موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١١

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ١٠٩

وأمّا ما ذكرت من أمر قتلة عثمان ، فإنّي نظرت في هذا الأمر ، وضربت أنفه وعينيه فلم أر دفعهم إليك ولا إلى غيرك.

ولعمري لئن لم تنزع عن غيّك وشقاقك لتعرفنّهم عن قليل يطلبونك ولا يكلّفونك أن تطلبهم في برّ ولا بحر ، ولا جبل ولا سهل.

وقد كان أبوك أتاني حين ولّى النّاس أبا بكر ، فقال : أنت أحقّ بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا الأمر وأنا زعيم لك بذلك على من خالف عليك ، ابسط يدك ابايعك. فلم أفعل.

وأنت تعلم أنّ أباك قد كان قال ذلك وأراده حتّى كنت أنا الّذي أبيت ، لقرب عهد النّاس بالكفر ، مخافة الفرقة بين أهل الإسلام فأبوك كان أعرف بحقّي منك ، فإن تعرف من حقّي ما كان يعرف أبوك ، تصب رشدك ، وإن لم تفعل فسيغني الله عنك ، والسّلام » (١).

وحفلت هذه الرسالة بامور بالغة الأهمّية ، فقد عرضت إلى ما لاقاه المنقذ العظيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من الجهد الشاقّ والعسير من الاسر القرشية التي هبّت في وجهه لإطفاء نور الله تعالى ، وإعادة الجاهلية الرعناء بآثامها إلى مسرح الحياة ، وقد انبرت الاسرة الهاشمية إلى اعتناق الإسلام ، والإيمان بالدعوة المباركة العظيمة ، فلاقت أقسى الأزمات وأكثرها محنة ، وأعظمها بلاء ، فحبست مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في شعب أبي طالب ، وحرمت عليهم قريش جميع وسائل الحياة ، حتّى منّ الله عليهم بالخروج من ذلك السجن الرهيب ، ولمّا أمر الله تعالى نبيّه الكريم بالهجرة من مكّة إلى المدينة ، أضرمت عليه قريش أخزاها الله نار الحرب ، وجنّدت الجيوش للقضاء

__________________

(١) العقد الفريد ٢ : ٢٣٤. نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ٤ : ١٧٧ ـ ١٨٥.

١٤١

عليه ، فقدّم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله اسرته الممجّدة للدفاع عن حياض الإسلام ، فاستشهد عبيدة يوم بدر وعمّه حمزة في يوم احد ، وابن عمّه جعفر في واقعة مؤتة ، فاسرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هي المحامية عن الإسلام ، والمناصرة له في أيام محنته وغربته ، فهي أولى بمركز النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأحقّ بمقامه من غيرها ، الذين ليس لهم أيّة سابقة أو جهاد يذكر في سبيل الله تعالى.

كما ذكرت هذه الرسالة موقف الإمام عليه‌السلام من الخلفاء وكان متّسما بالكراهية وعدم الرضا لأنّهم تقمّصوا حقّه ، ونهبوا تراثه ، والله تعالى هو الذي يحكم بينهم وبين الإمام حينما يعرضون عليه .. هذه لقطات ممّا حفلت به هذه الرسالة.

كتاب معاوية للإمام :

أرسل معاوية إلى الإمام عليه‌السلام هذه الرسالة مع أبي امامة الباهلي ، وليس في أي بند من بنودها موطن حقّ وصدق ، وهذه نسختها :

من عبد الله معاوية بن أبي سفيان إلى عليّ بن أبي طالب.

أمّا بعد .. فإنّ الله تعالى جدّه اصطفى محمّدا عليه الصلاة والسلام لرسالته ، واختصّه بوحيه ، وتأدية شريعته ، فأنقذ به من العماية (١) وهدى به من الغواية ، ثمّ قبضه إليه رشيدا حميدا ، قد بلغ الشرع ، ومحق الشرك ، وأخمد نار الإفك ، فأحسن الله جزاءه ، وضاعف عليه نعمه وآلاءه (٢) ، ثمّ إنّ الله سبحانه اختصّ محمّدا عليه الصلاة والسلام بأصحاب أيّدوه ونصروه ، وكانوا كما قال الله سبحانه لهم : ( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ) (٣) فكان أفضلهم مرتبة ، وأعلاهم عند الله والمسلمين

__________________

(١) العماية : الغواية والإفك.

(٢) الآلاء : النعم.

(٣) الفتح : ٢٩.

١٤٢

منزلة الخليفة الأوّل الذي جمع الكلمة ، ولمّ الدعوة ، وقاتل أهل الردّة ، ثمّ الخليفة الثاني الذي فتح الفتوح ، ومصر الأمصار ، ثمّ الخليفة الثالث المظلوم الذي نشر الملّة ، وطبق الآفاق بالكلمة الحنيفيّة.

