موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١١

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ١٠٩

فقد هدّده بالحرب والقتال.

جواب معاوية :

وأجاب معاوية عن هذه الرسالة برسالة كتب فيها البسملة ولم يسجّل فيها أي شيء ، ولمّا قرأها الإمام عرف أنّ معاوية مصمّم على حربه.

رسالة الإمام :

أرسل الإمام عليه‌السلام هذه الرسالة إلى معاوية بيد جرير بن عبد الله البجلي ، جاء فيها بعد السلام :

« أمّا بعد .. فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشّام ؛ لأنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بويعوا عليه ، فلم يكن للشّاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يردّ ، وإنّما الشّورى للمهاجرين والأنصار ، إذا اجتمعوا على رجل فسمّوه إماما كان ذلك لله رضا ، وإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردّوه إلى ما خرج منه ، فإن أبى قاتلوه على اتّباع غير سبيل المؤمنين وولاّه الله ما تولّى ، ويصليه جهنّم وساءت مصيرا.

وإنّ طلحة والزّبير بايعاني ثمّ نقضا بيعتي ، فكان نقضهما كردّتهما ، فجاهدتهما على ذلك حتّى جاء الحقّ ، وظهر أمر الله وهم كارهون.

فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، فإنّ أحبّ الأمور إليّ فيك العافية ، إلاّ أن تتعرّض للبلاء ، فإن تعرّضت له قاتلتك واستعنت بالله عليك ، وقد أكثرت في قتلة عثمان ، فادخل فيما دخل فيه النّاس ، ثمّ حاكم القوم إليّ ـ يعني الذين قتلوا عثمان ـ أحملك وإيّاهم على

١٢١

كتاب الله ، فأمّا تلك الّتي تريدها فخدعة الصّبيّ عن اللّبن.

ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنّي أبرأ قريش من دم عثمان ، وقد أرسلت إليك جرير بن عبد الله البجليّ ، وهو من أهل الإيمان والهجرة ، فبايع ولا قوّة إلاّ بالله (١).

وفي هذه الرسالة دعوة الإمام عليه‌السلام إلى معاوية بمبايعته ولزوم طاعته ، ولا سبيل لنقضها فقد بايعه المهاجرون والأنصار الذين بايعوا قبله من الخلفاء.

وعرض الإمام إلى نقض طلحة والزبير لبيعته ، وأنّ ذلك كردّتهما عن طريق الحقّ ، فجاهدهما الإمام حتى ظهر أمر الله وهم له كارهون ...

وأعرب الإمام في رسالته إلى معاوية أنّه إن لم يستجب لبيعته فسوف يقاتله حتّى يفيء لأمر الله تعالى ، وأنّه لا يستحقّ الخلافة لأنّه من الطلقاء الذين لا نصيب لهم بالحكم كما لا نصيب لهم لأن يكونوا من أعضاء الشورى.

وعلى أي حال فإنّ معاوية أخذ يماهل جريرا حتّى سئم منه ، وقال له : يا معاوية ، إنّ المنافق لا يصلّي حتّى لا يجد من الصلاة بدّا ، ولا أحسبك تبايع حتى لا تجد من البيعة بدّا ، فردّ عليه معاوية : إنّها ليست بـ « خدعة الصبيّ عن اللبن »! إنّه أمر له ما بعده .. وفي يوم رفع معاوية عقيرته ليسمع جريرا وهو ينشد هذه الأبيات :

تطاول ليلي واعترتني وساوسي

لات أتى بالتّرّهات البسابس

أتاني جرير والحوادث جمّة

بتلك الّتي فيها اجتداع المعاطس

اكايده والسّيف بيني وبينه

ولست لأثواب الدّنيء بلابس

فإنّ الشّام أعطت طاعة بمنيّة

تواصفها أشياخها في المجالس

__________________

(١) العقد الفريد ٢ : ٢٣٣. الإمامة والسياسة ١ : ٧١. شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٣ : ٣٠٠.

١٢٢

فإن يفعلوا أصدم عليّا بجبهة

تغتّ عليه كلّ رطب ويابس

وإنّي لأرجو خير ما نال نائل

وما أنا من ملك العراق بآيس (١)

وحكى هذا الشعر تصميمه على حرب الإمام لأنّ الشام انقادت له وأطاعته إطاعة عمياء ، وإنّه ليطمع في حكم العراق والاستيلاء عليه.

جواب معاوية :

وأجاب معاوية على رسالة الإمام عليه‌السلام بهذا الكتاب :

من معاوية بن صخر إلى عليّ بن أبي طالب ، أمّا بعد .. فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك ، وأنت بريء من دم عثمان ، لكنت كأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين ، ولكنّك أغريت بدم عثمان المهاجرين ، وخذّلت عنه الأنصار ، فأطاعك الجاهل ، وقوي بك الضعيف ، وقد أبى أهل الشام إلاّ قتالك حتّى تدفع إليهم قتلة عثمان ، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين ، وإنّما كان الحجازيون هم الحكّام على الناس والحقّ فيهم ، فلمّا فارقوه كان الحكّام على الناس أهل الشام.

