موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١١

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ١٠٩

التمرّد والعصيان وإعلان الحرب.

٢ ـ يزيد بن قيس

وانبرى يزيد بن قيس الأرحبي فألقى كلمة رائعة دعى فيها معاوية إلى الحقّ قائلا :

إنّا لم نأتك إلاّ لنبلّغك ما بعثنا به إليك ، ولنؤدّي ما سمعنا منك ، لن ندع أن ننصح لك ، وأن نذكر ما ظننّا أنّ لنا به عليك حجّة ، أو أنّه راجع بك إلى الألفة والجماعة ، إنّ صاحبنا لمن قد عرفت ، وعرف المسلمون فضله ، ولا أظنّه يخفى عليك : إنّ أهل الدين والفضل لن يعدلوك بعليّ عليه‌السلام ، ولن يميّلوا بينك وبينه ، فاتّق الله يا معاوية! ولا تخالف عليّا ، فإنّا والله! ما رأينا رجلا قطّ أعمل بالتقوى ، ولا أزهد في الدنيا ، ولا أجمع لخصال الخير كلّها منه ...

وأشاد هذا الخطاب بفضل الإمام عليه‌السلام ، وأنّه نسخة لا ثاني لها في المسلمين تقوى وورعا وجهادا وتجرّدا عن متع الحياة وزهوها ... ولكنّ ابن هند لم يع منطق الحقّ ، ولم يهتمّ بامور المسلمين فردّ عليه :

جواب معاوية :

وأجاب معاوية بأغاليطه قائلا :

أمّا بعد .. فإنّكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة ، فأمّا الجماعة التي دعوتم إليها فنعمّا هي ، وأمّا الطاعة إلى صاحبكم فإنّا لا نراها ، إنّ صاحبكم قتل خليفتنا ، وفرّق جماعتنا ، وآوى ثأرنا ، وقتلتنا ، وصاحبكم يزعم أنّه لم يقتله ، فنحن لا نردّ ذلك عليه ، أرأيتم قتلة صاحبنا؟ ألستم تعلمون أنّهم أصحاب صاحبكم؟ فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به ، ونحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة ...

وحفل خطاب معاوية بالكذب والنفاق ، فقد عزى قتل عثمان إلى الإمام ،

١٦١

وهو يعلم براءته من دمه ، وإنّما الذي أجهز عليه منحه الثراء العريض لبني اميّة وآل أبي معيط ، وتنكيله بخيار الصحابة أمثال أبي ذرّ وعمّار بن ياسر وعبد الله بن مسعود ، ومنحه الوظائف المهمّة في الدولة لاسرته وغير ذلك ممّا اقترفه ، الأمر الذي أثار عليه غضب الأخيار والمتحرّجين في دينهم فقتلوه ، وليس للإمام أي دور أو ضلع في قتله ، كما ألمحنا إلى ذلك في البحوث السابقة.

٣ ـ شبث بن ربعي :

وانبرى شبث بن ربعي فقال لمعاوية :

أيسرك بالله يا معاوية! إن أمكنك من عمّار بن ياسر تقتله؟ إنّ عمّارا هو من المحرّضين على قتل عثمان فاندفع معاوية قائلا :

وما يمنعني من ذلك ، والله! لو أمكنني صاحبكم من ابن سميّة ما قتلته بعثمان ، ولكن كنت قتلته بنائل مولى عثمان بن عفّان ...

وأي قيمة لعمّار عند معاوية الذي لم يفقه من قيم الإسلام شيئا؟ إنّ عمّار بن ياسر أجلّ صحابي ، وأسمى شخصية في الإسلام ، فقد ساهم مساهمة إيجابية في إقامة صروح الدين ، واستشهد أبوه ياسر وأمّه سميّة في سبيل الإسلام ، وكان من أقرب الصحابة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن أكثرهم مودّة وحبّا له ، ومن الطبيعي أنّ معاوية لا يحفل به ولا يقيم له أي وزن.

وعلى أي حال فقد غضب شبث من كلام معاوية ، وقال له :

وإله السماء! ما عدلت معدلا ، لا والله الذي لا إله إلاّ هو! لا تصل إلى قتل ابن ياسر حتى تندر الهام عن كواهل الرجال ، وتضيق الأرض من الفضاء عليك برحبها ...

ورجع الوفد إلى الإمام عليه‌السلام وأخبروه بعدم نجاحهم في وفادتهم ، وأنّ معاوية

١٦٢

مصرّ على الحرب والعصيان (١).

الاستعداد للحرب :

ولمّا فشلت جميع الوسائل التي اتّخذها الإمام من أجل السلم وحقن الدماء عبّأ أصحابه للحرب ، وكذلك عبّأ معاوية جيشه للقتال.