فلمّا استوثق الإسلام وضرب بجرانه (١) ، عدوت عليه ، فبغيت له الغوائل ، ونصبت له المكايد ، وضربت له بطن الأمر وظهره ، ودسست عليه ، وأغريت به ، وقعدت ، حيث استنصرك ، عن نصره ، وسألك أن تدركه قبل أن يمزق ، فما أدركته ، وما يوم المسلمين منك بواحد ، لقد حسدت أبا بكر والتويت عليه ، ورمت إفساد أمره ، وقعدت في بيتك ، واستغويت عصابة من الناس حتّى تأخّروا عن بيعته ، ثمّ كرهت خلافة عمر وحسدته ، واستطلت مدّته ، وسررت بقتله ، وأظهرت الشماتة بمصابه ، حتّى أنّك حاولت قتل ولده (٢) لأنّه قتل قاتل أبيه ، ثمّ لم تكن أشدّ منك حسدا لابن عمّك عثمان ، نشرت مقابحه ، وطويت محاسنه ، وطعنت في فقهه ، ثمّ في دينه ، ثمّ في سيرته ، ثمّ في عقله ، وأغريت به السفهاء من أصحابك وشيعتك ، حتّى قتلوه بمحضر منك ، لا تدفع عنه بلسان ولا يد ، وما من هؤلاء ـ يعني الخلفاء ـ إلاّ بغيت عليه ، وتلكّأت في بيعته حتى حملت إليه قهرا تساق بحزائم الاقتسار (٣) كما يساق الفحل المغشوش ، ثمّ نهضت الآن تطلب الخلافة وقتلة عثمان خلصاؤك ، وسجراؤك (٤) والمحدقون بك ، وتلك من أماني النفوس ، وضلالات الأهواء.

فدع اللجاج والعبث جانبا ، وادفع إلينا قتلة عثمان ، وأعد الأمر شورى بين

__________________

(١) جران البعير : مقدّم عنقه ، والمراد أنّ الإسلام استقام وتمّت له الامور.

(٢) أشار معاوية إلى عبيد الله بن عمر الذي قتل الهرمزان وابنته لأنّه من أصحاب أبي لؤلؤة الذي اغتال عمر ، وقد عفا عنه عثمان وأقطعه أرضا في الكوفة ، ورام الإمام أن يقتصّ منه فمنعه عثمان ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في البحوث السابقة.

(٣) الاقتسار : القهر.

(٤) السجراء : الأصفياء والأخلاّء.

١٤٣

المسلمين ، ليتّفقوا على من هو لله رضا ، فلا بيعة لك في أعناقنا ، ولا طاعة لك علينا ، ولا عتبى لك عندنا ، وليس لك ولأصحابك عندي إلاّ السيف.

والذي لا إله إلاّ هو! لأطلبن قتلة عثمان أينما كانوا وحيث كانوا حتى أقتلهم أو تلحق روحي بالله ، فأمّا ما تزال تمنّ به من سابقتك وجهادك فإنّى وجدت الله سبحانه يقول : ( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (١) ولو نظرت في حال نفسك لوجدتها أشدّ الأنفس امتنانا على الله بعملها ، وإذا كان الامتنان على السائل يبطل أجر الصدقة ، فالامتنان على الله يبطل أجر الجهاد ، ويجعله كصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء ممّا كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين (٢).

أوليس في هذه الرسالة إلاّ الكذب والافتراء ، وهي من سمات هذا الجاهلي الذي تربّى بآثام الجاهلية وشرورها.

ردّ الإمام :

وقد ردّ عليه الإمام عليه‌السلام بهذه الرسالة ، وجاء فيها بعد البسملة :

« أمّا بعد .. فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله تعالى محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله لدينه ، وتأييده إيّاه بمن أيّده من أصحابه ، فلقد خبّأ لنا الدّهر منك عجبا ، إذ طفقت تخبرنا ببلاء الله (٣) عندنا ، ونعمته علينا في نبيّنا ، فكنت في ذلك كناقل التّمر إلى هجر ، أو داعي مسدّده إلى النّضال.و زعمت أنّ أفضل النّاس في الإسلام فلان وفلان (٤) ، فذكرت أمرا

__________________

(١) الحجرات : ١٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٣ : ٤٤٨.

(٣) البلاء : النعمة.

(٤) يعني بفلان وفلان أبا بكر وعمر.

١٤٤

إن تمّ اعتزلك كلّه ، وإن نقص لم يلحقك ثلمه ، وما أنت والفاضل والمفضول ، والسّائس والمسوس ، وما للطّلقاء وأبناء الطّلقاء والتّمييز بين المهاجرين الأوّلين ، وترتيب درجاتهم ، وتعريف طبقاتهم؟!

هيهات لقد حنّ قدح (١) ليس منها ، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها! ألا تربع أيّها الإنسان على ظلعك ، وتعرف قصور ذرعك ، وتتأخّر حيث أخّرك القدر! فما عليك غلبة المغلوب ، ولا لك ظفر الظّافر ، وإنّك لذهّاب في التّيه (٢) ، روّاغ عن القصد ، ألا ترى ـ غير مخبر لك ، ولكن بنعمة الله احدّث ـ أنّ قوما استشهدوا في سبيل الله تعالى من المهاجرين والأنصار ، ولكلّ فضل حتّى إذا استشهد شهيدنا قيل سيّد الشّهداء ، وخصّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه (٣)!

