موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١١

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ١٠٩

فردّت عليه بعنف واستهانة بالإمام قائلة :

رحم الله أمير المؤمنين ذاك عمر بن الخطّاب ..

ولم تعترف عائشة بإمامة عثمان ، وحصرتها بعمر ، فردّ عليها ابن عبّاس :

نعم هذا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ..

أبيت ، أبيت ..

لقد أصرّت على جحدها لإمامة الإمام ، ولذع كلامها ابن عبّاس فقال لها :

ما كان آباؤك إلاّ فواق ناقة بكيئة (١) ثمّ حرّمت ما تحلّين ، ولا تأمرين ولا تنهين .. فالتاعت من كلامه ، وأرسلت ما في عينيها من دموع ، وقالت :

نعم ، ارجع ، فإنّ أبغض البلدان إليّ بلد أنتم فيه ..

فثار ابن عبّاس ، وردّ عليها ببالغ الحجّة قائلا :

أما والله! ما كان ذلك جزاؤنا منك إذ جعلناك للمؤمنين امّا ، وجعلنا أباك لهم صدّيقا ..

فأجابته بمنطق هزيل قائلة :

أتمنّ عليّ برسول الله؟

نعم ، إنّه يمنّ عليها برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلولاه لم تكن هي وغيرها أيّة قيمة لهم في الوجود ، وسارع ابن عبّاس في ردّها قائلا :

نمنّ عليك بمن لو كان منك بمنزلته منّا لمننت به علينا.

وتركها ابن عبّاس ، وهي تتميّز غيظا ، وقفل راجعا إلى الإمام فأخبره بحديثه

__________________

(١) الفواق : الناقة التي تحلب ثمّ تترك ليرضعها الفصيل حتى تدرّ فتحلب. البكيئة : الناقة التي قلّ لبنها.

١٠١

فشكره الإمام وأثنى عليه (١) ، ثمّ إنّ الإمام سرّح عائشة تسريحا جميلا ، وأرسل معها كوكبة من النساء بزيّ الرجال فغضبت وراحت تقول : فعل الله في ابن أبي طالب وفعل ، بعث معي الرجال .. ولم تلتفت إلى نفسها أنّها قادت الجيوش ، ودخلت في ميادين الحرب ، فإنّ ذلك أمر مسموح لها حسب زعمها ، ولمّا قدمت المدينة نزعن النساء العمائم وألقين السيوف ، فاستبان لها خطأ ما اتّهمت به الإمام وراحت تقول :

جزى الله ابن أبي طالب الجنّة ... (٢).

ورحلت عائشة من البصرة ، وقد أشاعت في بيوتها الثكل والحزن والحداد ، ويقول عمير بن الأهلب وهو من أنصارها :

لقد أوردتنا حومة الموت أمّنا

فلم تنصرف إلاّ ونحن رواء

أطعنا بني تيم لشقوة جدّنا

وما تيم إلاّ أعبد وإماء (٣)

وعلى أي حال فقد تركت حرب الجمل في نفس الإمام عليه‌السلام أعمق الحزن وأقساه.

آراء الفقهاء في حرب الجمل :

وأجمع فقهاء المسلمين على تأثيم القائمين بهذه الحرب ، وأنّه لا مبرّر لهم بحال من الأحوال ، ونعتوهم بالبغاة ، وأنّ الواجب الديني يقضي بمناجزتهم عملا بقوله تعالى : ( فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ ) (٤) ، وقد أعلنوا أنّهم مسئولون أمام الله تعالى ، وهذه كلماتهم :

__________________

(١) العقد الفريد ٣ : ١٠٣ ـ ١٠٤.

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ٨٠.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٢٥٦.

(٤) الحجرات : ٩.

١٠٢

أبو حنيفة :

قال أبو حنيفة : ما قاتل أحد عليّا إلاّ وعليّ أولى بالحقّ منه ، ولو لا ما سار عليّ فيهم ما علم أحد كيف السيرة في المسلمين ، ولا شكّ أنّ عليّا إنّما قاتل طلحة والزبير بعد أن بايعاه وخالفاه ، وفي يوم الجمل سار عليّ فيهم بالعدل ، وهو أعلم المسلمين ، وكانت السنّة في قتال أهل البغي (١).

