موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١١

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ١٠٩

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا )

الفتح :١٠

( قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَىٰ إِلَٰهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا )

طه : ٩٧

( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ )

الحجرات : ٩

( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ )

القصص : ٥٦

٣
٤

تقديم

١

تسلّم الإمام عليه‌السلام قيادة الحكم بعد الإطاحة بحكومة عثمان بن عفّان ، وقد أعلن بين المسلمين معالم سياسته الداخلية والخارجية ، وأكّد بصورة حازمة اهتمامه البالغ بأمر الخراج وسائر ما تملكه الدولة من وارداتها المالية ، وأنّها ملك للشعب ، وليس له أن يصطفي فيها لنفسه وذويه ، وإنّما يجب أن تنفق على تطوير حياة المواطنين ، وإنقاذهم من غائلة الفقر والحرمان ، كما يجب أن تهيّأ لهم الفرص المتكافئة للعمل لئلاّ تشيع البطالة والجريمة في البلاد.

وقد ذكرنا في بعض بنود هذا الكتاب صورا رائعة من اهتمامه البالغ في عمران الأرض ، وزيادة الانتاج الزراعي الذي كان العمود الفقري للاقتصاد الإسلامي في ذلك العصر.

٢

إنّ من أهمّ البرامج في السياسة الاقتصادية عند الإمام هو إشاعة الرخاء وانعاش عامّة الشعوب الإسلامية ، وتوزيع خيرات البلاد التي تعود للدولة على جميع من يقطن في بلاد الإسلام ، وعدم احتكارها لقوم دون آخرين ، كما كان الحال في أيام عثمان بن

٥

عفّان الذي منح الثراء العريض لبني اميّة وآل أبي معيط ، وغيرهم ممّن ساروا في ركابه ، فتكدّست الثروة عند فئة من الناس حتّى ترك بعضهم بعد موته من الذهب ما يكسّر بالفؤوس في حين أنّ المجاعة قد انتشرت عند الكثيرين من الناس.

وقد اتّسم موقف الإمام عليه‌السلام بالشدّة والصرامة على هؤلاء الذين نهبوا أموال المسلمين بغير حقّ ، فأصدر أوامره الحاسمة بمصادرة جميع الأموال التي اختلسوها من بيت المال ، وتأميمها للدولة ، وقد قال في الأموال التي عند عثمان :

والله! لو وجدته ـ أي المال ـ قد تزوّج به النّساء ، وملك به الإماء ، لرددته ، فإنّ في العدل سعة. ومن ضاق عليه العدل ، فالجور عليه أضيق! (١).

هكذا كانت سيرة رائد العدالة ، ومعلن حقوق الإنسان ، الصرامة في الحقّ التي لا هوادة ولا مداهنة فيها.

٣

من المؤكّد أنّ من أهمّ الأسباب الوثيقة التي أدّت إلى قيام الأمويّين والقرشيّين بعصيانهم المسلّح ، وإعلانهم التمرّد على حكومة الإمام هو سياسته الاقتصادية الهادفة إلى إعلان المساواة والعدالة بين الناس ، ومعاملة الأمويّين ومن سائرهم معاملة عادية اتّسمت بالكراهية والاستهانة لأنّ إيمانهم لم يكن وثيقا ، وإنّما كان ظاهريا لم ينفذ إلى أعماق قلوبهم ودخائل نفوسهم ، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ نفوس الأمويّين قد اترعت بالبغض والكراهية للإمام لأنّه قد وترهم ، وحصد رءوس أعلامهم ، حينما أعلنوا الحرب بلا هوادة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي جاء لتحرير عقولهم ، وإقامة مجتمع فيهم متوازن في سلوكه وأخلاقه ، وهي ، كما ناجزت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في واقعة بدر واحد والأحزاب

__________________

(١) نهج البلاغة ١ : ٤٦.

٦

وغيرها ، هبّت إلى مناجزة وصيّه وباب مدينة علمه ، ووضعت أمام مخطّطاته الإصلاحية السدود والحواجز ، وألقت الأمّة في شرّ عظيم.