أولا ترى أنّ قوما قطّعت أيديهم في سبيل الله ولكلّ فضل حتّى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم ، قيل الطّيّار في الجنّة (٤) وذو الجناحين! ولو لا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه ، لذكر ذاكر (٥) فضائل جمّة تعرفها قلوب المؤمنين ، ولا تمجّها آذان السّامعين.

فدع عنك من مالت به الرّميّة ، فإنّا صنائع ربّنا ، والنّاس بعد

__________________

(١) حنّ : هو الصوت. القدح : أحد أقداح الميسر ، فإذا كان من غير جنسها ثمّ أجاله المفيض ...

(٢) التيه : الضلال والكبر.

(٣) خصّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عمّه الشهيد حمزة بسبعين تكبيرة على جثمانه المقدّس.

(٤) هو الشهيد العظيم جعفر الطيّار.

(٥) يعني بذلك نفسه العظيمة التي هي مجمع الفضائل التي خلقها الله تعالى.

١٤٥

صنائع لنا (١) لم يمنعنا قديم عزّنا ولا عاديّ طولنا (٢) على قومك أن اخلطناكم بأنفسنا ؛ فنكحنا وأنكحنا ، فعل الأكفاء ، ولستم هناك! وأنّى يكون ذلك كذلك (٣) ومنّا النّبيّ ومنكم المكذّب (٤)؟

ومنّا أسد الله (٥) ومنكم أسد الأحلاف (٦)؟

ومنّا سيّدا شباب أهل الجنّة (٧) ومنكم صبية النّار (٨) ، ومنّا خير نساء العالمين (٩) ، ومنكم حمّالة الحطب (١٠) ، في كثير ممّا لنا وعليكم! فإسلامنا قد سمع ، وجاهليّتكم لا تدفع ، وكتاب الله يجمع لنا ما شذّ عنّا ، وهو قوله سبحانه وتعالى :

__________________

(١) معنى هذه الكلمات أنّ الله تعالى اصطفى أهل البيت عليهم‌السلام بفضله فجعل النبوّة فيهم ، ومنهم فاضت الهداية على الامم والشعوب.

(٢) عادي طولنا : أي قديم فضلنا.

(٣) أنّى يكون ذلك كذلك : أي كيف يكون شرفكم كشرفنا؟.

(٤) المكذّب من بني اميّة هو زعيم المنافقين ورأس الضلال هو أبو سفيان ، وقيل : هو أبو جهل ، وهو اشتباه فإنّه ليس من بني اميّة وإنّما هو من بني مخزوم.

(٥) أسد الله هو الشهيد الخالد حمزة بن عبد المطّلب عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

(٦) أسد الأحلاف : هو عتبة بن ربيعة ، ويعني به أنّه أسد الأجمة المعادية للإسلام.

(٧) سيّدا شباب أهل الجنّة هما ريحانتا رسول الله الحسن والحسين عليهم‌السلام.

(٨) صبية النار : هم صبية بني أميّة.

(٩) خير نساء العالمين : هي زهراء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله .

(١٠) حمّالة الحطب : هي أمّ جميل عمّة معاوية لقّبت بحمّالة الحطب لأنّها كانت تضع الشوك في طريق النبيّ.

١٤٦

( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) (١) وقوله تعالى : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) (٢) ، فنحن مرّة أولى بالقرابة ، وتارة أولى بالطّاعة. ولمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السّقيفة برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فلجوا عليهم ، فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونكم ، وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم.

وزعمت أنّي لكلّ الخلفاء حسدت ، وعلى كلّهم بغيت ، فإن يكن ذلك كذلك فليست الجناية عليك ، فيكون العذر إليك.

* وتلك شكاة ظاهر عنك عارها *

وقلت : إنّي كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتّى أبايع ؛ ولعمر الله! لقد أردت أن تذمّ فمدحت ، وأن تفضح فافتضحت! وما على المسلم من غضاضة (٣) في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكّا في دينه ، ولا مرتابا بيقينه! وهذه حجّتي إلى غيرك قصدها ، ولكنّي أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها.

ثمّ ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان ، فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه ، فأيّنا كان أعدى له ، وأهدى إلى مقاتله! أمن بذل له نصرته فاستقعده (٤) واستكفّه ، أم من استنصره فتراخى عنه (٥) وبثّ المنون

__________________

(١) الأنفال : ٧٥.

(٢) آل عمران : ٦٨.

(٣) الغضاضة : النقص.

(٤) يشير الإمام إلى نصحه لعثمان في إقصاء بني اميّة عنه إلاّ أنّه لم يستجب له.

(٥) أشار الإمام إلى استنجاد عثمان بمعاوية إلاّ أنّه خذله ولم يستجب له.

١٤٧

إليه ، حتّى أتى قدره عليه.

كلاّ والله ( قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ (١) مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (٢).

وما كنت لأعتذر من أنّي كنت أنقم عليه أحداثا ؛ فإن كان الذّنب إليه إرشادي وهدايتي له ؛ فربّ ملوم لا ذنب له.

