موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١١

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ١٠٩

وكانت بارعة في الجمال ، فلمّا رآها ابن ملجم فتن بها ، فخطبها فأجابته إلى ذلك ، وشرطت عليه الباغية مهرا وهو ثلاثة آلاف درهم ، ووصيفا ، وخادما ، وقتل الإمام عليه‌السلام ، وفي هذا المهر المنحوس يقول الشاعر :

فلم أر مهرا ساقه ذو سماحة

كمهر قطام من غنيّ ومعدم

ثلاثة آلاف وعبد وقينة

وضرب عليّ بالحسام المسمّم

فلا مهر أغلى من عليّ وإن غلا

ولا فتك إلاّ دون فتك ابن ملجم

فاقسم بالبيت الحرام ومن أتى

إليه جهارا من محلّ ومحرم

لقد خاب من يسعى بقتل إمامه

وويل له من حرّ نار جهنّم (١)

وانبرى الخبيث قائلا لقطام : لك جميع ما سألت ، فأمّا قتل عليّ فإنّي لي ذلك؟

قالت : تلتمس غرّته ، فإن قتلته شفيت نفسي ، وهنأك العيش معي ، وإن قتلت فما عند الله خير لك.

فقال لها الزنيم الأثيم : ما أقدمني إلى هذا المصر إلاّ قتل عليّ.

فقالت له : فأنا طالبة لك من يساعدك ، وبعثت إلى وردان بن مجالد من تيم الرباب فأخبرته بما عزمت عليه مع ابن ملجم ، وطلبت منه أن يعين ابن ملجم فأجابها إلى ذلك ، ومضى ابن ملجم إلى رجل من الخوارج من قبيلة أشجع يقال له :

شبيب بن بحيرة فقال له :

ـ هل لك من شرف الدنيا والآخرة؟

ـ وما ذاك؟

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٢ : ٢٦٧.

٢٤١

ـ تساعدني على قتل عليّ.

فأجابه إلى ذلك ، ومضوا إلى قطام ، وكانت معتكفة في المسجد قد ضربت عليها قبّة ، فقالوا لها : قد اجتمعنا على قتل الرجل (١) فشكرتهم على ذلك ، وحفّزتهم على اقتراف الجريمة.

اغتيال الإمام :

أطلّ على العالم الإسلامي شهر رمضان المبارك الذي أنزل الله فيه القرآن هدى للناس ورحمة وكان وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام على يقين لا يخامره شكّ بانتقاله إلى حظيرة القدس في بحر هذا الشهر العظيم ، وقد أجهد نفسه ، وأرهقها إرهاقا شديدا على الإفطار على خبز الشعير ، وجريش الملح ، وكان لا يزيد في طعامه على ثلاث لقم ، كما كان ينفق لياليه ساهرا في العبادة والتضرّع إلى الله تعالى في أن ينقذه من ذلك المجتمع الذي جحد حقّه وتنكّر لقيمه ، وزاد في وجيبه وشوقه إلى ملاقاة الله تعالى ما عاناه من العصيان والتمرّد من جيشه الذي مزّقته الأهواء ونخرته الدعايات المضلّلة.

لقد اشتاق هذا الإمام الممتحن إلى ملاقاة الله وملاقاة رسوله ليعرض عليه ما عاناه من المحن والخطوب من امّته التي جرّعته نغب التّهمام.

ويقول الرواة : إنّه لمّا حلّت ليلة التاسع عشر من رمضان أحسّ الإمام بنزول الرزء القاصم ، فكان برما تساوره الهموم والأحزان وهو يقول :

« ما كذّبت ولا كذّبت ، إنّها اللّيلة الّتي وعدت فيها ... ».

وراودته تلك الليلة ذكريات جهاده مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وما قاساه من طغاة

__________________

(١) إعلام الورى : ٢٠٠.

٢٤٢

قريش وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب من الجهد والعناء ، فقد التحم معهم في ميادين الحروب التحاما رهيبا في سبيل نشر كلمة التوحيد وحماية النبيّ العظيم من كيدهم ومكرهم.

وعلى أي حال فلندع الحديث إلى السيّدة الزكية أمّ كلثوم (١) تحدّثنا بما شاهدته من أبيها في تلك الليلة الخالدة في دنيا الأحزان ، قالت :

لمّا كانت ليلة التاسع عشر من رمضان قدّمت إلى أبي عند إفطاره طبقا فيه قرصان من خبز الشعير وقصعة فيها لبن ، وملح جريش ، فلمّا فرغ من صلاته أقبل على فطوره ، فلمّا نظر إليه حرّك رأسه وبكى وقال :

« ما ظننت بنتا تسوء أباها كما أسأت إليّ ».

« ما ذاك؟ ».

