موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١١

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ١٠٩

تمرّد المارقين

٢٠١
٢٠٢

من المحن الشاقّة التي امتحن بها الإمام امتحانا عسيرا هي الفتنة الكبرى التي مني بها جيشه ، فقد فتن برفع المصاحف من قبل أهل الشام الذين طويت أعلامهم وخسروا المعركة فلجئوا إلى هذه الحيلة التي خدع بها القرّاء في جيش الإمام ، وتبنّوها بصورة إيجابية ، فأحاطوا بالإمام من كل جانب شاهرين السيوف في وجهه رافعين أصواتهم : ندعى إلى كتاب الله تعالى ولا نجيب؟! ووبّخهم الإمام ، وأقام لهم الحجج البالغة على زيف ما ذهبوا إليه ، فلم تجد معهم شيئا ، فتركهم وشأنهم ، ولمّا أصرّوا ثانيا على انتخاب الأشعري نهاهم عنه ، وأمرهم بانتخاب ابن عباس فلم يذعنوا له ، ولمّا آل التحكيم إلى تلك الصورة الهزيلة ندموا على ما فرّطوا في أمر الامّة وأنفسهم ، ورفعوا شعارهم ملوّحين به ، وداعين إليه ، وهو « لا حكم إلاّ لله » ، وسرعان ما تحوّل هذا الشعار إلى حكم النطع والسيف ، وإشاعة الرعب والخوف بين الناس ، وقد علّق الإمام على شعارهم بقوله : « كلمة حقّ يراد بها باطل ».

لقد انغمس الخوارج في الباطل ، وماجوا في الجهل والضلال ، فلم يملكوا أي وعي ديني أو سياسي ، كما لم يفقهوا شيئا من القيم الإسلامية والتعاليم الدينية.

استعداد الإمام لحرب معاوية :

وتهيّأت قوات الإمام لحرب معاوية ، والتحقت بها كتائب من أهل البصرة ، وسار الإمام بجيشه لمناجزة أهل الشام ، ولكنّه لم يلبث إلاّ قليلا حتّى وافته الأنباء

٢٠٣

بتمرّد الخوارج ، وإعلانهم العصيان المسلّح ، وقد أقاموا في النهروان ، وأخذوا يعيثون في الأرض فسادا ، فاستحلّوا دماء المسلمين ، وقالوا بكفر من لا يذهب لرأيهم ، وقد اجتاز عليهم الصحابي الجليل عبد الله بن خباب بن الأرت فسألوه عن اسمه فأخبرهم به ، ثمّ سألوه عن انطباعاته عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فأثنى عليه ، فاستشاطوا غضبا ، وقاموا فأوثقوه كتافا ، وأقبلوا به ، وبالسيّدة زوجته ، وكانت حبلى قد أشرفت على الولادة فجاؤوا بهما تحت نخلة فسقطت منها رطبة ، فبادر إليها بعضهم فألقاها في فيه ، فأنكروا عليه ذلك ، فألقاها من فمه ، وشهر بعضهم سيفه فضرب به خنزيرا لأهل الذمّة فقتله ، فصاح به بعضهم قائلا إنّ هذا من الفساد في الأرض ، فبادر الرجل إلى الذمّي فأرضاه ، فلمّا نظر عبد الله إلى شدّة احتياطهم في أموال الناس اطمأنّ ، وقال لهم :

إن كنتم صادقين فيما أرى ما عليّ منكم بأس ، والله! ما أحدثت حدثا في الإسلام وإنّي لمؤمن ، وقد آمنتموني ، وقلتم : لا روع عليك .. فلم يحفلوا بكلامه ، وعمدوا إليه فسحبوه وألقوه على الخنزير الذي قتلوه وذبحوه وأقبلوا على امرأته وهي ترتعد من الخوف فقالت لهم مسترحمة :

أنا امرأة أما تتّقون الله؟

ولم تلن قلوب اولئك الممسوخين التي ران عليها الباطل ، فذبحوها ، وبقروا بطنها ، وعمدوا إلى ثلاث نسوة كانت معها فقتلوهنّ ، وفيهنّ أمّ سنان الصيداوية ، وكانت قد صحبت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وأخذ هؤلاء الوحوش ينشرون الرعب بين الناس ، فأوفد الإمام للقياهم الحرث بن مرّة العبدي ليسألهم عن الفساد الذي أحدثوه ، ويطلب منهم تسليم من استحلّ منهم قتل الأنفس التي حرّم الله إزهاقها بغير الحقّ ، فلمّا قرب منهم عمدوا إلى قتله ، ولم يدعوه يدلي برسالة الإمام إليهم.