ابن حجر :

قال ابن حجر : إنّ أهل الجمل وصفّين رموا عليّا بالمواطاة مع قتلة عثمان ، وهو بريء من ذلك ، وحاشاه ، وأضاف يقول : ويجب على الإمام قتال البغاة لإجماع الصحابة عليه ، ولا يقاتلهم حتى يبعث إليهم عدلا فطنا ناصحا يسألهم عمّا نقموا على الإمام تأسّيا بعليّ في بعثه ابن عبّاس إلى الخوارج بالنهروان (٢).

إمام الحرمين :

قال الجويني إمام الحرمين : كان عليّ بن أبي طالب إمام حقّ في توليته ، ومقاتلوه بغاة (٣).

إنّ الشريعة الإسلامية تلزم بمناجزة الخارجين على السلطة الشرعية وتأثيمهم لأنّ في خروجهم تصديعا لوحدة المسلمين ، وتدميرا لاخوّتهم.

إنّ العدوان المسلّح الذي قامت به العصابات القرشية على حكومة الإمام عليه‌السلام إنّما هو حرب على القيم والمبادئ التي تبنّاها الإمام رائد العدالة الاجتماعية في الأرض.

__________________

(١) مناقب أبي حنيفة ـ الخوارزمي ٢ : ٨٢ ـ ٨٣.

(٢) تحفة المحتاج ـ النووي ٤ : ١١٠.

(٣) الإرشاد في اصول الاعتقاد : ٤٣٣.

١٠٣

إنّ تلك القوى التي ثارت على الإمام عليه‌السلام كانت مدفوعة وراء مصالحها ، وحبّها للملك والسلطان. يقول البلاذري : حينما فتح الزبير البصرة واستولى على بيت المال ورأى كثرته تلا قوله تعالى : ( وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها ) (١) ، وهذا ما وعدنا الله ، ولمّا قضى الإمام عليه‌السلام على تمرّدهم ودخل بيت المال قال عليه‌السلام : « يا دنيا غرّي غيري ... » (٢).

وعلي أي حال فإنّ القوم إنّما هبّوا لمناجزة الإمام عليه‌السلام من أجل المطامع الرخيصة فخاضوا الباطل وسفكوا دماء المسلمين بغير حقّ ، وهم مسئولون ومحاسبون أمام الله تعالى عليها.

متارك حرب الجمل :

وأعقبت حرب الجمل أفدح الخسائر في المجتمع الإسلامي وأفظع الكوارث ، وقد ابتلي بها المسلمون وامتحن الإمام كأشدّ ما يكون الامتحان ، وفيما يلي بعض تلك المتارك :

١ ـ أنّها مهّدت السبيل لتمرّد معاوية ، ومكّنته من مناجزة الإمام ، ولولاها لما وجد معاوية إلى ذلك سبيلا.

إنّ معركة الجمل قد تبنّت المطالبة بدم عثمان ، وأظهرت أنّه مظلوم ، وأنّهم يطالبون بدمه مع أنّهم لا صلة نسبية لهم به.

أمّا معاوية فهو ابن عمّه ، واتّخذ دمه ورقة رابحة لعصيانه على حكومة الإمام.

٢ ـ أنّها أشاعت الفرقة والخلاف بين المسلمين ، ودمّرت ما كان بينهم من روح الألفة والمودّة ، فقد اختلفوا بعد نهاية الحرب كأشدّ ما يكون الاختلاف ، فقبائل

__________________

(١) الفتح : ٢٠.

(٢) حياة الإمام الحسن عليه‌السلام ١ : ٤٦١.

١٠٤

ربيعة واليمن القاطنون في البصرة أصبحوا يحملون الحقد والعداء لاخوانهم من ربيعة واليمن القاطنين في الكوفة ، وكلّ من الفريقين يطالب الفريق الآخر بالدماء التي سفكت في البصرة ، بل أصبحت ظاهرة العداء شائعة حتى في البيت الواحد من المصرين فبعض أبنائه شيعة لعليّ والبعض الآخر شيعة لعائشة ، وأخذ النزاع والخلاف يحتدم فيما بينهم.

٣ ـ أنّ هذه الحرب أسقطت هيبة الحكم وجرّأت الخروج عليه ، وقد نجم من ذلك تشكيل الأحزاب النفعية كحزب ابن الزبير وحزب الأمويّين وحزب الخوارج ، وليس لتلك الأحزاب من هدف إلاّ الاستيلاء على السلطة ، والظفر بخيرات البلاد.

