موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١١

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ١٠٩

إنّي قد رجوت الله أن يفتح لي ، فلا تعجلني ...

وقفل الرسول راجعا إلى الإمام ، وأخبره بمقالة مالك ، فارتفعت أصوات اولئك الوحوش بالإنكار على الإمام قائلين له :

والله! ما نراك أمرته إلاّ أن يقاتل ...

وامتحن الإمام المظلوم كأشدّ ما يكون الامتحان ، فقال لهم :

أرأيتموني ساررت رسولي إليه ، أليس إنّما كلمته على رءوسكم علانية ، وأنتم تسمعون؟

ولم يستجيبوا لقول الإمام ، وأصرّوا على تمرّدهم وغيّهم قائلين :

ابعث إليه فليأتك وإلاّ فو الله! اعتزلناك ...

وأجمعوا على الشرّ والعدوان قائلين بعنف :

ابعث إليه فليأتك ...

وأجمعوا على الفتك بالإمام ومناجزته ، فلم يجد الإمام بدّا من إصدار أوامره المشدّدة إلى مالك بالانسحاب الفوري عن ساحة الحرب ، فاستجاب الأشتر على كره ، وقد انهارت قواه ، فقال لرسول الإمام :

ألرفع هذه المصاحف حدثت هذه الفتنة؟

نعم.

وعرف الأشتر أنّ مكيدة ابن العاص قد أوجدت هذا الانقلاب في جيش الإمام ، فقال بحرارة وألم :

أما والله! لقد ظننت أنّها ـ أي رفع المصاحف ـ ستوقع اختلافا وفرقة ، إنّها مشورة ابن العاهرة ـ يعني عمرو بن العاص ـ ألا ترى إلى الفتح؟! ألا ترى إلى ما يلقون؟

١٨١

ألا ترى ما يصنع الله بهم؟

أيبتغي أن ندع هذا وننصرف عنه؟

وأحاطه رسول الإمام علما بحراجة الموقف والأخطار الهائلة المحدقة بالإمام قائلا :

أتحبّ أنّك إن ظفرت هاهنا ، وأنّ أمير المؤمنين بمكانه الذي هو به يفرّج عنه ، ويسلّم إلى عدوّه ...

فقال الأشتر مقالة المؤمن الممتحن :

سبحان الله لا والله! ما أحبّ ذلك.

وطفق رسول الإمام يخبر الأشتر بحراجة الموقف ، وما احيط به الإمام من أخطار قائلا :

إنّهم قالوا : لترسلنّ إلى الأشتر فليأتينّك أو لنقتلنّك بأسيافنا كما قتلنا ابن عفّان ، أو لنسلمنّك إلى عدوّك ...

وقفل الأشتر راجعا ، وقد ذهبت نفسه شعاعا ، فقد تحطّمت آماله ، وضاعت أهدافه ، وخسر المعركة بعد أن أشرف على الظفر ، وطلب من اولئك الممسوخين أن يخلّوا بينه وبين عدوّهم الذي سفك دماءهم ، وحصد رءوس أخيارهم ، وأنزل أفدح الخسائر الموجعة بهم فلم يذعنوا له ، ولم يستجيبوا لقوله ، وطلب منهم قائلا :

أمهلوني عدوة الفرس فإنّي قد طمعت في النصر.

فردّوا عليه بشراسة وعنف قائلين :

إذن ندخل معك في خطيئتك ...

وانبرى الأشتر يحاججهم ببالغ الحجّة ، ويفنّد ببرهانه ما ذهبوا إليه قائلا :

فحدّثوني عنكم ، وقد قتل أماثلكم ، وبقي أراذلكم ، متى كنتم محقّين؟

١٨٢

أحين كنتم تقتلون أهل الشام ، فأنتم الآن حين أمسكتم عن القتال محقّون ، فقتلاكم إذن الذين لا تنكرون فضلهم وكانوا خيرا منكم في النار ...

ولم تجد معهم هذه الحجج ، وراحوا مصرّين على جهلهم وغيّهم الذي جرّ للمسلمين الويلات والكوارث ، وألقاهم في شرّ عظيم ...

واندفع هؤلاء الممسوخون قائلين للأشتر :

دعنا منك يا أشتر! قاتلناهم في الله إنّا لا نطيعك ، فاجتنبنا ...

وأخذ الأشتر يمعن في نصحهم ، ويحذّرهم مغبة هذه الفتنة العمياء ، وأنّهم لا يرون عزّا أبدا ، وفعلا فقد صاروا بعد هذا التمرّد أذلّ من قوم سبأ ، فقد آل الأمر إلى معاوية فأخذ يسومهم سوء العذاب ويسقيهم كأسا مصبرة.

وطلب مالك من الإمام أن يناجزهم الحرب فأبى لأنّهم كانوا الأكثرية الساحقة في جيشه ، وفتح باب الحرب معهم يؤدّي إلى أفظع النتائج لأنّهم يقعون فريسة سائغة بأيدي الأمويّين.