ولعمري ما حجّتك عليّ كحجّتك على طلحة والزبير لأنّهما بايعاك ولم ابايعك ، وما حجّتك على أهل الشام كحجّتك على أهل البصرة لأنّ أهل البصرة أطاعوك ، ولم يطعك أهل الشام ، فأمّا شرفك في الإسلام وقرابتك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وموضعك من قريش فلست أدفعه .. ثمّ ختم رسالته بأبيات لكعب بن جعيل :

أرى الشام تكره ملك العراق

وأهل العراق لهم كارهينا

وكلاّ لصاحبه مبغض

يرى كلّ ما كان من ذاك دينا

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٣ : ٧٨. ربيع الأبرار ٤ : ٢٤٣.

١٢٣

إذا ما رمونا رميناهم

ودنّاهم مثل ما يقرضونا

فقالوا : عليّ إمام لنا

فقلنا : رضينا ابن هند رضينا

وقالوا : نرى أن تدينوا له

فقلنا : ألا لا نرى أن ندينا

ومن دون ذلك خرط القتاد

وضرب وطعن يفضّ الشّئونا (١)

وكلّ يسرّ بما عنده

يرى غثّ ما في يديه سمينا

وما في عليّ لمستعتب

مقال سوى ضمّه المحدثينا (٢)

وإيثاره اليوم أهل الذنوب

ورفع القصاص عن القاتلينا

إذا سيل عنه حذا شبهة

وعمّى الجواب على السّائلينا

فليس براض ولا ساخط

ولا في النّهاة ولا الآمرينا

ولا هو ساء ولا سرّه

ولا بدّ من بعض ذا أن يكونا (٣)

وليس في هذه الوثيقة إلاّ المغالطات السياسية والتمرّد على الحقّ والإصرار على الباطل ، وهي من سمات معاوية ومن عناصره وذاتياته.

ردّ الإمام على معاوية :

ولمّا وردت تلك الرسالة على الإمام عليه‌السلام قرأها فرأى الباطل ماثلا في كلّ كلمة منها ، فأجابه بهذه الرسالة :

« من عليّ بن أبي طالب إلى معاوية بن صخر ..

أمّا بعد .. فقد أتانا كتابك كتاب امرئ ليس له بصر يهديه ،

__________________

(١) الشؤن : هي الشعب التي تجمع القبائل.

(٢) المحدثون : هم الجناة.

(٣) الكامل ـ المبرد ١ : ١٥٥. العقد الفريد ٢ : ٢٣٣. شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ٢٠٢. الإمامة والسياسة ١ : ٧٧.

١٢٤

ولا قائد يرشده ، دعاه الهوى فأجابه وقاده فاتّبعه ، زعمت أنّك إنّما أفسد عليك بيعتي خفوري (١) لعثمان ، ولعمري ما كنت إلاّ رجلا من المهاجرين ، أوردت كما أوردوا ، وأصدرت كما أصدروا ، وما كان الله ليجمعهم على ضلالة ، ولا ليضربهم بالعمى ، وما أمرت ـ أي بقتل عثمان ـ فلزمتني خطيئة الأمر ، ولا قتلت فأخاف على نفسي قصاص القاتل.

وأمّا قولك : إنّ أهل الشّام هم حكّام أهل الحجاز ، فهات رجلا من قريش الشّام يقبل في الشّورى ، أو تحلّ له الخلافة ، فإن سمّيت كذّبك المهاجرون والأنصار ، ونحن نأتيك به من قريش الحجاز.

وأمّا قولك : ادفع إليّ قتلة عثمان ، فما أنت وذاك؟ وهاهنا بنو عثمان ، وهم أولى بذلك منك ، فإن زعمت أنّك أقوى على طلب دم عثمان منهم فارجع إلى البيعة الّتي لزمتك ، وحاكم القوم إليّ.

وأمّا تمييزك بين أهل الشّام والبصرة ، وبينك وبين طلحة والزّبير ، فلعمري فما الأمر هناك إلاّ واحد ، لأنّها بيعة عامّة لا يتأتّى فيها النّظر ، ولا يستأنف فيها الخيار.

وأمّا قرابتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقدمي في الإسلام فلو استطعت دفعه لدفعته ... » (٢).

وحفل هذا الكتاب بالردّ على أباطيل معاوية وزيف أضاليله التي ذكرها

__________________

(١) الخفر : نقض العهد والغدر.

(٢) الكامل ـ المبرد ١ : ١٥٥. العقد الفريد ٢ : ٢٣٣. شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ٢٠٢. الإمامة والسياسة ١ : ٧٧.

١٢٥

في رسالته ، وأنّها لا تحمل أي طابع من الصدق ، وأنّها جاءت تمثّل أمويّته وما تحمله من خبث وسوء.