٤ ـ أنّها فتحت باب الحرب بين المسلمين ، وكانوا قبل ذلك يتحرّجون كأشدّ ما يكون التحرّج في سفك دماء بعضهم بعضا.

٥ ـ أنّها قد عملت على تأخير الإسلام وشلّ حركته ، وإيقاف نموّه ، فقد انصرف الإمام بعد حرب الجمل إلى مقاومة التمرّد الذي أعلنه معاوية ، يقول الفيلسوف ولز : إنّ الإسلام كاد أن يفتح العالم أجمع لو بقي سائرا سيرته الاولى ولو لم تنشب في وسطه من أوّل الأمر الحرب الداخلية. فقد كان همّ عائشة أن تقهر عليّا قبل كلّ شيء (١).

٦ ـ إنّ هذه الحرب استباحت حرمة العترة الطاهرة التي قرنها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بمحكم التنزيل ، وجعلها سفن النجاة وأمن العباد ، فقد فتحت عائشة باب الحرب عليها ، ومن المؤكّد أنّها لو نجحت في حربها لنفّذت حكم الإعدام في الإمام وأبنائه. هذه بعض متارك حرب الجمل التي أخلدت للمسلمين الفتن وألقتهم في شرّ عظيم (٢).

__________________

(١) شيخ المضيرة : ١٧٣.

(٢) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ : ٥٠ ـ ٥١.

١٠٥
١٠٦

تمرّد معاوية

١٠٧
١٠٨

ولم يسترح الإمام وقتا قصيرا من حرب الجمل حتى رأى خطرا رهيبا محدقا بالدولة من ابن أبي سفيان الذي لم يع الإسلام ، ولم يؤمن بقيمه وأهدافه ، وهو أمكر سياسي في تاريخ العرب على الإطلاق ، فقد استطاع بقابليّاته الدبلوماسية أن يغزو قلب الخليفة الثاني ، ويسيطر على مشاعره وعواطفه ، فلم يفتح معه سجلّ المحاسبة الذي فتحه أمام ولاته وعمّاله ، كما لم يحاسبه على تصرّفاته الشاذّة المجافية لروح الإسلام وتعاليمه من استعماله أواني الذهب والفضّة ولبسه الحرير وغير ذلك ممّا هو محرّم في الإسلام ، وقد اتّهم بشرب الخمر ، فكان الخليفة يبالغ في تسديده والاعتذار عنه ، ويقول عنه : ذاك كسرى العرب ، وهو اعتذار مهلهل حسب ما يقول المحقّقون.

وعلى أيّ حال فقد حظي معاوية بالتأييد الشامل من قبل عمر ، فكان أقوى وال في الأقاليم الإسلامية ، وظلّ يعمل في الشام عمل من يريد الملك والسلطان ، فسخّر اقتصاد بلاده في تدعيم ملكه وسلطانه ، فاشترى الضمائر ، ووهب الثراء العريض لرؤساء القبائل وللوجوه والأعيان ، كما نشر الجهل والأمّية في أوساط الشام ، فلم يعد فيه أي وعي سياسي مناهض لحكومته ، ويحاسبه على تصرّفاته ، كما أمدّ وسائل الإعلام بالكذب والنفاق تدعيما لسياسته ... وقد أحاط نفسه بجهاز دبلوماسي رهيب يسيطر على الأحداث مهما تلبّدت.

ومهما يكن الأمر فإنّ معاوية كان بصيرا بالمخطّطات السياسية التي انتهجها عميد اسرته عثمان بن عفّان ، وأنّها ـ حتما ـ تؤدّي إلى قتله ، وانهيار حكومته ،

١٠٩

وقد علم بإحاطة القوى المعارضة به ، وهي تهتف بسقوط حكمه ، أو قتله ، فلم يهب إلى نصرته حينما استجار به وتركه وحده بأيدي الثوّار حتّى أجهزوا عليه ، وقد اتّخذ من دمه وقميصه ورقة رابحة لنيل الملك والسلطان .. وقد فتحت له عائشة الباب على مصراعيه ومهّدت له الطريق في حربها للإمام ، فقد اتّخذت دم عثمان شعارا لها في مناهضة حكومة الإمام ، ومعاوية اقرب إلى عثمان من عائشة ، فهو أحقّ بالمطالبة بدمه والأخذ بثأره وراح يبني ملكه ويقيم دولته على المطالبة بدم عثمان ، واتّهام الإمام بأنّ له ضلعا في إراقة دمه ، وإيواء قتلته .. ومضافا لذلك ، فقد كان معاوية على علم لا يخامره شكّ أنّ الإمام لا يبقيه في منصبه لحظة واحدة ، وأنّه لا يتّخذ المضلّين عضدا ، ولا بدّ أن يصادر جميع أمواله التي اختلسها من بيت مال المسلمين.

