مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٦

بحث عرفاني

لا ريب في أنّ أقوى مراتب سلوك السالكين إلى الله جلت عظمته وأهم مقامات سيرهم وسفرهم إنّما هو السفر من الخلق إلى الحق أي : التوجه التام بحيث ينقطع عما سواه تعالى وهو السير في الحق بالحق. وهذا السفر الروحاني يصح أن يعبّر عنه : بأنّه سفر من المحدود من كل جهة إلى غير المحدود من جميع الجهات ، وعطف وحنان ممن لا حد لرحمته وحنانه وعنايته إلى ما هو المحتاج على الإطلاق وهذا السفر وهذه الرحمة والعطف يتحققان في حقيقة الدعاء مع الإيمان بالله جلت عظمته وبما جاء به نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، لأنّ هذه الحقيقة مع ذلك عبارة عن تخلّي النفس عن جميع الرذائل وطهارة روحية عن جميع الصفات الذميمة والأهواء الشريرة وارتباط روحي مع عالم الغيب.

وإن قلت : إنّها تجلّي الرحمة الرحيمية والرحمانية بالنسبة إلى الداعين.

أو قلت : إنّها عروج النفوس المستعدة عند الانقطاع عما سوى رب العالمين إلى أعلى الدرجات التي أعدت لها ، ولذا قال تعالى : (ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) [الفرقان ـ ٧٧] ، وقال الصادق (عليه‌السلام) كما تقدم : «الدعاء مخ العبادة» ولذا كان الأنبياء والأوصياء والعلماء العارفون بالله تعالى يواظبون عليه أشد المواظبة في جميع أحوالهم حالا ومقالا.

٨١

وهناك أمور أخرى مهمة مرتبطة بالدعاء نتعرض لها في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

بقي هنا أمران :

الأول : الفرق بين الدعاء وغيره من الأسباب المؤثرة مثل السحر والعين مثلا فإنّ الأول ـ أي الدعاء ـ تأثير غيبي في عالم الشهادة كما مر ولما سواه تأثيرات من هذا العالم وفيه وهي غير مرتبطة بعالم الغيب والملكوت أصلا بل بعضها منهي عنه شرعا.

الثاني : أنّ الدعاء إنّما يؤثر بحسب معتقدات الداعي فربما يكون الدعاء الصادر من الذي لا يعتقد بالمبدإ يؤثر بحسب معتقده وهو خلاف الواقع قال تعالى : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) [الرعد ـ ١٤] ، وتدل عليه السنة المقدسة بل التجربة ويأتي التعرض لها في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

٨٢

سورة البقرة

الآية ١٨٧

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧))

بعد أن ذكر سبحانه وتعالى أنّ الصوم كتب على المؤمنين كما كتب على من قبلهم ، وبيّن موارد الرخصة في الصوم وموارد عزيمته ، ثم ذكر وقت الصوم وأنّه لا بد أن يكون في شهر رمضان.

ذكر في هذه الآية بعض أحكام الصوم فبيّن جواز غشيان النساء في الليل ، وأنّ مدة الصيام من طلوع الفجر الصادق إلى الليل ، وذكر حرمة مباشرة النساء في المساجد مدة الاعتكاف ، وبذلك كلّه امتاز صيام المسلمين عن غيرهم ، وأخيرا بيّن أنّ جميع ذلك من حدود الله التي لا بد من مراعاتها لمن يريد التقوى والتقرب إليه عزوجل.

٨٣

التفسير

١٨٧ ـ قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ).

الإحلال : الرخصة والإباحة ، من الحلّ مقابل المنع أو العقد.

والرفث : بمعنى الكلام المستقبح ذكره من الجماع ودواعيه ، وقد كنى به عن الجماع للتلازم بينهما كما هو أدب القرآن في استعمال الألفاظ الكنائية عما يستقبح ذكره من الوطي والجماع كالمباشرة ، والمس ، واللمس ، والدخول ، والفرج ، والغائط ونحو ذلك.

ويمكن أن يكون المراد من الرفث : الكلام الذي يقال عند حصول دواعي الجماع وهيجان الشهوة ، كما تدل عليه الهيئة التركيبية لهذه الكلمة المركبة من الحروف الإخفاتية ، فيستفاد منها أنّه القول الخفي الذي لا يسمعه إلا من به نواله ، فأطلق على نفس الجماع من باب الملازمة وحيث إنّ مثل هذا الكلام غالبا يوجب الوصول إلى المقصود عدّي ب (إلى) ، فضمن معنى الإفضاء.