« تقدّمين إلى أبيك إدامين في طبق واحد ، أتريدين أن يطول وقوفي بين يدي الله تعالى يوم القيامة؟ أنا أريد أن أتّبع أخي وابن عمّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما قدّم له إدامان في طبق واحد إلى أن قبضه الله تعالى.

يا بنيّة ، ما من رجل طاب مطعمه ومشربه وملبسه إلاّ طال وقوفه بين يدي الله عزّ وجلّ يوم القيامة ..

يا بنيّة ، إنّ الدّنيا في حلالها حساب ، وفي حرامها عقاب ، وقد أخبرني حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ جبرئيل نزل إليه ومعه مفاتيح كنوز الأرض ، وقال : يا محمّد ، السّلام يقرؤك السّلام ، ويقول لك : إن شئت صيّرت معك جبال تهامة ذهبا وفضّة ، وخذ مفاتيح كنوز الأرض ولا ينقص ذلك من حظّك يوم القيامة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله :

__________________

(١) السيّدة أمّ كلثوم هي في أغلب الظنّ سيّدة النساء السيّدة المعظّمة زينب سلام الله عليها ، وهذه كنيتها.

٢٤٣

يا جبرئيل ، وما يكون بعد ذلك؟ قال : الموت ، فقال : لا حاجة لي في الدّنيا ، دعني أجوع يوما ، وأشبع يوما ، فاليوم الّذي أجوع فيه أتضرّع إلى ربّي ، واليوم الّذي أشبع فيه أشكر ربّي وأحمده ، فقال جبرئيل : وفّقت لكلّ خير يا محمّد! ».

ثمّ قال عليه‌السلام : « يا بنيّة ، الدّار دار غرور ، ودار هوان ، فمن قدّم شيئا وجده. يا بنيّة ، لا آكل شيئا حتّى ترفعي أحد الإدامين » ، فلمّا رفعته أكل قرصا واحدا بالملح الجريش ، ثمّ حمد الله تعالى وأثنى عليه ، ثمّ قام إلى صلاته فصلّى ، ولم يزل راكعا وساجدا ومبتهلا ومتضرّعا إلى الله سبحانه ، ويكثر الدخول والخروج ، وهو ينظر إلى السماء وهو قلق ، ثمّ قرأ سورة « يس » حتى ختمها ، ثمّ رقد هنيهة ، وانتبه مرعوبا ، وجعل يمسح وجهه بثوبه ، ونهض قائما على قدميه وهو يقول : « اللهمّ بارك لنا في لقائك ».

ويكثر من قول : لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم ، ثمّ صلّى حتّى ذهب بعض الليل ، ثمّ جلس للتعقيب ، ثمّ نامت عيناه ، ثمّ انتبه مرعوبا ، وجمع أولاده فقال لهم :

« في هذا الشّهر تفقدوني ، إنّي رأيت رؤيا هالتني ... ».

« ما رأيت؟ ».

« رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في منامي وهو يقول : يا أبا الحسن ، إنّك قادم إلينا عن قريب ، يجيء إليك أشقاها فيخضّب شيبتك من أمّ رأسك ، وأنا مشتاق إليك ، وإنّك عندنا في العشر الأواخر من شهر رمضان ... ».

فضجّ أبناؤه بالبكاء ، فأمرهم بالخلود إلى الصبر وطاعة الله ، ولم يزل تلك الليلة قائما وقاعدا وراكعا وساجدا ، ويخرج ساعة بعد ساعة ، يقلب طرفه في السماء ، وينظر في الكواكب وهو يقول :

٢٤٤

« ما كذّبت ولا كذّبت ، إنّها اللّيلة الّتي وعدت بها ».

ثمّ يعود إلى مصلاّه وهو يقول : « اللهمّ بارك لي في الموت » ، ويكثر من قول :

« لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم » ، ويصلّي على النبيّ كثيرا.

قالت أمّ كلثوم : قلت له : « يا أبتاه ، ما لي أراك هذه اللّيلة لا تذوق طعم الرقاد؟ ».

فأجابها الإمام : « يا بنيّة ، إنّ أباك قتل الأبطال ، وخاض الأهوال ، وما دخل الخوف جوفه ، وما دخل في قلبي رعب أكثر ممّا دخله اللّيلة ... ».

ثمّ قال : « إنّا لله وإنّا إليه راجعون » ، وفزعت السيّدة أمّ كلثوم ، وقالت له بنبرات مشفوعة بالبكاء :

« ما لك تنعى نفسك منذ اللّيلة؟ ».

« يا بنيّة ، قد قرب الأجل وانقطع الأمل ... ».

واستولى الأسى والحزن على أمّ كلثوم ، وغرقت بالبكاء ، وأخذ يهدّىء لوعتها قائلا : « يا بنيّة ، إنّي لم أقل ذلك إلاّ بما عهد إليّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله » (١). هذا بعض ما حدّثت به السيّدة أمّ كلثوم من الأحداث المفزعة التي رافقت اغتيال أبيها.