رسالة من معاوية للإمام :

ورفع معاوية رسالة للإمام عليه‌السلام جاء فيها بعد البسملة :

سلام الله على من اتّبع الهدى ، أمّا بعد .. فإنّا كنّا وإيّاكم يدا جامعة ، والفة أليفة ، حتى طمعت بابن أبي طالب فتغيّرت ، وأصبحت تعدّ نفسك قويا على من عاداك ، بطغام (١) أهل الحجاز ، وأوباش أهل العراق ، وحمقى الفسطاط ، وغوغاء السّواد ، وأيم الله لينجلينّ عنك حمقاها ، ولينقشعنّ عنك غوغاؤها انقشاع السحاب عن السماء.

قتلت عثمان بن عفّان ، ورقيت سلّما أطلعك الله عليه مطلع سوء عليك لا لك ، وقتلت الزبير وطلحة ، وشرّدت امّك عائشة ، ونزلت بين المصرين فمنّيت وتمنّيت ، وخيّل لك أنّ الدنيا قد سخّرت لك بخيلها ورجلها (٢) وإنّما تعرف امنيّتك لو قد زرتك في المهاجرين من أهل الشام بقيّة الإسلام فيحيطون بك من ورائك ، ثمّ يقضي الله علمه فيك ، والسلام على أولياء الله » (٣).

حكت هذه الرسالة الأكاذيب والدجل والنفاق بجميع ما له من معنى وليس عند ابن هند من أرصدة سوى ذلك ، ولنستمع إلى ردّ الإمام عليه‌السلام على هذه الرسالة :

ردّ الإمام :

وردّ الإمام عليه‌السلام على رسالة معاوية بهذا الكتاب جاء فيه بعد البسملة :

__________________

(١) الطغام : أوغاد الناس.

(٢) الراجل : ضد الفارس.

(٣) الإمامة والسياسة ١ : ٦٥.

١٢٦

« أمّا بعد .. فقدّر الامور تقدير من ينظر لنفسه دون جنده ، ولا يشتغل بالهزل من قوله ، فلعمري! لئن كانت قوّتي بأهل العراق أوثق عندي من قوّتي بالله ، ومعرفتي به ليس عنده بالله تعالى يقين من كان على هذا ، فناج نفسك مناجاة من يستغني بالجدّ دون الهزل ، فإنّ في القول سعة ، ولن يعذر مثلك فيما طمح إليه الرّجال.

وأمّا ما ذكرت من أنّا كنّا وإيّاكم يدا جامعة ، فكنّا كما ذكرت ، ففرق بيننا وبينكم ، أنّ الله بعث رسوله منّا ، فآمنّا به وكفرتم.

ثمّ زعمت إنّي قتلت طلحة والزّبير فذلك أمر غبت عنه ولم تحضره ، ولو حضرته لعلمته ، فلا عليك ، ولا العذر فيه إليك.

وزعمت أنّك زائري في المهاجرين ، وقد انقطعت الهجرة حين اسر أخوك (١) ، فإن يك فيك عجل فاسترقه ، وإن أزرك فجدير أن يكون الله بعثني عليك للنّقمة منك ، والسّلام » (٢).

وفنّد الإمام عليه‌السلام مزاعم معاوية وأباطيله ، ورويت رسالة معاوية للإمام وجوابه عنها بصورة اخرى ذكرهما ابن أبي الحديد (٣).

رسالة من الإمام لمعاوية :

وجّه الإمام عليه‌السلام رسالة لمعاوية يعظه فيها ويحذّره من عذاب الله تعالى وعقابه

__________________

(١) أخو معاوية يزيد بن أبي سفيان ، اسر يوم فتح مكّة في باب الخندق ، وكان قد خرج مع جماعة من قريش لمحاربة المسلمين لئلا يدخلوا مكّة فقتل منهم واسر يزيد وهو الذي استعمله أبو بكر واليا على الشام وخرج لتوديعه عدّة فراسخ!!

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ٦٢.

(٣) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٢ : ٢٠١.

١٢٧

على تمرّده ، وهذا نصّها :

« من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان.

أمّا بعد فإنّ الدّنيا دار تجارة ، وربحها أو خسرها الآخرة ، فالسّعيد من كانت بضاعته فيها الأعمال الصّالحة ، ومن رأى الدّنيا بعينها ، وقدّرها بقدرها ، وإنّي لأعظك مع علمي بسابق العلم فيك ممّا لا مردّ له دون نفاذه ، ولكنّ الله تعالى أخذ على العلماء أن يؤدّوا الأمانة ، وأن ينصحوا الغويّ والرّشيد ، فاتّق الله ، ولا تكن ممّن لا يرجو لله وقارا ؛ ومن حقّت عليه كلمة العذاب ، فإنّ الله بالمرصاد وإنّ دنياك ستدبر عنك ، وستعود حسرة عليك ، فاقلع عمّا أنت عليه من الغيّ والضّلال على كبر سنّك وفناء عمرك ، فإنّ حالك اليوم كحال الثّوب المهيل الّذي لا يصلح من جانب إلاّ فسد من آخر.

