مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٦

بحث روائي

في الكافي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «أفضل العبادة الدعاء».

وفي عدة الداعي عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «أفضل العبادة الدعاء وإذا أذن الله لعبد في الدعاء فتح له أبواب الرحمة إنّه لن يهلك مع الدعاء أحد»

أقول : الروايات في فضل الدعاء وآدابه وكيفيته كثيرة متواترة بين المسلمين يأتي التعرض لبعضها في البحوث الآتية.

في تفسير العياشي عن ابن أبي يعفور عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي) قال (عليه‌السلام) : «يعلمون أنّي أقدر على أن أعطيهم ما يسألون».

أقول : يريد (عليه‌السلام) أنّه ليس المراد بهذا الإيمان الإيمان بأصل التوحيد في مقابل الشرك ، بل الإيمان باستجابة الدعاء.

وفي المجمع عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) أي : وليتحققوا أنّي قادر على إعطائهم ما سألوه : (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) أي : «لعلهم يصيبون الحق أي يهتدون إليه».

٦١

أقول : يظهر وجهه مما سبق.

وعن ابن عباس : «قالت اليهود كيف يسمع ربّنا دعاءنا وأنت تزعم أنّ بيننا وبين السماء خمسمائة عام وغلظ كل سماء ذلك؟ فنزلت الآية : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).

وروي أنّ قوما قالوا للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «أقريب ربّنا فنناجيه أم بعيد ربنا فنناديه؟ فنزلت الآية المباركة».

وروي أنّ سبب نزولها : «أنّ النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) سمع المسلمين يدعون الله بصوت رفيع في غزوة خيبر فقال لهم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : أيّها الناس أربعوا على أنفسكم فإنّكم لا تدعون أصمّا ولا غائبا إنّكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم».

أقول : يمكن أن تكون جميع هذه الأخبار معتبرة كل بحسب طائفة وقوم فتختلف باختلاف الجهات.

أما الأول : فبحسب مزاعم اليهود حيث زعموا أنّ سمع الله يكون كسمعنا يحجب بالحجاب ، ولكنّه باطل ، لأنّ المراد بسمعه تبارك وتعالى : العلم بالمسموعات والإحاطة بها كما في جملة من الروايات ، ولذا لا يشغله سمع عن سمع لأنّ علمه الإحاطي يشتمل على جميع ما سواه.

أما الثاني : فيكشف عن جهلهم بالحقائق.

وأما الأخير : فهو ناش عن سوء أدبهم ، فإنّ الآية المباركة ترشد إلى نبذ بعض العادات السيئة التي كانت سائدة عندهم فيكون مثل قوله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) [النور ـ ٦٣] ، وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [الحجرات ـ ٤].

٦٢

بحث علمي

الدعاء من أقوى الأسباب في نجح المطلوب وأعظمها في نيل المقصود ومن أشد روابط القرب إلى المعبود ولا ينفك عنه الإنسان في جميع مراحله وأطواره ، وجميع نشئاته سواء بلسان الاستعداد والفطرة أم بلسان المقال ، ولا يخلو كتاب إلهيّ من الحث عليه ، وهو العبادة التي أمرنا بإتيانها والراغب عنه عدّ من المستكبرين عن رحمة الرحمن قال تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر ـ ٦٠] ، وعن السجاد عليّ بن الحسين (عليهما‌السلام) في صحيفته الملكوتية بعد ذكر الآية المباركة : «فسمّيت دعاءك عبادة وتركه استكبارا وتوعّدت على تركه دخول جهنم داخرين ، فذكروك بمنّك وشكروك بفضلك ، ودعوك بأمرك ، وتصدقوا لك طلبا لمزيدك ، وفيها كانت نجاتهم من غضبك وفوزهم برضاك» والبحث في الدعاء من جهات كثيرة نذكر في المقام الأهم منها ، ويأتي المهم في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

فضل الدعاء :

للدعاء فضل كبير ، وقد أمرنا به في مواضع كثيرة من القرآن الكريم ، وقد عبّر عنه بالعبادة في الآية الشريفة المتقدمة ، ويكفي في فضلها قوله تعالى : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) [الفرقان ـ ٧٧] فهو سبب اعتناء الله تعالى

٦٣

بخلقه ، وقوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) [البقرة ـ ١٨٦] فإنّه كفى فضلا في أنّه تعالى بنفسه الأقدس يجيب دعوة الداع من دون واسطة في البين ، وقوله تعالى (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر ـ ٦٠] ، حيث رتب الاستجابة على الدعاء ، وهذا من عظيم الفضل.

وأما السنة : فقد وردت روايات كثيرة متواترة من الفريقين في فضل الدعاء واستحبابه مطلقا :

فعن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيما رواه الفريقان : «الدعاء سلاح المؤمن ، وعمود الدّين ونور السماوات والأرض».

وعن الصادق (عليه‌السلام) : «الدعاء يرد القضاء بعد ما أبرم إبراما».

وعن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما‌السلام) : «عليكم بالدعاء ، فإنّ الدعاء والطلب إلى الله عزوجل يرد البلاء وقد قدّر وقضي فلم يبق إلا إمضاؤه فإذا دعي الله وسئل صرف البلاء صرفه».