ولم ترد هذه الكلمة في القرآن الكريم إلا في موردين أحدهما المقام ، والثاني آية الحج قال تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) [البقرة ـ ١٩٧]. ولعلّ السر في استعمالها في هذين الموردين أعني الصيام والحج استهجانا لما كانوا عليه قبل الحكم بالاباحة في الصيام.

٨٤

قوله تعالى : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ).

جملة مستأنفة فيها من التعليل للحكم السابق أي : أنّ سبب الإحلال هو كثرة المخالطة وقلة الصبر عنهنّ.

ومادة : (ل ـ ب ـ س) تأتي بمعنى ستر ما يقبح إظهاره غالبا ، واللباس ما يستر به ، وحيث أنّ كلّ واحد من الزوجين يستر الآخر من الوقوع في الحرام أو يستر قبائح الآخر سمي كل واحد منهما لباسا ، كما أنّ التقوى تستر جميع القبائح عبّر عنها باللباس في قوله تعالى : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف ـ ٢٦]. وقد تأتي بمعنى مطلق الستر قال تعالى : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) [البقرة ـ ٤٢] ، وقال تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) [الأنعام ـ ٨٣].

وقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة تتعلق بالدنيا والآخرة ، قال تعالى في شأن أهل الجنة : (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) [فاطر ـ ٣٣] ، وقال تعالى : (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) [الكهف ـ ٣١]. وقد يستعمل لكل ساتر قال تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) [النبأ ـ ١٠] ، ولم يستعمل اللباس بالنسبة إلى أهل النار وإن استعمل لفظ الثياب قال تعالى : (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) [الحج ـ ١٩] ، وربما يكون الوجه في ذلك أنّ اللباس يدل على نحو اهتمام وعناية باللابس ولا يليق أهل النار بذلك.

وفي الكلام من اللطف والحسن ما لا يخفى ، وفيه من الاستعارة لأعظم أمر اجتماعي وهي الحياة الزوجية ، كما أنّ فيه من الترغيب إلى حسن المعاشرة والملاطفة والاعتناء بالحياة الزوجية كما يعتني الإنسان بلباسه وثيابه فيصح التعبير عن الزوجة بلباس الزوج ، كما يصح التعبير عنها بالفراش قال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «الولد للفراش» وقال تعالى : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) [الواقعة ـ ٣٤] ، أي مرتفعة عن الأقذار.

قوله تعالى : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ).

٨٥

مادة ـ خ ـ و ـ ن) تدل على المخالفة ونقض العهد ، وهي خلاف الأمانة. والنفاق أعم من الخيانة. وهيئة الاختنان تدل على ملازمة هذه الصفة والمداومة عليها كقوله تعالى : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [يوسف ـ ٥٣].

والآية المباركة تدل على أنّ تلك الخيانة كانت سرّا بين المسلمين وأمرا مستمرا بينهم وكانت كثيرة عندهم.

يعني : علم الله ـ الذي هو العالم بالجزئيات كما هو عالم بالكليات يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ـ بأنّكم كنتم تخونون أنفسكم وتوقعونها في الحرام وهو مباشرة النساء.

والآية تدل على وجود حكم تحريمي قبل نزولها وهو حرمة مباشرة النساء ليلة الصيام ، فكان المسلمون أو بعضهم يعصون الله تعالى سرّا ولذا عقب سبحانه ذلك بالتوبة عليهم والعفو عنهم وإباحة المباشرة بالرخصة بعد المنع.

قوله تعالى : (فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ).

أي : تاب عليكم فيما صدر منكم من المخالفة وما ارتكبتموه من المحظور وعفا عن خيانتكم.

والتوبة : عبارة عن غفران ما فعلوا وارتكبوا من المخالفة ، والعفو : عبارة عن رفع أصل الحكم وتبديله بحكم آخر سهل يسير.

قوله تعالى : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ).

ترخيص للمباشرة من حين رفع الحرمة والمنع ، والمباشرة إيصال البشرة إلى البشرة. كني بها عن الوقاع ، لكونها من مقدماته ، أو وقوع التلاصق بين البشرتين فيه.

ولعل الإتيان بها في المقام للدلالة على جواز استمتاع الزوج من زوجته بكلّ جزء من بدنه من كلّ جزء من بدنها ما لم يكن نهي شرعي في البين ، وإن كان ظهور الآية في الجماع مما لا يستنكر.