٢٠٤

قتال الإمام للمارقين :

وخاف أصحاب الإمام من السير لحرب معاوية ، ويتركوا الخوارج من ورائهم يستبيحون أموالهم وأعراضهم من بعدهم ، فانكشفت نواياهم التخريبية بقتلهم عبد الله بن خبّاب وزوجته ، فطلبوا من الإمام مناجزتهم فإذا فرغوا منهم ساروا لحرب معاوية ، فأجابهم الإمام إلى ذلك ، وسار بجيشه حتّى انتهى إلى النهروان حيث كانوا يقيمون فيه ، فأرسل إليهم أن يمكّنوه من قتلة عبد الله بن خبّاب ليقتصّ منهم ، ويمضي إلى قتال معاوية فأجابوه جميعا بلهجة واحدة :

ليس بيننا وبينك إلاّ السيف إلاّ أن تقرّ بالكفر ، وتتوب كما تبنا ...

فردّ عليهم الإمام قائلا :

« أصابكم حاصب (١) ، ولا بقي منكم آبر (٢). أبعد إيماني بالله ، وجهادي مع رسول الله صلّى الله عليه ، أشهد على نفسي بالكفر! ( قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ) (٣)! فأوبوا شرّ مآب ، وارجعوا على أثر الأعقاب.

أما إنّكم ستلقون بعدي ذلاّ شاملا ، وسيفا قاطعا ، وأثرة يتّخذها الظّالمون فيكم سنّة » (٤).

وأخذ الإمام عليه‌السلام يعظهم تارة ، ويراسلهم اخرى ، فجعل كثير منهم يتسلّلون ويعودون إلى الكوفة ، وقسم منهم التحق بجيش الإمام ، وفريق آخر اعتزل الحرب ، ولم يبق منهم إلاّ ذو الثفنات عبد الله بن وهب الراسبي زعيمهم ومعه ثلاثة آلاف.

__________________

(١) الحاصب : ريح شديدة.

(٢) الآبر : الذي يؤبّر النخل ، أي يصلحه.

(٣) الأنعام : ٥٦.

(٤) نهج البلاغة ١ : ١٥٩.

٢٠٥

ولمّا يئس الإمام من هدايتهم عبّأ جيشه تعبئة عامّة ، وأمرهم أن لا يبدءوهم بقتال حتى يكونوا هم الذين يبدءون به ، ولمّا نظر الخوارج إلى تهيئة الإمام للحرب تهيّأوا أيضا ، وكانت نفوسهم تتحرّق إلى الحرب ، وهتف بعضهم :

هل من رائح إلى الجنة؟

فصاحوا جميعا :

الرواح إلى الجنّة ، وحملوا حملة منكرة على جيش الإمام وهم يهتفون بشعارهم :

« لا حكم إلاّ لله ».

وانفرجت لهم خيل الإمام فرقتين : فرقة تمضي إلى الميمنة ، وفرقة تمضي إلى الميسرة ، والخوارج اندفعوا بين الفرقتين فتلقّاهم أصحاب الإمام بالنبل وما هي إلاّ ساعة حتى قتلوا عن آخرهم ، ولم يفلت منهم إلاّ تسعة (١).

وقيل للإمام :

هلك القوم بأجمعهم.

وراح الإمام يخبرهم بما أخبره به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أنّهم لم يهلكوا جميعا ، وأنّه سيدين بفكرتهم من في أصلاب الرجال قائلا :

« كلاّ والله! إنّهم نطف في أصلاب الرّجال ، وقرارات النّساء (٢) ، كلّما نجم منهم قرن قطع ، حتّى يكون آخرهم لصوصا سلاّبين ».

__________________

(١) الملل والنحل ـ الشهرستاني ١ : ١٥٩ ، وجاء فيه أنّه انهزم منهم اثنان إلى عمان ، واثنان إلى كرمان ، واثنان إلى سجستان ، واثنان إلى الجزيرة ، وواحد إلى تل موزون ، وأخذ هؤلاء يبثّون فكرتهم في هذه المواضع حتى ظهرت فيها بدعة الخوارج.