وعن الصادق (عليه‌السلام) : «إنّ الدعاء يرد القضاء المبرم وقد أبرم إبراما ، فأكثر من الدعاء فإنّه مفتاح كل رحمة ونجاح كل حاجة ، ولا ينال ما عند الله إلا بالدعاء ، فإنّه ليس من باب يكثر قرعه إلا أوشك أن يفتح لصاحبه».

وفي الكافي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «عليكم بالدعاء فإنّكم لا تتقربون بمثله ، ولا تتركوا صغيرة لصغرها أن تدعوا بها إنّ صاحب الصغار هو صاحب الكبار».

وعن الصادق (عليه‌السلام) : «إنّ الله تبارك وتعالى يعلم ما يريد العبد إذا دعاه ولكنّه يحب أن تبث إليه الحوائج ، فإذا دعوت فسمّ حاجتك».

وفي الكافي عن ميسر عن الصادق (عليه‌السلام) : «يا ميسر أدع ولا تقل : إنّ الأمر قد فرغ منه إنّ عند الله عزوجل منزلة لا تنال إلا بمسألة».

وعن الصادق (عليه‌السلام) أيضا في رواية ابن القداح : «الدعاء كهف

٦٤

الإجابة ، كما أنّ السحاب كهف المطر».

وعن زرارة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «الدعاء هو العبادة التي قال الله : إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين. أدع الله عزوجل ولا تقل إنّ الأمر قد فرغ منه».

وعن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : «الدعاء ترس المؤمن ومتى تكثر قرع الباب يفتح لك».

وعن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في رسالة طويلة إلى أصحابه : «أكثروا من أن تدعوا الله ، فإنّ الله يحب من عباده المؤمنين أن يدعوه ، وقد وعد عباده المؤمنين الاستجابة ، وإليه مصير دعاء المؤمنين يوم القيامة لهم عملا يزيدهم في الجنة».

وعن الباقر (عليه‌السلام) : «ولا تمل من الدعاء فإنّه عند الله بمكان».

وعن علي (عليه‌السلام) : «الدعاء مخ العبادة».

وعن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «أفضل العبادة الدعاء ، وإذا أذن الله لعبد في الدعاء فتح له أبواب الرحمة ، إنّه لن يهلك مع الدعاء أحد».

وعن الرضا (عليه‌السلام) : «عليكم بسلاح الأنبياء ، فقيل : ما سلاح الأنبياء؟ قال (عليه‌السلام) : الدعاء».

وعن الصادق (عليه‌السلام) : «الدعاء أنفذ من السنان».

وعن العبد الصالح (عليه‌السلام) : «الدعاء جنّة منجية ترد البلاء وقد أبرم إبراما».

وعن علي (عليه‌السلام) : «الدعاء مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح ، وخير الدعاء ما صدر عن صدر نقي وقلب تقي ، وفي المناجاة سبب النجاة ، وبالإخلاص يكون الخلاص ، فإذا اشتد الفزع فإلى الله المفزع».

وقال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ألا أدلّكم على سلاح ينجيكم

٦٥

من أعدائكم ، ويدرّ أرزاقكم؟ قالوا : بلى. قال : تدعون ربكم بالليل والنهار فإنّ سلاح المؤمن الدعاء».

وعنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ادفعوا أبواب البلاء بالدعاء» إلى غير ذلك من الأخبار المذكورة في كتب الفريقين.

حقيقة الدعاء :

الدعاء : هو الوسيلة بين العبد وخالقه ، واتصال من عالم الملك بعالم الملكوت الذي هو من أهم الأسباب الطبيعية الاختيارية الواقعية لنجح المطلوب والنيل إلى المقصود ، فإنّه كما تترتب المسببات على الأسباب المقتضية لها ، فإنّ قانون السببية الذي جعله الله تعالى وسيلة لتحقق المسببات الوجودية من دون أن يكون في البين فيض من الأسباب مستقلة من دون الله تعالى ، كذلك فإنّ للإنسان شعورا باطنيا وحسا وجدانيا أنّ له ملجأ يأوي إليه في حوائجه ليقضيها ، وأنّ له سببا معطيا لا ينضب معينه وهو مسبّب الأسباب ، وهو ليس كالأسباب الظاهرية التي يمكن أن يتخلف عنها أثرها. وهذا الشعور الباطني يمكن أن يشتد عند فرد بحيث لا يرى للمسببات إلا سببا واحدا وينقطع عن أي سبب دونه ، فيعتصم به ولا يتخلّى عنه ويتوكل عليه في كلّ حوائجه ، فتنكشف لديه الأشياء على حقائقها ويرى زيف الأسباب.