وعلى أي حال فسوف نتحدّث عن بعض سياسته الماكرة والتي منها :

خداعه للوجوه :

وجهد معاوية على خداع الوجوه والأعيان وإفسادهم ، وقد منّى بعضهم بالخلافة والبيعة له ، كما منّى آخرين بالوظائف المهمّة والثراء العريض ، وفيما يلي بعضهم :

١ ـ الزبير وطلحة :

من أضاليل معاوية ومكره أنّه كتب إلى الزبير قبل حرب الجمل يمنّيه بالخلافة ، ومن بعده تكون إلى طلحة ، فطار الزبير فرحا ، وكذلك طلحة ، وأعلنا التمرّد والعصيان على حكومة الإمام ، وقد عرضنا لذلك في البحوث السابقة.

٢ ـ عبد الله بن عمر :

وعرف معاوية امتناع عبد الله بن عمر عن بيعة الإمام واعتزاله عنها ، فراح

١١٠

يخطب ودّه ، ويمنّيه بالإمارة ، ويطلب منه الانضمام إليه ، وكتب إليه هذه الرسالة :

أمّا بعد .. فإنّه لم يكن أحد من قريش أحبّ إليّ من أن يجتمع الناس عليه منك بعد عثمان ، فذكرت خذلك إيّاه ، وطعنك على أنصاره ، فتغيّرت لك ، وقد هوّن عليّ ذلك خلافك على عليّ ، وطعنك عليه ، وردّني إليك بعض ما كان منك ، فأعنّا يرحمك الله على حقّ هذا الخليفة المظلوم ، فإنّي لست اريد الإمارة عليك ، ولكنّي اريدها لك ، فإن أبيت كانت شورى بين المسلمين ..

وحكت هذه الرسالة خداع معاوية لابن عمر ، فقد منّاه بالخلافة ، والحكم على المسلمين ، وعلّق عبد الكريم الخطيب على هذه الرسالة بقوله : « والكتاب جدير بأن يكون من معاوية ، فما أحد يحسن هذا النمط من الحديث إلى الناس مثل معاوية يلقى كلّ إنسان بما يناسبه ، ويجيء إليه من حيث يجد الطريق إلى قلبه وعقله جميعا.

وأضاف يقول :

بل هو ذا يعود إلى ابن عمر راضيا غاية الرضا حين يذكر له خلافه على عليّ وطعنه عليه ، وتلك من ابن عمر تثلج صدر معاوية وتعطفه عليه.

وختم الخطيب قوله : سياسة ودهاء ، وبصر نافذ لا يكون إلاّ من معاوية ... (١).

ورفض ابن عمر طلب معاوية وأجابه عن رسالته بهذه الرسالة :

أمّا بعد : فإنّ الرأي الذي أطمعك فيّ هذا هو الذي صيّرك إلى ما صيّرك ، تركت عليّا في المهاجرين والأنصار ، واتّبعتك فيمن اتّبعك.

وأمّا قولك : إنّي طعنت على عليّ فلعمري ما أنا كعليّ في الإسلام والهجرة ومكانه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن حدث أمر لم يكن إلينا فيه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عهد ،

__________________

(١) علي بن أبي طالب بقيّة النبوّة وخاتم الخلافة : ٤٠٢.

١١١

ففزعت إلى الوقوف ، وقلت : إن كان هذا فضلا تركته ، وإن كان ضلالة فشرّ منه نجوت ، فاغن عنّي نفسك ... (١).

وحفلت هذه الرسالة ببعض المغالطات السياسية ، وهو تركه لمبايعة الإمام عليه‌السلام لأنّه لم يكن فيها عهد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أصحيح منه ذلك؟ فهل خفيت عليه النصوص الواردة من النبيّ في حقّ عليّ؟ وأنّه منه بمنزلة هارون من موسى؟

وأنّه وليّ كلّ مؤمن ومؤمنة من بعده؟ وأنّه مع الحقّ ، والحقّ معه؟ وهل خفيت البيعة العامّة للإمام يوم غدير خم؟ وهل كانت ولاية أبي بكر بنصّ من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

ولكنّ الله تعالى هو الذي يحكم بين عباده في حشرهم ونشرهم ، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

وعلى أي حال فقد قنع معاوية برسالة ابن عمر وعرف أنّه لا يناصر الإمام ولا يكون من حزبه ، وذلك ربح ونصر له.