٨٦

والابتغاء : هو الطلب ، والمراد بما كتب الله هو النسل والولد ، فإنّ طلب الذرية هو مما كتبه الله في مباشرة النساء والوقاع وإن لم يكن ملحوظا حين المباشرة إلا قضاء الحاجة ونيل اللذة ولكنّه مطلوب فطري وتسخير إلهي.

ويصح أن يكون المراد بما كتب الله هو الحلال من المباشرة ، فإنّ الله تعالى «يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه» وعلى هذا يصح أن تحمل الآية على مطلق الرجحان في الجملة أيضا.

ومجموع الآية الشريفة يدل على نسخ الحرمة بحلية الجماع ليلة الصيام كما هو ظاهر من موارد مختلفة منها. نعم ، إنّ هذا الحكم يمكن أن يكون مما بينه الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فإنّ آيات الصيام لا تدل على حرمة المباشرة والأكل والشرب بعد النوم.

وقيل : إنّ الآية ليست ناسخة لحكم تحريمي شرعي ، لعدم وجوده قبل نزول الآية الشريفة. نعم ذهب جماعة من الصحابة باجتهادهم إلى تحريم ما يحرم على الصائم في النهار في الليل أيضا بعد النوم ، ولكنّهم خانوا أنفسهم ، فكانوا عاصين بما فعلوا ، فكانت الخيانة بحسب الزعم والحسبان ، فنزلت الآية تبيّن أنّ ذلك لم يكن حكما تحريميا عليهم. وقوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) يدل على تحقق الحلية كما في قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) [المائدة ـ ٩٦] ، إذ لم يكن صيد البحر محرما قبل نزول الآية المباركة.

ويمكن المناقشة فيه بأنّه خلاف ظاهر الآية الشريفة كما عرفت ، وأنّ اشتمال الآية على حكم ليلة الصيام لا يدل على أنّ ذلك كان بحسب اجتهاد بعض الصحابة ، بل يمكن أن يكون مما بينه الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فالآية تنسخ ما بينته السنة المقدسة.

إلا أن يقال : إنّ ترك المباشرة في الليل لم يكن بأمر من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وإنّما كان من فعل الصحابة تجليلا لهم لشهر الصيام ولم ينههم

٨٧

النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن ذلك فتوهموا من عدم النهي تقريرا منه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيكون التشريع من حيث التقرير ، فمن يقول بالنسخ يلاحظ جهة التقرير ومن لا يقول به يلاحظ أصل الفعل فيصير مجموع هذه الآيات المباركة من قبيل قوله تعالى : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) [الحديد ـ ٢٧] فإنّهم مع بنائهم على ترك المباشرة مع ذلك خانوا أنفسهم وباشروا النساء ، ويستفاد ذلك من سياق الآية : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ).

قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ).

ترخيص للأكل والشرب في ليلة الصيام إلى أول طلوع الفجر الصادق الذي هو عبارة عن البياض المعترض في الأفق آخر الليل ويكون معترضا مستطيلا كالخيط الأبيض ، وسمي بالصادق لصدقه في إخباره عن قدوم النهار ، مقابل الفجر الكاذب الذي يشبه بذنب السرحان.

ومن ذلك يظهر أنّ ليلة الصيام هي عبارة عما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق ، كما أنّ اليوم الصومي عبارة عما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس واليوم العملي [الإيجاري] عبارة عما بين طلوع الشمس وغروبها لو لم يكن جعل آخر في البين.

وقوله تعالى : (مِنَ الْفَجْرِ) بيان للخيط الأبيض أي : يتبيّن الخيط الأبيض من الفجر وذلك بطلوع الفجر الصادق أي : نور الصبح من ظلمة الليل ، وفي الكلام تشبيه بليغ يشبّه الفجر بالخيط الأبيض وغبش الليل بالخيط الأسود ، والعرب تشبه النور الممتد بالحبل أو الخيط ، وفي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في صفة القرآن : «كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض» يعني : نور هداه المؤمن من العذاب والحيرة ممدود من السماء إلى الأرض ومنه قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران ـ ١٠٣].