نعم ، قد يعرض على هذا الشعور الباطني والحسي الوجداني بعض الظلمات والأوهام فيوجب طمس هذا النور الفطري أو خفائه تبعا لشدة ما يتخيله وضعفه ، فيتخيل خلاف ما هو المركوز في فطرته ، وهذا لا يختص بهذا النور الفطري بل يشمل جميع ما يتعلق بالفطرة والشعور الباطني ، ولذا قد يرجع ويفيء إلى فطرته عند تزاحم المشاكل وعدم نفع أي سبب في رفعها ، كما ورد في قضية من ركب البحر فانكسرت به السفينة وأيقن بالهلاك فعند ذلك يدعو من ينجيه ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ

٦٦

لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [يونس ـ ٢٢].

ولا يستفاد من ذلك أنّه حينئذ لا يمكن تخلف المدعو عن الدعاء إذا كان الأمر كذلك فإنّ أمر الدعاء والمسببات الظاهرية في ذلك سواء ، فإنّه كثيرا ما كانت هناك عوامل تثبّط الأسباب وتمنعها عن الأثر ، فكذلك في الدعاء فإنّ هناك موانع كثيرة عن تحقق المدعو به قد ندركها وقد لا ندركها بل الأمر في الدعاء أشد ، لفرض أنّه ارتباط مع عالم الغيب غير المتناهي الخارج عن الحس ، فلا بد أن تكون الأسباب الموصلة إليه أدقّ وأرقّ ، وهذا محسوس في عالم الماديات أيضا ، فإنّ كلّما كان الشيء ألطف وأدقّ كان السبب الموصل إليه كذلك.

فحقيقة الدعاء هي الشعور الباطني في الإنسان بالصلة والارتباط بعالم لا مبدأ له ولا نهاية ، ولا حدّ ولا غاية لسعة رحمته وقدرته وإحاطته بجميع ما سواه ، فوق ما نتعقل من معنى السعة والإحاطة والقدرة يقضي له حوائجه بحيث يجعل المدعو تحت قدرة الدّاعي جميع وسائل نجح طلباته فيقع التجاذب بين الموجودات الخارجية وبين قلب هذا الداعي ، فيصير موجدا وفاعلا لما يدعو به ، فيتحد الداعي والدعوة والمدعو به في بعض المراتب ، ولا تحصل هذه المرتبة إلا لمن انسلخ عن ذاته بالكلية وفنى في مرضاة الواحدية الأحدية فلا يرى في الوجود سوى المدعو ، سواء كان ذلك ملكة أم حالا ، فيتحد العاقل والمعقول ، كما أثبته بعض أكابر الفلاسفة ، ولعله المراد من الاسم الذي هو غيب الغيوب والسّر المحجوب ، فروح الدعاء هي ارتباط الداعي مع الله عزوجل بالشرائط المقررة المذكورة في محالها.

ما أورد على الدعاء :

بيّنا أنّ حقيقة الدعاء هي ارتباط خاص بين الإنسان وعالم لا مبدأ له ولا حد ، ولكن أورد على الدعاء إيرادات كثيرة أهمها هي :

الأول : ما عن الماديين الذين ينكرون الغيب أي : ما وراء المادة من المبدإ الحي الأزلي وإنكار ربط الحوادث به وارتباط العالم بالمادة فقط على

٦٧

نحو العلية التامة ولذلك أنكروا الدعاء والتوسل إليه في نيل المطلوب ونجحه.

ويرده : ما أثبته جميع الفلاسفة من وجود مبدإ غيبي وأنّ الحوادث جميعها مستندة إليه ، وأنّ الشرايع الإلهية قد أثبتت ذلك بألسنة مختلفة وتفصيل البحث موكول إلى الفلسفة الإلهية وعلم الكلام. وأنّ المادة والجهد من قبيل المقتضيات لا العلل التامة ، ولذلك لا بد من التوسل إليه والإفاضة منه بعد السّعي والجد لتمهيد السبيل للنيل إلى المطلوب.

الثاني : أنّ المبدأ موجود وأنّه حيّ أزليّ ولكنّ الحوادث الجزئية الخاصة غير مستندة إليه بل أصل حدوث العالم وخلقه في الجملة ينتهي إليه بخلافها ، وقد تشعب عن هذا الرأي مذاهب : منها : ما عن اليهود كما حكاه الله تعالى عنها : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة ـ ٦٤]. ومنها : ما نسب إلى بعض من أنّ مناط الحاجة الحدوث في الجملة فقط دون البقاء ، حتى قال : «لو جاز على الواجب العدم لما ضرّ عدمه وجود العالم». وهناك مذاهب أخرى قد تعرضوا لها كلّ في محله ، ولذلك أنكروا الدعاء وقالوا إنّه لا يسمن ولا يغني من جوع.

ويرده : ما أثبتوه بالأدلة العقلية من أنّ مناط الحاجة الإمكان وهو حليف ما سوى الله تعالى حدوثا وبقاء في جميع الأزمنة والأمكنة ، وإذا كان كذلك فلا بد من التوسل إليه والإفاضة منه لفرض الافتقار إليه في ما سواه تعالى بلا فرق في تلك المذاهب.

الثالث : أنّ الحوادث معلومة عنده جلت عظمته ولا تغيّر في العلم ، فلا تغيّر في الحوادث أيضا ، فلا مجال للدعاء حينئذ في الحوادث بعد فرض تعلق علمه تعالى بها.