وأطرق الإمام الممتحن برأسه إلى الأرض ، وقد طافت به موجات من الألم القاسي ، وتمثّلت أمامه الأخطار المحدقة بالمسلمين ، فلم يكلّم هؤلاء الوحوش بكلمة ، وراحوا يهتفون :

إنّ عليّا أمير المؤمنين قد رضي الحكومة ، ورضي بحكم القرآن ...

وغرق الإمام في تيارات قاسية وموجعة من الألم الممضّ ، فقد مني بانقلاب مدمّر في جيشه ولا يستطيع أن يعمل أي شيء ، وراح يقول :

« لقد كنت أمس أميرا ، فأصبحت اليوم مأمورا ، وكنت ناهيا فأصبحت اليوم منهيّا ... ».

وتركهم يتخبّطون في دياجير قاتمة أدّت إلى هلاكهم ، وانتصار الجور والطغيان عليهم.

١٨٣

التحكيم :

وانتصر معاوية ، وطار فرحاً على ما آل إليه جيش الإمام من التمرّد والعصيان وكتب إلى الإمام رسالة جاء فيها :

أمّا بعد ... عافانا الله وإيّاك فقد آن لك أن تجيب إلى ما فيه صلاحنا والالفة بيننا ، وقد فعلت وأنا أعرف حقّي ، ولكن اشتريت بالعفو صلاح الامّة ، ولا أكثر فرحا بشيء جاء ولا ذهب ، وإنّما أدخلني في هذا الأمر القيام بالحقّ فيما بين الباغي والمبغيّ عليه ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فدعوت إلى كتاب الله فيما بيننا وبينك فإنّه لا يجمعنا وإيّاك إلاّ هو ، نحيي ما أحيا القرآن ، ونميت ما أمات القرآن ، والسلام.

وحفلت هذه الرسالة بالكذب والنفاق ، فهل معاوية بن هند يعرف القرآن ويخضع له وهو وأبوه وأمّه ومعهم الكثير من الاسر القرشية قد كفروا بالقرآن وآمنوا بأصنامهم وأوثانهم؟

ولم يعرض معاوية إلى دم عثمان في رسالته ، وإنّما عرض إلى الكذب السافر ، فقد أعرب أنّه يبغي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أي معروف هذا الذي ينشده هذا الذئب الجاهلي؟ وأي منكر ينكره؟ وهو الذي سفك دماء المسلمين وأغرق البلاد بالمحن والخطوب؟

رسالة الإمام لابن العاص :

وكتب الإمام رسالة لابن العاص يعظه ويرشده إلى اتّباع الحقّ ، وجاء في رسالته :

« أمّا بعد .. فإنّ الدّنيا مشغلة عن غيرها ، ولم يصب صاحبها منها شيئا إلاّ فتحت له حرصا يزيده فيها رغبة ، ولن يستغني صاحبها بما نال عمّا لم يبلغه ،

١٨٤

ومن وراء ذلك فراق ما جمع ، والسّعيد من وعظ بغيره ، فلا تحبط أبا عبد الله أجرك ، ولا تجار معاوية في باطله ... » (١).

ولم يستجب ابن العاص للإمام وكتب له الرسالة التالية :

أمّا بعد ... فإنّ ما فيه صلاحنا وإلف ذات بيننا الإنابة إلى الحقّ ، وقد جعلنا القرآن حكما بيننا فأجبنا إليه ، وصبّر الرجل منّا نفسه على ما حكم عليه القرآن ، وعذره الناس بعد المحاجزة ، والسلام (٢).

وأصرّ ابن العاص على غيّه وأطماعه ، وكتب له الإمام رسالة اخرى فأعرض عنها ، ولم يتجاوب مع الإمام ، وتمسّك بابن هند. وعلى أي حال فلم تقف محنة الإمام وبلاؤه عند هذا الحدّ من عصيان جيشه ، فقد تجاوز الأمر إلى ما هو أعظم من ذلك ، فقد حيكت مؤامرة دبّرها الأشعث مع جماعة من قادة الجيش إلى انتخاب الأشعري الخامل المنافق الذي هو من ألدّ أعداء الإمام ، ومن أكثرهم حقدا عليه ، ليقوم بتنفيذ المؤامرة ، وهي عزل الإمام عن الحكم.

وأقبل الأشعث عميل الأمويّين يلهث كأنّه الكلب ، فقال للإمام :

يا أمير المؤمنين ، ما أرى الناس إلاّ قد رضوا ، وسرّهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن ، فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد ونظرت ما الذي يسأل؟

فرمقه الإمام بطرفه ، ولم يجد وسيلة لصدّه عمّا يريد ، فقال له :

« ائته إن شئت ... ».