وقد يستفيد الظّنّة المتنصّح

وما أردت إلاّ الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلت وإليه أنيب.

وذكرت أنّه ليس لي ولأصحابي عندك إلاّ السّيف ، فلقد أضحكت بعد استعبار! متى ألفيت بني عبد المطّلب عن الأعداء ناكلين ، وبالسّيف مخوّفين؟!

« لبّث قليلا يلحق الهيجا حمل » (٣)

فسيطلبك من تطلب ، ويقرب منك ما تستبعد ، وأنا مرقل (٤) نحوك في جحفل من المهاجرين والأنصار ، والتّابعين لهم بإحسان ، شديد زحامهم ، ساطع قتامهم (٥) ، متسربلين سرابيل الموت ؛ أحبّ اللّقاء إليهم لقاء ربّهم ، وقد صحبتهم ذرّيّة بدريّة ، وسيوف هاشميّة ، قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدّك وأهلك

__________________

(١) المعوقون : هم الذين لم ينصروه.

(٢) الأحزاب : ١٨.

(٣) حمل : اسم رجل ، يضرب به المثل للتهديد بالحرب.

(٤) مرقل : أي مسرع.

(٥) القتام : الغبار.

١٤٨

وما هي من الظّالمين ببعيد (١).

وضارعت هذه الرسالة بعض الرسائل المتقدّمة في كثير من بنودها ، وليس من المستبعد أنّها رويت بطريقين مختلفين مع وحدتهما.

وعلى أي حال فقد فنّد الإمام عليه‌السلام في هذه الرسالة أغاليط معاوية التي ليس فيها أي بصيص من نور الحقّ ، وبيّن زيفها ، كما عرض الإمام عليه‌السلام بصورة لا تقبل الشكّ أنّه أولى بمقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأحقّ بمركزه من غيره من الخلفاء ، وبيّن أنّ ما لاقاه منهم من الاعتداء والغضّ من شأنه فإنّه بعين الله ، وليس عليه أي غضاضة لأنّه لم يكن ظالما ، ولا شاكّا في دينه ، وسيجمع الله تعالى بينهم وبينه ، وهو الحاكم الفصل.

وحفلت هذه الرسالة بامور بالغة الأهمّية ذكرنا معظمها في البحوث السابقة.

الاستعداد للحرب :

وفشلت جميع الوسائل التي اتّخذها الإمام عليه‌السلام لحقن الدماء وجمع كلمة المسلمين ، فقد قرّر معاوية إعلان التمرّد والعصيان ومناهضة حكم الإمام بالسلاح ، وقد شرط على الإمام في رجوعه إلى طاعته شرطين وهما :

١ ـ تسليم قتلة عثمان إليه ليقتصّ منهم ، وفيهم خيار الصحابة.

٢ ـ حلّ حكومة الإمام ، وجعل الأمر شورى بين المسلمين لينتخبوا من شاءوا حاكما لهم ، وقد اتّخذ هذين الشرطين التعجيزيّين وسيلة لإعلان حربه على الإمام.

وعلى أي حال فقد استعدّ كلا الفريقين للحرب ، وتهيّأ بجمع معدّاته وأسلحته.

__________________

(١) صبح الأعشى ١ : ٢٢٩. نهاية الإرب ٧ : ٢٣٣. نهج البلاغة ٢ : ٢١.

١٤٩

رسائل الإمام لولاته :

وأرسل الإمام بعض الرسائل إلى ولاته وامراء الأجناد يدعوهم فيها لنجدته ونصرته والالتحاق به لمحاربة خصمه العنيد الذي خالف الجماعة ، وخلع يد الطاعة ، وفيما يلي ذلك :

كتابه لمخنف بن سليم :

وكتب الإمام عليه‌السلام رسالة إلى مخنف بن سليم عامله على أصبهان وهمذان يدعوه فيها لنجدته ، وجاء فيها بعد البسملة :

« سلام عليك ، فإنّي أحمد الله إليك الّذي لا إله إلاّ هو.

أمّا بعد فإنّ جهاد من صدف (١) عن الحقّ رغبة عنه ، وهبّ في نعاس العمى والضّلال اختيارا له ، فريضة على العارفين.

إنّ الله يرضى عمّن أرضاه ، ويسخط على من عصاه ، وإنّا قد هممنا بالسير إلى هؤلاء القوم الّذين عملوا في عباد الله بغير ما أنزل الله واستأثروا بالفيء ، وعطّلوا الحدود ، وأماتوا الحقّ وأظهروا في الأرض الفساد ، واتّخذوا الفاسقين وليجة (٢) من دون المؤمنين ، فإذا وليّ الله أعظم أحداثهم أبغضوه وأقصوه وحرموه ، وإذا ظالم ساعدهم على ظلمهم أحبّوه وأدنوه وبرّوه ، فقد أصرّوا على الظّلم وأجمعوا على الخلاف ، وقديما ما صدّوا عن الحقّ وتعاونوا على الإثم وكانوا ظالمين.