(٢) قرارات النساء : أرحامهنّ.

٢٠٦

ولمّا وضعت الحرب أوزارها طلب الإمام عليه‌السلام أن يلتمسوا له ذا الثدية (١) في القتلى ، ففتّشوا عنه فلم يظفروا به ، فعادوا إليه وأخبروه أنّهم لم يجدوه ، فأمرهم بالبحث عنه ثانيا وقال :

« والله! ما كذبت ولا كذّبت ، ويحكم التمسوا الرّجل فإنّه في القتلى ».

فانطلقوا يبحثون عنه ، فظفر به رجل من أصحابه وهو جثّة هامدة ، فمضى

__________________

(١) جاء في الإصابة ١ : ٤٨٤ في ترجمته عن أنس أنّه قال : كان في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رجل يعجبنا تعبّده ، وقد ذكرنا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يعرفه ، فبينما نحن في ذكره إذ طلع علينا الرجل ، فقلنا له : يا رسول الله ، هو هذا؟ فلمّا نظر إليه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله :

« إنّكم لتخبروني عن رجل انّ وجهه لسفعة ـ السفعة العلامة ـ من الشيطان ».

فأقبل حتى وقف ولم يسلّم ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « انشدك الله! هل قلت حين وقفت على المجلس : ما في القوم أحد أفضل منّي أو خير منّي »؟

قال : نعم ، ثمّ دخل يصلّي.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من يقتل الرجل؟ ».

فقال أبو بكر : أنا ، فمضى إليه فوجده يصلّي.

فقال : سبحان الله! أقتل رجلا يصلّي ، وقد نهى رسول الله عن قتل المصلّين ، فخرج فقال له رسول الله : « ما فعلت؟ ».

فقال : كرهت أن أقتله وهو يصلّي ، وأنت قد نهيت عن قتل المصلّين.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه : « من يقتل الرجل؟ ».

فقال عمر : أنا ، فمضى إليه فوجده يصلّي ، وقد وضع جبهته على الأرض ، فقال عمر :

أبو بكر أفضل منّي ثمّ خرج فقال له رسول الله : « ما فعلت؟ ».

فقال عمر : وجدته واضعا وجهه لله فكرهت أن أقتله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من يقتل الرجل؟ ».

فقال الإمام : أنا.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنت له إن أدركته » ، فمضى الإمام فوجده قد خرج ، فجاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره بالأمر.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لو قتل ما اختلف من أمّتي رجلان كان أوّلهم وآخرهم سواء ».

٢٠٧

مسرعا إلى الإمام فأخبره بذلك ، فخرّ الإمام ساجدا وكذلك فعل بعض أصحابه ، ثمّ رفع رأسه من السجود وهو يقول : « ما كذبت ولا كذّبت ، قتلتم شرّ النّاس » (١).

وحدّث الإمام أصحابه بما سمعه من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في شأن ذي الثدية قائلا :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لي :

« سيخرج قوم يتكلّمون بكلام الحقّ ، لا يجاوز حلوقهم ، يخرجون من الحقّ خروج السّهم ـ أو مروق السّهم ـ ، سيماهم أنّ فيهم رجلا مخدج اليد (٢) في يده شعرات سود ، فإن كان فيهم فقد قتلتم شرّ النّاس ».

وأمر الإمام بإحضار جثّته ، فاحضرت له ، فكشف عن يده فإذا على منكبه ثدي كثدي المرأة ، وعليها شعرات سود تمتدّ حتى تحاذي باطن يده الاخرى ، فإذا تركت عادت إلى منكبه ، فلمّا رأى الإمام ذلك خرّ ساجدا ، ثمّ إنّ الإمام عمد إلى القتلى من الفريقين فدفنهم ، وقسّم بين أصحابه سلاح الخوارج الذين سمّوا بالشراة (٣) ، ثمّ ردّ الأمتعة والعبيد إلى أهليهم كما فعل مثل ذلك بأصحاب الجمل.

وانتهت بذلك حرب النهروان التي تفرّعت من رفع المصاحف ، وقد أسفرت عن تشكيل حزب ثوري عنيف ظهر في الإسلام ، قد أخذ على نفسه التمرّد وإعلان الثورة على الحكومات القائمة في بلاد المسلمين ، ممّا أدّى إلى إراقة أنهار من الدماء

__________________

(١) حلية الأولياء ٧ : ٩٩ ، وجاء فيه عن محمّد بن قيس الهمداني ، قال :

كنت مع عليّ يوم النهروان فقال : « التمسوا ذا الثدية » ، فجعلوا لا يجدونه ، فجعل جبين عليّ يرشح عرقا ويقول : « ما كذبت ولا كذّبت فالتمسوه » فوجدوه في دالية أو جدول فأتي به إلى عليّ فخر ساجدا ... الخ.