وأقبل الإمام في غلس الليل البهيم على الدعاء والابتهال إلى الله تعالى ، ففي ظلام ذلك الليل الذي دام على البؤساء والمحرومين ، قام الإمام فأسبغ الوضوء ، وتهيّأ إلى الخروج إلى بيت الله ليؤدّي صلاة الصبح ، فلمّا بلغ صحن الدار كانت فيه وزّ أهديت إلى الإمام الحسن عليه‌السلام فصحن في وجهه الشريف منذرة بالخطر العظيم الذي سيعصف بالشرق العربي ، وسائر الوطن الإسلامي ، ويحوّله إلى ركام ،

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٢ : ٢٧٩ ـ ٢٨٠.

٢٤٥

وتنبّأ الإمام عليه‌السلام بنزول الرزء القاصم فقال : « لا حول ولا قوّة إلاّ بالله تعالى ، صوائح تتبعها نوائح » (١) ، إنّ تلك الصوائح التي انطلقت من الطيور تحوّلت إلى عويل ، وصراخ اليتامى والمساكين ، فقد فقدوا من كان يرعاهم ويعطف عليهم ، وراح الإمام يوصي ابنته برعاية تلك الطيور قائلا :

« يا بنيّة ، بحقّي عليك إلاّ ما أطلقتها ، فقد حبست ما ليس له لسان ، ولا يقدر على الكلام إذا جاع أو عطش ، فأطعميها واسقيها وإلاّ خلّي سبيلها تأكل من حشائش الأرض » (٢).

وأقبل الإمام على فتح الباب فعسر عليه فتحها لأنّها كانت من جذوع النخل ، وعالجها حتى فتحها فانحلّ مئزره فشدّه وهو يقول :

« اشدد حيازيمك للموت

فإنّ الموت لاقيكا

ولا تجزع من الموت

إذا حلّ بواديكا

كما أضحكك الدّهر

كذاك الدّهر يبكيكا »

وفزع الإمام الحسن كأشدّ ما يكون الفزع من حالة أبيه فسارع إليه قائلا :

« ما أخرجك في هذا الوقت؟ ».

« رؤيا رأيتها في هذه اللّيلة هالتني ».

« خيرا رأيت ، وخيرا يكون ، قصّها عليّ ».

« رأيت جبرئيل قد نزل من السّماء على جبل أبي قبيس ، فتناول منه حجرين ، ومضى بهما إلى الكعبة ، فضرب أحدهما بالآخر ، فصارا كالرّميم ، فما بقي بمكّة

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٢٩١.

(٢) بحار الأنوار ٤٢ : ٢٧٨.

٢٤٦

ولا بالمدينة بيت إلاّ دخله من ذلك الرّماد شيء ».

واضطرب الإمام الحسن فسارع قائلا :

« ما تأويل هذه الرّؤيا؟ ».

« إن صدقت رؤياي ، فإنّ أباك مقتول ، ولا يبقى بمكّة ولا بالمدينة بيت إلاّ دخله الحزن من أجلي ... ».

ووجم الإمام الحسن وراح يقول بذوب روحه :

« متى يكون ذلك؟ ».

« إنّ الله تعالى يقول : ( وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) ، ولكن عهد إليّ حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه يكون في العشر الأواخر من شهر رمضان ، يقتلني عبد الرّحمن بن ملجم ... ».

وراح الإمام يقول بلوعة وفزع :

« إذا علمت ذلك فاقتله ... ».

« لا يجوز القصاص قبل الجناية ، والجناية لم تحصل منه ... ».

وأراد الإمام الحسن أن يصحبه إلى الجامع فأقسم عليه الإمام بالرجوع إلى فراشه ، ولم يسمح له بالخروج معه ، ومضى الإمام عليه‌السلام إلى بيت الله تعالى فجعل يوقظ الناس على عادته لعبادة الله الواحد القهّار ، واجتاز على قوم فقبض على كريمته وقال : « ظننت فيكم أشقاها الّذي يخضّب هذه من هذه » ، وأومأ إلى لحيته (١) ، ثمّ شرع إمام المتّقين وسيّد الموحّدين في صلاته ، وبينما هو ماثل بين

__________________

(١) الكامل ـ المبرّد ٣ : ١٤٢.

٢٤٧

يدي الحقّ يناجيه بقلبه وعواطفه ولسانه مشغول بذكره إذ هوى عليه بسيفه شقيق عاقر ناقة صالح عبد الرحمن بن ملجم ، ومعه شبيب بن بحيرة الأشجعيّ (١) ، وهو يهتف بشعار المجرمين الخوارج قائلا :

« الحكم لله لا لك ».

وعلا الرجس الدنس بالسيف رأس الإمام بطل الإسلام وعلم المجاهدين والمتّقين فقدّ جبهته الشريفة التي طالما عفّرها بالسجود لله تعالى ، وانتهت الضربة الغادرة إلى دماغه المقدّس الذي ما فكّر إلاّ في سعادة الناس وجمعهم على صعيد الحقّ والعدل وإزالة شبح الفقر والحرمان عنهم.

