنوار ٤٢ : ٢٩٠.

٢٦٢

وكان ذلك من حبّه العارم لإشاعة العلم وإقصاء الجهل ، وأحجم الناس أن يسألوه ، وذلك لما يعانيه من آلام الضربة الغادرة.

الإمام يطلب اللبن :

وطلب الإمام عليه‌السلام من أهل بيته أن يأتوه بلبن لأنّه يقاوم السمّ الذي سرى في بدنه من سيف ابن ملجم الذي سمّه بألف درهم ، واتي الإمام بقعب فيه لبن فشربه كلّه ، ثمّ تذكّر الرجس الخبيث ابن ملجم ، وأنّه لم يترك له من اللبن شيئا ، فقال عليه‌السلام :

« وكان أمر الله قدرا مقدورا ، اعلموا أنّي شربت الجميع ، ولم ابق لأسيركم شيئا إلاّ أنّه آخر رزقي من الدّنيا ، فبالله! عليكم إلاّ ما سقيتموه مثل ما شربت » ، فحمل إليه مثل ذا اللبن فشربه الباغي اللئيم (١).

وهكذا تمثّلت الرحمة الإلهيّة في وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وباب مدينة علمه ، فقد رفق وأحسن حتى لقاتله.

إقامته للإمام الحسن من بعده :

ولمّا علم الإمام عليه‌السلام أنّه مفارق لهذه الدنيا أقام ولده الزكي الإمام الحسن عليه‌السلام خليفة من بعده ، فقد ذكر ثقة الإسلام الحجّة الكليني نضّر الله مثواه أنّ أمير المؤمنين أوصى إلى الحسن ، وأشهد على وصيّته الإمام الحسين عليه‌السلام وولده محمّدا وجميع ولده ورؤساء شيعته ، وأهل بيته ، ودفع إليه الكتب والسلاح وقال له :

« يا بنيّ ، أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن اوصي إليك وأن ادفع إليك كتبي وسلاحي ، كما أوصى إليّ رسول الله ودفع إليّ كتبه وسلاحه ، وأمرني أن آمرك

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٢ : ٢٩٠.

٢٦٣

إذا حضرك الموت أن تدفع ذلك إلى أخيك الحسين » (١).

وهكذا أقام ولده الزكي ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علما ومرجعا وإماما للأمّة من بعده ، ولكنّ الظروف السيّئة التي أحاطت بالإمام عليه‌السلام هي التي ألجأته إلى الصلح ولولاه لواجهت الأمّة أزمات خطيرة ، وقد عرضنا لذلك في كتابنا حياة الإمام الحسن عليه‌السلام.

رواية موضوعة :

ذهب جماعة من الكتّاب كان منهم عميد الأدب العربي طه حسين (٢) إلى أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يعهد بالخلافة إلى ولده الزكي الإمام الحسن عليه‌السلام وأنّه لم يرشّحه لقيادة الامّة من بعده مستدلّين على ذلك بما رواه شعيب بن ميمون الواسطي (٣) أنّ عليّا قيل له : ألا تستخلف؟

فقال : إن يرد الله بالأمّة خيرا يجمعهم على خيرهم ، وهذه الرواية من موضوعات شعيب ومن مناكيره كما نصّ على ذلك ابن حجر (٤).

إنّ الإمام الحسن عليه‌السلام ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيّد شباب أهل الجنة ، وإمام إن قام أو قعد ـ على حدّ تعبير جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بالاضافة إلى توفّر جميع صفات

__________________

(١) اصول الكافي ١ : ٢٩٧ ـ ٢٩٨.

(٢) إسلاميات / الفتنة الكبرى : ٩٦٩.

(٣) شعيب بن ميمون الواسطي صاحب البزور قال أبو حاتم : مجهول ، وكذا قال العجلي.

وقال البخاري : فيه نظر.

وقال ابن حبّان : يروي المناكير عن المشاهير على قلّته لا يحتجّ به إذا انفرد ـ تهذيب التهذيب ٤ : ٣٥٧.

(٤) تهذيب التهذيب ٤ : ٣٥٧ ، وجاء فيه : ومن مناكيره عن حصين عن الشعبي عن أبي وائل قال : قيل لعليّ ألا تستخلف .. الرواية.