تعاليم الإمام :

وأوعز الإمام عليه‌السلام إلى جيشه بتطبيق ما يلي في ميادين الحرب قائلا لهم :

« لا تقاتلوا القوم حتّى يبدءوكم ، فأنتم ـ بحمد الله ـ على حجّة وترككم إيّاهم حتّى يبدءوكم حجّة اخرى لكم عليهم ، فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا تكشفوا عورة ، ولا تمثّلوا بقتيل ، فإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا ، ولا تدخلوا دارا إلاّ بإذن ، ولا تأخذوا شيئا من أموالهم إلاّ ما وجدتم في عسكرهم ، ولا تهيّجوا امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم ؛ فإنّهنّ ضعاف القوى » (٢).

ومثّلت هذه التعاليم شرف القيادة العسكرية في الإسلام ، والتي اتّخذها فقهاء المسلمين منهجا في حروب المسلمين بعضهم لبعض ، ولم يكونوا قبل ذلك على علم بها.

دعاء الإمام :

ونظر الإمام الممتحن بأسى بالغ وحزن عميق إلى الجيوش الإسلامية وقد

__________________

(١) وقعة صفّين : ٢٢١ ـ ٢٢٤.

(٢) وقعة صفّين : ٢٦٦. نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ٨ : ٣٤٦ ـ ٣٤٧.

١٦٣

استعدّت لتحارب بعضها فذابت نفسه أسى ، وراح يدعو الله تعالى بهذا الدعاء.

« اللهمّ ربّ هذا السّقف المرفوع ، المكفوف المحفوظ ، الّذي جعلته مغيض اللّيل والنّهار ، وجعلت فيها مجاري الشّمس والقمر ، ومنازل الكواكب والنّجوم ، وجعلت ساكنه سبطا من الملائكة لا يسأمون العبادة.

وربّ هذه الأرض الّتي جعلتها قرارا للنّاس ، والأنعام والهوامّ ، وما نعلم وما لا نعلم ، ممّا يرى ، وممّا لا يرى من خلقك العظيم.

وربّ الجبال الّتي جعلتها للأرض أوتادا ، وللخلق متاعا.

وربّ البحر المسجور المحيط بالعالم.

وربّ السّحاب المسخّر بين السّماء والأرض.

وربّ الفلك الّتي تجري في البحر بما ينفع النّاس ، إن أظفرتنا على عدوّنا ، فجنّبنا الكبر ، وسدّدنا للرّشد ، وإن أظفرتهم علينا فارزقنا الشّهادة ، واعصم بقيّة أصحابي من الفتنة » (١).

وأنت ترى في هذا الدعاء مدى تبتّل الإمام وانقطاعه إلى الله تعالى وطلبه للسداد منه ، وأن يجنّبه البغي والعدوان في هذه الحرب.

التحام الجيشين :

واستعدّ الإمام عليه‌السلام للحرب فخرج لابسا لامة حربه ، وكان على ميمنة جيشه عبد الله بن بديل الخزاعي ، وعلى ميسرته عبد الله بن عباس ، وقرّاء العراق ، ومن بينهم الصحابي العظيم عمّار بن ياسر ، وباقي الصحابة الأجلاّء ، فاستقبلتهم جحافل

__________________

(١) وقعة صفّين : ٢٣٢.

١٦٤

جيوش الشام ، والتحمت معهم في معركة رهيبة ، وقد أبلى الجيش العراقي بلاء حسنا ، وزرع الرعب والخوف في جند معاوية ، واستمرّت الحرب ، فلمّا حلّ شهر المحرّم توقّف القتال.

معاوية يحرّض أصحابه على اغتيال الإمام :

وطلب معاوية من قادة جيشه وفرسانهم اغتيال الإمام فقال لهم :

إنّ عليّا يخرج في سرعان الخيل فمن ينتدب له؟

فقام إليه عبد الرحمن بن خالد ، فقال : أنا له. فأمره معاوية بالجلوس لأنّه ليس خفيفا في الحرب.

وقام عبد الرحمن العكّيّ ، فقال : أنا له. فمنعه معاوية لأنّه كان عجولا.

وقام عمرو بن الحصين السّكوني فقال : أنا له.

فقال معاوية : أنت له حقّا ، فخرج مع عكّ والصّدف.

وخرج الإمام على عادته إلى ساحة الحرب فترقّبه السكوني ، وحمل عليه من خلفه ، فلمّا كاد أن يطعنه اعترضه سعيد بن قيس الهمداني فطعنه طعنة نجلاء قصم بها صلبه ، فالتفت الإمام إلى خلفه فرأى السكوني صريعا ، ورأى رجلا من ذي رعين قد قتله سعيد أيضا فجزع عليهما معاوية جزعا شديدا ، ونظم سعيد بن قيس هذه الأبيات :