(٢) أي ناقص إليه ، والخداج ـ بكسر الخاء ـ : النقصان.

(٣) سمّي الخوارج بالشراة لقولهم : إنّا شرينا أنفسنا في طاعة الله ، جاء ذلك في خزانة الأدب ٨ : ٧٤.

٢٠٨

وإشاعة الفتنة والخلاف بين المسلمين.

لقد كان البارز في أنظمة الخوارج الحكم بكفر من لا يدين بنظامهم من المسلمين ، واستباحة دمائهم وأموالهم.

٢٠٩
٢١٠

افول دولة الحقّ

٢١١
٢١٢

وأعقبت حرب صفّين والنهروان أعظم المحن ، وأشدّها هولا وقسوة على الإمام ، ولم يمتحن بها وحده ، وإنّما امتحن بها العالم الإسلامي ، فقد أخرجته من الدعة والاستقرار ، وأخلدت له المحن والويلات.

لقد أفلت دولة الحقّ ودولة المظلومين والمضطهدين ، وغاب نجمها ، وانتصرت الوثنية القرشية التي يمثّلها معاوية بن أبي سفيان ، فقد أعلن انتصاره الحاسم على الإمام بقوله :

لقد حاربت عليّا بعد صفّين بغير جيش ، ولا عناء ولا عتاد (١).

لقد لانت لابن هند الرقاب ، وخضعت له الوجوه والأعيان ، وأعلن أنّه الحاكم العامّ على جميع الأقاليم الإسلامية.

أمّا الإمام فقد طويت أعلام دولته ، وأصبح بمعزل تامّ عن السلطة السياسية والعسكرية ، فقد مني جيشه بانقلاب مدمّر ، وأصبح يدعو فلا يستجيب له أحد ، وكانت القوى المعارضة له وعلى رأسها الخوارج تعلن معارضتها له ، وتواجهه بأقسى ألوان السبّ من دون أن تخشى معاقبته ، فقد قطع الباغي الأثيم ابن الكوّاء عليه خطابه ، وخاطبه بالآية الكريمة :

( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (٢) ، فأجابه الإمام الممتحن بقوله تعالى : ( فَاصْبِرْ )

__________________

(١) أنساب الأشراف : ١ : ٢٠٠.

(٢) الزمر : ٦٥.

٢١٣

( إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) (١).

وعلى أي حال فإنّا نعرض إلى بعض الأحداث القاسية ، والمتارك الفظيعة التي مني بها الإمام بعد واقعة صفّين والنهروان وهي :

تفلّل جيش الإمام :

وتفلّلت جميع القوّات العسكرية في جيش الإمام وانهارت انهيارا فظيعا ، وشاعت فيها الفرقة والاختلاف ، ولم تعد قوّة صلبة يأوي إليها الإمام ، ويحتمي بها من جيش معاوية الذي أصبح متماسكا قويّا يتمتّع بالطاعة الكاملة لقيادته.

يقول البلاذري : إنّ معاوية أرسل عمارة بن عقبة إلى الكوفة يتجسّس له عن حالة جيش الإمام فكتب إليه ، خرج على عليّ أصحابه ونسّاكهم فسار إليهم فقتلهم ، فقد فسد عليه جنده وأهل مصره ، ووقعت بينهم العداوة ، وتفرّقوا أشدّ الفرقة.

والتفت معاوية ـ وقد ملأ وجهه السرور ـ إلى الوليد بن عقبة فقال له وهو غارق في الضحك :

أترضى أن يكون أخوك لنا عينا؟

فضحك الوليد ، وقال لمعاوية : إنّ لك في ذلك حظّا ونفعا ، وقال الوليد لأخيه عمارة :

فإن يك ظنّي بابن امّي صادقا

عمارة لا يطلب بذحل ولا وتر

مقيم واقبال ابن عفّان حوله

فيمشي بها بين الخورنق والجسر

وتمشي رخيّ البال منتشر القوى

كأنّك لم تشعر بقتل ابنها عمرو (٢)

__________________

(١) الروم : ٦٠.