٤

ويعرض ـ بإيجاز ـ هذا الكتاب ، الذي هو جزء من موسوعة الإمام عليه‌السلام إلى الحروب الثلاث التي خاضها الإمام ضدّ المنحرفين عن الحقّ ، والمتمرّدين على القيم الإسلامية ، وهي تصوّر مدى محنته الكبرى ، وما لاقاه فيها من جهد شاق وعناء عسير ، حتّى تركته في أرباض الكوفة قد طافت به المحن والخطوب حتّى لاقى مصيره المشرق بالجهاد والكفاح.

لقد بحثت في جميع هذا الكتاب عن أسمى شخصية في العالم الإسلامي ، عملاق هذه الأمّة ورائد نهضتها الفكرية والحضارية ، الإمام عليه‌السلام ، وقد صوّرت بدقّة سيرته وحياته وجهاده ، ونصرته للإسلام في أيام محنته وغربته معتمدا على أوثق المصادر التاريخية وغيرها ، والله تعالى هو وليّ التوفيق.

النّجف الأشرف

باقر شريف القريشى

٢٧ / محرّم الحرام / ١٤٢٠ هـ

٧
٨

حكومة الإمام عليه‌السلام

٩
١٠

واستقبل الإمام عليه‌السلام مصرع عثمان بكثير من القلق والوجوم والاضطراب ، وذلك لعلمه بمجريات الأحداث ، وأنّ الأمويّين والطامعين والمنحرفين سيتّخذون من دمه ورقة رابحة يطالبون بها ؛ للاستيلاء على الحكم ونهب ثروات البلاد.

وشيء آخر دعا الإمام إلى الوجوم وهو أنّه المرشّح الأوّل لقيادة الحكم ، فإذا تقلّد الخلافة فإنّه يسير بالامّة سياسة مبنيّة على الحقّ المحض ، والعدل الخالص ، ويطبّق على مسرح الحياة كتاب الله تعالى ، ومنهاج نبيّه ، ويبعد الطامعين واللصوص عن مناصب الدولة. ومن الطبيعي أنّ القوى المنحرفة ستهبّ في وجهه وتعمل على إفشال مخطّطاته ، وإبعاد مناهجه عن حياة المسلمين.

وعلى أي حال فإنّا نعرض إلى صور من بيعة الإمام ، ومقرّرات حكومته حينما استلم الخلافة وما يرتبط بذلك من شئون.

رفض الإمام للخلافة :

ومن المؤكّد أنّ الإمام لم تكن له أيّة رغبة في الخلافة التي تعني الزهو والإمرة والظفر بخيرات البلاد ، فإنّ هذه الأهداف محرّمة وغير مشروعة عند الإمام عليه‌السلام الذي يبغي الحكم لتحقيق الأهداف النبيلة ، والمثل العليا ، وإسعاد المجتمع ، وإنقاذه من البؤس والحرمان ، وإشاعة الرفاهية والأمن بين الجميع.

وقد هتف الإمام أمام الجماهير التي أحاطت به وهي تطالبه بتقلّده للحكم فقال لهم :

١١

« لا حاجة لي في أمركم ، فمن اخترتم رضيت به .. ».

أجل ، إنّه لا حاجة له ولا رغبة له في الخلافة ما لم يحقّق أهدافه النبيلة .. وقد أعرب الإمام عليه‌السلام في بعض أحاديثه عن الأسباب التي دعته لمنازعة الخلفاء فقال :

« اللهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسة في سلطان ، ولا التماس شيء من فضول الحطام ، ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك ، فيأمن المظلومون من عبادك ».

وعلى أي حال فقد أحاطت الجماهير بالإمام وهي تعلن رغبتها الملحّة في ولايته قائلة :

لا إمام لنا غيرك ..

وهتفت ثانية :

ما نختار غيرك ..

ولم يعن بهم الإمام وأصرّ على الامتناع من إجابتهم ، وذلك لعلمه بما يعانيه من المصاعب والمشاكل وما يطرحه المنحرفون من الفتن والأضاليل في سبيل أطماعهم. لقد خلق الحكم العثماني فئة لا تفقه من أحكام الإسلام شيئا ، وقد تسلّطت على المسلمين وبيوت الأموال فنهبت ما شاءت ، وأذلّت من شاءت ، وأنّها سوف تهبّ في وجه الإمام وتناجزه الحرب وتعمل كلّ ما تستطيعه ضدّه.