لقد فجعت بفارسها رعين

كما فجعت بفارسها السّكون

غداة أتى أبا حسن عليّا

وأمّ النقع مشبلة طحون

ليطعنه فقلت له : خذنها

مسوّمة يخفّ لها القطين

أقول له : ورمحي في صلاه

وقد قرّت بمصرعه العيون

ألا يا عمرو عمرو بن الحصين

وكلّ فتى ستدركه المنون

١٦٥

أترجو أن تنال إمام صدق

أبا حسن وذا ما لا يكون

لقد بكت السّكون عليك حتى

وهت منها النواظر والجفون

ألا أبلغ معاوية بن حرب

ورجم الغيب يكشفه اليقين

بأنّا لا نزال لكم عدوّا

طوال الدهر ما سمع الحنين

ألم تر أنّ والينا عليّا

أب برّ ونحن له بنون

وأنّا لا نريد سواه يوما

وذاك الرّشد والحقّ المبين

وإنّ له العراق وكلّ كبش

حديد القرن ترهبه القرون (١)

استئناف الحرب :

واستؤنفت العلميات الحربية بعد تصرّم محرّم إلاّ أنّها لم تكن عامّة ، وإنّما كانت متقطّعة ، تخرج الكتيبة للكتيبة والفرقة للفرقة ، وقد سئم الفريقان هذه الحرب المتقطّعة وتعجّلوا الحرب العامّة ، فعبّأ الإمام جيوشه تعبئة عامّة وكذلك فعل معاوية ، والتحم الجيشان التحاما رهيبا ، واقتتلوا أبرح قتال ، وأشدّه وانكشفت ميمنة جيش الإمام انكشافا ذريعا بلغ حدّ الهزيمة ، وقاتل الإمام ومعه الحسنان (٢) ، وانحاز الإمام إلى ميسرة جيشه ، وكانت فيها ربيعة ، وقد بذلت من الجهد أقساه ، وكان قائلهم يقول :

لا عذر لكم بعد اليوم عند العرب إن اصيب عليّ.

واشتدّ القتال ، وقد تحالفت ربيعة على الموت وصمدت في ميادين الحرب ، ورجعت ميمنة الإمام إلى حالها من التماسك ، وكان ذلك بفضل القائد الملهم الزعيم مالك الأشتر ، واستمرّت الحرب على حالها من العنف.

__________________

(١) خزانة الأدب ٨ : ٧٧ ـ ٧٨.

(٢) أنساب الأشراف ١ : ٣٠٥.

١٦٦

الإمام يدعو معاوية للبراز :

وبرز الإمام في ساحة الحرب ونادى رافعا صوته :

يا معاوية! فالتفت معاوية إلى جماعته ، وقال لهم :

اسألوه ما شأنه؟

أحب أن يظهر لي فاكلّمه كلمة واحدة ..

وخرج معاوية ومعه ابن العاص ، وهما يحتميان بالجند ، فوجّه الإمام خطابه إلى معاوية قائلا :

« ويحك! علام يقتتل النّاس بيني وبينك ، ويضرب بعضهم بعضا؟ ابرز إليّ فأيّنا قتل صاحبه فالأمر له ... ».

والتفت معاوية إلى ابن العاص فقال له :

ما ترى يا أبا عبد الله؟

لقد أنصفك الرجل.

والتاع معاوية من كلام ابن العاص ، وقال له بعنف :

ليس من مثلي يخدع عن نفسه ، والله! ما بارز ابن أبي طالب رجلا قطّ إلاّ سقى الأرض من دمه ...

وانصرف معاوية مغيظا محنقا يطارده الرعب والفزع ، وتأثّر من ابن العاص ، وحقد عليه لمّا أشار عليه بمبارزة الإمام ، فقد أشار عليه بالموت والهلاك ، وقال له يعاتبه بهذه الأبيات :

يا عمرو إنّك قد قشرت لي العصا

برضاك في وسط العجاج برازي

يا عمرو إنّك قد أشرت بظنّة

إنّ المبارز كالجديّ النّازي

١٦٧

ما للملوك وللبراز وإنّما

حتف المبارز خطفة للبازي

ولقد أعدت فقلت مزحة مازح

والمزح يحمله مقال الهازي

فإذا الذي منّتك نفسك خاليا

قتلي جزاك بما نويت الجازي

فلقد كشفت قناعها مذمومة

ولقد لبست بها ثياب الخازي

فأجابه عمرو :

أيّها الرجل! أتجبن عن خصمك ، وتتّهم نصيحتك؟

وأجابه عن شعره بهذه الأبيات :

معاوي إن نكلت عن البراز

لك الويلات فانظر في المخازي

معاوي ما اجترمت إليك ذنبا

وما أنا في التي حدثت بخازي

وما ذنبي بأن نادى عليّ

وكبش القوم يدعى للبراز

فلو بارزته بارزت ليثا

حديد النّاب يخطف كلّ بازي

ويزعم أنّني أضمرت غشّا

جزاني بالذي أضمرت جازي

أضبع في العجاجة يا ابن هند

وعند الباه كالتّيس الحجازي (١)؟

وكيف يستطيع هذا الجبان الصعلوك أن يبارز أسد الله الذي حصد ببتّاره رءوس المشركين من قريش وأنزل بهم الهزيمة والعار.