٣ ـ سعد بن أبي وقّاص :

وسعد بن أبي وقّاص هو ممّن تخلّف عن بيعة الإمام ، فكتب إليه معاوية يمنّيه ويغريه ليجلبه إليه ، وكتب إليه هذه الرسالة :

أمّا بعد .. فإنّ أحقّ الناس بنصرة عثمان أهل الشورى من قريش ، الذين أثبتوا حقّه ، واختاروه على غيره.

وقد نصره طلحة والزبير ، وهما شريكاك في الأمر والشورى ، ونظيراك في الإسلام .. وخفّت لذلك ـ أي للطلب بدم عثمان ـ أمّ المؤمنين ، فلا تكرهن ما رضوا ، ولا تردّنّ ما قبلوا ، فإنّما نردّها شورى بين المسلمين ... (٢).

وفي هذا الكتاب الدعوة إلى الأخذ بثار عثمان الذي هبّ إلى المطالبة بدمه

__________________

(١) و (٢) الإمامة والسياسة ١ : ١٠٣.

١١٢

كلّ من طلحة والزبير وعائشة ، ولم يخف على سعد زيف ذلك ، فأجابه بهذه الرسالة :

أمّا بعد .. فإنّ أهل الشورى ليس أحد منهم أحقّ بها ـ أي بالخلافة ـ من صاحبه ، غير أنّ عليّا كان من السابقة ، ولم يكن فينا ما فيه ، فشاركنا في محاسننا ولم نشاركه في محاسنه ، وكان أحقّنا كلّنا بالخلافة ، ولكن مقادير الله تعالى التي صرفتها عنه ، حيث شاء لعلمه وقدره ، وقد علمنا أنّه أحقّ بها منّا ، ولكن لم يكن بدّ من الكلام في ذلك .. وأمّا التشاجر فدع ذا ، وأمّا أمرك يا معاوية ، فإنّه أمر كرهنا أوّله وآخره ...

وأمّا طلحة والزبير ، فلو لزما بيعتهما لكان خيرا لهما ، والله تعالى يغفر لعائشة أمّ المؤمنين (١).

وحكت هذه الرسالة اعتراف سعد بأنّ الإمام عليه‌السلام أحقّ بالخلافة وأولى بها من غيره ، ولكنّ المقادير قد حالت بينه وبينها ... إنّ الذي حال بين الإمام والخلافة هي الضغائن والأحقاد القرشية التي تمثّلت في مؤتمر السقيفة والشورى ، وهتاف بعض الصحابة أنّه لا تجتمع النبوّة والخلافة في بيت واحد ... ومع اعتراف سعد بأنّ الإمام أولى بالخلافة فلم لم يبايعه في الشورى ، وفي هذه البيعة التي أجمع عليها المسلمون.

٤ ـ عمرو بن العاص :

رأى معاوية أنّه لا يستطيع الوقوف أمام الإمام عليه‌السلام إلاّ إذا انضمّ إلى جهازه داهية العرب عمرو بن العاص ، فراسله ومنّاه طالبا منه الحضور إلى دمشق ، فلمّا انتهت إليه رسالة معاوية استشار ولديه عبد الله ومحمّدا ، أمّا عبد الله فأشار عليه أن

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٠٤.

١١٣

يعتزل الناس ويقيم في بيته ولا يجيب معاوية إلى شيء حتى تجتمع الكلمة ، ويدخل فيما دخل فيه المسلمون ، وأمّا ابنه محمّد فقط طمع فيما يطمع فيه فتيان قريش من الثراء وذيوع الاسم ، فأشار عليه بالالتحاق بمعاوية لينال من دنياه.

والتفت ابن العاص إلى ولده عبد الله فقال له : أمّا أنت فأمرتني بما هو خير لي في ديني ، ثمّ قال لولده محمّد أمّا أنت فأمرتني بما هو خير لي في دنياي.