مؤتمر القوّات المسلّحة :

وعقدت القوّات المسلّحة مؤتمرا خاصّا بها بعد امتناع الإمام من إجابتها ، وقد بحثت ما تواجهه الأمّة من الأخطار إن بقيت بلا إمام ، وقد قرّرت إحضار المدنيّين وذوي النفوذ والوجوه ، فلمّا حضروا قالوا لهم :

أنتم أهل الشورى ، وأنتم تعقدون الإمامة ، وحكمكم جائز على الأمّة ،

١٢

فانظروا رجلا تنصبونه ونحن لكم تبع ، وقد أجّلناكم يومكم ، فو الله! لئن لم تفرغوا لنقتلنّ عليّا وطلحة والزبير ، وتذهب من اضحية ذلك أمّة من الناس (١) ، وهرع المدنيّون نحو الإمام وقد علاهم الرعب ، وهم يهتفون :

البيعة .. البيعة ..

أما ترى ما نزل بالإسلام ، وما ابتلينا به من أبناء القرى؟ ..

أصرّ الإمام على الرفض قائلا :

« دعوني والتمسوا غيري .. ».

وأعرب لهم الإمام عن الموانع من قبول خلافتهم قائلا :

« فإنّا مستقبلون أمرا له وجوه والوان ؛ لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول » (٢).

وحكى حديث الإمام الأحداث الجسام التي سيواجهها إن قبل خلافتهم ، وفعلا فقد تحقّقت ، فلم يمض وقت قليل حتى أعلن الطامعون تمرّدهم على حكومة الإمام وقاموا بعصيان مسلّح لإسقاطها ، كما سنتحدّث عن ذلك.

وعلى أي حال فقد ازدحمت الجماهير على الإمام وهي تهتف باسمه قائلة له : أمير المؤمنين .. أمير المؤمنين ..

وصارحهم الإمام بالمنهج الذي يسير عليه في دور حكومته قائلا :

« إنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب ، وإن تركتموني فأنا كأحدكم ؛ ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم ،

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ : ٨٠.

(٢) نهج البلاغة ـ محمّد عبده ١ : ١٨٢.

١٣

وأنا لكم وزيرا ، خير لكم منّي أميرا! ».

لقد وضع أمامهم المنهج الذي يسير عليه وهو الحقّ بجميع رحابه والعدل بجميع ألوانه .. ورضوا بما قاله ، وهتفوا : ما نحن بمفارقيك حتى نبايعك ..

وانثال عليه الناس من كلّ جانب وهم يطالبونه بقبول خلافتهم ، ووصف الإمام في خطبته الشقشقيّة إصرار الجماهير وازدحامهم عليه بقوله :

« فما راعني إلاّ والنّاس كعرف الضّبع (١) إليّ ، ينثالون عليّ من كلّ جانب ، حتّى لقد وطئ الحسنان ، وشقّ عطفاي (٢) ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم » (٣).

وأجّلهم الإمام إلى صباح اليوم الثاني لينظر في الأمر ، فافترقوا على ذلك (٤).

قبول الإمام :

وفكّر الإمام في قبول الخلافة ، فرأى أنّ المصلحة تقتضي قبولها ، وذلك خوفا من أن ينزو عليها علج من فسّاق بني أميّة ، قال عليه‌السلام :

« والله! ما تقدّمت عليها ـ أي على الخلافة ـ إلاّ خوفا من أن ينزو على الأمّة تيس من بني أميّة ، فيلعب بكتاب الله عزّ وجلّ .. » (٥).

إنّ الإمام لم تكن له أية رغبة في الخلافة ، فإنّه لم يكن من عشّاق الملك والسلطان ، ولا ممّن يبغي الحكم لينعم في خيرات البلاد .. إنّه ربيب الوحي الذي

__________________

(١) عرف الضبع : الشعر الكثير الذي يكون على عنق الضبع ، يضرب به المثل في كثرة ازدحام الناس.