ولمّا أحسّ الإمام بلذع السيف انفرجت شفتاه عن ابتسامة الرضا بقضاء الله تعالى ، وانطلق صوته يدوّي في رحاب المسجد :

« فزت وربّ الكعبة ».

يا أمير الحقّ!

يا رائد العدل!

يا بطل الإسلام!

يا وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ! لقد فزت برضى الله تعالى ، وفازت قيمك ومبادئك ، وبقيت أنت وحدك رهن الخلود بما أوجدته في دنيا الإسلام من المثل والقيم الكريمة.

__________________

(١) شبيب بن بحيرة الأشجعي الخارجي علا الإمام بضربة إلاّ أنّه أخطأ فيها فوقعت على الباب ومضى الأثيم هاربا إلى منزله فدخل فيه ، وكان له ابن عمّ من شيعة الإمام فرآه يحلّ الحرير من صدره ، فقال له : ما هذا لعلّك قتلت أمير المؤمنين؟ فأراد أن يقول لا ، فقال : نعم ، فضربه بالسيف وقتله ، جاء ذلك في أعلام الورى : ٢٠٠.

٢٤٨

يا إمام المتّقين ، لقد كنت من أعظم الرابحين بمرضاة الخالق العظيم ، فقد رفعت منذ نعومة أظفارك كلمة الله ، وجاهدت في سبيله كأعظم ما يكون الجهاد فحطّمت الأصنام ، وطهرت الأرض من أوثان الجاهلية ، وبذلت روحك ـ بسخاء ـ للدفاع عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فبت على فراشه ووقيته من شرك الأوغاد ، ولو لا جهادك وجهاد أبيك أبي طالب لما أبقى القرشيّون ظلاّ للإسلام ، وقضوا عليه منذ بزوغ نوره.

يا إمام الموحّدين ، لقد فزت وانتصرت وخسر خصمك ابن هند ، فأنت وحدك حديث الدهر مهما تطاولت لياليه أياما ، وها هو معاوية لا يذكر إلاّ بالخيبة والخسران ، فقد قذف في مزبلة التأريخ تلاحقه أعماله التي سوّد بها وجه التاريخ.

وعلى أي حال فإنّه حينما اذيع النبأ المؤلم باغتيال الإمام سارع الناس إلى الجامع ، فوجدوا الإمام طريحا في محرابه ، وهو يلهج بذكر الله تعالى قد نزف دمه ، وانهارت قواه ، واصفرّ لونه ، ثمّ حمل إلى داره والناس خلفه قد عجّوا بالبكاء والنحيب ، قد أخذتهم المائقة ، وهم يهتفون بذوب الروح قائلين بأسى وألم :

قتل إمام الحقّ والعدل ...

قتل أبو الضعفاء وأخو الغرباء ...

قتل أبو اليتامى والمساكين ...

واستقبلته مخدّرات الرسالة بالصراخ والعويل ، فأمرهنّ الإمام بالخلود إلى الصبر ، والرضا بقضاء الله تعالى ...

وكان من أشدّ أبنائه لوعة الإمام الحسن الزكي ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنظر إليه الإمام فقال له بلطف :

« يا بنيّ ، لا تبك فإنّك تقتل بالسّمّ ، ويقتل أخوك بالسّيف ».

وتحقّق ما أخبر به وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وباب مدينة علمه ، فلم تمض الأيام

٢٤٩

حتى اغتال معاوية الإمام الحسن بالسمّ ، وكذلك استشهد أخوه الإمام الحسين سيّد الشهداء بصورة مروّعة في صعيد كربلاء ومعه أهل بيته نجوم الأرض ، والصفوة الممجّدة من أصحابه ، فقد حصدت رءوسهم البغاة من شرطة يزيد بن معاوية.

ابن ملجم يصف ضربته للإمام :

ووصف الشقي ابن ملجم ضربته الغادرة للإمام بقوله : أمّا أنا فقد أرهفت السيف ، وطردت الخوف ، وحثثت الأمل ... وضربته ضربة لو كانت بأهل عكاظ قتلتهم ... (١).

ولم يعلم الأثيم أنّ ضربته التي قدّت جبهة الإمام قد شقّت جبهة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّه نفسه وأخوه وباب مدينة علمه وأبو سبطيه.

تجسّس الأشعث على الإمام :

وطار الخبيث الأشعث بن قيس فرحا وسرورا بضربة الإمام ، فقد تمّت بوارق آماله وأحلامه للاتّصال بمعاوية ، وبعث ولده للاطّلاع على حال الإمام ، فقال له :

انظر كيف أصبح الرجل ، وكيف تراه؟

وانطلق ابنه إلى منزل الإمام ، فرآه مثقلا حاله ، فقفل راجعا إلى أبيه فأخبره بحالته قائلا :

رأيت عينيه داخلتين في رأسه ...