٨٨

ولعل وجه التشبيه أنّهم لم يعرفوا من قواعد الهيئة والأفلاك العلوية شيئا وإنّما كان أنسهم بالأمور المادية ، فشبّه الجليل جلّ وعلا الفجر بالأمر المحسوس ، لتقريبه إلى أذهانهم ولبعده عن الالتباس وسهولة معرفته.

ومن تحديد الفجر بتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود يستفاد أنّه يكون من أول حين طلوع الفجر ، لأنّ ارتفاع الشعاع يوجب اضمحلال الخيطين وإبطالهما.

وهذه العلامة من العلامات العامة في الأوقات بلا اختصاص لها لبلد أو أفق معيّن ، كغروب الشمس الذي هو علامة لدخول ليل كل بلد بحسب أفقه.

وذلك لأنّ حدّ الظلمة في هذا العالم المتحرك الدوار ينتهي إلى النور ، كما أنّ حد النور ينتهي إلى الظلمة لفرض تناهي كل واحد منهما في فلكهما المتحرك الدائر ، فيحصل نحو اختلاط بين النور والظلمة حتى يغلب النور على الظلمة ، كما في الاختلاط الحاصل في الفجر ، أو تغلب الظلمة على النور كما في الاختلاط الحاصل في الغروب ، والأول يسمى الفجر أو الخيط الأبيض والخيط الأسود بالتعبير القرآني ، والثاني يسمى الشفق ، وكلاهما مذكوران في القرآن الكريم أحدهما في المقام والثاني في قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) [الإنشقاق ـ ١٦] ، وكل منهما لا ينعدمان آنا مّا من هذا العالم ، لاختلاف الآفاق ، ففي كل حين في هذا العالم غروب ، ودلوك ، وشفق ، وفجر ذلك تقدير العزيز العليم الذي (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) [لقمان ـ ٢٩] ، هذا في العالم الذي نحن فيه ، وأما في سائر العوالم أو سائر المجموعات الشمسية التي يكون عالمنا الذي نحن فيه كخردلة في فلاة ، فليس للعقول الدراكة إلى ذلك من سبيل ، وقد اعترف المتخصصون بالتحيّر والقصور.

قوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ).

التمام : ضد النقصان ، ويستعمل في انتهاء الشيء بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر خارج عنه.

٨٩

لما حدد سبحانه ابتداء الصيام بالفجر ذكر هنا تحديد انتهائه بإتمامه إلى الليل ـ المعاقب للنهار ـ الذي يبدأ بغروب الشمس وذهاب الحمرة المشرقية.

وذكر بعض المفسرين أنّ في قوله تعالى : (أَتِمُّوا) دلالة على أنّ الصوم واحد بسيط وعبادة واحدة تامة لا أن يكون مركبا من أجزاء ، وهذا هو الفرق بينه وبين الكمال حيث إنّه انتهاء وجود مّا لكلّ من أجزائه أثر مستقل وحده.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ الصوم كسائر العبادات يلحظ فيه جهة تمام وجهة كمال يمكن أن تكون الثانية بالنسبة إلى الشرائط الأعم من شرائط الصحة والكمال ، وتكون الأولى بالنسبة إلى الأجزاء هذا إذا لم تكن قرينة على الخلاف وإلا فهي المتبعة ، ومنه يعلم ما في المقام من ذكر التمام دون الكمال ، ويأتي في قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة ـ ٣] ، تتمة الكلام.

وحيث إنّ بين الشروع في نية الصيام والمضيّ فيه نحو فصل عرفي عطف سبحانه ب (ثم) للتنبيه إلى هذه الجهة.

قوله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ).

استثناء من العموم الذي ربما يتوهم من قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) ليشمل جواز المباشرة ليالي الاعتكاف في المسجد فنهى تعالى عن ذلك حالة الاعتكاف مطلقا.

والعكوف : هو الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم. وفي الشرع : ملازمة المسجد والمكث فيه على سبيل القربة للعبادة.

وتستعمل المادة في مطلق الحبس أيضا قال تعالى : (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) [الحج ـ ٢٥] ، وقال تعالى : (فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) [الشعراء ـ ٧١] وقال تعالى : (فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) [الأعراف ـ ١٣٨] وقال تعالى : (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح ـ ٢٥].

٩٠

وحالة الاعتكاف في المسجد هي حالة القرب إلى الله تعالى بخلاف حالة الجنابة ، فإنّها حالة البعد عنه عزوجل ، فلا تجتمعان ، ولذلك نهى الشارع عنها.