وقد أرديت جيلا من النّاس كثيرا ، خدعتهم بغيّك ، وألقيتهم في موج بحرك تغشاهم الظّلمات ، وتتلاطم بهم الشّبهات ، فجاروا عن وجهتهم ، ونكصوا على أعقابهم ، وتولّوا على أدبارهم ، وعوّلوا على أحسابهم ، إلاّ من فاء من أهل البصائر ، فإنّهم فارقوك بعد معرفتك ، وهربوا إلى الله من موازرتك ، إذ حملتهم على الصّعب ، وعدلت بهم عن القصد.

فاتّق الله يا معاوية في نفسك ، وجاذب الشّيطان قيادك ، فإنّ الدّنيا منقطعة عنك ، والآخرة قريبة منك ، والسّلام » (١).

وحكت هذه الرسالة دعوة الإمام عليه‌السلام إلى معاوية أن يثيب إلى الحقّ ،

__________________

(١) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ٤ : ٢٠٠ ـ ٢٠١.

١٢٨

ويجتنب الخداع والتضليل ، ولم تنفع مواعظ الإمام مع هذا الإنسان الممسوخ الذي ران الباطل على قلبه فأنساه ذكر الله ولم يعد أي بصيص من النور في ضميره.

ردّ معاوية :

ولم يعن معاوية بوعظ الإمام ونصيحته ، وإنّما عمد إلى السباب والتهديد فقد أجابه :

أمّا بعد : فقد وقفت على كتابك ، وقد أبيت على الفتن إلاّ تماديا ، وإنّي لعالم أنّ الذي يدعوك إلى ذلك مصرعك الذي لا بدّ لك منه ، وإن كنت موائلا فازدد غيّا إلى غيّك ، فطالما خفّ عقلك ، ومنّيت نفسك ما ليس لك ، والتويت على من هو خير منك (١).

ثمّ كانت العاقبة لغيرك ، واحتملت الوزر بما أحاط بك من خطيئتك والسلام (٢).

حكت هذه الرسالة تمادي معاوية بالإثم والعدوان وإصراره على الغيّ.

جواب الإمام :

وأجاب الإمام عليه‌السلام معاوية بهذه الرسالة :

« أمّا بعد فإنّ ما أتيت به من ضلالك ليس ببعيد الشّبه ممّا أتى به أهلك وقومك الّذين حملهم الكفر ، وتمنّي الأباطيل على حسد محمّد صلّى الله عليه وسلّم حتّى صرعوا مصارعهم حيث علمت ، لم يمنعوا حريما ، ولم يدفعوا عظيما ، وأنا صاحبهم في تلك المواطن ، الصّالي (٣)

__________________

(١) عرض معاوية إلى موقف الإمام عليه‌السلام من بيعة أبي بكر وشجبه لها.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٤ : ٥٠.

(٣) صلي النّار كرضي ، وصلي بها : قاسى حرّها.

١٢٩

بحربهم ، والفالّ لحدّهم ، والقاتل لرؤوسهم ورءوس الضّلالة ، والمتبع ـ إن شاء الله ـ خلفهم بسلفهم ، فبئس الخلف خلف أتبع سلفا محلّه ومحطّه النّار ، والسّلام » (١).

ومعنى هذه الرسالة أنّ ما قام به معاوية من مجانبة الحقّ ومحاربة العدل كان بذلك شبيها بأسلافه وقومه في محاربتهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى حصد الإمام رءوس أعلامه بسيفه ، وأنّه سيتبع خلفهم بهم ، ويوردهم جميعا نار جهنّم.

جواب معاوية :

وأجاب معاوية عن رسالة الإمام بهذا الجواب الذي هدّد الإمام بإعلان الحرب عليه :

أمّا بعد .. فقد طال في الغيّ ما استمررت أدراجك ، كما طالما تمادى عن الحرب نكوصك وإبطاؤك ، فتوعّد وعيد الأسد ، وتروغ روغان الثعلب ، فحتّام تحيد عن لقاء مباشرة الليوث الضارية ، والأفاعي القاتلة ، ولا تستبعدنّها ، فكلّ ما هو آت قريب إن شاء الله ، والسلام (٢).

حكت هذه الرسالة تطاول معاوية على الإمام وتهديده بأبطال أهل الشام.

ردّ الإمام :

وردّ الإمام على معاوية بهذه الرسالة التي أعربت عن استعداده للحرب ، وعدم اكتراثه بأبطال أهل الشام ، وهذا نصّها :

« أمّا بعد فما أعجب ما يأتيني منك ، وما أعلمني بما أنت إليه صائر ،

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٤ : ٥٠. نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ٤ : ٢٠٣.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٤ : ٥٠.

١٣٠

وليس إبطائي عنك إلاّ ترقّبا لما أنت له مكذّب وأنا به مصدّق ، وكأنّي بك غدا وأنت تضجّ من الحرب ضجيج الجمال من الأثقال ، وستدعوني أنت وأصحابك إلى كتاب تعظّمونه بألسنتكم وتجحدونه بقلوبكم ، والسّلام » (١).