مبارزة الإمام لابن العاص :

وبرز ابن العاص في بعض أيام صفّين إلى ساحة الحرب ، فتصدّى له الإمام ، فلمّا عرفه انخلع قلبه وجمد دمه ، وكشف عن عورته ، فصرف الإمام وجهه عنه حياء وخجلا ، وقال أصحاب الإمام له :

__________________

(١) وقعة صفّين : ٣١١ ـ ٣١٣.

١٦٨

أفلت الرجل يا أمير المؤمنين؟

أتدرون من هو؟

لا.

إنّه عمرو بن العاص تلقّاني بعورته فصرفت وجهي عنه ...

ورجع ابن العاص إلى معاوية ، فقال له :

ما صنعت يا عمرو؟

لقيني عليّ فصرعني ...

فسخر معاوية وقال مستهزئا به :

احمد الله وعورتك ...

وتلى معاوية على ابن العاص هذه الأبيات :

ألا لله من هفوات عمرو

يعاتبني على تركي برازي

فقد لاقى أبا حسن عليّا

فآب الوائليّ مآب خازي

فلو لم يبد عورته للاقى

به ليثا يذلّل كلّ نازي

له كفّ كأن براحتيها

منايا القوم يخطف خطف بازي

فإن تكن المنايا أخطأته

فقد غنّى بها أهل الحجاز (١)

وقد بقيت هذه الحادثة لطخة عار وخزي على ابن العاص المجرم الجبان الذي لا يرجو لله وقارا ، وقد وقع مثل ذلك من الخبيث الدنس بسر بن أبي أرطأة فقد كشف عورته حينما برز له الإمام عليه‌السلام فأعرض عنه ، هؤلاء الجبناء هم أعمدة السياسة الأمويّة.

__________________

(١) وقعة صفّين : ٤٦٣ ـ ٤٦٤.

١٦٩

مصرع الشهيد الخالد عمّار :

أمّا عمّار بن ياسر فهو من أفضل صحابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن أكثرهم جهادا في الإسلام ، وكان أثيرا عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد أخلص له في الحبّ كأعظم ما يكون الإخلاص ، وقد اثرت في حقّه بعض الآيات والروايات ، وبعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لازم وصيّه وباب مدينة علمه ، وقد آمن إيمانا لا يخامره شكّ أو وهم أنّ الإمام أولى بمركز النبيّ ، وأحقّ بمقامه ، وقد احتفّ به وناصره ، وجاهد معه في حرب الجمل ، وفي أيام صفّين كان عضدا للإمام ، وقد بلغ ذروة الشيخوخة فقد ناهز التسعين عاما أو أكثر من ذلك ، وكان قلبه وبصيرته بمأمن من الشيخوخة ، فكان في معركة صفّين نشطا قويا كأنّه في ريعان الشباب ، وقد حارب ابن العاص وهو يشير إلى رايته قائلا :

والله! إنّ هذه الراية قاتلتها ثلاث عركات ، وما هذه بأرشدهنّ ...

وكان يبعث الحماس والعزم في جيش الإمام قائلا لهم :

والله! لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحقّ وهم على الباطل ...

ويقول الرواة إنّه جلس مبكّرا في يوم من أيام صفّين ، وقد ازداد قلبه وجيبا وشوقا إلى ملاقاة حبيبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وملاقاة أبويه الشهيدين ياسر وسميّة ، فخفّ مسرعا نحو الإمام يطلب منه الإذن ليلج في الحرب لعلّه يرزق الشهادة وعرض ذلك على الإمام فلم يسمح له بذلك ، وظلّ يعاود الإمام مستأذنا على ذلك ، فلم تطب نفس الإمام بالسماح له ، وراح يلحّ عليه فلم يجد بدّا من إجابته ، فأذن له ، وقد ذابت نفس الإمام حزنا عليه ، وقد أجهش بالبكاء.

وانطلق عمّار إلى ساحة الحرب وهو جذلان فرح بما سيصير إليه من الشهادة وملاقاة الأحبّة وقد رفع صوته عاليا :

اليوم ألقى الأحبّه

محمّدا وحزبه ...

١٧٠

وكان صاحب الراية والقائد لتلك الكتيبة الصحابي الجليل هاشم بن عتبة المرقال ، وهو من فرسان المسلمين وخيارهم ، وأحبّهم للإمام ، وأخلصهم له ، وكان أعور فاتّجه عمّار نحوه وجعل يحرّضه على الهجوم فتارة يقول له برفق :

احمل فداك أبي وأمّي ...

واخرى يقول له بشدّة وعنف :

تقدّم يا أعور ...

وهاشم يقول لعمّار بأدب ولطف وتكريم :

رحمك الله يا أبا اليقظان! إنّك رجل تستخفّ بالحرب ، وإنّي إنّما أزحف زحفا لعلّي أبلغ ما اريد ...