ويرده أولا : أنّ هذا مبنيّ على كون علمه تعالى علة تامة منحصرة لمعلوماته عزوجل ، وهو باطل عقلا ونقلا كما ثبت في الفلسفة الإلهية وسنتعرض في الآية المناسبة له إن شاء الله تعالى.

وثانيا : العلم تعلق بها متغيّرا ، فالتغير في المعلوم بالعرض لا في العلم

٦٨

والمعلوم بالذات إذن لا إشكال في صحة التوسل إليه تعالى والدعاء للنيل إلى ما هو الصالح.

الرابع : أنّ الحوادث التي ترد على عالمنا مقدّرة ومقضية أزلا ولا تغيّر ولا تبدل في القضاء والقدر فلا معنى للدعاء والتوسل بعد نزول الحادثة ، وقد عبّر عن هذا الإيراد بتعابير مختلفة أخرى.

ويرده : أنّ القضاء والقدر من مراتب فعله جلّ شأنه وليسا في مرتبة الذات ، وفعله تعالى قابل للتغير مطلقا ، وقد ورد في بعض الروايات أنّ الدعاء يرد القضاء وقد أبرم إبراما. فيصح التوسل إليه لأجل زوال الحادثة أو تغيير الحال.

الخامس : أنّ الدعاء من قبيل تحقق المعلول بلا علة ، وهو محال كما ثبت في محله.

ويرده : أنّ الدعاء لا ينافي قانون العلية والمعلولية أو سائر نواميس الطبيعة بل إنّه يكون سببا لتحقق المسبب المستند إلى سببه الخاص.

السادس : أنّ الآيات الشريفة الدالة على الحث على العمل ونيل الأجر به تنافي سبل الدعاء ، مثل قوله تعالى : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) [التوبة ـ ١٠٥] ، وقوله تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف ـ ٣٠] وقوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) [النجم ـ ٤٠] ، وغيرها من الآيات المباركة فإنّ ظاهرها حصر التأثير في العمل وأنّ الأجر منحصر فيه.

ويرده أولا : أنّه لا تنافي بين تلك الآيات المباركة وبين ما أمر بالدعاء مثل قوله تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) [الأعراف ـ ٥٣] ، وقوله تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر ـ ٦٠] ، لأنّ الدعاء بلا عمل لا أثر له وإنّه مما لا يستجاب ، كما يأتي في الروايات.

وثانيا : أنّ الدعاء بنفسه عمل خاص وتوجه إليه تعالى فلا تنافي بين ما دل على الترغيب بالعمل وبين أن يأمر بالدعاء.

٦٩

وهناك دعاوى أخرى نسبت إلى من لم يعتقد بالدعاء أدلتها موهونة جدا أعرضنا عن ذكرها.

الدعاء ارتباط روحي :

ذكرنا أنّ حقيقة الدعاء هي الاتصال بمبدإ لا نهاية لعظمته وقدرته ومالكيته وقهّاريته ، والتوسل إليه بالترابط الروحي بين الداعي والمدعو. يلتمس منه الداعي نجح مطلوبه وقضاء حاجته فيلهم الله تعالى الداعي ما يرشده إلى مطلوبه ، فيكون الدعاء ضربا من التأثير الروحي ، وذلك يتوقف على معرفة الله جلّ شأنه رب الأرباب وله السلطان التام وأنّ جميع الأسباب راجعة إليه عزوجل ، والإذعان بأنّها الواسطة في التأثير فقط وأنّ المؤثر هو الله وحده ، وإلى ذلك يشير ما ورد عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لو عرفتم الله حق معرفته لزالت لدعائكم الجبال». والوجه في ذلك واضح فإنّ الجهل بمقام الربوبية العظمى والإعتقاد بقانون السببية التامة في الأسباب والمسببات الخارجية يوجب البعد عن ساحة الرحمن ، والإذعان بحقيقة التأثير للأسباب العادية ، وينتهي إلى الغفلة عنه ويقابل ذلك التوجه إليه ومعرفته تبارك وتعالى فإنّ مقتضى مالكيته جلّت عظمته لجميع ما سواه ، وربوبيته العظمى لها واستغناؤه عزوجل عن الكل واحتياج الكل إليه هو سؤال الكل منه عزوجل ، ودعاؤه له بلسان الحال والاستعداد ، لأنّ مناط السؤال والدعاء إنّما هو الحاجة ، وهي من لوازم الإمكان. وكلّ ممكن ، سواء كان من المجردات أم الماديات بجواهرها وأعراضها ، جميعا داع له وسائل منه بلسان الافتقار إليه والانقهار لديه وإن لم نفقه سؤال كثير من الممكنات. نعم السؤال ، والدعاء القصدي الاختياري والتوجه الفعلي من شؤون الإنسان فإنّ له شأنا ومنزلة عنده تعالى يحب السماع إليه فيلتذ أولياء الله تعالى بالدعاء والمناجاة ، ويبتهج الله جلّت عظمته بذلك ابتهاجا لا يحيط به غيره ، ففي الحديث : «إنّ الله يعلم حاجتك ، وما تريد ولكن يحب أن تبث إليه الحوائج فإذا دعوت فسمّ حاجتك» وفي أخبار كثيرة أنّ الله تعالى قد يؤخر إجابة دعاء عبد لأن يسمع صوته

٧٠

وتضرّعه ، ويعجّل إجابة بعض الدعوات لأنّه تعالى لا يحب سماع صوت داعيه وتضرعه.