أشار الإمام عليه‌السلام في آخر رسالته إلى ما سيقوم به معاوية من رفع المصاحف لينجو بها من الحرب التي كادت أن تلفّ وجوده وتقضي عليه ، وأنّ تلك المصاحف التي يتّقي بها يعظّمونها بألسنتهم ، ويجحدون بها في قلوبهم .. وهذا من إخبار الإمام عليه‌السلام بالمغيّبات.

جواب معاوية :

وأجاب معاوية عن رسالة الإمام عليه‌السلام بهذه الرسالة :

أمّا بعد .. فدعني من أساطيرك ، واكفف عنّي من أحاديثك ، وأقصر عن تقوّلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وافترائك من الكذب ما لم يقل ، وغرور من معك ، والخداع لهم ، فقد استغويتهم ، ويوشك أمرك أن ينكشف لهم فيعتزلوك ، ويعلموا أنّ ما جئت به باطل مضمحلّ ، والسلام (٢).

وليس في رسالة معاوية إلاّ التمادي في الباطل ، والعداء للحقّ ، والتنكّر للقيم والأعراف والمثل التي تؤمن بها الامم والشعوب.

جواب الإمام :

وأجاب الإمام عليه‌السلام عن هذا الكتاب بما يلي :

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٤ : ٥٠. نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ٤ : ٢٠٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٤ : ٥٠.

١٣١

« أمّا بعد فطالما دعوت أنت وأولياؤك أولياء الشّيطان الرّجيم ، الحقّ أساطير الأوّلين ، ونبذتموه وراء ظهوركم ، وجهدتم بإطفاء نور الله بأيديكم وأفواهكم ، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون.

ولعمري ليتمّنّ النّور على كرهك ، ولينفّذنّ العلم بصغارك ، ولتجازينّ بعملك ، فعث في دنياك المنقطعة عنك ما طاب لك فكأنّك بباطلك وقد انقضى وبعملك وقد هوى ثمّ تصير إلى لظى (١) ، لم يظلمك الله شيئا ، وما ربّك بظلاّم للعبيد.

وقد أسهبت في ذكر عثمان ، ولعمري ما قتله غيرك ، ولا خذله سواك ، ولقد تربّصت به الدّوائر (٢) ، وتمنّيت له الأمانيّ طمعا فيما ظهر منك ، ودلّ عليه فعلك ، وإنّي لأرجو أن الحقك به على أعظم من ذنبه ، وأكبر من خطيئته ، فأنا ابن عبد المطّلب صاحب السّيف وإنّ قائمه لفي يدي ، وقد علمت من قتلت من صناديد بني عبد شمس ، وفراعنة بني سهم وجمح وبني مخزوم ، وأيتمت أبناءهم ، وأيّمت نساءهم.

وأذكّرك ما لست له ناسيا يوم قتلت أخاك حنظلة ، وجررت برجله إلى القليب ، وأسرت أخاك عمرا فجعلت عنقه بين ساقيه رباطا ، وطلبتك ففررت ، ولك حصاص (٣) ، فلولا أنّي لا أتبع فارّا لجعلتك ثالثهما ، وإنّي أولي لك بالله (٤) أليّة برّة غير فاجرة ، لئن جمعتني

__________________

(١) لظى : نار جهنّم.

(٢) الدوائر : جمع دائرة وهي الهزيمة.

(٣) الحصاص : الضراط.

(٤) أولي : أي اقسم.

١٣٢

وإيّاك جوامع الأقدار ، لأتركنّك مثلا يتمثّل به النّاس أبدا ، ولأجعجعنّ بك في مناخك حتّى يحكم الله بيني وبينك وهو خير الحاكمين.

ولئن أنسأ (١) الله في أجلي لأغزينّك سرايا المسلمين ، ولانهدنّ إليك في جحفل من المهاجرين والأنصار ، ثمّ لا أقبل لك معذرة ولا شفاعة ، ولا اجيبك إلى طلب وسؤال ، ولترجعنّ إلى تحيّرك وتردّدك وتلدّدك ، فقد شاهدت وأبصرت ، ورأيت سحب الموت كيف هطلت عليك بصيّبها حتّى اعتصمت بكتاب أنت وأبوك أوّل من كفر وكذّب بنزوله ، ولقد كنت تفرّستها ، وآذنتك أنّك فاعلها ، وقد مضى منها ما مضى ، وانقضى من كيدك فيها ما انقضى ، وأنا سائر نحوك على أثر هذا الكتاب ، فاختر لنفسك ، وانظر لها وتداركها ، فإنّك إن فرّطت واستمررت على غيّك وغلوائك حتّى ينهد إليك عباد الله ، ارتجت عليك الامور ومنعت أمرا هو اليوم منك مقبول.

يا ابن حرب ، إنّ لجاجك في منازعة الأمر أهله من سفاه الرّأي ، فلا يطمعنّك أهل الضّلال ، ولا يوبقنّك سفه رأي الجهال ، فو الّذي نفس عليّ بيده! لئن برقت في وجهك بارقة من ذي الفقار ـ وهو سيف الإمام ـ لتصعقنّ صعقة لا تفيق منها حتّى ينفخ في الصّور النّفخة الّتي يئست منها( كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ ) » (٢).