٢٦٤

القيادة العامّة فيه ، فكيف لا يرشّحه الإمام للإمامة من بعده (١)؟

إلى الفردوس الأعلى :

وفي ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان التي قيل إنّها ليلة القدر اشتدّت الآلام القاسية بالإمام عليه‌السلام فقد تزايد ولوج السمّ في جسده الشريف ، وقد وصف حالته ولده محمّد بن الحنفية قال :

نظرنا إلى قدميه وقد احمرّتا فكبر ذلك علينا وأيسنا منه ، ثمّ عرضنا عليه المأكول والمشروب فأبى ، ونظرنا إلى شفتيه وهما تختلجان بذكر الله تعالى ، وجعل جبينه يرشح عرقا ، فقال له محمّد (٢):

ما لي أراك يرشح جبينك عرقا؟

فأجابه الإمام :

« يا بنيّ ، إنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إنّ المؤمن إذا نزل به الموت عرق جبينه وسكن أنينه ».

ولمّا أحسّ بدنوّ الأجل المحتوم منه أمر بجمع أولاده ليودّعهم الوداع الأخير ، فلمّا مثلوا عنده قال لهم بصوت خافت :

__________________

(١) حياة الإمام الحسن عليه‌السلام ١ : ٥٦٧.

(٢) محمّد بن الحنفية يكنّى أبا القاسم بشّر به النبيّ قبل ولادته ، فقد قال لعليّ : « سيولد لك بعدي غلام قد نحلته اسمي وكنيتي ».

جاء ذلك في نصرة الشعائر على المثل السائر ـ الصفدي : ٧٤.

وفي جامع الاصول ١ : ٢٨٠ أنّ الإمام قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أرأيت إن ولد لي ولد بعدك اسمّيه باسمك واكنّيه بكنيتك؟ قال : نعم ». فلذا سمّاه الإمام محمّدا.

٢٦٥

« الله خليفتي عليكم ، استودعكم الله ».

وتعالت أصوات أولاده بالبكاء ، والتفت إليه ولده الزكي الإمام الحسن عليه‌السلام فقال له : « يا أبة ، ما الذي دعاك إلى هذا؟ ».

« يا بنيّ ، رأيت جدّك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في منامي قبل هذه الكارثة بليلة ، فشكوت إليه ما أنا فيه من التّذلّل والأذى من هذه الأمّة.

فقال لي : ادع عليهم.

فقلت : اللهمّ أبدلهم بي شرّا منّي ، وأبدلني بهم خيرا منهم ...

فقال لي : قد استجاب الله دعاءك ، وسينقلك إلينا بعد ثلاث ، وقد انقضت الثّلاث. يا أبا محمّد ، اوصيك بأبي عبد الله ـ يعني الإمام الحسين ـ خيرا ، فأنتما منّي ، وأنا منكما ».

ثمّ التفت إلى بقيّة أولاده ، وأمرهم أن لا يخالفوا سيّدي شباب أهل الجنّة الإمامين الحسن والحسين ، وأن يطيعوهما ، ثمّ قال لهم :

« أحسن الله لكم العزاء ألا وإنّي منصرف عنكم في ليلتي هذه ، ولاحق بحبيبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كما وعدني ».

ثمّ اغمي عليه ساعة ، فلمّا أفاق قال لولده :

« هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعمّي حمزة ، وأخي جعفر ، وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّهم يقولون : عجّل قدومك علينا فإنّا إليك مشتاقون ... ».

ثمّ قال لهم برفق :

« أستودعكم الله جميعا ، الله خليفتي عليكم وكفى بالله خليفة » ، ثمّ سلّم على ملائكة الله الكرام الذين أحاطوا به لينقلوا روحه المقدّسة إلى الفردوس الأعلى ،

٢٦٦

وأخذ يقرأ آيات من الذّكر الحكيم ، وكان آخر ما نطق به قوله تعالى : ( لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ ) (١) و ( إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ) (٢) ، ثمّ فاضت روحه الطاهرة إلى جنّة المأوى تحفّها ملائكة الله والأنبياء والأوصياء.

لقد سمت تلك الروح العظيمة إلى بارئها لتقدّم إليه ما عاناه من الجهد في سبيل إعلاء كلمة الإسلام ، وما لاقاه من الخطوب من طغاة القرشيّين.

لقد ارتفع إلى الله تعالى ذلك اللطف الإلهي الذي خلقه الله تعالى ليبدّد ظلمات الجهل ، ويطهّر الأرض من أوثان الجاهلية وأرجاسها.

لقد مادت أركان العدالة ، وانطمست معالم الدين ومات أبو الغرباء ، وكهف الأيتام ، وعون الضعفاء.