(٢) حياة الإمام الحسين ٢ : ٨٦ ، نقلا عن أنساب الأشراف.

٢١٤

لقد منيت القوّات العسكرية في جيش الإمام بالفتنة والخلاف والسأم من الحرب ، ولم يكن باستطاعة الإمام بما يملك من طاقات هائلة أن يرجع إليهم القوّة المعنوية ، ويقضي على عناصر الشغب والتمرّد التي أصبحت الظاهرة السائدة فيهم ، فقد بلغ من تمرّدهم أنّ الإمام أقام بالنخيلة ليزحف بهم إلى حرب معاوية ، فجعل الجيش يتسلّلون ويدخلون الكوفة ، ولم يبق معه إلاّ رجال من وجوه شيعته ، فلمّا رأى أنّه لم يعد إليه أحد من جيشه الذين دخلوا الكوفة ، وبقي معسكرا وحده ليس معه إلاّ فئة لا تغني شيئا قفل راجعا إلى الكوفة (١) ، وقد ذهبت نفسه الشريفة أسى وحزنا.

وشيء مهم جدّا بالغ الخطورة في تمرّد جيش الإمام هو أنّ معظم القادة العسكريّين كان لهم اتّصال سرّي وثيق بمعاوية ، وكانت هباته ومنحه تصلهم ، ولم تكن هناك رقابة في جيش الإمام عليهم.

وكان من أبرز اولئك القادة الخائن العميل الأشعث بن قيس ، فقد منّاه معاوية بالأموال والثراء العريض ، ووعده بالمناصب العليا في الجيش ، فقام بعمليات التخريب في جيش الإمام ، وقد استجاب له فريق كبير من القادة العسكريّين ، فقاموا بدورهم بنشر الأراجيف ، وإشاعة الخوف في كتائب جيش الإمام حتّى خلعوا طاعة الإمام ، وأعلنوا عصيان أوامره (٢).

ولم يمن جيش معاوية بشيء من الفرقة والاختلاف ، فقد سادت فيه روح الطاعة والانقياد التامّ.

يقول الحجّاج بن خزيمة لمعاوية : إنّك تقوى بدون ما يقوى به عليّ ؛

__________________

(١) الغارات ١ : ٣١.

(٢) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ : ٨٧.

٢١٥

لأنّ معك قوما لا يقولون إذا أمسكت ، ويسكتون إذا نطقت ، ولا يسألون إذا أمرت ، ومع عليّ قوم يقولون إذا قال ، ويسألون إذا سكت (١).

وكان باستطاعة الإمام أن يرجع جيشه إلى الطاعة ، ويقضي على تمرّدهم وذلك بسلوكه لأمرين :

١ ـ إرشاء الزعماء.

٢ ـ إعدام القادة المتمرّدين.

وابتعد الإمام عن ذلك كأشدّ ما يكون الابتعاد ، فلم يسلك في جميع فترات حياته طريقا ملتويا لا يقرّه الشرع ، ويأباه ضميره الحيّ ، وقد أعلن الإمام عليه‌السلام ذلك في بعض خطبه قال :

« وإنّي لعالم بما يصلحكم ، ويقيم أودكم ، ولكنّي لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي. أضرع الله خدودكم ، وأتعس جدودكم! لا تعرفون الحقّ كمعرفتكم الباطل ، ولا تبطلون الباطل كإبطالكم الحقّ! » (٢).

لقد انساب جيشه وراء الباطل وأمعنوا في اقتراف الإثم ، وكان باستطاعته أن يقيم أودهم ، ويصلح شأنهم ، ولكن ذلك بارتكاب ما حرّمه الإسلام من الرشوة وغيرها.

احتلال مصر :

ولم تقف محنة الإمام المظلوم عند حدّ ، فقد أخذت تتتابع عليه الكوارث والخطوب يتبع بعضها بعضا ، فإنّه لم يكد ينتهي من قتال المارقين حتى ابتلي في أمر

__________________

(١) الأخبار الطوال : ١٥٦.

(٢) نهج البلاغة ١ : ١١٨.