ولكن ذلك لا يوجب إلغاء ناموس العلية والمعلولية بين الأشياء ، بل قد أثبتنا في المباحث السابقة أنّ هذا القانون حق لا ريب فيه وأنّه «أبى الله أن يجري الأمور إلا بأسبابها» إلا أنّ الدليل العقلي أثبت الواسطة لها دون الانحصار والدعاء داخل تحت هذا القانون وأنّه من طرق العلية للأشياء والتقريب بين الأسباب والمسببات واقعا وإن لم ندركه ظاهرا ، وإليه يشير ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) في وصيته لابنه الحسن (عليه‌السلام) : «ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته واستمطرت شآبيب رحمته فلا يقنطنك إبطاء إجابته».

شروط الدعاء :

للدعاء شروط كثيرة جدا مذكورة في القرآن الكريم والسنة المقدسة وهي تنقسم إلى شروط الصحة فلا يصح الدعاء بدونها ، وشروط كمال له. أما شروط الصحة فهي :

الأول : الإيمان بالله تعالى قال عزوجل : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة ـ ١٨٦].

الثاني : الإخلاص في الدعاء وعقد القلب عليه ، وحسن الظن بالإجابة ، قال تعالى : (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) وقال تعالى : (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) [يونس ـ ١٠٦].

وفي الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) : «إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئا إلا أعطاه فلييأس من الناس كلّهم ، ولا يكون له رجاء إلا عند الله فإذا علم الله ذلك من قلبه لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه» ، وعن الصادق (عليه

٧١

السلام) : «إذا دعوت فأقبل بقلبك وظنّ حاجتك بالباب» وفي وصية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، لعلي (عليه‌السلام) : «لا يقبل الله دعاء قلب ساه».

وفي الكافي عن سليمان بن عمرو قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : إنّ الله عزوجل لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه ، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثم استيقن بالإجابة».

وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) «إنّ العطية على قدر النية».

وفي عدة الدّاعي عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال الله : «ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أسباب السموات وأسباب الأرض من دونه فإن سألني لم أعطه وإن دعاني لم أجبه. وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلا ضمّنت السموات والأرض رزقه فإن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته وإن استغفرني غفرت له» ، والحديث ظاهر في أنّ إجابة الدعاء منوطة بالإخلاص.

وفي الحديث القدسي : «أنا عند ظنّ عبدي بي فلا يظن بي إلا خيرا» وهو ظاهر في أنّ في التردد واليأس لا تكون إجابة فلا بد من العزم على السؤال.

وفي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة» إلى غير ذلك من الأخبار ، وقد تقدم الوجه في ذلك أيضا بأنّ في الإعراض والسهو والغفلة لا تتحقق حقيقة الدعاء.

الثالث : اليأس من غير الله تعالى لأنّه ربّ السموات والأرض عنده مفاتيح الغيب يعطي لمن يريد ويمنع عمن يريد ، والعلم بأنّه تعالى إنّما يقضي الحوائج حسب المصلحة فإنّ الإنسان لا يعرف الحقائق ويجهلها وربما يسأل ما هو شرّ وأنّ الله تعالى يبدّله إلى الخير ، وربما يسأل الخير فيؤخره إذ المصلحة في التأخير ، ففي نهج البلاغة عن عليّ (عليه‌السلام) : «وربما

٧٢

أخرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل ، وأجزل لعطاء الآمل ، وربما سألت الشيء فلا تؤتاه وأوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا ، أو صرف عنك لما هو خير لك فلربّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله وينفى عنك وباله ، والمال لا يبقى لك ولا تبقى له».

وعن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال الله عزوجل : من سألني وهو يعلم أنّي أضرّ وأنفع استجبت له» ، وذلك لأنّ إجابة دعاء الداعين لا بد أن تكون على طبق الحكمة البالغة والعناية التامة المحيطة بالحقائق كلياتها وجزئياتها لا على طبق مشتهيات الداعين والسائلين ، قال تعالى : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة ـ ٢١٦]. فإنّ الإنسان كثيرا ما يهتم بشيء حتى إذا ما تحقق وجده ضارا أو يكره شيئا حتى ما إذا تحقق وجده نافعا ، وهذا وجداني محسوس لدى كل فرد فالدعاء بما يتخيله الإنسان أنّه نافع شيء وما هو الواقع الذي في علمه تعالى شيء آخر. فإنّ التسرّع في إجابة الدعاء وقضاء الحوائج بلا تأمل في اللوازم والملزومات والآثار نقض في الحكمة وهو محال بالنسبة إليه تعالى. نعم نفس الدعاء والمسألة من سنن العبودية ولا بد من تحققها من العبد ، وأما الاستجابة فهي منوطة بالحكمة البالغة والعلم الأزلي.