لقد مضى الإمام إلى جنّة المأوى ، وهو مكدود ، مجهود غارق في الأسى والخطوب ممّا عاناه من أعمدة القرشيّين الذين أبوا أن تجتمع الخلافة والنبوّة في بيت واحد فأقصوه عن مركزه وقيادته للامّة بعد وفاة أخيه وابن عمّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولمّا آلت الخلافة إليه ناجزوه الحرب ، ولا حقوه بضربات موجعة فأفسدوا عليه جيشه ، وتركوه في أرباض الكوفة يصعّد الزفرات والآلام.

__________________

(١) الصافّات : ٦١.

(٢) النحل : ١٢٨.

روت أسماء بنت عميس أن الإمام شهق شهقة ثمّ أغمي عليه ، ثمّ أفاق فقال : « مرحبا مرحبا ، الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الجنّة ».

قيل له : ما ترى؟

قال : « هذا رسول الله وأخي جعفر وعمّي حمزة ، وأبواب السماء مفتّحة ، والملائكة ينزلون يسلّمون عليّ ويبشّرون ، وهذه فاطمة قد طافت بها وصائفها ، وهذه منازلي في الجنّة لمثل هذا فليعمل العاملون ».

جاء ذلك في ربيع الأبرار ٤ : ٢٠٨.

٢٦٧

تجهيزه ودفنه :

وقام الإمام الزكي الحسن عليه‌السلام مع اخوته فغسّلوا الجسد الطاهر ، وطيّبوه بالحنوط الذي جاء به جبرئيل وأدرجوه في أكفانه ، وهم يذرفون أحرّ الدموع ، ولمّا حلّ الهزيع الأخير من الليل حملوا الجثمان المقدّس ، ومعهم كوكبة من خيار المؤمنين فدفنوه في النجف الأشرف حيث مقرّه الآن ، وقد واروا معه العلم والتقى والجهاد ، وببركته أصبحت النجف الأشرف أعظم جامعة دينية في العالم الإسلامي قد تخرّج منها أئمّة الفقه والبلاغة والبيان.

ورجع الإمام الحسن عليه‌السلام مع بقيّة اخوانه إلى بيوتهم وهم غارقون في الأسى والشجون.

القصاص من ابن ملجم :

وفي صبيحة ذلك اليوم الخالد في دنيا الأحزان أمر الإمام الحسن بإحضار المجرم الأثيم عبد الرحمن بن ملجم ، فلمّا مثل أمامه قال له ابن ملجم :

ما الذي أمرك به أبوك؟

أمرني أن لا أقتل غير قاتله ، وأن اشبع بطنك ، وأنعم وطأك ، فإن عاش اقتصّ أو عفا ، وإن مات ألحقتك به ... ».

وبهر الأثيم وراح يقول :

إن كان أبوك ليقول الحقّ ، ويقضي به في حال الغضب والرضا ثمّ إنّ الإمام الحسن ضربه بالسيف فاتّقى الضربة بيده فبدرت ، ثمّ أجهز عليه فقتله (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٩١. تاريخ الطبري ٦ : ٨٦. تاريخ ابن الأثير ٣ : ١٧٠. مقاتل الطالبيّين : ١٦.

٢٦٨

وحلّت على ابن ملجم لعنة الله ولعنة اللاعنين ، ومن ولدوا ومن ماتوا ومن قال الله لهم : كونوا فكانوا!! لعنة تجفّف النبع ، وتخضم الزرع وتحرق النبت في الأرض وهو وسيم ، وجعل الله زفير جهنّم وشهيقها في اصول تكوينه ، وأهلكه ألف شيطان كبوه على وجهه في سواء الجحيم ، وفيها لفح وفيها أفواه من اللهب ذات أجيج وذات صفير (١).

التمثيل بابن ملجم :

ذهب بعض المؤرّخين إلى أنّ أولياء دم الإمام عليه‌السلام قد مثّلوا بالخبيث الدنس ابن ملجم وهذه بعض أقوالهم :

١ ـ إنّ الذي مثّل به الإمام الحسين ومحمّد بن الحنفية ، وقد نهاهما الإمام الحسن عن ذلك فلم يذعنا له (٢).

٢ ـ الذي مثّل به عبد الله بن جعفر (٣).

٣ ـ الإمام الحسن هو الذي مثّل به (٤).

إنّ هذا الاختلاف يزيدنا وضوحا بافتعال التمثيل ، وقد جزم الدكتور طه حسين بصدور التمثيل قال : والشيء المحقّق هو أنّ ولاة الدم لم ينفّذوا وصيّة عليّ في أمر قاتله فهو قد أمرهم أن يلحقوه به ، ولا يعتدوا ولكنّهم مثّلوا به أشنع تمثيل ، فلمّا مات أحرقوه بالنار (٥).