والمباشرة : الجماع كما تقدم وهو يبطل الاعتكاف ، لما ذكرناه في الفقه.

والاعتكاف : عبادة خاصة رغّب إليه الإسلام بشروط مقررة في الكتب الفقهية ، ويدل على رجحانه ومحبوبيته الكتاب والسنة والإجماع فمن الكتاب قوله تعالى : (طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة ـ ١٢٥] ، وأما السنة فهي متواترة بين الفريقين منها قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «اعتكاف عشر في شهر رمضان تعدل حجتين وعمرتين» ، وأما الإجماع فهو من المسلمين فتوى وعملا.

ويدل على حسنه العقل أيضا فإنّ اللبث في بيت المحبوب راجح ومحبوب.

ويعتبر أن يكون في المسجد الجامع وأفضله المساجد الأربعة وهي : المسجد الحرام ، ومسجد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، ومسجد الكوفة ، ومسجد البصرة. وله شروط ، وآداب ، وأحكام مذكورة في الكتب الفقهية راجع الصوم من كتابنا [مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام].

قوله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها).

الحد : يأتي بمعنى المنع ، وحدود الله : هي شرائعه وأحكامه المحرمة التي قرنها بالعقوبة ، والنهي عن الاقتراب إليها كناية عن مخالفتها عبّر عنها بالاقتراب لشدة الحيطة ومبالغة في التحذير ، فإنّ من قرب من شيء أوشك أن يتعداه ، وقد ورد في الحديث «أنّ لكل ملك حمى وأنّ حمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه».

وهذا التعبير أبلغ في التحذير من قوله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا

٩١

تَعْتَدُوها) [البقرة ـ ٢٢٩] ، ولهذا لم يستعمل مثل هذا التعبير إلا في موارد خاصة مثل قرب مال اليتيم ، والزنا والمقام.

والمعنى : إنّ ما ذكر من الأحكام المشتملة على الإيجاب والتحريم هي حدود الله تعالى فلا تضيّعوها ولا تعصوا الله تعالى بتركها ، فإنّ نقض الحد المحدود كنقض العهد المعهود مبغوض بالفطرة.

والآية تشير إلى أمر فطري وهو الاهتمام بالقانون مطلقا ـ خالقيا كان أو خلقيا ـ واحترامه وتعظيمه ما لم ينه عنه الشرع ، لأنّ في حفظ القانون حفظا لنظام النوع الإنساني ، وتكميل المجتمع ، وجلب السعادة للأفراد هذا في القوانين الوضعية الممضاة من قبل الشرع ، فكيف بالقوانين الإلهية التي تنفع الإنسان في الدنيا والآخرة كما تنفع الفرد والمجتمع سواء ، وسيأتي في الآية اللاحقة ما يتعلق بالمقام.

ويستفاد من الآيات الشريفة كمال المذمة لعدم العلم والعمل بحدود الله تعالى قال سبحانه وتعالى : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ) [التوبة ـ ٩٧].

قوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

أي : أنّ بهذا النحو من البيان في أحكام الصيام يبيّن الله آياته ودلائله للناس بما فيه الصلاح والسعادة ليتقوا الله عزوجل.

وقد ذكر تعالى [لعل] في المقام وغيره فيما يزيد على مائة موضعا وقد تقدم ما يرتبط بذلك. وفيه من الموعظة الحسنة بأحسن أسلوب وأرقه ، وبلسان الألفة والرحمة لتكميل الإنسان نفسه وإخراجها من الظلمات والجهالة والغرور إلى عالم النور ، ويكون مفاد مثل هذا الخطاب أنّه قد آن زمان تطهير النفوس عن كلّ رذيلة وخسيسة ، فسارعوا إلى التطهير والكمال.