وراح المنافق العميل يركض صوب معاوية ، فلمّا انتهى إليه قال له :

__________________

(١) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ٤ : ٢٦٨.

(٢) وقعة صفّين : ٥٦٩ ـ ٥٧١.

١٨٥

ـ يا معاوية ، لأيّ شيء رفعتم المصاحف؟

ـ لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به في كتابه ، فابعثوا منكم رجلا ترضون به ، ونبعث منّا رجلا نرضى به ، ثمّ نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله ، لا يعدوانه ، ثمّ نتّبع ما اتّفقا عليه ...

وكان بين الأشعث اتّفاق سرّي على ذلك ، فراح الأشعث يقول :

هذا هو الحقّ ...

وقفل راجعا إلى الإمام ، وأخبره بالأمر ، وتعالت أصوات العراقيّين قائلين :

رضينا وقبلنا ...

ولم يكن للإمام أي دور في ذلك.

وصاح أهل الشام :

رضينا واخترنا عمرو بن العاص.

وأحاط العراقيّون بالإمام ولهم هرير كهرير الكلاب قائلين :

إنّا رضينا بأبي موسى الأشعري.

فزجرهم الإمام ونهاهم عن انتخابه قائلا :

« إنّ معاوية لم يكن ليضع لهذا الأمر أحدا هو أوثق برأيه ونظره من عمرو بن العاص ، وأنّه لا يصلح للقرشيّ إلاّ مثله ، فعليكم بعبد الله بن عبّاس فارموه به ، فإنّ عمرا لا يعقد عقدة إلاّ حلّها عبد الله ، ولا يبرم أمرا إلاّ نقضه ... ».

فردّ عليه الأشعث المنافق قائلا :

لا والله! لا يحكم فينا مضريان حتّى تقوم الساعة ، ولكن اجعله رجلا من أهل اليمن إذ جعلوا رجلا من مضر.

فأجابه الإمام :

١٨٦

« إنّي أخاف أن يخدع يمنّيكم ، فإنّ عمرا ليس من الله في شيء إذا كان له في أمر هوى ... ».

وقام الخبيث الدنس ابن الكوّاء ، فقال للإمام : هذا عبد الله بن قيس وافد أهل اليمن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصاحب مقاسم أبي بكر وعامل عمر ، وقد رضي به القوم.

وامتنعوا أشدّ الامتناع من ترشيح ابن عبّاس ، وأجمعوا على انتخاب الغبي المنافق الأشعري ، ولم يجد الإمام بدّا من إجابتهم ، وقد سجّلوا لهم العار والخزي ، وهجاهم أيمن بن خريم الأسدي بقوله :

لو كان للقوم رأي يعصمون به

من الضّلال رموكم بابن عبّاس

لله درّ أبيه أيّما رجل

ما مثله لفصال الخطب في الناس

لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن

لم يدر ما ضرب أخماس لأسداس

إن يخل عمر به يقذفه في لجج

يهوي به النّجم تيسا بين أتياس

أبلغ لديك عليّا غير عاتبه

قول امرئ لا يرى بالحقّ من باس

ما الأشعريّ بمأمون أبا حسن

فاعلم هديت وليس العجز كالراس

فاصدم بصاحبك الأدنى زعيمهم

إنّ ابن عمّك عبّاس هو الآسي (١)

وبادر أبو الأسود الدؤلي تلميذ الإمام فحذّره من انتخاب الأشعري قائلا :

يا أمير المؤمنين ، لا ترض بأبي موسى فإنّي قد عجنت الرجل وبلوته فحلبت أشطره ، فوجدته قريب القعر (٢) مع أنّه يماني (٣).

__________________

(١) وقعة صفّين : ٥٧٦.

(٢) من لطائف التعبير قول أبي الأسود : فوجدته قريب القعر.

(٣) أمالي المرتضى ١ : ٢٩٢.

١٨٧

وعلى أي حال فقد ارغم الإمام على انتخاب الأشعري الذي جرّ للعراقيّين الويل والعطبا.

وثيقة التحكيم :

ولمّا اتّفق الفريقان على تحكيم ابن العاص والأشعري ، سجّلا وثيقة على ذلك ، وجاء فيها بعد البسملة :

هذا ما تقاضى عليه عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ، وشيعتهما فيما تراضيا به من الحكم بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قضيّة عليّ على أهل العراق ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب ، وقضيّة معاوية على أهل الشام ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب.

