مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٦

١
٢

٣
٤

سورة البقرة

الآية ١٨٣ ـ ١٨٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤))

الآيات المباركة ـ كما تقدمها ـ هي في بيان الأحكام وتشريعها حيث شرّع سبحانه وتعالى في هذه الآيات أهم الفرائض التي بني عليها الإسلام ، أي : (الصوم) الذي هو مجمع الكمال الفردي والاجتماعي والروحي بل الجسماني أيضا.

٥

التفسير

١٨٣ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ).

تقدم الكلام في مثل هذا الخطاب ، وذكرنا أنّه مدنيّ نزل بعد تشريع جملة من الشرايع الإلهيّة. ولذة النداء وتخصيصه بالمؤمنين مما يخفف من عناء هذا التكليف في الدنيا ويزيد الثواب في العقبى.

وفيه إشعار : بأنّ العبادة لا تصح إلا مع وصف الإيمان.

ومادة (كتب) تدل على مطلق الثبوت الأعم من الوجوب والندب ، وإنّما يستفاد أحدهما من القرائن ، وفي المقام يراد به الفرض والوجوب لقرائن كثيرة كما هو واضح.

ومادة (ص وم) تدل على السكون ، والإمساك ، وتستعمل في الجماد والحيوان والإنسان ، يقال : صام الماء إذا سكن وركد ، وصامت الخيل إذا أمسكت عن السّير والحركة والاعتلاف ، ومنه قول النابغة :

خيل صيام وخيل غير صائمة

تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما

وصام زيد إذا أمسك عن الطعام أو الكلام ، قال تعالى حكاية عن ابنة عمران : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) [مريم ـ ٢٦] ومثل هذه المادة (ص م ت) إلا أنّها تختص بالجارحة اللسانية.

٦

وبهذا المعنى اللغوي جعلت مورد الاستعمال الشرعي مع زيادة شروط وقيود ، كما هو دأب الشارع في جميع موضوعات أحكامه ـ كالصلاة ، والزكاة ، والحج ، والبيع ونحو ذلك. وبذلك لا يخرج عن المصداق اللغوي ، والبحث مفصّل في علم (أصول الفقه) فراجع كتابنا [تهذيب الأصول].

قوله تعالى : (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ).

أي : كما ثبت على الأنبياء السابقين وأممهم ، منهم من حكى الله تعالى في القرآن الكريم ، كيحيى وزكريا ومريم ، ومنهم من لم يحك ولا يستفاد من ذلك تطابق الصوم في هذه الشريعة مع الصوم في الشرايع السابقة من حيث الحدود ، والوقت ، والكيفية ، بل التشبيه إنّما هو لبيان أنّكم حضيتم بفضله كما حظي الذين من قبلكم به ، وإلا فإنّ الآثار تدل على الاختلاف فيه ، فقد ورد عن الإمام الحسن (عليه‌السلام) عن جده رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنّ الصوم على الأمم كان أكثر مما هو على المسلمين في شهر رمضان ، وسيأتي في البحث الروائي مزيد بيان.

ويمكن أن يراد من قبلكم جميع الملل ، فإنّ الثابت أنّ الصوم أمر محبوب في جميع الملل حتى الوثنية وهو مشروع فيهم ، بل يمكن أن يقال : إنّ الإمساك عن الطعام في الجملة من لوازم العبودية بالنسبة إلى كل معبود ، فإنّ أول قدم الوصول إلى المحبة الحقيقية الإمساك عن جملة من الأمور المادية والتنزه عن المستلذات الجسمانية حتى يليق العبد بالمقامات العالية التي منها قول الله عزوجل : «لخلوق فم الصائم أحب إليّ من ريح المسك» ، نعم في هذا الإمساك اختلاف كبير بين الملل وسيأتي في البحث التاريخي تتمة الكلام.

وكيف كان ففي الآية إشارة إلى وحدة أصول المعارف في الأديان الإلهية.

وفيها التسلية للمؤمنين وتطييب أنفسهم لتحمّل هذا التكليف والترغيب في الصوم.

قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

تعليل لثبوت الصوم ، وذكر أهم غايات جعله أي : فرض عليكم الصوم لتتقوا.

٧

وإنّما أبدلت بلعلّ لبيان أنّ التقوى أمر اختياري للإنسان ، لأنّ الصيام إنّما يعدّ نفوس الصائمين لتقوى الله ، وللإشعار بأنّ المرجو من هذا التكليف وسائر التكاليف الإلهية هو التقوى.

وفيه من البشارة بأنّ الصوم يوجب الوصول إلى مقام المتقين الذي هو من مقامات الصدّيقين ، وهو من أقرب المقامات إلى حريم كبرياء ربّ العالمين.

والسر في ذلك واضح ، فإنّ الصوم من أقوى الوسائل في كفّ النفس عن الشهوات ، والبعد عن التشبه بالحيوان ، والقرب إلى ذروة مقام الإنسان ، وبه يتهيّأ إلى القيام بالطاعات لا سيما إذا اقترن الإمساك الظاهري بإمساك القلب عما لا يليق بمقام الربّ ، ولذلك كان «الصوم نصف الصبر» كما ورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وبالصبر والاصطبار يستعد الإنسان لنيل الكمال والسعادة.

وذكر كلمة «لعل» في المقام ونظائره ـ مع امتناع حقيقة الترجي بالنسبة إليه تعالى ، لأنّه من صفات الممكن الناقص ، ولا يعقل النقص بالنسبة إليه جلّ شأنه ـ إما لأجل حال المخاطبين ، أو بداعي محبوبية التقوى لديه تعالى ، أو لأجل بيان أنّها أمر اختياري ، كما ذكرنا.

١٨٤ ـ قوله تعالى : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ).

مادة (ع د د) تأتي بمعني جمع الآحاد ، ولها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم قال تعالى : (لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) [مريم ـ ٩٤] وقال تعالى :

(وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [الإسراء ـ ١٢] وقال تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [النحل ـ ١٨].

ولفظتا «معدودات» و «معدودة» لم تستعملا في القرآن الكريم إلا صفة للأيام قال تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) [البقرة ـ ٢٠٣] وقال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ) [آل عمران ـ ٢٤] وقد ورد في قوله تعالى : (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) [يوسف ـ ٢٠] ولكنه كناية عن القلة.

ويمكن أن يراد بها في المقام القلّة أيضا أو عدم التغيير والتبديل إلى الأبد ،

٨

وقد بين العدد ومحله في قوله تعالى بعد ذلك (شَهْرُ رَمَضانَ) [سورة البقرة ـ الآية ١٨٥].

وفي الآية رد على ما وقع من التغيير والتبديل في صوم أهل الكتاب بواسطة رؤسائهم.

قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً).

المرض : هو الخروج عن الاعتدال سواء كان في الجسم ، كما في قوله تعالى : (وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) [الفتح ـ ١٧]. أو في القلب والروح ، كما في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) [الأحزاب ـ ٦٠]. والأخير أشد من الأول بمراتب كثيرة ، وما بعث الأنبياء ولا أنزلت الكتب الإلهية إلا لمعالجة الأمراض النفسانية التي تكون في علاجها الحياة الأبدية.

قوله تعالى : (أَوْ عَلى سَفَرٍ).

عطف على قوله تعالى : (مَرِيضاً) ومادة (سفر) تأتي بمعنى الكشف في جميع استعمالاتها ، وسمي السّفر سفرا ، لأنّ فيه يكشف عن أخلاق القوم ، أو يكشف عن خصوصيات الأمكنة.

وسميت الكتب العلمية أسفارا لأنّها تكشف عن الحقائق. وسميت الكرام البررة : سفرة ، لأنّهم يكشفون أحكام الله تعالى ، وفي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «مثل الماهر بالقرآن مثل السّفرة» أي : المزاول للقرآن مثل الملائكة السّفرة فكما أنّها تبين الشيء كذلك الماهر يبين القرآن ويوضحه. وتسمى سفرة الطعام لأنّها تكشف عن الطعام وألوانه.