وأنفق ابن العاص ليله ساهرا يفكّر في الأمر ، هل يلتحق بالإمام فيكون رجلا كسائر المسلمين له ما لهم ، وعليه ما عليهم من دون أن ينال من الدنيا شيئا ، ولكنّه يضمن بذلك آخرته ، أو يكون مع معاوية فيظفر بدنيا رخيّة وثراء عريض ، وكان ـ فيما يقول المؤرّخون ـ يحنّ حنينا متّصلة إلى ولاية مصر فإذا صار في سلك معاوية نال ولايتها وقد اثر عنه في تلك الليلة من الكلام ما يدلّ على مدى الصراع النفسي الذي خامره.

ولم يسفر الصبح حتّى آثر الدنيا على الآخرة فصمّم على الالتحاق بمعاوية ، فارتحل إلى دمشق ومعه ابناه ، فلمّا بلغها جعل يبكي أمرّ البكاء أمام أهل الشام ، وقد رفع صوته عاليا.

وا عثماناه! أنعى الحياء والدين ...

فعل ذلك لينقل إلى معاوية ... لقد امتحن المسلمون كأشدّ ما يكون الامتحان بابن العاص وأمثاله من أبناء الأسر القرشية العاتية التي بقيت على جاهليّتها الاولى ، ولم ينفذ الإسلام إلى دخائل نفوسهم وأعماق قلوبهم.

ابن العاص يبكي على عثمان ، وهو الذي أوغر عليه الصدور وأثار عليه الأحقاد ، وهو ممّن أطاح بحكومته ، وأجهز عليه ، فكان ـ فيما يقول المؤرّخون ـ يلقى كلّ أحد حتى الراعي فيحرّضه على سفك دم عثمان ، وهو الآن ينعاه ويبكي عليه ... لقد بلغ التهالك على السلطة في ذلك العصر وما قبله مبلغا مؤسفا وأليما

١١٤

أنسى معظم الوجوه والأعيان ذكر الله تعالى ، فاقترفوا كلّ إثم وحرام.

والتقى ابن العاص بمثله وشريكه معاوية بن هند ، ففتح معه الحديث طالبا منه الانضمام إلى جهازه حتى يستعين به على حرب وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وباب مدينة علمه ، وعرض ابن العاص رأيه بصراحة قائلا :

يا معاوية ، أمّا عليّ فو الله! لا تساوي العرب بينك وبينه في شيء من الأشياء ، وإنّ له في الحرب لحظّا ، ما هو لأحد من قريش إلاّ أنّ تظلمه ، وسارع معاوية قائلا :

صدقت ، ولكنّا نقاتله على ما في أيدينا ونلزمه قتله عثمان ...

إنّ مناجزة معاوية للإمام من أجل الحفاظ على ما عنده من الأموال الحرام التي نهبها من بيت مال المسلمين ... وسخر ابن العاص من اتّخاذ دم عثمان وسيلة لاتّهام الإمام قائلا :

وا سوءتاه! إنّ أحقّ الناس أن لا يذكر عثمان أنت ...

ولم ويحك؟

وصارحه ابن العاص بالواقع قائلا :

أمّا أنت فخذلته ومعك أهل الشام ، حتى استغاث بيزيد بن أسد البجليّ فسار إليه ، وأمّا أنا فتركته عيانا وهربت إلى فلسطين (١).

وأيقن معاوية أنّ ابن العاص لا يستجيب له حتّى يجعل له أجرا كبيرا فقال له :

أتحبّني يا عمرو؟

وسخر منه ابن العاص فقال له :

ولما ذا احبّك؟ للآخرة؟ فو الله! ما معك آخرة ، أم للدنيا؟ فو الله! لا كان حتّى

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٢.

١١٥

أكون شريكك فيها ..

واستجاب معاوية له فبادر قائلا :

أنت شريكي فيها ..

اكتب لي مصرا وكورها ..

لك ما تريد ..

إنّها مساومة مفضوحة على الملك ، ولم يكن لدم ابن عفّان نصيب ، وسجّل معاوية لابن العاص ولاية مصر وجعلها ثمنا لانضمامه إليه على محاربة الإمام عليه‌السلام الذي هو أفضل إنسان خلقه الله بعد نبيّه وكتب ابن العاص في أسفل الكتاب ، ولا تنقص طاعته شرطا.