إنّا رضينا أن ننزل عند حكم القرآن فيما حكم ، وأن نقف عند أمره فيما أمر ، وأن لا يجمع بيننا إلاّ ذلك ، وإنّا جعلنا كتاب الله فيما بيننا حكما فيما اختلفنا فيه من فاتحته إلى خاتمته ، نحيي ما أحيا ، ونميت ما أمات ، على ذلك تقاضيا وبه تراضيا ، وإنّ عليّا وشيعته رضوا أن يبعثوا عبد الله بن قيس ناظرا ومحاكما ، ورضي معاوية وشيعته أن يبعثوا عمرو بن العاص ناظرا ومحاكما على أنّهما أخذوا عليهما عهد الله وميثاقه وأعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه ، ليتّخذان الكتاب إماما فيما بعثا له ، لا يعدوانه إلى غيره في الحكم بما وجداه مسطورا ، وما لم يجداه مسمّى في الكتاب ردّاه إلى سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الجامعة لا يتعمدان لهما خلافا ، ولا يتبعان في ذلك لهما هوى ، ولا يدخلان في شبهة.

وأخذ عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص على عليّ ومعاوية عهد الله وميثاقه بالرضا بما حكما به من كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وليس لهما أن ينقضا ذلك ولا يخالفاه إلى غيره ، وأنّهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأهلهما ما لم يعدوا

١٨٨

الحقّ ، رضي بذلك راض أو أنكره منكر ، وأنّ الأمّة أنصار لهما على ما قضيا به من العدل ، فإن توفّي أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة فأمير شيعته وأصحابه يختارون رجلا مكانه لا يألون عن أهل المعدلة والأقساط على ما كان صاحبه من العهد والميثاق ، والحكم بكتاب الله وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وله مثل شرط صاحبه وإن مات أحد الأميرين قبل القضاء فلشيعته أن يولّوا مكانه رجلا يرضون عدله ، وقد وقعت القضيّة ومعها الأمن والتفاوض ووضع السلاح والسلام والموادعة ، وعلى الحكمين عهد الله وميثاقه ألاّ يألوا اجتهادا ولا يتعمّدا جورا ، ولا يدخلا في شبهة ، ولا يعدوا حكم الكتاب وسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإن لم يفعلا برئت الأمّة من حكمهما ، ولا عهد لهما ولا ذمّة ، وقد وجبت القضيّة على ما قد سمّي في هذا الكتاب من مواقع الشروط على الأميرين والحكمين والفريقين ، والله أقرب شهيد وأدنى حفيظ ، والناس آمنون على أنفسهم وأهليهم وأموالهم إلى انقضاء مدّة الأجل ، والسلاح موضوع ، والسبل مخلاّة ، والغائب والشاهد من الفريقين سواء في الأمن.

وللحكمين أن ينزلا منزلا عدلا بين أهل العراق وأهل الشام ، ولا يحضرهما إلاّ من أحبّا عن ملأ منهما وتراض ، وأنّ المسلمين قد أجّلوا القاضيين إلى انسلاخ رمضان فإن رأى الحكمان تعجيل الحكومة فيما وجها له عجّلاها ، وإن أرادا تأخيرها بعد رمضان إلى انقضاء الموسم فإنّ ذلك إليهما ، فإن هما لم يحكما بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى انقضاء الموسم فالمسلمون على أمرهم الأوّل في الحرب ، ولا شرط بين واحد من الفريقين ، وعلى الأمّة عهد الله وميثاقه على التمام والوفاء بما في هذا الكتاب ، وهم يد على من أراد فيه إلحادا وظلما أو حاول له نقضا ... (١).

وقد وقّع على هذه الوثيقة جمهرة من الفريقين ، وليس فيها سوى الدعوة إلى

__________________

(١) وقعة صفّين : ٥٧٨ ـ ٥٨٠ ، ورواها الطبري في الجزء السادس ، ص ٣٠ ولكن بصورة أوجز ممّا عليه هنا.

١٨٩

السلم وعدم إراقة الدماء ، وليس فيها أي تعرّض للمطالبة بدم عثمان ، فقد أهملت الوثيقة ذلك إهمالا تامّا ، وفيما اعتقد أنّه لم يكن للإمام أي رأي في هذه الوثيقة ، وإنّما أملاها الشاميّون وعملاؤهم من أهل العراق.

رجوع الإمام إلى الكوفة :

لا أعتقد أن يلمّ أي كاتب بتصوير المحنة الكبرى التي ألمّت بالإمام في رجوعه من صفّين ، فقد رجع مثقلا بالآلام والهموم ، فقد أيقن أنّ باطل معاوية قد استحكم وأمره قد تمّ ، وأنّ حكومته قد أفلت ، وخبا ضياؤها ، وأنّ جيشه قد أصبح متمرّدا عليه يدعوه فلا يستجيب له ، ويأمره فلا يطيعه ، قد مزّقت الفتن جميع كتائبه وفرقه ، فقد رجعوا وهم يتشاتمون ويتضاربون بالسياط ، ويبغي بعضهم على بعض ، ففريق منهم يرى ضرورة إيقاف القتال ، والبعض الآخر ينكر ذلك ، وينقم على الذاهبين إليه.

وعلى أي حال فقد انبثقت في جيش الإمام الفكرة الحرورية التي كانت سوسة تنخر في جيش الإمام ، وسنتحدّث عنها في الفصول الآتية.