فصاح الأشعث ، وقد غمرته موجات من السرور :

عينا دميغ وربّ الكعبة (٢).

__________________

(١) الأمالي ـ أبي علي القالي ٢ : ٢٥٥.

(٢) أنساب الأشراف ١ : ٢١٦.

٢٥٠

إنّ هذا المجرم العميل هو الذي نادى بالتحكيم ، ورشّح الأشعري ليكون ممثّلا عن العراقيّين ، وهو الذي اشترك في اغتيال الإمام عليه‌السلام ، وقد تمّت بوارق آماله بقتل الإمام.

إلقاء القبض على ابن ملجم :

والقي القبض على المجرم الأثيم ابن ملجم فجيء به مكشوف الرأس ، مكتوفا فأوقف بين يدي الإمام الزكي الحسن عليه‌السلام ، فقال له :

« يا ملعون ، قتلت أمير المؤمنين ، وإمام المسلمين ، هذا جزاؤه حين آواك وقرّبك ، حتّى تجازيه بهذا الجزاء ...؟ ».

والتفت الإمام الحسن إلى أبيه قائلا :

« يا أبة ، هذا عدوّ الله وعدوّك ابن ملجم قد أمكننا الله منه ».

وفتح الإمام عينيه وقال له بصوت خافت :

« لقد جئت شيئا إدّا وأمرا عظيما ، ألم أشفق عليك وأقدّمك على غيرك في العطاء فلما ذا تجازيني بهذا الجزاء؟ ».

والتفت الإمام إلى ولده فجعل يوصيهم بالبرّ إلى قاتله قائلا :

« أطعموه ، واسقوه ، فإن عشت فأنا وليّ دمي ، إن شئت قتلت ، وإن شئت عفوت ، وإن متّ فاقتلوه ، ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين » (١).

وبهر الإمام الحسن من وصيّة أبيه بالبر والإحسان لقاتله قائلا :

« يا أبتاه ، قتلك هذا اللّعين ، وفجعنا بك ، وأنت تأمرنا بالرّفق به ».

__________________

(١) النجوم الزاهرة ١ : ١١٩.

٢٥١

فأجابه الإمام بما انطوت عليه روحه الملائكيّة قائلا :

« يا بنيّ ، نحن أهل بيت الرّحمة والمغفرة ، أطعمه ممّا تأكل ، واسقه ممّا تشرب ، فإن أنا متّ فاقتصّ منه بأن تقتله ، ولا تمثّل بالرّجل فإنّي سمعت جدّك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور ، وإن أنا عشت فأنا أعلم ما أفعل به فنحن أهل بيت لا نزداد على المذنب إلينا إلاّ عفوا وكرما ».

وهكذا نفسية هذا الإمام العظيم العفو والإحسان والبرّ بمن اعتدى عليه وظلمه.

أمّ كلثوم وابن ملجم :

وكانت العقيلة أمّ كلثوم غارقة في الأسى والشجون ، والتفتت إلى المجرم الخبيث ابن ملجم فقالت له :

« يا عدوّ الله ، قتلت أمير المؤمنين؟ ».

فردّها الأثيم بوقاحة وصلف :

لم أقتل أمير المؤمنين ولكن قتلت أباك ...

فأجابته حفيدة الرسول :

« إنّي لأرجو أن لا يكون عليه بأس ».

وسارع المجرم قائلا :

فلم تبكين إذا؟ عليّ تبكين؟

وراح ابن ملجم يقرح عواطفها وشعورها ويعلمها عن ضربته الغادرة للإمام قائلا : والله! لقد سمّمته ـ أي السيف ـ شهرا فإن أخلفني فأبعده الله سيفا وأسحقه (١).

__________________

(١) أنساب الأشراف ١ : ٢١٦.

٢٥٢

يأس الأطباء من الإمام :

جمع الإمام الحسن عليه‌السلام لجنة من الأطباء لمعالجة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وكان أبصرهم بالطب أثير بن عمرو السكوني (١) ، فاستدعى برئة شاة حارّة فتتبع عرقا منها فاستخرجه ، ثمّ أدخله في جرح الإمام وأخرجه وإذا به مكلّل ببياض دماغ الإمام لأنّ الضربة القاسية قد وصلت إليه ، فارتبك أثير ، والتفت إلى الإمام وقال له بصوت خافت حزين النبرات :

يا أمير المؤمنين ، اعهد عهدك فإنّك ميّت ... (٢).

وصاياه الخالدة :

وأوصى إمام المتّقين ورائد الحكمة أولاده بكوكبة من الوصايا الذهبية قبل وفاته ، وهذه بعضها :

١ ـ قال عليه‌السلام للحسنين وهو على فراش الموت يعاني من آلام الضربة الغادرة قال :

« أوصيكما بتقوى الله ، وألاّ تبغيا الدّنيا وإن بغتكما (٣) ، ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما ، وقولا بالحقّ ، واعملا للأجر ، وكونا للظّالم خصما ، وللمظلوم عونا.