حكت هذه الرسالة دعوة الإمام عليه‌السلام لمعاوية بالاستجابة لنداء الحقّ ، ورضا

__________________

(١) انسأ : أي أخر.

(٢) جمهرة رسائل العرب ١ : ٤٢٤ ـ ٤٢٧. نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ٤ : ٢١٠ ـ ٢١٣.

١٣٣

الله تعالى ، ولكنّ ابن هند أعار ذلك اذنا صمّاء وعينا عمياء ، فأصرّ على الغيّ والعدوان ، ومناجزة وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وباب مدينة علمه.

جواب معاوية :

وأجاب معاوية عن رسالة الإمام عليه‌السلام بما يلي :

أمّا بعد .. فما أعظم الرّين على قلبك! والغطاء على بصرك! والشّره من شيمتك! والحسد من خليقتك! فشمّر للحرب ، واصبر للضرب ، فو الله! ليرجعنّ الأمر إلى ما علمت ، والعاقبة للمتّقين. هيهات هيهات أخطأك ما تتمنّى ، وهوى قلبك مع من هوى ، فاربع على ظلعك (١) وقس شبرك بفترك ، لتعلم أين حالك من حال من يزن الجبال حلمه ، ويفصل بين أهل الشكّ علمه ، والسلام (٢).

وهدّد معاوية الإمام بإعلان الحرب ، واستعداده الكامل لمناجزته.

ردّ الإمام :

وكتب الإمام عليه‌السلام رسالة فندّ فيها أباطيل معاوية التي احتواها كتابه جاء فيها بعد البسملة :

« أمّا بعد .. فإنّ مساويك مع علم الله تعالى فيك حالت بينك وبين أن يصلح لك أمرك ، وأن يرعوي قلبك.

يا ابن الصّخر اللّعين (٣) ، زعمت أن يزن الجبال حلمك ، ويفصل

__________________

(١) اربع على ظلعك : أي ارفق بنفسك ، وابصر ما أنت فيه من الضعف.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٤ : ٥١.

(٣) يشير بذلك إلى الحديث النبوي ، وقد رواه الإمام الحسن عليه‌السلام إلى معاوية فقد قال له :

« أنشدك الله يا معاوية ، أتذكر يوم جاء أبوك على جمل أحمر وأنت تسوقه وأخوك عتبة يقوده فرآكم رسول الله فقال : اللهمّ العن الراكب والقائد والسائق ».

١٣٤

بين أهل الشّكّ علمك ، وأنت الجلف المنافق ، الأغلف القلب ، القليل العقل ، الجبان الرّذل.

فإن كنت صادقا فيما تسطر ، ويعينك عليه ابن أخي بني سهم (١) ، فدع النّاس جانبا وتيسّر لما دعوتني إليه من الحرب ، والصّبر على الضّرب ، واعف الفريقين من القتال ، ليعلم أيّنا المرين على قلبه ، المغطّى على بصره ، فأنا أبو الحسن ، قاتل جدّك وأخيك وخالك ، وما أنت منهم ببعيد » (٢).

وحكت رسالة الإمام عليه‌السلام نزعات معاوية وصفاته الشريرة ، فليس له صفة شريفة ، وليس له قدم في الإسلام ، وإنّما له قدم ثابتة في الباطل والنفاق.

رسالة معاوية للإمام :

بعث معاوية رسالة للإمام قبل مسيره إلى صفّين ، وقد حملها أبو مسلم الخولاني ، وهذا نصّها :

من معاوية بن أبي سفيان إلى عليّ بن أبي طالب .. سلام عليك ، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو ، أمّا بعد .. فإنّ الله اصطفى محمّدا بعلمه ، وجعله الأمين على وحيه ، والرسول إلى خلقه ، واجتبى له من المسلمين أعوانا أيّده بهم ، وكانوا في منازلهم على قدر فضائلهم في الإسلام ، فكان أفضلهم في الإسلام ، وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة من بعده ثمّ خليفة الخليفة ، ثمّ الخليفة الثالث المظلوم عثمان ، فكلّهم حسدت ، وعلى كلّهم بغيت ، عرفنا ذلك في نظرك الشزر ، وقولك الهجر ، وتنفّسك الصعداء ، وإبطائك عن الخلفاء ، وأنت في كلّ ذلك تقاد كما يقاد البعير

__________________

(١) هو عمرو بن العاص وزير معاوية ، كانت امّه مشهورة بالبغاء.

(٢) جمهرة رسائل العرب ١ : ٤٢٧.