وكان ممّا مني به الإمام من الهوان والآلام في طريق رجوعه إلى الكوفة أنّه سمع سبّه وشتمه ، فقد استقبله قوم فقالوا له :

أقتلت المسلمين بغير جرم ، وداهنت في أمر الله ، وطلبت الملك ، وحكّمت الرجال في دين الله لا حكم إلاّ الله ...

وبلغ الحزن والأسى أقساهما في نفس الإمام ، وقال لهم :

« حكم الله في رقابكم ، ما يحبس أشقاها أن يخضبها من فوقها بدم »؟ ثمّ جاء حتى دخل الكوفة (١).

__________________

(١) الغارات ١ : ٣٠.

١٩٠

اجتماع الحكمين :

وانتهت المدّة التي عيّنها الفريقان للتحكيم ، وقد استردّ معاوية فيها قواه العسكرية التي فقدها أيام صفّين ، فأرسل إلى الإمام يطلب منه الوفاء في التحكيم ، وإنّما سارع إلى ذلك لعلمه بما مني به جيش الإمام من التفكّك والانحلال والتخاذل ، كما كان على يقين لا يخامره شكّ أنّ التحكيم سيكون من صالحه لأنّ المنتخب له من قبل العراقيّين الأشعري وهو من الدّ أعداء الإمام ، ومن الحاقدين عليه وأنّه لا ينتخب الإمام.

وعلى أي حال فقد أشخص العراقيّون الخامل الغبي الأشعري أخزاه الله ومعه أربعمائة شخص من أصحابه كان من بينهم حبر الامّة عبد الله بن عباس يقيم فيهم الصلاة ، وكذلك الشخص الماكر ابن العاص ومعه أربعمائة شخص من أهل الشام ، والتقوا بدومة الجندل أو في أذرح ، وكان ابن العاص قد أفرد للأشعري مكانا خاصّا ، وجعل يقدّم له أطائب الطعام والشراب حتى استنبطه وأرشاه ، ولم يفتح معه الحديث ثلاثة أيام حتى صار العوبة بيده يوجّهه حيث ما شاء ، وأخذ يضفي عليه النعوت الحسنة والألقاب الكريمة ، وكان من بنود حديثه معه.

يا أبا موسى ، إنّك شيخ أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذو فضلها ، وذو سابقتها ، وقد ترى ما وقعت فيه هذه الامّة من الفتنة العمياء التي لا بقاء معها ، فهل لك أن تكون ميمون هذه الامّة فيحقن الله بك دماءها؟ فإنّه يقول في نفس واحدة : ( وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) ، فكيف بمن أحيا هذا الخلق كلّه؟

إيه يا ابن العاص! متى كان الأشعري الضالّ المضلّ شيخ صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ومتى كان من ذوي الفضائل والسوابق في الإسلام؟

قاتل الله السياسة! فقد بنيت على المكر والخداع والتضليل ، وليس لها أيّة صلة بالحقّ والواقع.

١٩١

وعلى أي حال فقد انخدع هذا القزم الحقير بهذا التكريم والتعظيم ، وطفق يسأل ابن العاص عن طرق الاصلاح التي يحقن بها الدماء فقال له :

تخلع أنت عليّ بن أبي طالب ، وأخلع أنا معاوية بن أبي سفيان ، ونختار لهذه الامّة رجلا لم يحضر في شيء من الفتنة ، ولم يغمس يده فيها ...

وكان ابن العاص عالما بانحرافه عن الإمام ، ويعني بالشخص الذي لم يحضر الفتنة هو عبد الله بن عمر ، وكان الأشعري يميل إليه ، فقال له : من هو؟

عبد الله بن عمر.

وسرّ الأشعري بذلك ، وانبرى يطلب منه العهود والمواثيق على الالتزام بما قاله قائلا : كيف لي بالوثيقة منك؟

يا أبا موسى ، ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب ، خذ من العهود والمواثيق حتى ترضى ...

ولم يترك ابن العاص يمينا إلاّ أقسم به. وما قيمة الأيمان والمواثيق عند ابن العاص؟ وهو الذي نشأ نشأة جاهلية؟ وعلى أي حال فقد انخدع الأشعري بمقالة ابن العاص فأجابه بالرضا والقبول وعيّنا وقتا يذيعان فيه ما اتّفقا عليه.

وأقبلت الساعة الرهيبة التي تنتظرها الجاهير بفارغ الصبر ، واتّجه الماكر ابن العاص والغبي الأشعري نحو منصّة الخطابة ليعلنا للناس ما اتّفقا عليه ، فقال ابن العاص لأبي موسى :

قم فاخطب الناس يا أبا موسى! قم أنت فاخطبهم ...