__________________

(١) الإمام عليّ صوت العدالة الإسلامية ٤ : ١٠٣.

(٢) الرياض النضرة ٣ : ٢٠٥.

(٣) تاريخ أبي الفداء ١ : ١٨٠.

(٤) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٥ : ٤٥٢.

(٥) علي وبنوه : ١٨٤.

٢٦٩

إنّ الشيء المحقّق على خلاف ما ذكره الدكتور فإنّ أولياء دم الإمام لم يخالفوا وصيّة الإمام ، وإنّما نفّذوا فيه الإعدام لا غير ، وهم بعيدون كلّ البعد عن اقتراف ما خالف الشريعة الإسلامية مضافا إلى اختلاف المؤرّخين في من قام بالتمثيل وهو ممّا يدلّ على وضع ذلك.

تأبين الإمام :

وانبرى بعض أعلام الإسلام إلى تأبين الإمام وذكر الخسارة العظمى التي مني بها العالم الإسلامي كان منهم :

١ ـ الإمام الحسن عليه‌السلام :

ولمّا وارى الإمام الحسن عليه‌السلام جثمان أبيه المقدّس أقبل إلى الجامع الأعظم في الكوفة وقد احتفّ به اخوانه والبقيّة الصالحة من المهاجرين والأنصار ، فاعتلى أعواد المنبر فابتدأ بحمد الله والثناء عليه ثمّ قال :

« لقد قبض في هذه اللّيلة رجل لم يسبقه الأوّلون بعمل ولم يدركه الآخرون بعمل ، لقد كان يجاهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقيه بنفسه وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوجّهه برايته فيكتنفه جبرئيل عن يمينه ، وميكائيل عن شماله ، لا يرجع حتّى يفتح الله على يديه.

لقد توفّي في هذه اللّيلة الّتي عرج فيها عيسى بن مريم ، وقبض فيها يوشع بن نون وصيّ موسى عليه‌السلام ، وما خلّف صفراء ولا بيضاء إلاّ سبعمائة درهم فضلت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادما لأهله ، وقد أمرني أن أردّها إلى بيت المال » (١).

وتمثّلت صورة أبيه رائد العدالة الكبرى في الأرض فخنقته العبرة ، وأرسل ما

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٤٩٩.

٢٧٠

في عينيه من دموع ، وبكى لبكائه جميع من حضر المجلس ، وساد الحزن وعمّ الأسى ، فقد توفّي الموجّه والمربّي والقائد الذي يحنّ ويعطف عليهم ، ويتبنّى قضاياهم ومصيرهم.

لقد حفل خطاب الإمام الحسن عليه‌السلام لأبيه بما يلي :

١ ـ أنّه أشاد بجهاد أبيه في نصرة الإسلام ، والذبّ عن مبادئه وقيمه ، وأنّه وقى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بمهجته ونفسه.

٢ ـ أنّ الإمام عليه‌السلام لم يسبقه الأوّلون بعمل صالح ، ولا يدركه الآخرون كذلك ، وتمثّلت بهذه الكلمة بلاغة الإعجاز وروعة الايجاز فقد حكت أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أسمى شخصية في الأرض لم يصل إلى ما وصل إليه من الفضائل لا الأوّلون ولا الآخرون عدا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٣ ـ أنّ الإمام عليه‌السلام قد ارتحل إلى حظيرة القدس في أفضل ليلة ، وهي الليلة التي عرج فيها عيسى بن مريم إلى السماء ويوشع بن نون وصيّ موسى ، فما أعظمها حتى قيل إنّها من ليالي القدر.

٤ ـ أنّ الإمام الحسن عليه‌السلام أعرب عن زهد أبيه حينما تقلّد الخلافة الإسلامية ، فإنّه لم يترك صفراء ولا بيضاء ، ولا دارا ولا عقارا ، وتحرّج كأشدّ ما يكون التحرّج في أموال الدولة فلم يصطف لنفسه ، ولا لأبنائه أي شيء منها ، ورفض رفضا كاملا جميع متع الحياة وملاذها.