(٢) شقّ عطفاي : أراد به ما أصابه من الخدش من كثرة ازدحام الناس.

(٣) ربيضة الغنم : الطائفة الرابضة ، وهو وصف لجثوم الناس حوله.

(٤) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ١ : ٤٠٠.

(٥) العقد الفريد ٣ : ٩٣.

١٤

برهن في جميع أدوار حياته على الزهد في الدنيا والعزوف عن جميع رغباتها.

البيعة :

وهرعت الجماهير إلى الجامع الأعظم وهي تنتظر بفارغ الصبر قبول الإمام لخلافتهم ، وأقبل الإمام عليه‌السلام وإلى جانبيه سبطا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد احتفّت به البقيّة الطاهرة من صحابة رسول الله كعمار بن ياسر ومالك الأشتر وغيرهما ، وقد ارتفعت أصوات الجماهير بالتأييد الكامل له والهتاف بحياته ، فاعتلى عليه‌السلام أعواد المنبر وخاطب الجماهير :

« أيّها النّاس! إنّ هذا أمركم ليس لأحد فيه حقّ إلاّ من أمّرتم ، وقد افترقنا بالأمس وكنت كارها لأمركم ، فأبيتم إلاّ أن اكون عليكم ، ألا وإنّه ليس لي أن آخذ درهما دونكم ، فإن شئتم قعدت لكم ، وإلاّ فلا آخذ على احد ـ يعني البيعة ».

وحكى كلام الإمام عليه‌السلام أنّ أمر الخلافة راجع إلى الأمّة ، وليس له أي دخل فيه ، كما أعرب الإمام عن سياسته المالية ، فهو يحتاط فيها كأشدّ ما يكون الاحتياط ، فإنّه لا يستأثر بدرهم واحد فينفقه على نفسه أو على من يختصّ به ، وقد أشار بذلك إلى الحكم المباد ، فقد نهب الأمويّون أموال المسلمين وأنفقوها على شهواتهم ورغباتهم.

وعلى أي حال فقد تعالت الهتافات من جميع جنبات الجامع وهي تعلن الاصرار الكامل على انتخابه قائلين :

نحن على ما فارقناك عليه بالأمس ..

وتدافعت الجماهير إلى بيعته ، وتقدّم طلحة فبايع بيده الشلاّء التي سرعان ما نكث بها عهد الله ، وتطيّر منه الإمام وقال :

١٥

« ما أخلقه أن ينكث »!

وقد نكث بيعته ، وخاس بعهده ، وأعلن التمرّد والعصيان على حكومة الإمام عليه‌السلام ، كما سنتحدّث عن ذلك.

وعلى أي حال فقد انثالت الجماهير تبايع الإمام وهي إنّما تبايع الله ورسوله ، وقد بايعته القوّات المسلّحة من المصريّين والعراقيّين وغيرهم ، كما بايعه عرب الأمصار وأهل بدر والمهاجرون والأنصار عامّة (١).

ولم يظفر أحد من الخلفاء بمثل هذه البيعة في شمولها واتّساعها ، فلم تكن بيعته « فلتة » كما كانت بيعة أبي بكر ، ولا تضارعها بيعة أي أحد من الخلفاء (٢).

ابتهاج المسلمين :

وابتهج المسلمون بهذه البيعة ، وعمّت الفرحة الكبرى جميع أنحاء العالم الإسلامي ، فقد رجع الحقّ إلى نصابه وقامت دولة العدل ، وتقلّد الخلافة أبو الأيتام وناصر المحرومين والمظلومين. وقد حكى الإمام في بعض خطبه مدى سرور الناس ببيعته ، قال عليه‌السلام :

« وبلغ من سرور النّاس ببيعتهم إيّاى أن ابتهج بها الصّغير ، وهدج إليها الكبير ، وتحامل نحوها العليل ، وحسرت إليها الكعاب ».

لقد انتشرت في ذلك اليوم الخالد في دنيا الإسلام ألوية العدالة الإسلامية ، وتحقّقت الأهداف الأصيلة التي ينشدها الإسلام في عالم السياسة والإدارة والحكم.

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٢٢.