وراح الماكر يخدع الأشعري ، ويضفي عليه الألقاب الكريمة ، ويبالغ في تعظيمه قائلا :

١٩٢

سبحان الله! أنا أتقدّم عليك ، وأنت شيخ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والله! لا فعلت ذلك أبدا (١).

وغرّت هذه الكلمات المعسولة ، التي ألقاها ابن العاص مشاعر الأشعري وعواطفه ، وراح يطلب منه الوفاء بما عاهده عليه ، فراح يقسم له بالله تعالى على الوفاء بما قال ، وما أرخص القسم الكاذب عند ابن العاص الذي لا يرجو لله وقارا! فأقسم له بكلّ يمين بتنفيذ ما قاله ، ولم يخف على حبر الامّة زيف يمين ابن العاص ، فالتفت إلى الأشعري يحذّره من مكيدة ابن العاص قائلا له :

ويحك! والله! إنّي لأظنّه قد خدعك ، إن كنتما قد اتّفقتما على أمر فقدّمه قبلك فليتكلّم ، ثمّ تكلّم أنت بعده ، فإنّ عمرا رجل غدّار ، ولا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه ، فإذا قمت للناس خالفك ...

ولم يحفل الغبي بكلام ابن عباس ، وراح يشتدّ كأنّه الكلب نحو منصّة الخطابة ، فلمّا استوى عليها قال :

أيّها الناس ، إنّا قد نظرنا في أمرنا فرأينا أقرب ما يحضرنا من الأمن والصلاح ، ولمّ الشعث ، وحقن الدماء ، وجمع الالفة ... خلعنا عليّا ومعاوية! فقد خلعت عليّا كما خلعت عمامتي هذه ، وأهوى إلى عمامته فخلعها ، واستخلفنا رجلا صحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه ، وصحب أبوه النبيّ فبرز في سابقته وهو عبد الله بن عمر (٢).

__________________

(١) العقد الفريد ٣ : ٣١٥.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ٣٩ ، وجاء في شرح النهج ١٣ : ٣١٥ : روى سويد بن غفلة قال : كنت مع أبي موسى على شاطئ الفرات في خلافة عثمان فروى لي خبرا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : سمعته يقول : « إنّ بني إسرائيل اختلفوا فلم يزل الاختلاف بينهم حتّى بعثوا حكمين ضالّين ، ضلاّ وأضلاّ من اتّبعهما ، ولا تنفك أمّتي حتى يبعثوا حكمين يضلاّن ويضلاّن من اتّبعهما » فقلت له : احذر يا أبا موسى أن تكون أحدهما ، قال : فخلع قميصه وقال : ابرأ إلى الله من ذلك كما برىء قميصي من هذا.

١٩٣

افّ لك يا زمان! وتعسا لك يا دهر! هذا الصعلوك الغبي يتحكّم في رقاب المسلمين؟ ويعزل وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وباب مدينة علمه ، وأبا سبطيه ، والبائت على فراشه ، وحاميه من كيد الطغاة القرشيّين ، والمجاهد الأوّل في الإسلام الذي ليس مثله في نصرته وحمايته للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

إنّ الذي خلع الإمام عليه‌السلام ، وجعل الأشعري يتحكّم في مصير المسلمين ، إنّما هم أعضاء السقيفة والشورى ، والحكم في ذلك لا يحتاج إلى الدليل فهو واضح وضوح الشمس.

وعلى أي حال فقد عزل الأشعري الإمام أمير المؤمنين عملاق هذه الامّة ، ورائد العدالة الكبرى في الأرض الذي طوّق الدنيا بمواهبه وعبقرياته ، ورشّح لخلافة المسلمين عبد الله بن عمر الذي لا يحسن طلاق زوجته ( على حدّ تعبير أبيه ) ... حقّا إنّها من مهازل الزمن التي تمثّلت في ذلك العصر الذي أخمدت فيه أضواء الفكر ، وأفلت تعاليم القرآن. ومهما يكن الأمر فقد انبرى الماكر الخبيث ابن العاص إلى منصّة الخطابة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال :

أيّها الناس ، إنّ أبا موسى عبد الله بن قيس خلع عليّا ، وأخرجه من هذا الأمر الذي يطلب ، وهو أعلم به ، ألا وأنّي خلعت عليّا معه ، وأثبتّ معاوية عليّ وعليكم ، وإنّ أبا موسى قد كتب في الصحيفة أنّ عثمان قتل مظلوما (١) شهيدا ، وأنّ لوليّه أن يطلب بدمه حيث كان ، وقد صحب معاوية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصحب أبوه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

__________________

(١) إنّ الصحيفة التي تمّ الاتّفاق عليها لم يذكر فيها المطالبة بدم عثمان عميد الأمويّين وشيخهم.

(٢) إنّ أبا سفيان صحب النبيّ في واقعة احد وغيرها من الحروب التي قادها للقضاء على الإسلام.