الرابع : أن يكون المراد خيرا ممكنا بأن لا يكون من المحالات الذاتية أو العادية ، ومما لا نفع له أو مما يضرّ بحال الآخرين ، أو نهى عنه الشارع ونحو ذلك ، فإنّ مثل هذا الدعاء مما لا يستجاب وذلك لأنّ الله تعالى : «أبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها». وقد تقدم في أحد المباحث السابقة أنّ المستحيلات وإن كانت تحت قدرته تعالى ولكنّه عزوجل لم يفعلها لاستلزامه نقض الحكمة ، ففي الحديث عن علي (عليه‌السلام) : «اثنوا على الله عزوجل وامدحوه قبل طلب الحوائج يا صاحب الدعاء لا تسأل ما لا يحل ولا يكون».

وفي الكافي عن أبي الحسن الرضا (عليه‌السلام) : «لا تمل من الدعاء

٧٣

فإنّه من الله بمكان ، وعليك بالصبر وطلب الحلال ، وصلة الرحم» ، إلى غير ذلك من الروايات.

الخامس : طيب المكسب والعمل الصالح ، ففي الحديث عن الصادق (عليه‌السلام) : «من سرّه أن تستجاب دعوته فليطب مكسبه» ، وفي وصية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لأبي ذر : «يا أبا ذر يكفي من الدعاء مع البر ما يكفي الطعام من الملح ، يا أبا ذر مثل الذي يدعوه بغير عمل كمثل الذي يرمي بغير وتر ، يا أبا ذر إنّ الله يصلح بصلاح العبد ولده وولد ولده ويحفظه في دويرته والدور حوله ما دام فيهم».

وعن زرارة عن الصادق (عليه‌السلام) : «الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر».

وفي عدة الداعي : «إنّ الله أوحى إلى عيسى قل لظلمة بني إسرائيل : لا تدعوني والسحت تحت أقدامكم ، والأصنام في بيوتكم ، فإنّي آليت أن أجيب من دعاني ، وإنّ إجابتي إياهم لعنا عليهم حتى يتفرقوا».

وفي الحديث القدسي : «لا تحجب عنّي دعوة إلا دعوة آكل الحرام».

وقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لرجل حين ما قال له : أحب أن يستجاب دعائي ، فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «طهّر مأكلك ، ولا تدخل بطنك الحرام».

السادس : أداء مظالم الناس وحقوقهم ، فقد ورد عن الصادق (عليه‌السلام) : قال الله عزوجل «وعزتي وجلالي لا أجيب دعوة مظلوم دعاني في مظلمة ، أو لأحد عنده مثل تلك المظلمة».

وفي عدة الداعي : «أوحى الله إلى عيسى قل لظلمة بني إسرائيل إنّي لا أستجيب لأحد منهم دعوة ولأحد من خلقي عندهم مظلمة» وتقدم في بحث التوبة ما يتعلق بالمقام.

٧٤

شروط الكمال للدعاء :

تقدم أنّ من الشروط في الدعاء هي شروط الكمال له ، ولا ريب في حسن مراعاتها في هذه الحالة التي يرغب الداعي استجابة دعواته وهي كثيرة.

الأول : الطهارة من الحدث والخبث لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة ـ ٢٢٢].

الثاني : الدعاء بالمأثور عن المعصومين لأنّه تكلم مع الله عزوجل كما أنّ القرآن تكلم الله مع العبد فينبغي في الدعاء أن يكون مأثورا ومستندا إلى الشرع ، قال تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر ـ ١٠] ، وقال عزوجل : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) [الحج ـ ٢٤].

وعن صدر المتألهين (قدس الله نفسه الشريفة) : «فكما أنّ أجساد البشر تكرّم بكرامة الروح فكذلك أصوات الكلام تكرم وتشرف بشرافة الحكمة التي فيها» فلا بد للدعاء من نزوله من محل أمين ومهبط شريف وإرساله من نفوس زكية ذكية حتى يناسب الخطاب مع العظيم كما تدل عليه روايات كثيرة.

نعم ، فرق بين الدعاء والمسألة فإنّ الأخيرة لا يشترط فيها ذلك بل يكفي بكل ما جرى على اللسان حتى يوجهه تعالى إلى الطريق الصحيح أو يقضي حوائجه ويحل مشاكله ، قال زرارة للصادق (عليه‌السلام) : «علمني دعاء فقال (عليه‌السلام) : إنّ أفضل الدعاء ما جرى على لسانك» والمراد به المسألة وطلب الحاجة.

الثالث : أن يكون الدعاء بالأسماء الحسنى وغيرها من أسماء الله تعالى ، فعن الرضا (عليه‌السلام) عن آبائه عن علي (عليه‌السلام) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لله عزوجل تسعة وتسعون اسما من دعا الله بها استجيب له ومن أحصاها دخل الجنة ، وقال الله عزوجل : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها). وعن الصادق (عليه‌السلام) : «وأكثر من أسماء الله عزوجل فإنّ أسماء الله كثيرة».