فإذا أتيت بكتابي هذا فاستخلف على عملك أوثق أصحابك في

__________________

(١) صدف : مال وأعرض.

(٢) الوليجة : الخاصّة.

١٥٠

نفسك ، وأقبل إلينا لعلّك تلقى معنا هذا العدوّ المحلّ (١) فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتجامع المحقّ وتباين المبطل ، فإنّه لا غنى بنا ولا بك عن أجر الجهاد ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ».

وكتب هذه الرسالة ـ التي هي بإملاء الإمام ـ عبيد الله بن أبي رافع وذلك في سنة ٣٧ ه‍ ، واستخلف على أصبهان الحرث بن أبي الحرث بن الربيع ، واستعمل على همذان سعيد بن وهب وكلاهما من قومه ، وأقبل مخنف يجدّ في سيره حتى شهد مع الإمام صفّين (٢).

حكت رسالة الإمام عليه‌السلام تمادى معاوية في الموبقات والآثام وأنّه وحزبه قد حكموا بغير ما أنزل الله تعالى فاستأثروا بالفيء وعطّلوا الحدود ، وأماتوا الحقّ ، وأظهروا الفساد في الأرض ، فجهادهم واجب إسلامي لإنقاذ المسلمين من شرورهم وآثامهم.

رسالة الإمام إلى امراء الأجناد :

كتب الإمام عليه‌السلام رسالة إلى امراء الأجناد يستنهضهم فيها لنصرته في الورع والتقوى جاء فيها بعد البسملة :

أمّا بعد ..

فإنّي أبرأ إليكم من معرّة الجنود ، فأعزبوا (٣) النّاس عن الظّلم والعدوان ، وخذوا على أيدي سفهائكم ، واحترسوا أن تعملوا أعمالا لا يرضى الله بها عنّا فيردّ بها علينا وعليكم دعاءنا ؛ فإنّه تعالى يقول :

__________________

(١) المحلّ : أي أنّه قد أحلّ حرمات الله تعالى.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ٢٨٢.

(٣) أعزبه : أبعده.

١٥١

( ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ ) (١) وانّ الله تعالى إذا مقت قوما من السّماء هلكوا في الأرض ، فلا تألوا أنفسكم خيرا ، ولا الجند حسن سيرة ، ولا الرّعيّة معونة ، ولا دين الله قوّة ، وأبلوا في سبيل الله ما استوجب عليكم ، فإنّ الله سبحانه قد اصطنع عندنا وعندكم أن نشكره بجهدنا ، وأن ننصره بما بلغت قوّتنا ، ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم (٢).

حكت هذه الرسالة دعوة الإمام عليه‌السلام لامراء جنده بالاستقامة والتوازن في سلوكهم ، واتّباع مرضاة الله تعالى ، والعمل بطاعته ، والاجتناب عن سخطه ومعاصيه لينزل الله تعالى عليهم نصره وتأييده.

كتابه إلى قريش :

كتب الإمام عليه‌السلام رسالة إلى القرشيّين بما فيهم معاوية يدعوهم جميعا إلى حقن الدماء ، وجمع الكلمة ، وجاء في رسالته لهم بعد البسملة :

« سلام عليكم ، فإنّي أحمد الله الّذي لا إله إلاّ هو.

أمّا بعد .. فإنّ لله تعالى عبادا آمنوا بالتّنزيل ، وعرفوا التّأويل ، وتفقّهوا في الدّين ، وبيّن الله فضلهم في القرآن الحكيم ، وأنتم في ذلك الزّمان أعداء للرّسول تكذّبون بالكتاب ، ومجمعون على حرب المسلمين ، من ثقفتم (٣) منهم حبستموه أو عذّبتموه أو قتلتموه حتّى أراد الله إعزاز دينه ، وإظهار أمره ، فدخلت العرب في الدّين أفواجا ،

__________________

(١) الفرقان : ٧٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ٢٨٢.

(٣) ثقفتم : أي صادفتم.

١٥٢

وأسلمت له هذه الأمّة طوعا وكرها ، فكنتم فيمن دخل في هذا الدّين ، إمّا رغبة وإمّا رهبة ، على حين فاز أهل السّبق بسبقهم ، وفاز المهاجرون بفضلهم ، ولا ينبغي لمن ليست له مثل سوابقهم في الدّين ، ولا مثل فضائلهم في الإسلام أن ينازعهم الأمر الّذي هم أهله فيحوب (١) ويظلم ، ولا ينبغي لمن كان له عقل أن يجهل قدره ، ويعدو طوره ، ويشقي نفسه بالتماس ما ليس بأهله ، فإنّ أولى النّاس بأمر هذه الأمّة قديما وحديثا أقربها من الرّسول ، وأعلمها بالكتاب ، وأفقهها في الدّين ، أوّلهم إسلاما ، وأفضلهم جهادا ، وأشدّهم بما تحمله الأئمّة من أمر الأمّة اضطلاعا ، فاتّقوا الله الّذي إليه ترجعون ، ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحقّ وأنتم تعلمون.