٢ ـ صعصعة :

ووقف صعصعة بن صوحان على حافة قبر الإمام ، وهو حيران قد أذهله الخطب ، واضعا إحدى يديه على فؤاده ، والاخرى قد ملأها ترابا ، وهو يضرب بها على رأسه وهو يقول :

٢٧١

بأبي أنت وأمّي يا أمير المؤمنين! هنيئا لك يا أبا الحسن ، فلقد طاب مولدك ، وقوي صبرك ، وعظم جهادك ، وظفرت برأيك ، وربحت تجارتك ، وقدمت على خالقك ، فتلقّاك الله ببشارته ، وحفّتك ملائكته ، واستقررت في جوار المصطفى ، فأكرمك الله بجواره ، ولحقت بدرجة أخيك المصطفى ، وشربت بكأسه الأوفى ، فأسأل الله أن يمنّ علينا باقتفائنا أثرك ، والعمل بسيرتك ، والموالاة لأوليائك ، والمعاداة لأعدائك ، وأن يحشرنا في زمرة أوليائك فقد نلت ما لم ينله أحد ، وأدركت ما لم يدركه أحد ، وجاهدت في سبيل ربّك بين يدي أخيك المصطفى حقّ جهاده ، وقمت بدين الله حقّ القيام حتّى أقمت السنن ، وأبرت الفتن ، واستقام الإسلام ، وانتظم الإيمان ، فعليك منّي أفضل الصلاة والسلام ، بك اشتدّ ظهر المؤمنين ، واتّضحت أعلام السبل ، واقيمت السنن ، وما جمع لأحد مناقبك وخصالك ، سبقت إلى إجابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مقدّما مؤثرا ، وسارعت إلى نصرته ، ووقيته بنفسك ، ورميت سيفك ذا الفقار في مواطن الخوف والحذر ، قصم الله بك كلّ جبّار عنيد ، وذلّ بك كلّ ذي بأس شديد وهدم بك حصون أهل الشرك والكفر والعدوان والردى ، وقتل بك أهل الضلال من العدى ، فهنيئا لك ، كنت أقرب الناس من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قربا وأوّلهم سلما ، وأكثرهم علما وفهما.

فهنيئا لك يا أبا الحسن! لقد شرّف الله مقامك ، وكنت أقرب الناس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نسبا ، وأوّلهم إسلاما ، وأوفاهم يقينا ، وأشدّهم قلبا ، وأبذلهم لنفسه مجاهدا ، وأعظمهم في الخير نصيبا ، فلا حرمنا الله أجرك ، ولا أذلّنا بعدك ، فو الله! لقد كانت حياتك مفتاحا للخير ، ومغلاقا للشرّ ، وإنّ يومك هذا مفتاح كلّ شرّ ، ومغلاق كلّ خير ، ولو أنّ الناس قبلوا منك لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، ولكنّهم آثروا الدنيا على الآخرة ... (١).

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٢ : ٢٩٥ ـ ٢٩٦.

٢٧٢

حكى هذا التأبين معرفة صعصعة بالإمام عليه‌السلام وإحاطته ببعض مآثره وفضائله ، التي منها جهاده في سبيل الله ، ونصرته لدينه حتى استقام على سوقه عبل الذراع ، فما أعظم عائدته على الإسلام والمسلمين ، كما حكى تأبين صعصعة للإمام الخسارة العظمى التي مني بها العالم الإسلامي بفقده للإمام رائد الحقّ والعدل في دنيا الإسلام.

٣ ـ ابن عبّاس :

ووقف ابن عبّاس وهو خائر القوى على ضريح الإمام وهو يندبه بذوب روحه قائلا :

وا أسفاه على أبي الحسن! ملك ـ والله! ـ فما غيّر ولا بدّل ولا قصّر ، ولا جمع ، ولا منع ، ولا آثر ، ولقد كانت الدنيا أهون عليه من شسع نعله ، ليث في الوغى ، بحر في المجالس ، حكيم الحكماء ، هيهات قد مضى في الدرجات العلى ... (١).

أشادت هذه الكلمات الذهبية التي أدلى بها حبر الامّة عبد الله بن عباس بمآثر الإمام والتي منها :

أوّلا ـ أنّها ألقت الأضواء على المعالم المشرقة لسياسة الإمام عليه‌السلام أيام حكمه ، وكان البارز منها ما يلي :

١ ـ أنّ الإمام حينما استولى على الحكم لم يغيّر ، ولم يبدّل أي حكم من كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه ، وإنّما سار على المنهاج الكامل الذي سنّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢ ـ ولم يقصّر الإمام في أي شأن من شئون الدولة ، وإنّما سار فيها سيرا سجحا

__________________

(١) مقتل الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ ابن أبي الدنيا : ١٠٩.

٢٧٣

لا التواء ولا منعطفات فيه.

٣ ـ ولم يجمع الإمام أي شيء من أموال الدولة ، ولم يدّخر لنفسه ولا لبنيه لا قليلا ولا كثيرا ، فقد احتاط كأشدّ ما يكون الاحتياط فيها.