٢١٦

دولته ، فقد قوي معاوية واستحكم سلطانه ، فأخذ يحتلّ الأقاليم الخاضعة لحكم الإمام ، كما أخذ يغير على بعضها ليشيع فيها الخوف والارهاب ، ويفهم المواطنين بعجز حكومة الإمام عن حمايتهم وتوفير الأمن لهم .. وإنّما قدم معاوية على هذه الخطة لعلمه بما مني به جيش الإمام من التخاذل والانحلال ، فلم تعد عند الإمام قوّة عسكرية يحتمي بها ...

وقد أجمع رأي معاوية على احتلال مصر التي تعدّ الأمّ للبلاد الإسلامية ، وقد جعلها طعمة إلى وزيره وباني دولته عمرو بن العاص.

وكانت مصر قد ولّى الإمام عليها قيس بن سعد الأنصاري وهو من ألمع الشخصيات الإسلامية في عمق تفكيره وبعد نظره وحسن سياسته ، وقد ساس المصريّين سياسة عدل وحقّ وقضى على ما كان شائعا من الفتن والاضطرابات الداخلية ، وأشاع فيها المحبّة والوئام ، وقد عزله الإمام وولّى مكانه الطيّب الفذّ محمّد بن أبي بكر ، فاضطربت مصر ، وشاعت فيها الدعوة العثمانية ، ولم يتمكّن محمّد بن إطفاء نار الفتنة فعزله الإمام وولّى مكانه القائد الفذّ مالكا الأشتر النخعي الذي هو من أنصح الناس للإمام ومن أكثرهم ولاء له ومعرفة بشأنه.

ولمّا انتهى مالك في مسيره إلى القلزم دسّ إليه معاوية سمّا جعله في عسل ، فلمّا تناوله قتله ، وكان معاوية وابن العاص يتحدّثان بعد ذلك ، ويقولان : إنّ لله جنودا من عسل.

وعلى أي حال فقد جهّز معاوية جيشا بقيادة ابن العاص لاحتلال مصر ، وكان الإمام قد أقرّ محمّد بن أبي بكر على ولاية مصر ، ووعده أن يمدّه بالجيش والمال ، وأخذ الإمام يحفّز أهل الكوفة على نجدة اخوانهم المصريّين فلم يستجيبوا له ، ثمّ أخذ يلحّ عليهم إلحاحا شديدا ، فاستجاب له بعض الجنود على كره ، وساروا لمصر كأنّهم يساقون إلى الموت ، ولم يلبثوا إلاّ قليلا في مسيرهم حتى وافت الأنباء الإمام

٢١٧

باحتلال مصر من قبل ابن العاص ، وأنّ عامله عليها محمّد بن أبي بكر قد قتل ، واحرقت جثّته فردّ جنده إلى الكوفة ، وخطب خطابا مثيرا نعى فيه تخاذل جيشه وخور عزائمهم ، وأبّن واليه على مصر محمّدا بتأبين أعرب فيه عن خسارته لمحمّد ، وتفجّعه عليه.

وعلى أي حال فإنّ احتلال مصر قد قوّى شوكة معاوية وبسط سلطانه وأضعف حكومة الإمام إلى حدّ بعيد ، وأشاع في جيشه التمرّد والعصيان.

الغارات على مناطق حكم الإمام :

رأى معاوية أنّ من أهمّ الوسائل لبسط سلطانه وإضعاف حكومة الإمام بعث الغارات العسكرية على المناطق الخاضعة لحكم الإمام وذلك لإظهار ضعفه وعدم قدرته على حماية المواطنين ، وعدم استطاعته على صيانة الأمن العام ، ومن بين المناطق التي استهدفها معاوية هي :

١ ـ الحجاز واليمن :

وبعث معاوية كتيبة من جنده تتألّف من ثلاثة آلاف جندي بقيادة الارهابي بسر بن أبي ارطاة للغارة على الحجاز واليمن ، واتّجه جنده نحو المدينة ، فلم يجد من أهلها أيّة مقاومة ، فصعد بسر المنبر ورفع عقيرته يندب شيخ الأمويّين عثمان بن عفّان ويشيع الفزع والرعب بين المدنيّين قائلا :

يا أهل المدينة ، والله! لو لا ما عهد إليّ معاوية ما تركت بها محتلما إلاّ قتلته ...