واعلموا أنّ خيار عباد الله الّذين يعملون بما يعلمون ، وأنّ شرارهم الجهّال الّذين ينازعون بالجهل أهل العلم ؛ فإنّ للعالم بعلمه فضلا ، وإنّ الجاهل لا يزداد بمنازعته العالم إلاّ جهلا ، ألا وإنّي أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ، وحقن دماء هذه الأمّة ، فإن قبلتم أصبتم رشدكم واهتديتم لحظّكم ، وإن أبيتم إلاّ الفرقة وشقّ عصا هذه الأمّة لم تزدادوا من الله إلاّ بعدا ، ولا يزداد الرّبّ عليكم إلاّ سخطا ، والسّلام.

حكت هذه الرسالة الدعوة المباركة التي دعا بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قريشا إلى الإسلام ونبذ الأصنام فقاومتها قريش بجميع ما تملك من الوسائل ، والتي كان منها إنزال العذاب القاسي الأليم على من آمن بالله ورسوله قتلا وحبسا حتّى اضطرّ المسلمون

__________________

(١) يحوب : أي يأثم.

١٥٣

إلى الهجرة إلى الحبشة ، ولمّا أعزّ الله دينه ، ونصر عبده ورسوله ، وأرغم انوف القرشيّين ، دخلوا في الإسلام لا إيمانا به ، وإنّما كان خوفا من حدّ السيف.

وعرض الإمام عليه‌السلام في رسالته إلى من هو أولى بأمر الامّة ، وأحقّ بخلافتها ، وهم العترة الطاهرة ، وذلك لقربها من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بالإضافة إلى علمها بكتاب الله تعالى ، وإحاطتها بسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وغير العترة لا نصيب لها من العلم والفضل.

وختم الإمام رسالته بالدعوة إلى جمع الكلمة ، والمحافظة على دماء المسلمين.

وانتهت نسخة الإمام إلى معاوية فأجاب :

أمّا بعد .. فإنّه :

ليس بيني وبين قيس عتاب

غير طعن الكلى وضرب الرّقاب

ولمّا قرأ الإمام عليه‌السلام هذا الجواب تلا قوله تعالى : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) (١).

زحف معاوية لصفّين :

وتهيّأت لمعاوية جميع الوسائل التي يستطيع بها على محاربة الإمام من العدد والعدّة ، فقد استطاع بمكره وخداعه أن يغري أهل الشام بأنّ الإمام عليه‌السلام هو الذي قتل عثمان بن عفّان فكان ينشر قميصه الملطّخ بدمه على المنبر فيضجّ الشاميّون بالبكاء والعويل ، وكان كلّما فتر حزنهم يقول له ابن العاص بسخرية واستهزاء بهم :

حرّك لها حوارها تحن.

فيخرج لهم قميص عثمان ـ الذي هو كعجل بني إسرائيل ـ فيعود لهم الحزن

__________________

(١) القصص : ٥٦.

١٥٤

والبكاء ، وبلغ من أساهم على عثمان أنّهم أقسموا بالله تعالى أن لا يمسّهم الماء إلاّ من الاحتلام ، ولا يأتوا النساء ولا يناموا على الفراش حتى يقتلوا قتلة عثمان (١) ، وكانت قلوبهم تتحرّق شوقا إلى الحرب للأخذ بثأره ، وكانوا يستنهضون معاوية للحرب أكثر منه.

إنّ أهل الشام قد عرفوا بالطاعة العمياء والإخلاص الشديد إلى ولاة امورهم ، وكان يضرب بهم المثل في الطاعة والمشايعة للسلطان على عكس جند الإمام (٢).

وعلى أي حال فقد سار معاوية بجيشه المغرّر المخدوع لمحاربة وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وباب مدينة علمه ، وقدّم بين يديه الطلائع ، وسارت كتائب جيوشه لا تلوي على شيء ، فنزل بهم أحسن منزل وأقربه إلى حوض الفرات ، وأوعز إلى فرقة من جيشه باحتلال نهر الفرات ، وأحاطت به آلاف من الجنود ، وعدّ هذا أوّل الفتح ؛ لأنّه حبس الماء على عدوّه ، وبقيت جيوشه مرابطة في ذلك المكان المسمّى بـ « صفّين » ، وهي تصلح أمرها ، وتنظّم قواها استعدادا للحرب.

خروج الإمام للحرب :

وتهيّأ الإمام للحرب بعد ما علم بزحف عدوّه لمناجزته ، وقام الخطباء من أنصار الإمام يدعون الناس للحرب ، ويحثّونهم على الجهاد بعد ما أحرزوه من النصر الكبير في معركة الجمل .. ومن بين الخطباء ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسبطه الإمام الحسن عليه‌السلام فقد خطب خطابا حماسيا رائعا ألهب فيه العواطف ، دعا فيه إلى الجهاد ومناجزة عدوّ الإسلام الذي يكيد للمسلمين في غلس الليل وفي وضح النهار ، وقد استجابت الجماهير لدعوة ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وانطلقوا معه وهم يجدّون في

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ : ١٤١.

(٢) لطائف المعارف ـ الثعالبي : ١٥٨.