٥ ـ كتابه لأهل المدينة :

رفع معاوية بمشورة ابن العاص رسالة إلى أهل المدينة يدعوهم فيها إلى خذلان الإمام عليه‌السلام ، والتمرّد على حكومته ، جاء فيها :

أمّا بعد .. فإنّه مهما غاب عنّا ، فإنّه لم يغب عنّا أنّ عليّا قتل عثمان ، والدليل على ذلك أنّ قتلته عنده ، وإنّا نطلب بدمه حتى يدفع إلينا قتلته ، فنقتلهم ، فإن دفعهم إلينا كففنا عنه ، وجعلناها شورى بين المسلمين ، على ما جعلها عليه عمر بن الخطّاب ... فأمّا الخلافة فلسنا نطلبها فأعينونا يرحمكم الله ، وانهضوا يرحمكم الله ... (١).

وحفلت هذه الرسالة بالمغالطات والأكاذيب ، فقد اتّهم معاوية الإمام بقتل عثمان ، مع علمه إنّ الإمام بريء منه ، وإنّما أجهزت عليه سياسته التي عرضنا لها

__________________

(١) نسب هذا الكتاب إلى المسور بن مخرمة كما في الإمامة والسياسة ١ : ١١٩.

١١٦

في البحوث السابقة ، وأمّا تسليم الإمام قتلة عثمان فإنّ معاوية يعلم باستحالته لأنّ الذي قتله هي القوّات المسلّحة من المصريّين والعراقين ، وفي طليعتهم خيار الصحابة كعمّار بن ياسر ، وعمرو بن حمق الخزاعي ، ومحمّد بن أبي بكر فكيف يسلمهم الإمام إلى معاوية؟ بالإضافة إلى أنّهم قتلوه بحجّة شرعية حسب ما يرون ، والحدود تدرأ بالشبهات.

ومن مغالطات هذه الرسالة أنّ معاوية جرّد نفسه من الطمع بالخلافة ، وأنّه لا شأن له بها وهو إنّما ثار على الإمام من أجل الملك والسلطان.

وعلى أي حال فلم يخف على أهل المدينة زيف رسالته ، وأجابوه جوابا عنيفا جاء فيه :

أمّا بعد .. فإنّك أخطأت خطأ عظيما ، وأخطأت مواضع النصرة وتناولتها من مكان بعيد .. وما أنت والخلافة وأنت طليق وأبوك من الأحزاب؟ فكفّ عنّا ، فليس لك قبلنا وليّ ولا نصير (١).

هذه بعض الرسائل التي بعثها معاوية للوجوه والأعيان لخداعهم وتضليلهم ، وقد استجاب له بعضهم فالتحقوا به في حرب صفّين كما أخذ بعض المنافقين يثبّط العزائم من الالتحاق بجيش الإمام.

تضليل أهل الشام :

وعمد معاوية إلى تضليل الرأي العامّ في الشام ، فأشاع فيهم أنّ الإمام هو الذي سفك دم عثمان ، وهو المسئول عن دمه ، وهذه صور من تضليله :

١ ـ أرسل معاوية إلى الزعيم الكبير قيس بن سعد رسالة يستميله فيها ، ويمنّيه

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١١٨.

١١٧

بسلطان العراقين ، وبسلطان الحجاز لمن أحبّ من أهل بيته ، فردّ عليه قيس بأعنف الردّ ، فلمّا قرأه أظهر لأهل الشام أنّ قيسا قد بايع ، وأمرهم بالدعاء له ، وافتعل كتابا نسبه إليه ، وأوعز بقراءته عليهم وهذا نصّه :

أمّا بعد .. فإنّ قتل عثمان كان حدثا في الإسلام عظيما ، وقد نظرت لنفسي وديني ، فلم أر يسعني مظاهرة قوم قتلوا إمامهم مسلما محرما برّا تقيّا فنستغفر الله لذنوبنا ، ألا وإنّي ألقيت لكم بالسّلم ، وأحبّ قتال قتلة إمام الهدى المظلوم ، فاطلب منّي ما أحببت من الأموال والرجال اعجّله إليك (١).

ولم يشكّ أهل الشام في صدق هذه الرسالة فاندفعوا بشوق إلى مناصرته ، والطلب بدم عثمان.