٤ ـ ولم يمنع الإمام عليه‌السلام أي مواطن من عطائه ، حتّى أعداءه الذين ناهضوه ، فقد منحهم العطاء ، ولم يحرمهم منه.

٥ ـ ولم يؤثر الإمام عليه‌السلام أي أحد من أبنائه وذويه بأي شيء من أموال الدولة.

ثانيا ـ حكت هذه الكلمات زهد الإمام عليه‌السلام ، فقد كانت الدنيا لا تساوي شسع نعله.

ثالثا ـ أشارت هذه الكلمة إلى شجاعة الإمام ، وأنّه لا يساويه أحد في هذه الظاهرة ، فقد كان ليثا في الحروب التي أثارتها قريش على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد حصد رءوس أعلامهم ، وترك الحزن والحداد في بيوتهم.

رابعا : أشار ابن عباس إلى سعة علوم الإمام ومعارفه ، وأنّه بحر لا يدرك قعره.

خامسا : ومن محتويات هذه الكلمات القيّمة أنّ الإمام عليه‌السلام حكيم الحكماء ، فقد بلغ من الحكمة ما لم يبلغه أي أحد قبله ولا بعده سوى أخيه وابن عمّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٤ ـ رجل من تميم :

وألقى رجل من تميم على جثمان الإمام المقدّس هذه الكلمة قال :

رحمك الله يا أمير المؤمنين! فلئن كانت حياتك مفتاح خير ومغلاق شرّ ، كنت للناس علما منيرا يعرف به الهدى من الضلالة ، والخير من الشرّ ، فإنّ وفاتك

٢٧٤

لمفتاح شرّ ، ومغلاق خير ، وأنّ فقدانك لحسرة وندامة ، ولو أنّ الناس قبلوك لأكلوا من فوق رءوسهم ومن تحت أرجلهم ، ولكنّهم اختاروا الدنيا على الآخرة فأصبحوا بعدك حيارى في سبيل المطالب ، قد غلب عليهم الشقاء ، والداء العياء ، فهم ينتقضونها كما ينتقض الحبل من برمه ، فتبّا لهم خلفا تقبّلوا سخفا ، وباعوا كثيرا بقليل ، وجزيلا بيسير ، فكرّم الله مآبك ، وضاعف ثوابك ، وعليك السلام ورحمة الله وبركاته (١).

ألمحت هذه الكلمة إلى أنّ حياة الإمام عليه‌السلام كانت مفتاح خير وشرف وكرامة للامّة العربية والإسلامية ، فقد كان هذا الإمام الملهم العظيم من مصادر الرحمة والفيض ، وكان هبة من الله لعباده ولو أنّ المسلمين حالفهم التوفيق لثنيت له الوسادة وتسلّم قيادة الامّة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة ، ولكنّ الأضغان والأحقاد وكراهة قريش أن تجتمع النبوّة والخلافة في بيت واحد هي التي حرمت المسلمين من التمتّع بمواهب هذا الإمام وعدله.

٥ ـ القعقاع :

ووقف القعقاع بن معبد بن زرارة التميمي على حافّة القبر الشريف وأخذ يصوغ من حزنه ولوعته على فقد الإمام قائلا :

رضوان الله عليك يا أمير المؤمنين! فو الله! لقد كانت حياتك مفتاح خير ، ولو أنّ الناس قبلوك لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، ولكنّهم غمطوا النعمة ، وآثروا الدنيا على الآخرة (٢).

إنّ حياة الإمام مصدر هداية ورحمة وخير إلى الناس أجمعين ، ولو أنّ الأمور

__________________

(١) مقتل الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ ابن أبي الدنيا : ١٠٩.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٠٣.

٢٧٥

استقامت للإمام بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لعمّ الخير ، وسادت القيم التي جاء بها الإسلام ، وما مني المسلمون بالكوارث والخطوب.

٦ ـ أبو الأسود الدؤلي :

ولمّا انتهى نعي الإمام عليه‌السلام إلى أبي الأسود الدؤلي ، وتقلّد الإمام الحسن عليه‌السلام للخلافة خطب خطبة بليغة أبّن فيها الإمام ، وأشاد بولده الإمام الحسن عليه‌السلام ، وكان من بنود خطبته ما يلي :

إنّ رجلا من أعداء الله المارقة عن دينه اغتال أمير المؤمنين عليّا ـ كرّم الله وجهه ومثواه ـ في مسجده وهو خارج لتهجّده في ليلة يرجو فيها مصادفة ليلة القدر ، فقتله فيها ، لله من قتيل! وأكرم به وبمقتله وروحه! من روح عرجت إلى الله تعالى بالبرّ والتقوى والإيمان والإحسان ، لقد أطفئ منه نور الله في أرضه ، لا يبين بعده أبدا فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، وعند الله نحتسب مصيبتنا بأمير المؤمنين.