١٥٥

تنظيم قواهم ، ولمّا تمّت عدّتهم زحف بهم الإمام عليه‌السلام لحرب عدوّه وقد قدّم طلائع جيشه ، وأمرهم بملازمة الفرات ، فقال لهم : عليكم بملازمة هذا المكان ـ يعني الفرات ـ حتى يأتيكم أمري (١) ، كما أمرهم أن لا يبدءوا أهل الشام بقتال حتى يلحق بهم.

وزحفت كتائب الجيش العراقي كأنّها السيل ترفرف عليها ألوية العدل والحقّ ، وهي على يقين لا يخامره الشكّ أنّها إنّما تحارب القوى الباغية على الإسلام والمعادية لأهدافه ، وأخذت تجدّ في السير لا تلوي على شيء حتى انتهت إلى صفّين.

احتلال جيش الإمام للفرات :

ولمّا استقرّت جيوش الإمام في صفّين لم يجدوا شريعة يستقون منها الماء إلاّ وهي محاطة بقوى مكثّفة من جيش معاوية ، وهم يمنعونهم أشدّ المنع من الارتواء منه ، والوصول إليه ، ولمّا رأى ذلك الإمام أوفد بعض أصحابه إلى معاوية يطلب منه أن يخلّي بينهم وبين الماء ليشربوا منه ، وعرض معاوية ذلك على خاصّته من الأمويّين والشاميّين ، فأبوا أن يسمحوا لهم بشرب الماء ، وأصرّوا على حرمانهم منه كما حرموا عثمان بن عفّان منه ، ورجع رسول الإمام فأخبره بإصرار القوم على منع الماء عنهم ، وأضرّ العطش بأصحاب الإمام فانبرى إليه الأشعث بن قيس يطلب منه الإذن بفتح باب الحرب عليهم لرفع الحصار عن حوض الفرات ، ولم يجد الإمام بدّا من إجابته ، وكان ذلك في آخر النهار ، وانتظر الأشعث طلوع الفجر ليحمل على جيش معاوية ، ولمّا انبثق نور الصبح خرج الأشعث رافعا صوته :

من كان يريد الماء أو الموت فميعاده الصبح فإنّي ناهض إلى الماء ، فاستجاب

__________________

(١) لسان العرب ٧ : ٤٠٨.

١٥٦

له اثنا عشر ألف رجل فشدّ على معسكر معاوية وقد رفع عقيرته قائلا :

ميعادنا اليوم بياض الصّبح

هل يصلح الزّاد بغير ملح؟

لا لا ، ولا أمر بغير نصح

دبّوا إلى القوم بطعن سمح

مثل العزالى بطعان نفح (١)

لا صلح للقوم وأين صلحي

حسبي من الإقحام قاب رمح

ودبّ الأشعث مع الجيش وسيوفهم على عواتقهم ، وجعل يلقي رمحه وهو يستنهض همم الجيش قائلا : بأبي أنتم وأمّي تقدّموا قاب رمحي ، ولم يزل ذلك دأبه حتى خالط القوم ، ثمّ حسر عن رأسه ورفع صوته قائلا : أنا الأشعث بن قيس ، خلّوا عن الماء ، فنادى أبو الأعور السّلمي أما والله! لا تشربون من الماء حتى تأخذنا وإيّاكم السيوف ، فأجابه الأشعث قد والله! أظنّها دنت منّا ، وكان الأشتر قد قرب منه مع خيله حيث أمره الإمام بمساندة الأشعث ، وهجمت الخيل على الفرات وأخذت سيوف الحقّ تحصد رءوس أهل الشام حتى ولّوا مدبرين يلاحقهم العار والخزي (٢).

واحتلّت جيوش الإمام الفرات ، وأراد أصحابه أن يقابلوا جيش معاوية بالمثل فيحرموهم من الماء ، فأبى الإمام عليه‌السلام وعاملهم معاملة المحسن الكريم ، فخلّى بين أعدائه وبين الماء ، وكانت هذه طبيعته التي تحكي الشرف والإحسان والبرّ ، وليس أي شيء منها في نفس معاوية ، فقد كانت نزعاته الشريرة اللؤم والخسّة.

الإمام مع الشامي :

شخص رجل من أهل الشام إلى الإمام عليه‌السلام حينما كان في صفّين ، فقدّم له

__________________

(١) العزالى : جمع عزلاء ، وهي فم المزادة شبه بها اتّساع الطعنة ، واندفاق الدماء منها ، والنفح : الدفع.

(٢) وقعة صفّين : ١٨٥.

١٥٧

السؤال التالي :

يا أمير المؤمنين ، أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء من الله تعالى وقدره؟

فأجابه الإمام :

« نعم ، يا أخا أهل الشّام ، والّذي فلق الحبّة ، وبرأ النّسمة! ما قطعنا واديا ، ولا علونا تلعة إلاّ بقضاء من الله وقدره ... ».

إنّ جميع مجريات الأحداث بيد الله تعالى ، وليس للإنسان أي شأن فيها ، وانبرى الشامي قائلا :

عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين ، وما أظنّ لي أجرا في سعيي إذا كان الله قضاه عليّ وقدّره ...