ولم تذكر هيئة (سفر) في القرآن الكريم إلا في ضمن موارد جميعها مقرونة ب ـ (على) ، وفيه إشارة إلى اعتبار التلبس الفعلي بالسفر.

وتستعمل لفظة السفر في الجواهر. وأما الأعراض فتستعمل فيها لفظة «أسفر» قال تعالى : (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) [المدثر ـ ٣٤] ، وقال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) [عبس ـ ٣٨]. ومسافر مفرد جمعه سفر ، كراكب وركب أو صاحب وصحب قال علي عليه‌السلام : «إنّما مثلكم ومثل الدنيا كسفر».

والمراد من السّفر في المقام ما بينته السنة المقدسة حدودا وشروطا وإلا فليس

٩

كلّ سفر موجبا لسقوط الصوم.

قوله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

عدّة بالرفع على أنّه خبر ، والتقدير ـ كما يدل عليه سياق الآية ـ كتب عليه صوم عدة أيام أخر ، وهذا هو الذي اصطلح عليه الشرع بالقضاء.

وعدّة فعلة من العد ، وهي بمعنى المعدود أي : عليه أيام معدودات مكان الأيام المعدودة التي فاتته بسبب المرض أو السفر.

قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ).

مادة (طوق) تدل على ما يحيط بالعنق إما خلقة ، كطوق الحمامة ، أو صفة كالقلادة ، والطوق من الذهب ، أو جزاء في الآخرة ، كقوله تعالى : (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [آل عمران ـ ١٨٠]. وتطلق على ما يعمله الإنسان بمشقة ، وفي الحديث : «كل امرء مجاهد بطوقه» فيكون معنى قوله تعالى : (يُطِيقُونَهُ) : وعلى الذين يصومون بمشقة ، ويكون إتيانهم للصيام جهد طاقتهم ، وقد فسر في الأحاديث بالشيوخ والضعفاء وذي العطاش ، ويأتي في البحث الروائي ما يتعلق بذلك.

والآية المباركة ليست منسوخة بشيء كما نسب إلى جمع إذ لا دليل عليه إلا أن يراد من النسخ غير معناه الاصطلاحي كما هو كثير في كلام المتقدمين.

ومادة (فدي) تأتي بمعنى العوض والبدل فإن كان المبدل منه إنسانا يسمى (فداء) بكسر الفاء والمد ، أو (فدى) بالفتح والقصر ، وإن كان عبادة مركبة تسمى (فدية) مثل كفارة اليمين والصوم ، وكفارات الإحرام. وقد ورد الاستعمالان في القرآن الكريم بهيئات مختلفة ، قال تعالى : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) [سورة محمد ـ ٤] ، وقال تعالى : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) [الحديد ـ ١٥] ، وقال تعالى : (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ) [المعارج ـ ١١] ، وقال جلّ شأنه : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [الصافات ـ ١٠٧].

واصطلح في السنة المقدسة على بدل الصوم إذا ترك لعذر الفدية وإذا ترك عمدا وبلا عذر مقبول فالجزاء الكفارة ، وعليه اصطلاح فقهاء الفريقين ، وقد يطلق أحدهما على الآخر.

١٠

ويستفاد من مجموع هذه الآية أنّ القدرة الحاصلة في التكاليف الشرعية على قسمين :

الأول : القدرة العرفية التي هي المناط في جميع التكاليف الإلهية المستفادة من قوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج ـ ٧٨] وقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة ـ ١٨٥] ، وقول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «بعثت بالشريعة السهلة السمحاء» ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «الدين يسر».

الثاني : القدرة العقلية التي تجتمع مع الحرج والمشقة بل حتى مع العذر أيضا ، وهي ليست مناط التكاليف الإلهية الثابتة لعامة الناس.