أوصيكما ، وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي ، بتقوى الله ، ونظم أمركم ، وصلاح ذات بينكم ، فإنّي سمعت جدّكما ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يقول : صلاح

__________________

(١) أثير بن عمر السكوني أحد الأطباء الماهرين يعالج الجراحات الصعبة ، وكان صاحب كرسي ، تنسب إليه صحراء أثير.

(٢) الاستيعاب ٢ : ٦٢. معجم ما استعجم ١ : ١٠٩.

(٣) تبغيا : أي تطلبا.

٢٥٣

ذات البين أفضل من عامّة الصّلاة والصّيام.

الله الله في الأيتام! فلا تغبّوا أفواههم (١) ، ولا يضيعوا بحضرتكم.

والله الله في جيرانكم! فإنّهم وصيّة نبيّكم ؛ ما زال يوصي بهم حتّى ظننّا أنّه سيورّثهم.

والله الله في القرآن! لا يسبقكم بالعمل به غيركم.

والله الله في الصّلاة! فإنّها عمود دينكم.

والله الله في بيت ربّكم ، لا تخلّوه ما بقيتم ، فإنّه إن ترك لم تناظروا (٢).

والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله! وعليكم بالتّواصل والتّباذل (٣) ، وإيّاكم والتّدابر والتّقاطع لا تتركوا الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فيولّى عليكم شراركم ، ثمّ تدعون فلا يستجاب لكم.

يا بني عبد المطّلب ، لا ألفينّكم تخوضون في دماء المسلمين خوضا ، تقولون : قتل أمير المؤمنين. ألا لا تقتلنّ بي إلاّ قاتلي.

انظروا إذا أنا متّ من ضربته هذه ، فاضربوه ضربة بضربة ، ولا تمثّلوا بالرّجل ، فإنّي سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يقول : « إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور » (٤).

حكت هذه الوصية روحانيّة الأنبياء ، وقداسة الأوصياء ، وما يحمله هذا الإمام العظيم من الشرف وسموّ الذات ، فقد أوصى أبناءه بقول الحقّ ، والعمل

__________________

(١) المراد : صلوا الأيتام باتّصال.

(٢) لم تناظروا : أي لا ينظر إليكم.

(٣) التباذل : العطاء.

(٤) نهج البلاغة ٣ : ٧٧.

٢٥٤

بمرضاة الله تعالى ، ومساندة المظلومين ، ومناجزة الظالمين ، كما أوصاهم بإصلاح ذات البين ، ومراعاة الأيتام والإحسان إليهم ، كما أوصاهم بالبرّ بالجيران فإنّه يؤدّي إلى ربط المجتمع وصيانته من التفرّق والاختلاف ، وأوصاهم بالصلاة التي هي أفضل العبادات.

ومن هذه الوصايا أن لا يخوض أبناؤه وسائر بني هاشم في إراقة دماء المسلمين مطالبين بثأره فلا يقتلوا غير قاتله ، ولا يرتكبوا مثل ما ارتكبه الأمويّون وأنصارهم من المطالبة بدم عثمان بن عفّان ، فقد أراقوا أنهارا من دماء المسلمين بغير حقّ.

٢ ـ أدلى الإمام بهذه الوصية لعموم الناس ، ولم يخصّ بها أهل بيته ، وجاء فيها :

« أيّها النّاس ، كلّ امرئ لاق ما يفرّ منه في فراره. والأجل مساق النّفس (١). والهرب منه موافاته. كم أطردت الأيّام أبحثها عن مكنون هذا الأمر ، فأبى الله إلاّ إخفاءه. هيهات! علم مخزون! أمّا وصيّتي : فالله لا تشركوا به شيئا ، ومحمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا تضيّعوا سنّته. أقيموا هذين العمودين ، وأوقدوا هذين المصباحين ، وخلاكم ذمّ ما لم تشردوا (٢).

حمّل كلّ امرئ منكم مجهوده ، وخفّف عن الجهلة ربّ رحيم ودين قويم ، وإمام عليم.

أنا بالأمس صاحبكم ، وأنا اليوم عبرة لكم ، وغدا مفارقكم! غفر الله

__________________

(١) الأجل مساق : أي يسوق الإنسان إلى مقرّه الأخير.

(٢) تشردوا : أي تميلوا.

٢٥٥

لي ولكم!