(٢) كانت بيعة الإمام يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي الحجّة ، ذكر ذلك البلاذري في أنساب الأشراف ( ٣ : ٩٣٣ ) وفي جواهر المطالب ( ١ : ٢٩١ ) أنّ بيعته كانت يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من ذي الحجّة سنة ٣٥ ه‍.

١٦

تأييد الصحابة :

وانبرى كبار الصحابة الذين ناصروا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وساهموا في بناء الإسلام فأعلنوا تأييدهم الكامل للإمام ، وهم :

١ ـ ثابت بن قيس :

ووقف ثابت بن قيس خطيب الأنصار أمام الإمام وخاطبه قائلا :

والله! يا أمير المؤمنين ، لئن كانوا قد تقدّموك في الولاية فما تقدّموك في الدين ، ولئن كانوا سبقوك أمس لقد لحقتهم اليوم ، ولقد كانوا وكنت ، لا يخفى موضعك ، ولا يجهل مكانك ، يحتاجون إليك فيما لا يعلمون وما احتجت إلى أحد مع علمك.

وحكى هذا الخطاب سموّ مكانة الإمام وعظيم منزلته ، فانّ الخلفاء الذين سبقوه إنّما سبقوه في الخلافة لا في الدين ، فإنّه أوّل من آمن بالله وبرسوله ، وهو المجاهد الأوّل في دنيا الإسلام ، والخلفاء وغيرهم محتاجون لعلمه وهو غير محتاج لأحد منهم.

٢ ـ خزيمة بن ثابت :

وهو الصحابي الفذّ الذي نال ثقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فجعل شهادته تساوي شهادة اثنين ، وقد أقبل نحو الإمام وقال له :

يا أمير المؤمنين ، ما أصبنا لأمرنا هذا ـ أي الخلافة ـ غيرك ، ولا كان المنقلب إلاّ إليك ، ولئن صدقنا أنفسنا فيك لأنت أقدم الناس إيمانا ، واعلم الناس بالله ، وأولى المؤمنين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لك ما لهم ، وليس لهم ما لك ..

ثمّ خاطب الجماهير بهذه الأبيات :

إذا نحن بايعنا عليا فحسبنا

أبو حسن ممّا نخاف من الفتن

وجدناه أولى الناس بالناس إنّه

أطبّ قريش بالكتاب وبالسّنن

١٧

وإنّ قريشا ما تشقّ غباره

إذا ما جرى يوما على الضّمّر البدن

وفيه الذي فيهم من الخير كلّه

وما فيهم كلّ الّذي فيه من حسن (١)

وأشادت هذه الكلمات نثرا ونظما بمكانة الإمام ، وأنّه أوّل الناس إسلاما ، وأقدمهم إيمانا ، وأنّه أعلم الناس بالله ، وأولاهم برسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّه شارك الخلفاء في مؤهّلاتهم ولم يشاركوه في مؤهّلاته وصفاته.

٣ ـ صعصعة بن صوحان :

وانبرى المجاهد الكبير صعصعة بن صوحان فخاطب الإمام قائلا :

والله! يا أمير المؤمنين ، لقد زيّنت الخلافة وما زانتك ، ورفعتها وما رفعتك ، ولهي أحوج منك إليها .. (٢).

وحكت هذه الكلمات الصدق بجميع رحابه ومفاهيمه ، فالإمام بتسلّمه للحكم قد زان الخلافة وازدهرت به ، ولم تكسبه أي شيء من معطياتها.

٤ ـ مالك الأشتر :

وانبرى الزعيم الكبير مالك الأشتر ، وهو من ألصق الناس بالإمام ومن أكثرهم فهما له ، فخاطب المسلمين قائلا :

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ : ١١٥. وذكر السيّد المرتضى في الفصول المختارة ٢ : ٦٧ زيادة على هذه الأبيات وهي :

وصيّ رسول الله من دون أهله

وفارسه قد كان في سالف الزمن

وأوّل من صلّى من الناس كلّهم

سوى خيرة النسوان والله ذو المنن

وصاحب كبش القوم في كلّ وقعة

يكون لها نفس الشجاع لدى الذّقن

فذاك الذي تثني الخناصر باسمه

إمامهم حتى اغيّب في الكفن

(٢) بهذا المعنى أدلى أحمد بن حنبل قال : « إنّ الخلافة لم تزيّن عليّا بل عليّ زانها ». مناقب أحمد : ص ١٦٣.