٩٢

بحث روائي

في تفسير القمي عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «كان الأكل والنكاح محرّمين في شهر رمضان بالليل بعد النوم يعني كلّ من صلّى العشاء ونام ولم يفطر ثم انتبه حرم عليه الإفطار ، وكان النكاح حراما في الليل والنهار في شهر رمضان وكان رجل من أصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يقال له خوات بن جبير الأنصاري أخو عبد الله بن جبير الذي كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وكّله بفم الشعب يوم أحد في خمسين من الرماة ففارقه أصحابه وبقي في اثني عشر رجلا فقتل على باب الشعب وكان أخوه هذا خوات بن جبير شيخا كبيرا ضعيفا وكان صائما مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في الخندق فجاء إلى أهله حين أمسى فقال : عندكم طعام؟ فقالوا : لا تنم حتى نصنع لك طعاما فأبطأت عليه أهله بالطعام ، فنام قبل أن يفطر فلما انتبه قال لأهله : قد حرم عليّ الأكل في هذه الليلة ، فلما أصبح حضر حفر الخندق فأغمي عليه فرآه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فرقّ له ، وكان قوم من الشبان ينكحون بالليل سرّا في شهر رمضان فأنزل الله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) ـ الآية ـ فأحل الله تبارك وتعالى النكاح بالليل في شهر رمضان والأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر بقوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) قال هو بياض النهار من سواد الليل».

٩٣

أقول : قريب منه ما رواه الكليني والعياشي في تفسيره عن الصادق (عليه‌السلام). أيضا ومن طرق العامة ما رواه في الدر المنثور بطرق متعددة. ويستفاد منها أنّ الأكل والشرب كان حلالا قبل النوم ، وأما النكاح فكان محرّما في الليل والنهار من شهر رمضان ، ويمكن استفادة ذلك من اختلاف التعبير في الآية الشريفة أيضا.

في الدر المنثور أخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ثابت عن ابن عباس : «أنّ المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلّوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة ، ثم أنّ أناسا من المسلمين أصابوا الطعام والنساء في رمضان بعد العشاء منهم عمر بن الخطاب فشكوا ذلك إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فأنزل الله : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) ـ إلى قوله تعالى ـ (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) يعني : انكحوهنّ.

أقول : وفي بعض الروايات إنّ جمعا من الصحابة كانوا كذلك.

في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) قال (عليه‌السلام) : «بياض النهار من سواد الليل».

أقول : تقدم الوجه في ذلك.

في الدر المنثور : «أنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : الفجر فجران ، فأما الذي كأنّه ذنب السرحان فإنّه لا يحلّ شيئا ولا يحرّمه ، وأمّا المستطيل الذي يأخذ الأفق فإنّه يحلّ الصلاة ويحرّم الطعام».

أقول : الروايات في ذلك مستفيضة بين الفريقين تعرضنا لبعضها في [مهذب الأحكام] في بحث الأوقات.

في صحيح البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود وابن جرير والنسائي عن عمر قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم».

٩٤

أقول : وردت روايات كثيرة عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) أنّ الليل لا يدخل إلا بذهاب الحمرة المشرقية عن سمت الرأس وعليه إجماع الإمامية ولا تنافي بين الروايات فإنّ المتحصّل من مجموعها أنّ غروب الشمس له مراتب متفاوتة أدناها غيبوبة قرص الشمس وآخرها ذهاب الحمرة المشرقية ويعرف غروب الشمس بالأخيرة.

في الفقيه عن الصادق عن آبائه (عليهم‌السلام) قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «اعتكاف عشر في شهر رمضان تعدل حجتين وعمرتين».

أقول : الروايات في فضل الاعتكاف في شهر رمضان كثيرة تعرضنا لبعضها في الصوم من كتابنا (مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام).

٩٥

سورة البقرة

الآية ١٨٨

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨))

تبيّن الآية الشريفة أهم الأحكام النظامية الاجتماعية التي تتحدد بها الحياة السعيدة الهنيئة ، ولا تخلو الآية المباركة عن الارتباط بالآيات السابقة لكون جميعها في مقام سرد الأحكام الشرعية الإلهيّة التي شرعها الله تعالى ، لتكميل الإنسان وجلب السعادة إليه.

٩٦

التفسير

١٨٨ ـ قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ).

الأكل معروف ، والمراد به مطلق التصرّف ، لكونه أقرب التصرّفات إلى الإنسان من بدء نشأته وأهم الغايات المتوخاة من سائر التصرّفات ، ولأجل ذلك أطلق الأكل وأريد به مطلق التصرّف.

والمال : ما تميل إليه النفس ، والمراد به ما تتعلق به الرغبة من الملك.

والباطل : يأتي بمعنى الزوال والفساد والاضمحلال ، وهو خلاف الحق في جميع أطوار استعمالاته ، فإنّ للحق أطوارا من الظهور وللباطل أيضا في مقابله كذلك وهما يشملان الذات ، والاعتقاد ، والعمل فيعمان أعمال الجوارح والجوانح.