٢ ـ أنّ الإمام عليه‌السلام لمّا أوفد جريرا البجلي إلى معاوية يدعوه إلى بيعته ، أمر معاوية بحضور شرحبيل الكندي ، وهو من أبرز الشخصيات في الشام ، وعهد معاوية إلى عصابة من أعوانه أن ينفرد كلّ واحد منهم بشرحبيل ويلقي في روعه أنّ عليّا هو الذي قتل عثمان بن عفّان ، والتقى شرحبيل بمعاوية ، فأخبره بوفادة البجلي عليه من قبل الإمام ، وأنّه يدعوه إلى بيعته ، وأنّه لم يستجب له حتّى يأخذ رأيه في ذلك لأنّ الإمام هو الذي قتل عثمان ، وطلب شرحبيل منه أن يمهله حتّى يستبين له الأمر ، فلمّا خرج منه التقى به القوم على انفراد ، وأخبره كلّ واحد منهم بأنّ عليّا هو الذي قتل عثمان ، فلم يشكّ في صدقهم وقفل راجعا إلى معاوية وهو يلهث قائلا :

يا معاوية ، أين الناس؟ ألاّ إنّ عليّا قتل عثمان ، والله! إن بايعت لنخرجنّك من شامنا أو لنقتلنّك ...

فقال معاوية مخادعا له :

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ١٢٩.

١١٨

ما كنت لأخالف عليكم ، ما أنا إلاّ رجل من أهل الشام (١).

بمثل هذه الأكاذيب أقام معاوية دولته التي جهدت في إطفاء نور الله تعالى ، وألقت الناس في شرّ عظيم.

الرسائل المتبادلة بين الإمام ومعاوية :

وقبل إعلان الحرب بعث الإمام الممتحن جمهرة من الرسائل إلى معاوية يدعوه فيها إلى بيعته ، والدخول فيما دخل فيه المسلمون في طاعته وأن لا يفرّق كلمة المسلمين ، ويشتّت شملهم ، فأجابه معاوية مراوغا ومنافقا ، ومطالبا بدم عثمان والاقتصاص من قتلته ... ونعرض لبعض تلك الرسائل :

رسالة للإمام :

روى ابن أبي الحديد أنّ الإمام عليه‌السلام لمّا بويع كتب إلى معاوية :

« أمّا بعد .. فإنّ النّاس قتلوا عثمان عن غير مشورة منّي ، وبايعوني عن مشورة منهم واجتماع ، فإذا أتاك كتابي فبايع لي ، وأوفد إليّ أشراف أهل الشّام قبلك ... ».

حكت هذه الرسالة براءة الإمام من دم عثمان وأضافته إلى الناس ، وأنّهم اجتمعوا على مبايعته ، والواجب أن يدخل فيما أجمع عليه المسلمون من مبايعتهم للإمام.

جواب معاوية :

ولمّا انتهت رسالة الإمام إلى معاوية وقرأها دعا بطومار وكتب فيه :

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ٧٧.

١١٩

من معاوية إلى عليّ ، أمّا بعد .. فإنّه

ليس بيني وبين قيس عتاب

غير طعن الكلى وضرب الرّقاب (١)

ومعنى هذا الجواب أنّ معاوية مصمّم على حرب الإمام ومناهضته لحكمه ، ولم يعرض في هذه الرسالة إلى اتّهام الإمام بقتل عثمان.

رسالة الإمام :

روى ابن قتيبة أنّ الإمام عليه‌السلام لمّا فرغ من وقعة الجمل واستقام له الأمر كتب إلى معاوية هذه الرسالة :

« أمّا بعد .. فإنّ القضاء السّابق ، والقدر النّافذ ينزل من السّماء كقطر المطر ، فتمضي أحكامه عزّ وجلّ ، وتنفذ مشيئته بغير تحابّ المخلوقين ، ولا رضا الآدميّين ، وقد بلغك ما كان من قتل عثمان ، وبيعة النّاس عامّة إيّاي ومصارع النّاكثين لي ، فادخل فيما دخل النّاس فيه ، وإلاّ فأنا الّذي عرفت ، وحولي من تعلمه ، والسّلام » (٢).

حكت هذه الرسالة :

١ ـ أنّ مجريات الأحداث كلّها بيد الخالق العظيم ، وليس للمخلوقين فيها أي شأن.

٢ ـ مبايعة عموم المسلمين للإمام بعد مقتل عثمان ، ومناهضة الناكثين له وهم الزبير وطلحة وعائشة ، وقضاءه عليهم.

٣ ـ دعوة الإمام لمعاوية بالبيعة له والدخول في طاعته ، وإذا لم يستجب له

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ٧٧.

(٢) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ٤ : ٨٩.

١٢٠