ولم يزل عمّار يحرّض هاشما على الحملة حتى ضجر فحمل وهو يرتجز :

قد أكثروا لومي وما أقلاّ

إنّي شربت النّفس لن اعتلاّ

أعور يبغي نفسه محلاّ

لا بدّ أن يفلّ أو يفلاّ

قد عالج الحياة حتّى ملاّ

أشدّهم بذي الكعوب شلاّ

ودلّ هذا الرجز على سأم هاشم من الحياة ، وشوقه إلى ملاقاة الله تعالى ، وجال معه في ميدان الحرب عمّار وهو يقاتل أعنف القتال ويرتجز :

نحن ضربناكم على تنزيله

واليوم نضربكم على تأويله

ضربا يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله

أو يرجع الحقّ إلى سبيله

لقد قاتل عمّار وجاهد بإيمان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دفاعا عن الإسلام ، واليوم يقاتل مع أخي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دفاعا عن تأويل القرآن ودفاعا عن إمام المسلمين ، فما أعظم عائدة عمّار على الإسلام!

١٧١

والتحم بطل الإيمان عمّار مع القوى الباغية التحاما رهيبا ، ولمّا رأى ذلك معاوية اضطرب وقال : هلكت العرب إن أخذتهم خفّة العبد الأسود يعني عمّارا ... (١).

وبينما عمّار يقاتل قتال الأبطال إذ حمل عليه رجس من أرجاس البشرية وهو أبو العادية الفزاري فطعنه طعنة قاتلة فهوى إلى الأرض ذلك الصرح الشامخ من العقيدة والإيمان يتخبّط بدمه المعطّر بالشهادة في سبيل الله تعالى.

وأضرّ العطش بعمّار وهو ينزف دما فبادرت إليه امرأة بلبن ، فلمّا رآه تبسّم وراح يقول :

قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « آخر شرابك من الدّنيا ضياح من لبن ، وتقتلك الفئة الباغية ... ».

ولم يلبث قليلا حتى صعدت روحه الطاهرة إلى الله تحفّها الملائكة المقرّبون ، وقد انطوت بشهادته أروع صفحة مشرقة بالإيمان والجهاد.

لقد سمت روح عمّار إلى الله تعالى وهي تحمل جميع ألوان الجهاد والإيمان والإخلاص والحبّ لله تعالى.

وكان الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام برحا ومضطربا لم يقرّ له قرار حينما برز عمّار إلى ساحة الجهاد فكان يقول بأسى بالغ :

« فتّشوا لي عن ابن سميّة ... ».

وانطلقت فصيلة من الجيش تبحث عنه فوجدته قتيلا مضمّخا بدم الشهادة ، فانبرى بعضهم مسرعا إلى الإمام فأخبره بشهادته ، ووقع النبأ على الإمام كالصاعقة فقد انهارت قواه ، وانهدّ ركنه ، وأحاطت به موجات من الألم القاسي ،

__________________

(١) وقعة صفّين : ٣٨٤.

١٧٢

ومشى لمصرعه كئيبا حزينا ، وعيناه تفيضان دموعا ، وسار معه قادة الجيش ، وهم يذرفون الدموع.

ولمّا انتهى الإمام عليه‌السلام إلى الجثمان المقدّس ألقى بنفسه عليه وجعل يوسعه تقبيلا وأخذ يؤبّنه بحرارة قائلا :

« إنّ امرأ من المسلمين لم يعظم عليه قتل عمّار ـ ويدخل عليه بقتله مصيبة موجعة ـ لغير رشيد.

رحم الله عمّارا يوم أسلم.

ورحم الله عمّارا يوم قتل.

ورحم الله عمّارا يوم يبعث حيّا.

لقد رأيت عمّارا ما يذكر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أربعة إلاّ كان الرّابع ، ولا خمسة إلاّ كان الخامس ، وما كان أحد من أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله يشكّ في أنّ عمّارا قد وجبت له الجنّة في غير موطن ولا اثنين ، فهنيئا لعمّار الجنّة ».

وأخذ الإمام رأس البطل الشهيد فجعله في حجره ودموعه على وجهه الشريف ، وهو يبدي حزنه وأساه عليه ، ويقول :

ألا أيّها الموت الذي ليس تاركي

أرحني فقد أفنيت كلّ خليل

أراك بصيرا بالذين احبّهم

كأنّك تسعى نحوهم بدليل

وانبرى الإمام الحسن عليه‌السلام سبط النبيّ فألقى كلمة في تأبينه كما أبّنه قادة الجيش ، ثمّ قام الإمام الثاكل الحزين الذي فقد أعزّ أنصاره وأصحابه فواروا جثمان الشهيد العظيم في مقرّه الأخير ، وقد واروا معه الإيمان والتقوى ، ونكران الذات ، وقد دفنه الإمام عليه‌السلام بثيابه ولم يغسّله عملا بالسنّة في دفن الشهيد.