١٨

أيّها الناس ، هذا وصيّ الأوصياء ، ووارث علم الأنبياء ، العظيم البلاء ، الحسن العناء ، الذي شهد له كتاب الله بالإيمان ، ورسوله بجنّة الرضوان ، من كملت فيه الفضائل ، ولم يشكّ في سابقته وعلمه وفضله الأواخر ولا الأوائل ..

أمّا الزعيم مالك فهو من أكثر أصحاب الإمام وعيا وفهما لحقيقته ، وقد حكت هذه الكلمات مدى فهمه للإمام عليه‌السلام ، فهو وصيّ الأوصياء ، ووارث علم الأنبياء ، وهذه هي عقيدة الشيعة في الإمام منذ فجر تأريخهم حتى يوم الناس هذا.

٥ ـ عبد الرحمن الجمحي :

وانبرى عبد الرحمن بن حنبل الجمحي فأبدى سروره البالغ ببيعة الإمام ، وأنشأ هذه الأبيات :

لعمري لقد بايعتموا ذا حفيظة

على الدّين معروف العفاف موفّقا

عفيفا عن الفحشاء أبيض ماجدا

صدوقا مع الجبّار قدما مصدّقا

أبا حسن فارضوا به وتمسّكوا

فليس لمن فيه يرى العيب مطلقا

عليّا وصيّ المصطفى وابن عمّه

و أوّل من صلّى لذي العرش واثقا (١)

ومعنى هذه الأبيات أنّ المسلمين قد بايعوا المحافظ على دينهم ، العفيف في سلوكه ، المنزّه عن كلّ عيب ونقص ، وفيها دعوة المسلمين إلى التمسّك ببيعته ، فهو وصي المصطفى وابن عمّه ، وأوّل من صلّى وآمن بالله.

٦ ـ عقبة بن عمرو :

وقام عقبة بن عمرو فأشاد بفضل الإمام عليه‌السلام قائلا :

من له يوم كيوم العقبة ، وبيعة كبيعة الرضوان ، والإمام الأهدى الذي لا يخاف

__________________

(١) حياة الإمام الحسن عليه‌السلام ١ : ٣٧٩.

١٩

جوره ، والعالم الذي لا يخاف جهله .. (١)؟

وتتابعت كلمات أعلام الصحابة وهي تشيد بفضل أبي الحسن ، وتذكر مناقبه وفضائله ، وتدعو المسلمين إلى دعم حكومته.

الوفود المهنّئة :

وعمّت الفرحة الكبرى جميع أنحاء العالم الإسلامي ، وهرعت الوفود إلى المدينة ، وهي تعلن تأييدها لحكومة الإمام وولاءها ، وهذه بعضها :

١ ـ وفد اليمن :

ووفدت إلى المدينة جمهرة كبيرة من اليمن لتهنئة الإمام والمسلمين بهذه البيعة المباركة ، وكان الوفد في أثناء مسيرته ينشد ارجوزة له كان منها هذا البيت :

سيروا بنا في ظلمة الحنادس

في مهمة قفر الفلاة واهس

ولمّا قدموا إلى المدينة أمر الإمام عليه‌السلام باستقبالهم والترحيب بهم ، فخرج إليهم مالك وقال لهم :

قدمتم خير مقدم إلى قوم يحبّونكم وتحبّونهم ، إلى إمام عادل ، وخليفة فاضل ، قد رضي به المسلمون ، وبايعه الأنصار والمهاجرون ..

وأقبل الوفد يسير وأمامهم الزعيم مالك الأشتر ، فلمّا تشرّفوا بمقابلة الإمام رفع مالك صوته قائلا :

أتتك عصابة من خير قوم

يمانيّون من حضر وبادي

ورحّب بهم الإمام وقدّم لهم شكره الجزيل على تهنئتهم له بالخلافة.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٥.

٢٠