الرابع : تقديم تمجيد الله والثناء عليه والإقرار بالذنب والاستغفار منه ،

٧٥

ففي الكافي عن الحارث بن المغيرة قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : إياكم إذا أراد أحدكم أن يسأل من ربه شيئا من حوائج الدنيا والآخرة حتى يبدأ بالثناء على الله عزوجل ، والمدح له ، والصلاة على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ثم يسأل الله حوائجه».

وعن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) أيضا : «إنّما هي المدحة ثم الثناء ، ثم الإقرار بالذنب ، ثم المسألة إنّه والله ما خرج عبد من ذنب إلا بالإقرار».

وعن علي (عليه‌السلام) : «السؤال بعد المدح فامدحوا الله عزوجل ثم اسألوا الحوائج ، أثنوا على الله عزوجل وامدحوه قبل طلب الحوائج». والمراد بالثناء والتمجيد مطلق ما يكون ثناء وتمجيدا.

الخامس : أن يشتمل على ذكر محمد وآل محمد ، لأنّهم وسائط الفيض ووجهاء الخلق ، ففي الكافي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «كل دعاء يدعى الله عزوجل به محجوب عن السماء حتى يصلّى على محمد وآل محمد» وعن هشام بن سالم عن الصادق (عليه‌السلام) : «لا يزال الدعاء محجوبا حتى يصلّى على محمد وآل محمد».

وعن صفوان الجمال عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) أيضا : «كل دعاء يدعى الله عزوجل به محجوب عن السماء حتى يصلّى على محمد وآل محمد».

وعن أبي عبد الله (عليه‌السلام) أنّه قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : صلاتكم عليّ إجابة لدعائكم وزكاة لأعمالكم».

السادس : أن يكون الدعاء بعد الانقطاع إليه عزوجل ورقة القلب والبكاء ، ففي الكافي عن أبي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) : «إذا رقّ أحدكم فليدع ، فإنّ القلب لا يرقّ حتى يخلص».

وعن الصادق (عليه‌السلام) : «إذا اقشعر جلدك ودمعت عيناك فدونك دونك فقد قصد قصدك».

٧٦

وعن سعد بن يسار : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) إنّي أتباكى في الدعاء وليس لي بكاء قال (عليه‌السلام) : نعم ولو مثل رأس الذباب».

وعن عنبسة العابد عن الصادق (عليه‌السلام) : «إن لم تكن بكّاء فتباك».

وقد اعتبر بعض العلماء (رحمهم‌الله تعالى) أنّ بعض مراتب الانقطاع التام إليه عزوجل إذا كانت الحالة جامعة للشرائط من الاسم الأعظم وقد جربت ذلك في بعض أسفاري إلى بيت الله الحرام بعد انقطاع الرجاء إلا منه.

فكان ما كان مما لست أذكره

فظنّ خيرا ولا تسأل عن الخبر

السابع : الدعاء في الأوقات المعينة ، وهي كثيرة منها السحر وآخر الليل فعن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «خير وقت دعوتم الله الأسحار».

وعن الصادق (عليه‌السلام) : «من قام من آخر الليل فذكر الله تناثرت عنه خطاياه ، فإن قام من آخر الليل فتطهّر وصلّى ركعتين وحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه إما أن يعطيه الذي يسأله بعينه وإما أن يدخر له ما هو خير له منه».

ومنها : الصباح والمساء ، فعن الصادق (عليه‌السلام) : «إنّ الدعاء قبل طلوع الشمس وقبل غروبها سنة واجبة مع طلوع الشمس والمغرب».

ومنها : عند نزول المطر ، وزوال الشمس ، وهبوب الرياح ، وقتل الشهيد ، وقراءة القرآن ، والأذان ، وظهور الآيات ، ففي الكافي عن زيد الشحام قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : «اطلبوا الدعاء في أربع ساعات : عند هبوب الرياح ، وزوال الأفياء ، ونزول المطر ، وأول قطرة من دم القتيل المؤمن ، فإنّ أبواب السماء تفتح عند هذه الأشياء».

وعن الصادق (عليه‌السلام) عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) قال : «اغتنموا الدعاء عند أربع ، عند قراءة القرآن ، وعند الأذان ، وعند نزول الغيث ، وعند التقاء الصفين للشهادة».

٧٧

وعن أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) قال : «كان أبي إذا كانت له إلى الله حاجة طلبها في هذه الساعة يعني زوال الشمس».

وعن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من أدى لله مكتوبة فله في إثرها دعوة مستجابة».

ومنها : الأزمنة المتبركة مثل ليلة الجمعة ، وليالي القدر ، وشهر رمضان ، وشهر رجب ، وليلة النصف من شعبان ، وليلة عرفة ويومها ، والعيدين وغيرها مما هو كثير كما في كتب الأدعية.

الثامن : الدعاء في الأمكنة المتبركة مثل الحرم الإلهي المقدس ، والمسجد الحرام ، ومسجد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وعند الأئمة الكرام ، أو المساجد الأربعة وغيرها من المساجد.