وغادر هذا الخبيث المدينة متوجّها إلى مكّة ، فاحتلّها وأخذ البيعة من أهلها لمعاوية قسرا ، ثمّ انعطف بعد ذلك إلى احتلال اليمن ، وكان واليها عبيد الله بن العباس فانهزم بنفسه ناجيا من شرّه ، قاصدا نحو الكوفة ليعرّف الإمام بذلك ، ولمّا دخل بسر اليمن أخذ البيعة من أهلها ، وفتّش عن طفلين لعبيد الله فلمّا ظفر بهما

٢١٨

قتلهما (١) فقالت إحدى سيّدات اليمن :

إنّ سلطانا لا يقوم إلاّ بقتل الأطفال لسلطان سوء.

وهكذا اتّسم سلطان معاوية بجميع مراحله ومكوّناته بالسوء والظلم والجور واقتراف كلّ ما حرّم الله تعالى.

وهامت أمّ الطفلين بتيارات مذهلة من الحزن والجزع عليهما حتّى فقدت شعورها ، ورثتهما بذوب روحها قائلة :

يا من أحسّ بنيّيي اللّذين هما

كالدّرّتين تشظّى عنهما الصّدف!

يا من أحس بنيّيي اللّذين هما

قلبي وسمعي فقلبي اليوم مختطف!

من ذلّ والهة حرّى وثاكلة

على صبيّين ضلاّ إذ غدا السّلف

خبّرت بسرا وما صدّقت ما زعموا

من إفكهم وما القول الذي اقترفوا

انحى على ودجي ابنيّ مرهفة

مشحوذة وكذاك الأمر مقترف (٢)

ونشر بسر في اليمن الفزع والخوف ، وأشاع القتل بين اليمانيّين ، وسبى نساءهم ، وفعل القبائح والمنكرات.

ولمّا انتهى النبأ المروّع إلى الإمام بما اقترفه بسر في اليمن من المجازر والسبي وغير ذلك انهارت قواه ، ومزّق الأسى قلبه الشريف ، وخطب في جيشه الممزّق هذه الخطبة التي حكت لوعته وأساه قائلا :

« انبئت بسرا قد اطّلع اليمن (٣) ، وإنّي والله! لأظنّ أنّ هؤلاء القوم ـ يعنى أهل الشام ـ سيدالون (٤) منكم باجتماعهم على باطلهم ، وتفرّقكم عن حقّكم ، وبمعصيتكم

__________________

(١) تاريخ أبي الفداء ١ : ١٨٠.

(٢) حياة الإمام الحسن عليه‌السلام ١ : ٤٤٥.

(٣) اطّلع اليمن : أي بلغها ، واحتلّتها قوّاته.

(٤) سيدالون : أي ستكون لهم الدولة ، وذلك بسبب اجتماع كلمتهم وتفرّق كلمة جيش الإمام.

٢١٩

إمامكم في الحقّ ، وطاعتهم إمامهم في الباطل ، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم ، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم. فلو ائتمنت أحدكم على قعب (١) لخشيت أن يذهب بعلاقته (٢).

اللهمّ إنّي قد مللتهم وملّوني ، وسئمتهم وسئموني ، فأبدلني بهم خيرا منهم ، وأبدلهم بي شرّا منّي.

اللهمّ مث قلوبهم كما يماث الملح (٣) في الماء ، أما والله! لوددت أنّ لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم.

هنالك ، لو دعوت ، أتاك منهم

فوارس مثل أرمية الحميم »

ثمّ نزل عن المنبر (٤) وهو غارق في الأسى والشجون ، قد استولى عليه اليأس من جيشه الذي أصبح أعصابا ميّتة خالية من الشعور والاحساس.

٢ ـ الغارة على العراق :

وعلم معاوية بانهيار جيش الإمام وفقده لجميع المعنويات العسكرية ، وأنّه لا قدرة له على مقاومته ، فشكّل أربع فرق للغارة على العراق وذلك بعد احتلاله لمصر وغيرها من الأقاليم الإسلامية ، وقد عمد إلى ذلك ليملأ قلوب العراقيّين خوفا وفزعا ، ويشعرهم بعدم تمكن الإمام على حمايتهم ... وهذه بعض المناطق العراقية التي غارت عليها جيوش معاوية.

__________________

(١) القعب ـ بالفتح ـ : القدح الكبير.

(٢) علاقته ـ بكسر العين ـ : ما يتعلّق به القعب من ليف وغيره ، وقد اتّهم الإمام جيشه باللصوصية والسرقة.

(٣) ماث : أي ذاب.

(٤) نهج البلاغة ١ : ٦٠.

٢٢٠