١٣٥

المخشوش (١) حتى تبايع ، وأنت كاره ، ولم تكن لأحد منهم أشدّ حسدا منك لابن عمّك ، وكان أحقّهم أن لا تفعل ذلك به في قرابته وصهره فقطعت رحمه ، وقبّحت محاسنه ، وألّبت عليه الناس ، وبطنت وظهرت حتى ضربت إليه آباط الإبل ، وشهر عليه السلاح في حرم الرسول ، فقتل معك في المحلّة ، وأنت تسمع في داره الهائعة (٢) لا تؤدّي عن نفسك في أمره بقول ولا فعل ، واقسم قسما صادقا لو قمت في أمره مقاما واحدا تنهنه الناس عنه (٣) ما عدل بك من قبلنا من الناس أحدا ، ولمحا ذلك عنك ما كانوا يعرفونك به من المجانبة لعثمان ، والبغي عليه ، واخرى أنت بها عند أولياء ابن عفّان ضنين ، ايواؤك قتلة عثمان فهم بطانتك وعضدك وأنصارك ، وقد بلغني أنّك تنتفي من دمه ، فإن كنت صادقا فادفع إلينا قتلته نقتلهم به ، ثمّ نحن أسرع الناس إليك ، وإلاّ فليس لك ولا لأصحابك عندنا إلاّ السيف فو الذي نفس معاوية بيده! لأطلبن قتلة عثمان في الجبال والرمال والبرّ والبحر حتى نقتلهم أو تلحق أرواحنا بالله (٤).

حكت هذه الرسالة أباطيل معاوية ، وعدم تحرّجه من الإفك والكذب فقد اتّهم الإمام بتحريضه على سفك دم عثمان ، وهو افتراء محض بريء من دمه ، وإنّما الذي أجهز عليه سوء سياسته ، وتلاعبه بمقدّرات الأمّة ، وهباته لبني اميّة وآل أبي معيط ، ومنحهم الثراء العريض ، وتقليدهم المراكز الحسّاسة في الدولة ، وقد شذّ هؤلاء الأرجاس في سلوكهم وانحرفوا عن الطريق القويم ، وقد عرضنا لذلك بالتفصيل في البحوث السابقة ، وقد استنجد عثمان بمعاوية حينما أحاط الثوّار به ، فلم يسعفه ، وبقيت قوّاته المسلّحة مرابطة حتّى قتل عثمان ، فأي علاقة للإمام

__________________

(١) المخشوش : البعير الذي يجعل في أنفه الخشبة لينقاد.

(٢) الهائعة : الصوت المفزع.

(٣) تنهنه : أي تكفّ عنه.

(٤) صبح الأعشى ١ : ٢٢٨. العقد الفريد ٢ : ٢٣٣.

١٣٦

بسفك دمه أو التحريض على قتله؟

جواب الإمام :

وأجاب الإمام عليه‌السلام معاوية بجواب حاسم فنّد فيه مزاعمه وأباطيله ، وجاء فيه بعد البسملة :

« من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان.

أمّا بعد فإنّ أخا خولان قدم عليّ بكتاب منك تذكر فيه محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما أنعم الله عليه به من الهدى والوحي.

والحمد لله الّذي صدقه الوعد ، وتمّم له النّصر ، ومكّن له في البلاد ، وأظهره على أهل العداء والشّنئان (١) من قومه الّذين وثبوا به ، وشنفوا له (٢) ، وأظهروا التّكذيب ، وبارزوه بالعداوة ، وظاهروا على إخراجه وإخراج أصحابه وأهله ، وألّبوا عليه العرب ، وجامعوهم على حربه ، وجهدوا في أمره كلّ الجهد ، وقلّبوا (٣) له الأمور حتّى ظهر أمر الله وهم كارهون ، وكان أشدّ النّاس عليه ألبة اسرته ، والأدنى فالأدنى من قومه إلاّ من عصمه الله.

يا بن هند ، فلقد خبّأ لنا الدّهر منك عجبا ، ولقد قدمت فأفحشت إذ طفقت تخبرنا عن بلاء الله تعالى في نبيّه محمّد صلّى الله عليه وسلّم وفينا ، فكنت في ذلك كجالب التّمر إلى هجر ، أو كداعي

__________________

(١) الشنآن : البغض والكراهية.

(٢) شنفوا : أي تنكّروا وأبغضوا.

(٣) يشير الإمام بذلك إلى ما قامت به قريش وعلى رأسهم أبو سفيان من محاربة النبيّ ، وهذه الأسر القرشية التي حاربت النبيّ هي التي أبت أن تجتمع الخلافة والنبوّة في بيت واحد.

١٣٧

مسدّده إلى النّضال.

وذكرت أنّ الله اجتبى له من المسلمين أعوانا أيّده بهم ، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام ، فكان أفضلهم ـ زعمت ـ في الإسلام ، وأنصحهم لله ورسوله الخليفة ، وخليفة الخليفة ، ولعمري إنّ مكانهما من الإسلام لعظيم ، وإنّ المصاب بهما لجرح في الإسلام شديد رحمهما الله وجزاهما بأحسن الجزاء.

وذكرت أنّ عثمان كان في الفضل ثالثا ، فإن يكن عثمان محسنا فسيجزيه الله بإحسانه ، وإن يك مسيئا فسيلقى ربّا غفورا لا يتعاظمه ذنب أن يغفره.

ولعمر الله إنّي لأرجو إذا أعطى الله النّاس على قدر فضائلهم في الإسلام ، ونصيحتهم لله ورسوله ، أن يكون نصيبنا في ذلك ـ أهل البيت ـ الأوفر.