إن تثبت الوطأة في هذه المزلّة فذاك (١) ، وإن تدحض القدم فإنّا كنّا في أفياء أغصان ، ومهابّ رياح ، وتحت ظلّ غمام ، اضمحلّ في الجوّ متلفّقها (٢) ، وعفا في الأرض مخطّها وإنّما كنت جارا جاوركم بدني أيّاما ، وستعقبون منّي جثّة خلاء (٣) ساكنة بعد حراك ، وصامتة بعد نطق ليعظكم هدوّي ، وخفوت إطراقي ، وسكون أطرافي ، فإنّه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ والقول المسموع.

وداعي لكم وداع امرئ مرصد للتّلاقي! غدا ترون أيّامي ، ويكشف لكم عن سرائري ، وتعرفونني بعد خلوّ مكاني وقيام غيري مقامي » (٤).

وضع الإمام عليه‌السلام في هذه الوصية المناهج السليمة التي تضمن للإنسان المسلم سلامته في دنياه وآخرته وهي التمسّك بالعمودين كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه العظيم.

ووعظ الإمام أهل بيته وسائر المسلمين بنفسه الذي كان مثلهم وعمّا قليل سيفارقهم إلى دار الحقّ ، فما أعظم هذه الموعظة التي تدعو إلى الاستقامة والتوازن في السلوك ، وعدم الغرور.

٣ ـ ومن وصيّة له عليه‌السلام إلى ولده السبط الأكبر الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام عند ما حضرت الإمام الوفاة :

« أوّل وصيّتي أنّي أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّدا رسوله وخيرته ، اختاره

__________________

(١) أراد عليه‌السلام إنّه إن عوفي من ضربته فذاك.

(٢) فتلفقها : المتلفّق المنضمّ بعضه إلى بعض.

(٣) خلاء : أي خالية من الروح.

(٤) نهج البلاغة ٢ : ٣٣ ـ ٣٤.

٢٥٦

بعلمه ، وارتضاه لخيرته ، وأنّ الله باعث من في القبور ، وسائل النّاس عن أعمالهم عالم بما في الصّدور. ثمّ إنّي اوصيك يا حسن ، وكفى بك وصيّا بما أوصاني به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا تكن الدّنيا أكبر همّك.

واوصيك يا بنيّ! بالصّلاة عند وقتها ، والزّكاة في أهلها عند محلّها ، والصّمت عند الشّبهة ، والاقتصاد والعدل في الرّضا والغضب ، وحسن الجوار ، وإكرام الضّيف ، ورحمة المجهود وأصحاب البلاء ، وصلة الرّحم ، وحبّ المساكين ومجالستهم ، والتّواضع فإنّه من أفضل العبادة ، وقصر الأمل ، واذكر الموت ، وازهد في الدّنيا فإنّك رهين موت ، وغرض بلاء ، وطريح سقم.

واوصيك بخشية الله في سرّ أمرك وعلانيّتك ، وأنهاك عن التّسرّع بالقول والفعل ، وإذا عرض شيء من أمر الآخرة فابدأ به ، وإذا عرض شيء من أمر الدّنيا فتأنّه حتّى تصيب رشدك فيه ، وإيّاك ومواطن التّهمة والمجلس المظنون به السّوء ، فإنّ قرين السّوء يغرّ جليسه.

وكن يا بنيّ! لله عاملا ، وعن الخناز جورا ، وبالمعروف آمرا ، وعن المنكر ناهيا ، وواخ الإخوان في الله ، وأحبّ الصّالح لصلاحه ، ودار الفاسق عن دينك ، وابغضه بقلبك ، وزايله بأعمالك لئلا تكون مثله ، وإيّاك والجلوس في الطّرقات ، ودع المماراة ومجاراة من لا عقل له ولا علم له.

واقتصد يا بنيّ! في مشيتك ، واقتصد في عبادتك ، وعليك فيها بالأمر الدّائم الّذي تطيقه ، والزم الصّمت تسلم ، وقدّم لنفسك تغنم ، وتعلّم الخير تعلم ، وكن لله ذاكرا على كلّ حال ، وارحم من أهلك الصّغير ، ووقّر منهم الكبير ، ولا تأكل طعاما حتّى تتصدّق منه قبل أكله ، وعليك بالصّوم فإنّه زكاة البدن ، وجنّة لأهله ، وجاهد نفسك ، واحذر جليسك ، واجتنب عدوّك ، وعليك بمجالس الذّكر ،

٢٥٧

وأكثر من الدّعاء فإنّي لم آلك يا بنيّ نصحا ، وهذا فراق بيني وبينك.

واوصيك بأخيك محمّد خيرا فإنّه شقيقك ، وابن أبيك ، وقد تعلم حبّي له ، وأمّا أخوك الحسين فهو ابن امّك ، ولا اريد الوصاة بذلك العظم ، والله الخليفة عليكم ، وإيّاه أسأل أن يصلحكم ، وأن يكفّ الطّغاة والبغاة عنكم ، والصّبر الصّبر حتّى ينزل الله الأمر ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم » (١).