١٩٤

ثمّ أخذ يضفي على معاوية بن هند صفات المتّقين التي لم يتّصف إلاّ بضدّها والتفت إلى الجماهير فقال لهم :

هو الخليفة علينا ، وله طاعتنا وبيعتنا على الطلب بدم عثمان (١).

واشتدّ الأشعري وهو يلهث نحو ابن العاص بعد ما غدر به ونكث عهده قائلا له :

ما لك؟ عليك لعنة الله ، ما أنت إلاّ كمثل الكلب ( إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ) (٢) ...

فزجره ابن العاص قائلا :

لكنّك مثل الحمار يحمل أسفارا ...

لقد صدق كلّ منهما في وصف صاحبه ، فقد مالا عن الحقّ واقترفا كلّ ما حرّم الله تعالى من إثم وغدر.

لقد جرّ هذا التحكيم الظالم للامّة الكثير من المصاعب والفتن وألقاها في شرّ عظيم ... فقد ماج الجيش العراقي الذي أجبر الإمام على التحكيم في الفتن ، وأيقن بالخيبة والخسران ، وانهزم الأشعري نحو مكّة يصحب معه العار والخزي له ولذرّيته (٣) ولمن رشّحه للتحكيم ، فقد غدر بالمسلمين غدرة منكرة وألقاهم في شرّ عظيم.

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٣٥١. الإمامة والسياسة ١ : ١٤٣.

(٢) الأعراف : ١٧٦.

(٣) احتقر المسلمون ذرّية الأشعري ، فقد سمع الفرزدق أبا بردة بن الأشعري يقول : كيف لا أتبختر ، وأنا ابن أحد الحكمين ، فقال له الفرزدق : أمّا أحدهما ـ أي الحكمين ـ فمائق ، وأمّا الآخر ففاسق ، فكن ابن أيّهما شئت. شرح النهج ١٩ : ٣٥٣.

ونظر رجل إلى بعض ولدي أبي موسى يتبختر في مشيته ، فقال : ألا ترون مشيته كأنّ أباه خدع ابن العاص.

١٩٥

افتخار ابن العاص :

افتخر ابن العاص على أهل الشام بما حقّقه من انجاز عظيم في خداعه للغبي الأشعري ، واثر عنه من الشعر اعتزازه بذلك قال :

خدعت أبا موسى خديعة شيظم (١)

يخادع سقبا في فلاة من الأرض

فقلت له : إنّا كرهنا كليهما

فنخلعهما قبل التّلاتل والدّحض (٢)

فإنّهما لا يغضيان على قذى

من الدّهر حتّى يفصلان على أمض (٣)

فطاوعني حتّى خلعت أخاهم

وصار اخونا مستقيما لدى القبض

وإنّ ابن حرب غير معطيهم الولا

ولا الهاشميّ الدهر أو ربع الحمض

وأعرب ابن العاص بهذه الأبيات عن سروره البالغ لخديعته للأشعري وأنّه حقّق الانتصار الكاسح لمعاوية.

وردّ ابن عبّاس على ابن العاص أبياته بقوله :

كذبت ولكن مثلك اليوم فاسق

على أمركم يبغي لنا الشّرّ والعزلا

وتزعم أنّ الأمر منك خديعة

إليه وكلّ القول في شأنكم فضلا

فأنتم وربّ البيت! قد صار دينكم

خلافا لدين المصطفى الطيّب العدلا

أعاديتم حبّ النّبيّ ونفسه

فما لكم من سابقات ولا فضلا

فأنتم وربّ البيت! أخبث من مشى

على الأرض ذا نعلين أو حافيا رجلا

غدرتم وكان الغدر منكم سجيّة

كأن لم يكن حرثا ولا لم يكن نسلا (٤)

__________________

(١) الشيظم : الطويل الجسم ، الفتى من الناس. والسقب : ولد الناقة.

(٢) التلاتل : الشدائد. الدحض : الزلل.

(٣) الأمض : الباطل.

(٤) وقعة صفّين : ٦٣٣.

١٩٦

فرح الشاميّين :

ولمّا شاع أمر التحكيم واذيعت نتائجه فرح الشاميّون كأشدّ ما يكون الفرح وطابت نفوسهم بفوز معاوية وافول دولة الحقّ ، وشمتوا بالعراقيّين ، وقد أعلن ذلك شاعرهم كعب بن جعيل بقوله :

كأنّ أبا موسى عشيّة أذرح

يطوف بلقمان الحكيم يواربه

فلمّا تلاقوا في تراث محمّد

نمت بابن هند في قريش مضاربه

سعى بابن عفّان ليدرك ثأره

وأولى عباد الله بالثأر طالبه

وقد غشيتنا في الزّبير غضاضة

وطلحة إذ قامت عليه نوادبه

فردّ ابن هند ملكه في نصابه

ومن غالب الأقدار فالله غالبه

وما لابن هند في لؤيّ بن غالب

نظير وإن جاشت عليه أقاربه

فهذاك ملك الشّام واف سنامه

وهذاك ملك القوم قد جبّ غاربه

يحاول عبد الله عمرا وإنّه

ليضرب في بحر عريض مذاهبه

دحا دحوة نجلاء أودت بنفسه

إلى أسفل المهوى ظنون كواذبه (١)

وأنت ترى في هذا الشعر الاستهانة بالأشعري ، وأنّه ليس أهلا لأن يكون كفؤا لابن العاص ، والشماتة من الشاعر ظاهرة في العراقيّين الذين لم يقرّروا مصيرهم الحاسم بعد أن أشرفوا على الفتح فكان مثلهم كالتي نقضت غزلها.