١٧٣

وقوع الفتنة في جيش معاوية :

ولمّا اذيع مقتل عمّار وقعت الفتنة في جيش معاوية ، فقد سمع الجميع مقالة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّه : « تقتله الفئة الباغية » فقد اتّضح لهم أنّهم الفئة الباغية التي عناها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان ابن العاص من بين الذين رووا حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في عمّار تقتله الفئة الباغية ، وشاع ذلك عنه في أوساط أهل الشام ، فتراجع بعض العارفين من أصحاب معاوية والتحقوا بالإمام كان منهم العنسي ، وهو القائل :

والرّاقصات بركب عامدين له

إنّ الذي جاء من عمرو لمأثور

قد كنت أسمع والأنباء شائعة

هذا الحديث فقلت الكذب والزّور

حتّى تلقّيته من أهل عيبته

فاليوم أرجع والمغرور مغرور

واليوم أبرأ من عمرو وشيعته

ومن معاوية المحدو به العير

لا لا اقاتل عمّارا على طمع

بعد الرّواية حتّى ينفخ الصّور

تركت عمرا وأشياعا له نكدا

إنّي بتركهم يا صاح معذور

يا ذا الكلاع فدع لي معشرا كفروا

أو لا فديتك عين فيه تعزير

ما في مقال رسول الله في رجل

شكّ ولا في مقال الرّسل تحبير (١)

وأنت ترى في هذا الشعر مدى التراجع الذي لا حق العنسي ، فقد بانت له الحقيقة وآمن أنّ معاوية وابن العاص على باطل لا شكّ فيه ، وأنّ الحقّ مع عمّار ومع الإمام عليه‌السلام.

وغضب معاوية على ابن العاص لروايته الحديث في عمّار وانتفخ سحره فقال له بغضب :

أفسدت عليّ أهل الشام ، أكلّ ما سمعته من رسول الله تقوله؟

__________________

(١) وقعة صفّين : ٣٩٠ ـ ٣٩١.

١٧٤

فقال ابن العاص : قلتها ولست والله! أعلم الغيب ، ولا أدري أنّ صفّين تكون (١) ونظم في ذلك هذه الأبيات :

تعاتبني أن قلت شيئا سمعته

وقد قلت ـ لو أنصفتني ـ مثله قبلي

أرجلك فيما قلت رجل ثبيتة

وتزلق بي في مثل ما قلته رجلي؟

وما كان لي علم بصفّين أنّها

تكون وعمّار يحثّ على قتلي

فلو كان لي بالغيب علم كتمتها

وكابدت أقواما مراجلهم تغلي

أبى الله إلاّ أنّ صدرك واغر

عليّ بلا ذنب جنيت ولا ذحل

سوى أنّني ، والرّاقصات عشيّة

بنصرك مدخول الهوى ذاهل العقل

وردّ عليه معاوية بهذه الأبيات :

فقلت لك القول الذي ليس ضائرا

ولو ضرّ لم يضررك حملك لي ثقلي

فعاتبتني في كلّ يوم وليلة

كأنّ الذي ابليك ليس كما ابلي

فيا قبّح الله العتاب وأهله

ألم تر ما أصبحت فيه من الشّغل

فدع ذا ، ولكن هل لك اليوم حيلة

تردّ بها قوما مراجلهم تغلي؟

دعاهم عليّ فاستجابوا لدعوة

أحبّ إليهم من ثرى المال والأهل

إذا قلت هابوا حومة الموت أرقلوا

إلى الموت إرقال الهلوك إلى الفحل (٢)

وقد صوّرت هذه الأبيات هلع معاوية وخوفه من الإمام عليه‌السلام الذي استجابت له جماهير المسلمين ، واستطابوا الموت دونه ، وهو زاحف بهم إلى قتاله.

وعلى أي حال فقد أوجد قتل عمّار زلزالا في جيش معاوية ، وتمرّدا في كتائبه

إلاّ أنّ ابن العاص قد استطاع بمكره وخداعه أن يضلّل الجماهير فقال لهم :

__________________

(١) و (٢) وقعة صفّين : ٣٩٠ ـ ٣٩١.

١٧٥

إنّ الذي قتل عمّارا هو الذي أخرجه إلى حومة الحرب وآمن الغوغاء من أهل الشام بمقالته ، ونقل إلى الإمام عليه‌السلام قوله فردّ عليه قائلا :

« إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الّذي قتل حمزة وجعفرا لأنّه أخرجهما للحرب ».

وفنّد الإمام بذلك المنطق الرخيص لابن العاص.