إنّ محمّدا صلّى الله عليه وسلّم لمّا دعا إلى الإيمان بالله والتّوحيد كنّا أهل البيت أوّل من آمن به وصدّق بما جاء به ، فلبثنا أحوالا مجرّمة ، وما يعبد الله في ربع (١) ساكن من العرب غيرنا ، فأراد قومنا قتل نبيّنا ، واجتياح أصلنا (٢) ، وهمّوا بنا الهموم ، وفعلوا بنا الأفاعيل ، فمنعونا الميرة ، وأمسكوا عنّا العذب (٣) ، وأحلسونا (٤) الخوف ، وجعلوا علينا

__________________

(١) الربع : المنزل.

(٢) الاجتياح : الاستئصال.

(٣) العذب : الماء.

(٤) أحلسونا : ألزمونا.

١٣٨

الأرصاد والعيون ، واضطرّونا إلى جبل وعر (١) ، وأوقدوا لنا نار الحرب ، وكتبوا بينهم كتابا لا يواكلوننا ، ولا يشاربوننا ، ولا يناكحوننا ، ولا يبايعوننا ، ولا نأمن فيهم حتّى ندفع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقتلوه ويمثّلوا به ، فلم نكن نأمن فيهم إلاّ من موسم إلى موسم ، فعزم الله لنا على منعه ، والذّبّ عن حوزته ، والرّمي من وراء حرمته ، والقيام بأسيافنا دونه في ساعات الخوف باللّيل والنّهار ، فمؤمننا يرجو بذلك الثّواب ، وكافرنا يحامي عن الأصل.

فأمّا من أسلم من قريش بعد ، فإنّهم ممّا نحن فيه أخلياء ، فمنهم حليف ممنوع ، أو ذو عشيرة تدافع عنه فلا يبغيه أحد بمثل ما بغانا به قومنا من التّلف ، فهم من القتل بمكان نجوة (٢) وأمن ، فكان ما شاء الله أن يكون.

ثمّ أمر الله رسوله بالهجرة ، وأذن له بعد ذلك في قتال المشركين ، فكان إذا احمرّ البأس (٣) ، ودعي للنّزال أقام أهل بيته فاستقدموا ، فوقى بهم أصحابه حرّ الأسنّة والسّيوف ، فقتل عبيدة (٤) يوم بدر ، وحمزة يوم احد ، وجعفر وزيد يوم مؤتة ، وأراد والله! من لو شئت ذكرت اسمه (٥) مثل الّذي أرادوا من الشّهادة مع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله غير مرّة إلاّ أنّ آجالهم عجّلت ، ومنيّته اخّرت ، والله مولى الإحسان إليهم ،

__________________

(١) الجبل الوعر : هو شعب أبي طالب ، وهو الذي سجن فيه النبيّ مع اسرته.

(٢) النجوة : المكان المرتفع.

(٣) حمر البأس : شدّة القتال.

(٤) هو الشهيد الخالد عبيدة بن الحارث الهاشمي.

(٥) يعني به نفسه الشريفة ، المناضل الأوّل عن الإسلام.

١٣٩

والمنّان عليهم بما قد أسلفوا من الصّالحات ، فما سمعت بأحد ، ولا رأيت فيهم من هو أنصح لله في طاعة رسوله ، ولا أطوع لرسوله في طاعة ربّه ، ولا أصبر على اللأواء (١) والضّرّاء وحين البأس ومواطن المكروه مع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من هؤلاء النّفر الّذين سمّيت لك وفي المهاجرين خير كثير نعرفه جزاهم الله بأحسن أعمالهم.

وذكرت حسدي الخلفاء ، وإبطائي عنهم ، وبغيي عليهم ، فأمّا البغي فمعاذ الله أن يكون.

وأمّا الإبطاء عنهم ، والكراهة لأمرهم فلست أعتذر منه إلى النّاس ، لأنّ الله جلّ ذكره لمّا قبض نبيّه صلّى الله عليه وسلّم قالت قريش : منّا أمير ، وقالت الأنصار : منّا أمير ، فقالت قريش : منّا محمّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فنحن أحقّ بالأمر ، فعرفت ذلك الأنصار فسلّمت لهم الولاية والسّلطان ، فإذا استحقّوها بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله دون الأنصار ، فإنّ أولى النّاس بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أحقّ بها منهم ، وإلاّ فإنّ الأنصار أعظم العرب فيها نصيبا.

فلا أدري أصحابي سلّموا من أن يكونوا حقّي أخذوا ، أو الأنصار ظلموا ، بل عرفت أنّ حقّي هو المأخوذ ، وقد تركته لهم ، تجاوز الله عنهم.

وأمّا ما ذكرت من أمر عثمان ، وقطيعتي رحمه ، وتأليبي عليه ، فإنّ عثمان عمل ما بلغك ، فصنع النّاس ما قد رأيت ، وقد علمت لتعلم أنّي كنت في عزلة عنه ، إلاّ أن تتجنّى ، فتجنّ ما بدا لك.

__________________

(١) اللأواء : الشدّة.

١٤٠