وحكت هذه الوصية اصول الآداب ومحاسن الصفات ومعالي الأخلاق ودعت أبناء الإمام عليه‌السلام إلى التحلّي بها ، وتطبيقها على واقع حياتهم ليكونوا سادة الامّة ، ومصدر هدايتها وسعادتها.

الوافدون لعيادة الإمام :

ووفدت كوكبة من أصحاب الإمام عليه‌السلام لعيادته ، كان منهم :

١ ـ حبيب بن عمرو :

تشرّف حبيب بن عمرو بعيادة الإمام عليه‌السلام ، فقال له بلطف : يا أمير المؤمنين ، ما جرحك هذا بشيء؟ وما بك من بأس ...

فنظر إليه الإمام برفق وقال له :

« يا حبيب ، أنا والله! مفارقكم السّاعة ».

فكان ذلك كالصاعقة على حبيب فلم يملك نفسه ، وإنّما أجهش بالبكاء ، وكانت السيّدة أمّ كلثوم إلى جانب أبيها ، فبكت بكاء مرّا فالتفت إليها الإمام قائلا :

« ما يبكيك يا بنيّة؟ ».

__________________

(١) المجالس السنيّة ٢ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦. نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ٨ : ١٣٧ ـ ١٤٣.

٢٥٨

« كيف لا أبكي وأنت تقول : إنّك تفارقنا ... »؟

وهدّأ الإمام روعتها وأخبرها بما سيصير إليه من المنزلة الرفيعة عند الله قائلا :

« يا بنيّة ، لا تبكي ، فو الله! لو ترين ما يرى أبوك ما بكيت ... ».

وسارع حبيب قائلا :

ما الذي ترى يا أمير المؤمنين؟

« يا حبيب ، أرى ملائكة السّماء والنّبيّين بعضهم في إثر بعض وقوفا يتلقّونني ، وهذا أخي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله جالسا عندي يقول : أقدم فإنّ ما أمامك خير ممّا أنت فيه » (١).

وساد البكاء وعمّ الحزن وانتشر العويل عند السيّدات من بنات الإمام وعياله.

٢ ـ الأصبغ بن نباتة :

أمّا الأصبغ بن نباتة فهو من خواص أصحاب الإمام عليه‌السلام وأحبّائه ، وقد أذهله الخطب ومزّق الأسى قلبه باغتيال الإمام فسارع مع جماعة من أصحابه إلى دار الإمام كان منهم الحارث ، وسويد بن غفلة ، فجلسوا خلف الإمام فسمعوا البكاء والعويل من داخل الدار فأجهشوا في البكاء ، فخرج إليهم الإمام الحسن فقال لهم :

« يقول لكم أمير المؤمنين : انصرفوا إلى منازلكم ».

فانصرف القوم سوى الأصبغ بن نباتة ، واشتدّ بكاء العلويّات وأبناء الإمام من داخل الدار ، حينما أيقنوا أنّ أباهم في الساعات الأخيرة من حياته ، وبكى الأصبغ بكاء عاليا ، فخرج إليه الإمام الحسن فقال له :

« ألم أقل انصرفوا ... »؟

__________________

(١) المجالس السنيّة ٢ : ٢٤١.

٢٥٩

وقام الأصبغ وهو يذرف من الدموع مهما ساعدته الجفون قائلا بصوت حزين النبرات :

لا والله! يا ابن رسول الله ، ما تتابعني نفسي ، ولا تحملني رجلاي أن انصرف حتى أرى أمير المؤمنين.

ودخل الإمام الحسن على أبيه ، وأخبره بأسى الأصبغ وذهوله ، فأذن له الإمام ، فدخل عليه ، ووصف الأصبغ حالة الإمام بقوله :

دخلت على أمير المؤمنين ، فإذا هو مستند معصوب الرأس بعمامة صفراء قد نزف دمه ، واصفرّ لونه ، فما أدري وجهه أشد صفرة أم العمامة ، فأكببت عليه فقبّلته ، وبكيت.

والتفت إليه الإمام يهدّى روعه قائلا :

« لا تبك يا أصبغ ، فإنّها والله الجنّة! ».

وطفق الأصبغ ودموعه تجري على سحنات وجهه قائلا للإمام بنبرات حزينة :

إنّي والله! أعلم أنّك تصير إلى الجنّة ، وإنّما أبكي لفقدي إيّاك (١).

وخرج الأصبغ وهو غارق بالبكاء ، قد ذابت نفسه أسى وحسرات.

٣ ـ عمرو بن الحمق :

وسارع عمرو بن الحمق الخزاعي لعيادة الإمام وكان من أخلص الناس له ومن أكثرهم ولاء وحبّا له ، ولم يتمكّن أن يقلّ أقدامه من الحزن وأذن له الإمام ، وأراد عمرو أن يخفّف لوعة المصاب على الإمام قائلا :

__________________

(١) أمالي الشيخ الطوسي : ١٢٣.

٢٦٠