ليلة الهرير :

أمّا ليلة الهرير فهي أقسى ليلة وأشدّها هولا وعنفا في جميع حروب صفّين ، وقد وصفها الرواة بأنّ الجيشين زحف بعضهما إلى بعض فتراموا بالنبل والحجارة حتى فنيت ، ثمّ تطاعنوا بالرماح حتى تكسّرت ، ثمّ مشى القوم بعضهم إلى بعض بالسيف وعمد الحديد فلم يسمع السامع إلاّ وقع الحديد بعضه على بعض ، وهو أشدّ هولا في صدور الرجال من الصواعق ومن جبال تهامة يدكّ بعضها بعضا ، وبقوا على هذا الصراع العنيف حتى انكشفت الشمس ، وثار القتام وظلّت الألوية والرايات قائمة والمعارك مستمرة ، ثمّ اجتلدوا بالسيوف وعمد الحديد من صلاة الغداة إلى نصف الليل لم يصلّوا لله صلاة ، واستمر القتال حتى أصبحوا وكانت الضحايا سبعين ألف قتيل من الفريقين ، وكان الإمام في قلب الجيش والأشتر يزحف بجنده ، وهو يقول لهم :

ازحفوا قيد رمحي هذا ، فإذا فعلوا ذلك قال لهم : ازحفوا قاب هذا القوس (١) ولم يزل القتال مستمرّا حتى تفلّلت جميع قوى معاوية ، وبان عليه الانكسار وهمّ بالفرار إلاّ أنّه تذكّر قول ابن الأطنابة :

أبت لي همّتي وأبى بلائي

وإقدامي على البطل المشيح

__________________

(١) وقعة صفّين : ٣٩٠ ـ ٣٩١.

١٧٦

وإعطائي على المكروه مالي

وأخذي الحمد بالثّمن الرّبيح

وقولي كلّما جشأت وجاشت

مكانك تحمدي أو تستريحي

وقد ردّه هذا الشعر إلى الصبر والثبات كما كان يتحدّث بذلك أيام الملك والسلطان.

خطاب الإمام :

ولمّا بان الانكسار الهائل في معسكر الطاغية ابن أبي سفيان ، وتفلّلت جميع كتائبه العسكرية قام الإمام عليه‌السلام خطيبا في جيشه فقال بعد حمد الله تعالى والثناء عليه :

« أيّها النّاس ، قد بلغ بكم الأمر وبعدوّكم ما قد رأيتم ، ولم يبق منهم إلاّ آخر نفس ، وإنّ الامور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأوّلها ، وقد صبر لكم القوم على غير دين حتّى بلغنا منهم ما بلغنا ، وأنا غاد عليهم بالغداة احاكمهم إلى الله عزّ وجلّ ... ».

واحتدم القتال كأشدّه ، وزحف القائد العام مالك الأشتر وقد أحرز الفتح ، ولم يبق على الاستيلاء على معاوية الذي فرّق كلمة المسلمين وألقاهم في شرّ عظيم إلاّ حلبة شاة أو عدوة فرس ، وقد شاءت المقادير عكس ذلك.

مهزلة رفع المصاحف :

إنّ أبشع مهزلة في التاريخ البشري وأسوأ كارثة مني بها المسلمون على امتداد التأريخ هي مكيدة رفع المصاحف ، وقد وصفها « راوجوست ميلر » بأنّها من أبشع المهازل وأسوئها في التاريخ البشري (١).

__________________

(١) العقيدة والشريعة في الإسلام : ١٩٠.

١٧٧

واعتقد أنّ هذه المكيدة القاصمة لم تكن وليدة المصادفة أو المفاجأة ، فقد حيكت اصولها قبل هذا الوقت ، فقد كان ابن العاص الماكر الخبيث وزير معاوية على اتّصال دائم ببعض القادة في الجيش العراقي ، كان من بينهم الخبيث العميل الأشعث بن قيس مع جماعة من قادة الجيش العراقي ، وجرت بينهم وبين ابن العاص اتّصالات سرّية احيطت بكثير من الكتمان بتدبير مؤامرة انقلابية في جيش الإمام ، وذهب إلى هذا الرأي عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين قائلا :

« فما استبعد أن يكون الأشعث بن قيس وهو ماكر أهل العراق وداهيتهم قد اتّصل بعمرو بن العاص ماكر أهل الشام وداهيتهم ودبّرا هذا الأمر بينهم تدبيرا ، ودبّرا أن يقاتلوا القوم فإن ظهر أهل الشام فذاك ، وإن خافوا الهزيمة أو أشرفوا عليها رفعوا المصاحف فأوقعوا الفرقة بين أصحاب عليّ ، وجعلوا بأسهم بينهم شديدا » (١).