ثمّ بكى حتى اختلفت أضلاعه ، وقال :

ثمّ أوصى بالإمامة بعده إلى ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وابنه وسليله ، وشبيهه في خلقه وهديه ، وإنّي لأرجو أن يجبر الله به ما وهى ، ويسدّ به ما انثلم ، ويجمع به الشمل ويطفئ به نيران الفتنة ، فبايعوه.

فبايعته الشيعة ، وتوقّف عن بيعته من كان يرى رأي العثمانية ، ورثى أبو الأسود الإمام بهذه الأبيات :

ألا أبلغ معاوية بن حرب

فلا قرّت عيون الشّامتينا

أفي شهر الصّيام فجعتمونا

بخير النّاس طرّا أجمعينا؟

قتلتم خير من ركب المطايا

وخيّسها (١) ومن ركب السّفينا

__________________

(١) خيسها : أي راضها وذللها.

٢٧٦

ومن لبس النّعال ومن حذاها

ومن قرأ المثاني والمئينا (١)

لقد علمت قريش حيث حلّت

بأنّك خيرها حسبا ودينا (٢)

وأشاد أبو الأسود بمكانة الإمام عليه‌السلام ، ووسم من اغتاله بأنّه عدوّ الله ، وأنّ قتله أعظم كارثة مدمّرة مني بها العالم الإسلامي ، فيا له من قتيل لا شبيه له في مثله وتقواه!

٧ ـ أمّ العريان :

وأبّنته السيّدة أمّ العريان التي تمثّل لوعتها وحزنها على فقيد الإسلام وهي :

ألا يا خير من ركب المطايا

وذلّلها ومن ركب السّفينا

يقيم الحدّ لا يرتاب فيه

ويقضي بالفرائض مستبينا

كأنّ النّاس مذ فقدوا عليّا

نعام جال في بلد سنينا

فلا تشمت معاوية بن حرب

فإنّ بقيّة الخلفاء فينا

وكنّا قبل مقتله بخير

نرى مولى رسول الله فينا (٣)

وحكت هذه الأبيات الحزن العميق لهذه السيّدة على فقد الإمام الذي أقام حدود الله من غير ارتياب أو شكّ ، وأنّ الناس لمّا فقدوه كأنّهم أنعام فقدت راعيها ، كما ناشدت معاوية أن لا يشمت بقتل الإمام عليه‌السلام ، فإنّ بقيّة النبوّة موجودة في نجليه وهما الحسن والحسين عليهما‌السلام.

٨ ـ أبو بكر بن حمّاد :

وأبّنه أبو بكر بن حمّاد بهذه الأبيات :

__________________

(١) المثاني : فاتحة الكتاب. المئينا : مجموع القرآن.

(٢) مؤلّفو الشيعة في صدر الإسلام : ٢٣ ـ ٢٤ ، نقلا عن حياة الحيوان للدميري.

(٣) مقتل الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : ١١٠.

٢٧٧

وهزّ عليّ بالعراقين لحية

مصيبتها جلّت على كلّ مسلم

فقال : سيأتيها من الله حادث

ويخضبها أشقى البريّة بالدّم

فباكره بالسّيف ـ شلّت يمينه

لشؤم قطام عند ذاك ابن ملجم

فيا ضربة من خاسر ضلّ سعيه

تبوّأ منها مقعدا في جهنّم

ففاز أمير المؤمنين بحظّه

وإن طرقت فيها الخطوب بمعظم (١)

٩ ـ قصيدة في تأبين الإمام :

ورثي الإمام عليه‌السلام بهذه القصيدة ، وقد اختلف الرواة في ناظمها ، فقيل : إنّها للسيّدة أمّ كلثوم بنت الإمام عليه‌السلام.

وقيل : إنّها لأمّ الهيثم بنت العريان الخثعمية.

وقيل : إنّها لأبي الأسود الدؤلي ، وهذا نصّها :

ألا يا عين جودي واسعدينا

ألا فابكي أمير المؤمنينا

وتبكي أمّ كلثوم عليه

بعبرتها وقد رأت اليقينا

ألا قل للخوارج حيث كانوا

فلا قرّت عيون الحاسدينا

وأبكي خير من ركب المطايا

وفارسها ومن ركب السّفينا

ومن لبس النّعال ومن حفاها

ومن قرأ المثاني والمئينا

ومن صام الهجير وقام ليلا

وناجى الله خير الخالقينا (٢)

والقصيدة كلّها على هذا السمت ، وهي تضارع الشعر الشعبي ، وقد تليت في الجامع الأعظم في الكوفة ، فاهتزّ الجامع ببكاء الكوفيّين وصراخهم ، وقد أسفوا كأشدّ ما يكون الأسف على خذلانهم للإمام ، وعصيانهم لأوامره.