وردّ الإمام عليه شبهة الجبر قائلا :

« ولم؟ بل عظّم الله أجركم في مسيركم وأنتم مصعدون ، وفي منحدركم وأنتم منحدرون ، وما كنتم في شيء من اموركم مكرهين ، ولا إليها مضطرّين ».

وسارع الشامي قائلا :

وكيف ذاك ، والقدر ساقنا ، وعنهما كان مسيرنا وانصرافنا؟

وطفق الإمام يوضّح له الحقيقة التي خفيت عليه قائلا :

« يا أخا أهل الشّام ، لعلّك ظننت قضاء لازما ، وقدرا حتما ، لو كان ذلك كذلك لبطل الثّواب والعقاب ، وسقط الوعد والوعيد ، والأمر من الله والنّهي ، وما كان المحسن أولى بثواب الإحسان من المسيء ، والمسيء أولى بعقوبة الذّنب من المحسن ، تلك مقالة عبدة الأوثان ، وحزب الشّيطان ، وخصماء الرّحمن ، وشهداء الزّور ، وقدريّة هذه الأمّة ومجوسها ، إنّ الله تعالى أمر عباده تخييرا ،

١٥٨

و نهاهم تحذيرا ، وكلّف يسيرا ، وأعطى على القليل كثيرا ، ولم يطع مكرها ، ولم يعص مغلوبا ، ولم يكلّف عسيرا ، ولم يرسل الأنبياء لعبا ، ولم ينزل الكتب إلى عباده عبثا ، ولا خلق السّماوات والأرض وما بينهما باطلا ، ( ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) (١).

وبادر الشامي قائلا :

فما القضاء والقدر الذي كان مسيرنا بهما وعنهما؟

فأجابه الإمام عن الحكمة في ذلك قائلا :

« الأمر من الله بذلك والحكم » ، ثمّ تلا : ( وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً ) (٢).

واقتنع الشامي بما أدلاه الإمام من الحجج قائلا :

فرّجت عنّي فرّج الله عنك يا أمير المؤمنين! ثمّ أنشأ قائلا :

أنت الإمام الّذي نرجو بطاعته

يوم الحساب من الرّحمن غفرانا

أوضحت من أمرنا ما كان ملتبسا

جزاك ربّك بالإحسان إحسانا (٣)

رسل السلام :

كان الإمام عليه‌السلام متحرّجا كأشدّ ما يكون التحرّج في دماء المسلمين ، فقد جهد نفسه على نشر السلم والوئام ، واجتناب الحرب ، فأوفد كوكبة من أصحابه إلى معاوية يدعونه إلى حقن الدماء ، ويحذّرونه مغبة ما يحدث من الخسائر بين

__________________

(١) سورة ص : ٢٧.

(٢) الأحزاب : ٣٨.

(٣) أمالي المرتضى ١ : ١٥٠ ـ ١٥١.

١٥٩

المسلمين ، وقد أوفد مثل ذلك في حرب الجمل إلى عائشة وطلحة والزبير.

وعلى أي حال فهؤلاء التالية أسماؤهم وحديثهم قد أرسلهم الإمام إلى معاوية.

١ ـ عدي بن حاتم

وفي طليعة رسل الإمام إلى معاوية عدي بن حاتم ، وهو من أفذاذ أصحاب الإمام ، فقد خاطب معاوية قائلا :

أمّا بعد .. فإنّا أتيناك لندعوك إلى أمر يجمع الله به كلمتنا وامّتنا ، ويحقن الله به دماء المسلمين ، وندعوك إلى أفضلهم سابقة وأحسنهم في الإسلام آثارا ، وقد اجتمع له الناس وقد أرشدهم الله بالذي رأوا فأتوا فلم يبق أحد غيرك ، وغير من معك ، فأت يا معاوية! من قبل أن يصيبك الله وأصحابك بمثل يوم الجمل ...

وحفل كلام عدي بالدعوة إلى السلم والحفاظ على دماء المسلمين وجمع كلمتهم ، والدخول فيما دخل فيه المسلمون من البيعة الشاملة للإمام عليه‌السلام.

جواب معاوية :

وثار معاوية وتميّز غيظا من نصح عدي له ، فقال له :

كأنّك إنّما جئت متهدّدا ، ولم تأت مصلحا ، هيهات يا عدي! كلاّ والله! إنّي لابن حرب ما يقعقع لي بالشنآن (١) أما والله! إنّك لمن المجلبين على ابن عفّان ، وإنّك لمن قتلته ، وإنّي لأرجو أن تكون ممّن يقتله الله ، هيهات يا عدي! قد حلبت بالساعد الأشد ...

وليس في كلام معاوية أيّة رغبة في الصلح وحقن الدماء ، وإنّما كان مصرّا على

__________________

(١) الشنآن : جمع شن ، وهو القربة الخلق يحرّكونها إذا أرادوا الحثّ على السير ، مجمع الأمثال ـ الميداني ٢ : ١٩١.

١٦٠