رسالة ابن العاص لمعاوية :

وبعث ابن العاص إلى سيّده معاوية رسالة يهنّيه بما أحرزه من النصر في خديعته للأشعري ، وما أحدثه من الفتن والاختلاف في جيش الإمام ، وكتب في

__________________

(١) وقعة صفّين : ٦٣٢.

١٩٧

آخر الكتاب هذه الأبيات :

أتتك الخلافة مزفوفة

هنيئا مريئا تقرّ العيونا

تزفّ إليك كزفّ العروس

بأهون من طعنك الدّار عينا

وما الأشعريّ بصلد الزّناد

ولا خامل الذّكر في الأشعرينا

ولكن اتيحت له حيّة

يظلّ الشجاع لها مستكينا

فقالوا وقلت وكنت امرأ

أجهجه بالخصم حتّى يلينا

فخذها ابن هند على بأسها

فقد دافع الله ما تحذرونا

وقد صرف الله عن شامكم

عدوّا شنيّا وحربا زبونا (١)

لقد أقام ابن العاص بمكره وسياسته دولة معاوية ، وأنقذها من السقوط بعد ما أشرف الجيش العراقي على الفتح والانتصار.

مآسي الإمام :

ولمّا انتهى النبأ المفزع والمؤلم بأمر التحكيم إلى الإمام القاضي بخلعه بلغ به الحزن أقصاه ، وذهبت نفسه شعاعا ألما وأسى ، فجمع الناس فخطب فيهم خطابا صعد فيه آلامه وأحزانه على مخالفة أمره بعدم إيقاف القتال ، والاستجابة لنداء عدوّه الماكر الذي قضى على ما أحرزه جيشه من النصر الحاسم يقول عليه‌السلام :

« الحمد لله وإن أتى الدّهر بالخطب الفادح ، والحدث الجليل ، وأشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له ، ليس معه إله غيره ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله .

أمّا بعد ، فإنّ معصية النّاصح الشّفيق العالم المجرّب تورث الحسرة ، وتعقب

__________________

(١) وقعة صفّين : ٥٤٧.

١٩٨

النّدامة.

وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري ، ونخلت لكم مخزون رأيي ، لو كان يطاع لقصير أمر! فأبيتم عليّ إباء المخالفين الجفاة ، والمنابذين العصاة ، حتّى ارتاب النّاصح بنصحه ، وضنّ الزّند بقدحه ، فكنت أنا وإيّاكم كما قال أخو هوازن :

أمرتكم أمري بمنعرج اللّوى

فلم تستبينوا الرّشد إلاّ ضحى الغد

ألا إنّ الرّجلين اللّذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم الكتاب وراء ظهورهما ، وارتأيا الرّأي من قبل أنفسهما ، فأماتا ما أحياه القرآن ، ثمّ اختلفا في حكمهما ، فكلاهما لا يرشد ولا يسدّد فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين ، فاستعدّوا للجهاد ، وتأهّبوا للمسير ، وأصبحوا في معسكركم يوم الإثنين إن شاء الله (١).

وتوالت المحن الكبرى على إمام العدل والحقّ يتبع بعضها بعضا ، فقد أفلت دولته ، وانهارت حكومته ، فقد تمرّد عليه جيشه كأشدّ ما يكون التمرّد ، فكان يأمره فلا يطيع ، ويدعوه فلا يستجيب ، قد مزّقه معاوية ، وعبث به وذلك بما كان يرسل من الأموال إلى قادة الجيش حتى آثروه على الإمام ، وقد قيل لرجل من بني تغلب : آثرتم معاوية على عليّ؟

فقال : ما آثرناه ، ولكنّا آثرنا العنب الأصفر والبرّ الأحمر والزيت الأخضر (٢).

وبالإضافة إلى ذلك فقد انبثقت في الجيش العراقي فكرة الخوارج وكانت سوسة تنخر في جسم الجيش ، وتدعوه إلى التمرّد والعصيان وهذا ما سنتحدّث عنه.

__________________

(١) نهج البلاغة ١ : ٨٥.

(٢) الامتاع والمؤانسة ٢ : ٦٣.

١٩٩
٢٠٠