__________________

(١) مقتل الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : ١١٠.

(٢) بحار الأنوار ٤٢ : ٢٩٩.

٢٧٨

١٠ ـ بكر بن حسّان :

وممّن أبّن الإمام الشاعر بكر بن حسّان ، فقد أبّنه بهذه القصيدة :

قل لابن ملجم ـ والأقدار غالبة

هدّمت للدّين والإسلام أركانا

قتلت أفضل من يمشي على قدم

وأفضل النّاس إسلاما وإيمانا

وأعلم النّاس بالقرآن ثمّ بما

سنّ الرّسول لنا شرعا وتبيانا

صهر النّبيّ ومولاه وناصره

أضحت مناقبه نورا وبرهانا

وكان منه على رغم الحسود له

مكان هارون من موسى بن عمرانا

ذكرت قاتله والدّمع منحدر

فقلت سبحان ربّ العرش سبحانا!

قد كان يخبرنا أن سوف يخضبها

قبل المنيّة أشقاها وقد كانا

إنّي لأحسبه ما كان من بشر

يخشى المعاد ولكن كان شيطانا

أشقى مراد إذا عدّت قبائلها

و أخسر النّاس عند الله ميزانا

كعاقر النّاقة الاولى الّتي حلبت

على ثمود بأرض الحجر خسرانا

فلا عفا الله عنه ما تحمّله

ولا سقى قبر عمران بن حطّانا

لقوله في شقيّ ظلّ مجترما

ونال ما ناله ظلما وعدوانا

« يا ضربة من تقيّ أراد بها

إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا »

بل ضربة من غويّ أورثته لظى

مخلّدا قد أتى الرّحمن غضبانا

كأنّه لم يرد قصدا بضربته

إلاّ ليصلى عذاب الخلد نيرانا (١)

وحكت هذه الأبيات توجّع بكر بن حسّان وأساه على اغتيال الإمام ، وأنّ ابن ملجم قد هدم الدين والإسلام بقتله للإمام الذي هو أفضل الناس بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان منه بمنزلة هارون من موسى ، وأنّ الإمام عليه‌السلام قد أعلن غير مرّة أن كريمته

__________________

(١) نور الأبصار ـ الشبلنجي : ١٠٨.

٢٧٩

الشريفة سوف تخضّب من دم رأسه ، يخضّبها أشقى الأوّلين والآخرين.

وشجب بكر بهذه الأبيات مدح عمران بن حطّان الرقاشي لابن ملجم الخارجي وثناءه عليه بقوله :

يا ضربة من تقيّ ما أراد بها

إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إنّي لأذكره يوما فأحسبه

أوفى البريّة عند الله ميزانا

إنّ العقول المتخلّفة عند الخوارج قد استباحت كلّ ما حرّم الله تعالى من إثم ، فقد استحلّت دم الإمام عليه‌السلام الذي هو نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحامي الإسلام ، والمجاهد الأوّل الذي حطّم الأصنام والأوثان.

وقد أثارت أبيات عمران بن حطّان سخط الأخيار ، والمتحرّجين في دينهم ونقموا عليه ، وقد ردّ عليه القاضي أبو الطيّب طاهر بن عبد الله الشافعي بقوله :

إنّي لأبرأ ممّا أنت قائله

عن ابن ملجم الملعون بهتانا

يا ضربة من شقيّ ما أراد بها

إلاّ ليهدم للإسلام أركانا

إنّي لأذكره يوما فألعنه

دينا وألعن عمرانا وحطّانا!

عليه ثمّ عليه الدّهر متّصلا

لعائن الله إسرارا وإعلانا

فأنتما من « كلاب النّار »! جاء به

نصّ الشّريعة برهانا وتبيانا

عليكما لعنة الجبّار ما طلعت

شمس وما أوقدوا في الكون نيرانا (١)

ومن المؤسّف أنّ البخاري في صحيحه يروي عن هذا الأثيم عمران بن حطّان الخارجي ويتحرّج من الرواية عن أئمّة الهدى ، ومصابيح الإسلام.

__________________

(١) نور الأبصار ـ الشبلنجي : ٢١٧.

٢٨٠