وعلى أي حال فقد بدت الهزيمة المنكرة في جيش معاوية ، وانهارت جميع قواه العسكرية ، ففزع إلى ابن العاص ، وقال له بذعر وخوف :

إنّما هي الليلة حتى يغدو علينا بالفصيل ، فما ترى؟

وأشار عليه ابن العاص قائلا :

إنّ رجالك لا يقومون لرجاله ، ولست مثله ، هو يقاتلك على أمر ، وأنت تقاتله على أمر آخر ، أنت تريد البقاء ، وهو يريد الفناء ، وأهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم ، وأهل الشام لا يخافون عليّا إن ظفر بهم ، ولكن ألق إليهم أمرا إن قبلوه اختلفوا ، وإن ردّوه اختلفوا ، ادعهم إلى كتاب الله حكما فيما بينك وبينهم ، فأنت بالغ به حاجتك في القوم ، فإنّي لم أزل أؤخّر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه.

واستطاب معاوية رأي ابن العاص ، وعرف صدق نصيحته ، فمعاوية يقاتل

__________________

(١) الفتنة الكبرى ٢ : ٨٩.

١٧٨

الإمام من أجل الملك والسلطان ، والإمام يقاتله من أجل الإسلام وإقامة حكم الله في الأرض.

وعلى أي حال فقد أوعز معاوية برفع المصاحف أمام الجيش العراقي ، فرفعت زهاء خمسمائة مصحف ، وتعالت أصوات أهل الشام بلهجة واحدة :

يا أهل العراق! هذا كتاب الله بيننا وبينكم من فاتحته إلى خاتمته من لثغور أهل الشام بعد أهل الشام؟ ومن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق؟ ومن لجهاد الروم؟ ومن للترك؟ ومن للكفّار؟

وكانت هذه الهتافات التي تعالت من أهل الشام كالصاعقة على رءوس الجيش العراقي ، فقد انقلب رأسا على عقب ، فخلع طاعة الإمام ومني بانقلاب مدمّر ، وراح الإمام الممتحن يحذّر جيشه من هذه الدعاوى المضلّلة ويفنّد مزاعم معاوية قائلا :

يا لسوء الأقدار! يا للأسف! يا للمصيبة العظمى! لقد أحاطت تلك الوحوش الكاسرة والبهائم المخدوعة بالإمام المظلوم الممتحن ، وكان عددهم زهاء عشرين ألفا ، وهم مقنّعون بالحديد ، شاكّون بالسلاح ، قد اسودّت وجوههم من السجود ، يتقدّمهم مسعر بن فدكيّ ، وزيد بن حصين ، وعصابة من القرّاء ، فنادوا الإمام باسمه لا بإمرة المؤمنين قائلين :

يا عليّ ، أجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت إليه ، وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفّان ، فو الله لنفعلنّها إن لم تجبهم ...

فردّ عليهم الإمام قائلا والأسى ملء فؤاده :

« ويحكم أنا أوّل من دعا إلى كتاب الله ، وأوّل من أجاب إليه ، وليس يحلّ لي

١٧٩

ولا يسعني في ديني أن ادعى إلى كتاب الله فلا أقبله ، إنّي إنّما اقاتلهم ليدينوا بحكم القرآن ، فإنّهم قد عصوا الله فيما أمرهم ونقضوا عهده ونبذوا كتابه ، ولكنّي قد أعلمتكم أنّهم قد كادوكم وأنّهم ليسوا العمل بالقرآن يريدون ... ».

لقد نصحهم الإمام ودلّهم على زيف هذه الحيلة ، وإنّما لجئوا إليها لفشلهم في العمليات العسكرية ، وأنّهم لم يقصدوا بها إلاّ خداعهم ...

ومن المؤسف أنّ تلك الوحوش لم يعوا منطق الإمام ، وانخدعوا بهذه المكيدة ، وراحوا في غيّهم يعمهون ، وقد جلبوا لأنفسهم ولأمّتهم الدمار والهلاك ، فاندفعوا كالموج صوب الإمام بأصوات عالية قائلين :

أجب القوم ...

أجب القوم وإلاّ قتلناك ...

وفي طليعة هؤلاء المنافق الخبيث الأشعث بن قيس الذي كان على اتّصال وثيق بابن العاص ، فقد تسلّح بهؤلاء المتمرّدين ، وهو ينادي بقبول التحكيم ، والاستجابة لدعوة أهل الشام.

ولم يجد الإمام بدّا من إجابتهم فأصدر أوامره بإيقاف عمليات الحرب ، وقد ذاب قلبه الشريف ألما وحزنا فقد أيقن بزوال دولة الحقّ ، وانتصار دولة الظلم والبغي وأنّ دماء جيشه التي سفكت في سبيل الله قد ضاعت وذهبت سدى.

وأصرّ عليه اولئك الأقزام بسحب قائده العام مالك الأشتر من ساحة الحرب ، وكان الأشتر قد أشرف على نهاية الفتح ، ولم يبق بينه وبين النصر الحاسم إلاّ حلبة شاة أو عدوة فرس ، فأرسل إليه الإمام بإيقاف العمليات العسكرية ، فلم يعن مالك بما امر به ، وقال لرسول الإمام :

قل لسيّدي ليست هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني فيها عن موقفي ،

١٨٠