والباطل : معروف بين الناس والصّراع بينه وبين الحق قديم جدا ينتهي إلى ظهورهما من العدم إلى الوجود ، فهما متخالفان في المفهوم والذهن والخارج ، والدنيا والآخرة كما يأتي في الآيات المناسبة.

أي : لا يأكل بعضكم أموال بعض بغير حق.

ومن إضافة الأموال إلى الناس يستفاد تقرير الشارع الملكية الظاهرية الدائرة بين الناس وعليه استقر المجتمع الإنساني ، وتدل على ذلك جملة من

٩٧

الآيات الشريفة كقوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) [النساء ـ ٢٩].

وفي الآية إشارة إلى أصل من الأصول الاجتماعية التي يقوم عليها نظام المجتمع الإنساني وهو أصالة احترام مال الغير فإنّ قوله تعالى : (أَمْوالَكُمْ) يدل على أنّ احترام مال الغير لا بد وأن يكون مثل احترام مال الشخص نفسه ، والخيانة فيه جناية على النوع والاجتماع.

ولم يبيّن سبحانه وتعالى في هذه الآية وجوه الباطل وقد ذكر في مواضع أخرى بعضا منها قال تعالى : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) [النساء ـ ١٦١] ، وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) [النساء ـ ١٠] ، كما بينت السنة الشريفة البعض الآخر وسيأتي في البحث الروائي ما يتعلق بذلك.

قوله تعالى : (وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ).

الإدلاء : الإرسال والإلقاء من إدلاء الدلو في البئر لنزح الماء منها قال تعالى : (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ) [يوسف ـ ١٩].

أي : لا ترسلوا أموالكم وتلقوها إلى الحكام رشوة لهم ليحكموا لكم كما تريدون.

وفي اختيار لفظ الإدلاء دلالة على أنّ المراد مجرد جلب النفع بأي سبب حصل ، وقد ذكر في هذه الجملة أحد وجوه الباطل وهو الرشوة ، فنهى سبحانه عن التسبب لأن يأكل الحكام أموالهم بالباطل وإن رضي الطرفان به.

قوله تعالى : (لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ).

الفريق : القطعة من الشيء أي : لا ترسلوا أموالكم إلى الحكام رشوة لهم ليحكم الحاكم بحكم باطل فيأخذ الراشي قطعة من أموال الناس مقابل ما يأخذه الحاكم من الراشي الرشوة.

٩٨

والمراد بالإثم موجباته كاليمين الكاذبة وشهادة الزور ، والحكم بغير الحق وأمثال ذلك.

والآية بوضوح حكمها تقطع اطماع الحكام في أموال الناس ، وتجعل الناس أمام الحاكم سواء بلا تفاضل بينهم إلا في الحق وبالحق.

قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

أي : وأنتم جميعا تعلمون بأنّ ذلك باطل ، ومحرّم عليكم ، وفيه من التوبيخ ما لا يخفى ، لأنّ ارتكاب الإثم مع العلم بقبحه أقبح ، والجناية حينئذ أشنع.

٩٩

بحوث المقام

بحث دلالي

الآية الشريفة تدل على تقرير ما عليه الناس في الملكية الدائرة بينهم كما ذكرنا ، فإنّ قيام الإنسان في هذا العالم وتعميره وإيصاله من الاستعداد إلى ذروة الكمال إنّما يكون بالمال ، وثبوت الملك ، والعقل يحكم برعايته والاحتفاظ به عن التلف والسرف ومع عدمه يعد الشخص سفيها. وقد قررت الشرائع السماوية هذا الحكم العقلي ، ويدل على ذلك جملة من الآيات الشريفة ، منها قوله تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) [النساء ـ ٥] ، وقوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) [الأعراف ـ ٣١] ، وأمثال ذلك مما هو كثير ، ولم يختلف في هذا الحكم أحد من العقلاء.

إنّما وقع الخلاف في نواحي أخرى مثل كيفية الملكية وكميتها وقد وضعوا في ذلك نظريات متعددة مثل النظرية التي ترى الملكية الجماعية وتنكر الملكية الفردية ، أو النظرية التي تثبت الملكية الفردية وكل واحدة من هذه النظريات ترمي الاخرى بالبطلان ، والفشل في ابتغاء السعادة للإنسان إلا أنّ جميعها متفقة على أصل الملكية ولم تنكرها ، كما يأتي في البحث الاجتماعي.

١٠٠