التاسع : الدعاء بعد تقديم الصدقة وشم الطيب ، فعن الصادق (عليه‌السلام) : «كان أبي إذا طلب الحاجة طلبها عند الزوال ، فإذا أراد ذلك قدّم شيئا فتصدّق به وشمّ من طيب وراح إلى المسجد ودعا في حاجته بما شاء الله».

العاشر : مراعاة الأدب وتجنب اللحن في الدعاء ، ففي عدة الداعي عن أبي جعفر الجواد (عليه‌السلام) قال : «ما استوى رجلان في حسب ودين قط إلا كان أفضلهما عند الله عزوجل آدبهما قال : قلت جعلت فداك قد علمت فضله عند الناس في النادي والمجالس فما فضله عند الله عزوجل؟ قال : بقراءة القرآن كما أنزل ، ودعائه الله عزوجل من حيث لا يلحن ، وذلك أنّ الدعاء الملحون لا يصعد إلى الله عزوجل».

ويمكن أن يستفاد ذلك من كراهة اختراع الدعاء من نفس الداعي فإنّ في الدعوات المأثورة عن نبينا الأعظم والأئمة الهداة غنى وكفاية فهم أعرف بالأدب مع الله تعالى وكيفية التكلّم معه من سائر الرعية لأنّهم سدنة الملك وعيبة علم الله وخزان وحيه.

الحادي عشر : رفع اليدين حال الدعاء ، ففي عدة الداعي : «إنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يرفع يديه إذا ابتهل ودعا كما يستطعم المسكين».

٧٨

وعن محمد بن مسلم قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن قول الله عزوجل : (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ). قال (عليه‌السلام) : الاستكانة هي الخضوع والتضرّع رفع اليدين والتضرّع بهما».

وعن الباقر (عليه‌السلام) : «ما بسط عبد يده إلى الله عزوجل إلا استحيى الله أن يردها صفرا حتى يجعل فيها من فضله ورحمته ما يشاء ، فإذا دعا أحدكم فلا يرد يده حتى يمسح بها على رأسه ووجهه» والروايات في رفع اليدين والتبصبص بالأصابع كثيرة مروية عن الفريقين. وكل ذلك من جهة حصول الخضوع والخشوع للدّاعي وتقرّبه إلى المدعوّ لا لأجل أنّه تعالى يختص بمكان دون مكان وزمان دون آخر.

الثاني عشر : الدعاء سرّا ، ففي الكافي عن أبي الحسن الرضا (عليه‌السلام) قال : «دعوة العبد سرّا دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية». والوجه في ذلك لأنّه أحفظ في الإخلاص وأبعد عن شوائب الرياء.

الثالث عشر : العموم في الدعاء فإنّه آكد في الاستجابة ، ففي الكافي عن ابن القداح عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : إذا دعا أحدكم فليعمّ فإنّه أوجب للدعاء».

وعن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من صلّى بقوم فاختص نفسه بالدعاء دونهم فقد خانهم» ، وقد وردت روايات كثيرة على أنّ دعاء المؤمن لأخيه المؤمن مستجاب وأنّ للداعي مثل ما يدعو لأخيه وأكثره.

الرابع عشر : لبس الداعي خاتم عقيق أو فيروزج فقد روى ابن بابويه عن الصادق (عليه‌السلام) : «ما رفعت كفّ إلى الله أحبّ من كفّ فيها عقيق».

وفي عدة الداعي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله). قال الله عزوجل : إنّي لأستحيي من عبدي يرفع يده وفيها خاتم فيروزج فأردها خائبة».

الخامس عشر : أن يكون الدعاء لتكميل النفس والحوائج الشرعية

٧٩

وسؤال المغفرة ورضوان الله ونعم الجنة ، أي يكون جامعا للدنيا والآخرة بحيث يكون نفعه غير منقطع وأثره لا يضمحل ، وفي الدعوات المقدسة المأثورة من ذلك شيء كثير منها : ما يسمى بدعاء الفرج وهو مذكور في كتب الأدعية.

ثم إنّ الدعاء مطلوب لنفسه ومحبوب لذاته ولا تختص محبوبيته بوقت دون وقت ولا مكان دون آخر ولا بلغة دون أخرى بل هو محبوب في جميع الأحوال والأوقات والأمكنة. نعم لبعض الأيام والليالي والأمكنة المقدسة دخل في مراتب فضله لا في أصل صحته ومحبوبيته وإذا توفرت شروط صحة الدعاء وشروط كماله ووقع الدعاء مورد الاستجابة فإنّه قد يوجب التغيير في العالم مما يوجب تحيّر ذوي الألباب ولا ريب في ذلك كما مر فإنّ الدعاء عظيم أثره لأنّه حضور العبد الذليل لدى المولى الجليل ، وتوجه نحو التوحيد الفطري فلا تغفل عنه ولا تعرض بوجهك عنه فإنّ المحروم من حرم من الدعاء ، ولا تجعل للشيطان على عقلك سبيلا بشبهاته فإنّه عدو للإنسان يحاول أن يجنب العبد عن الدعاء لأنّه من أعظم السبل في رده والله الهادي وهو المولى ونعم النصير.

٨٠