وبناء على ذلك إنّ الصوم كتب على من يقدر عليه بالقدرة الشرعية مع عدم عسر وحرج ، وأما من تمكن منه بالقدرة العقلية أي : مع المشقة والجهد ، فيتبدل تكليفه إلى الفدية.

وقرئ (يطوقونه) أي يتجشمونه ويتكلفونه ، ورويت هذه القراءة عن جملة من الصحابة والتابعين.

قوله تعالى : (طَعامُ مِسْكِينٍ).

بيان للفدية في اليوم ، وقدّر في الروايات ـ كمية ـ بمد ، وهو سبعمائة وخمسون غراما ، و ـ كيفية ـ بكل ما يأكله الإنسان لإشباعه من الجوع.

والمسكين هنا مطلق الفقير ، لما تعارف بين العلماء من أنّ الفقير والمسكين كالظرف والجار والمجرور إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا ، ولم يجتمعا في القرآن الكريم إلا في مورد واحد وهو قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) [التوبة ـ ٦٠].

قوله تعالى : (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ).

الظاهر أنّه راجع إلى كيفية الطعام وكميته زائدا على أصل الإطعام. وأما رجوعه إلى أصل الصوم وإثبات استحبابه بعد سقوط تشريعه بالنسبة إلى المسافر

١١

والمريض ، فإنّه يحتاج إلى دليل خاص وهو مفقود ، بل الأدلة على خلافه ، ويحتمل رجوعه إلى أصل الصيام لا الصيام الساقط عن المريض والمسافر إلّا بعنوان القضاء وهو خارج عن مدلول اللفظ وداخل في قوله تعالى : (أَيَّامٍ أُخَرَ).

قوله تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

عدل إلى الفعل للترغيب في إتيانه ، وللإعلام بصدوره من الفاعل ، والجملة مركبة من المبتدأ والخبر أي : والصيام خير لكم إن كنتم تعلمون بأنّ التكاليف الإلهية ألطاف من الله تعالى لعبيده ، وأنّ الطاعة هي السبب في سعادة الإنسان ، وأنّ الصوم فيه فضل كبير ، وفوائد كثيرة للناس وأنّه لمصلحة المكلفين.

١٢

بحوث المقام

بحث أدبي

قوله تعالى : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) العامل في أياما هو «الصيام» الذي يكفي في العمل في الظرف من دون حاجة إلى التقدير ، أو النصب لأجل التعظيم والتوقير ، فإنّ النصب أعظم شأنا من غيره من الإعراب.

قوله تعالى : (أَوْ عَلى سَفَرٍ) عطف على قوله تعالى «مريضا» وما هو المشهور في العلوم الأدبية من أنّ الظرف لا يعطف على الاسم موهون ـ بأنّه على فرض تسليمه ـ إنّما هو فيما إذا لم يكن الظرف بمعنى الاسم وإلا فلا محذور فيه ، والمقام من هذا القسم أي مريضا أو مسافرا ، فعطف الاسم على الاسم.

قوله تعالى : (فَعِدَّةٌ) بالرفع على أنّه خبر لمحذوف أي كتب عليه صوم ، أو فالواجب عليه صوم عدة أيام أخر.

وقرئ بالنصب بمعنى فليصم عدّة أيام أخر ، وهذا على سبيل الرخصة. ولكنه موهون بأنّ القراءة المتداولة والموجود في المصاحف الشريفة : الرفع.

قوله تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) جملة مركبة من المبتدأ ـ وهو المصدر المؤول من (أن تصوموا) ـ والخبر ، ذكر فيها الفعل للترغيب في إتيانه وللإعلام بصدوره من الفاعل كما مر.

وقرأ أهل المدينة والشام «فدية طعام» مضافا إلى «مساكين» جمعا ، والباقون

١٣

(فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) بالإفراد لبيان أنّ لكلّ يوم إطعاما واحدا.

ثم إنه قد ذكر الخليل وتبعه الأدباء أنّ لفظ «على» يأتي بمعنى الاستعلاء إما حقيقة أو اعتبارا ، ولكن يستعمل في عدة معان أخر :

منها : الحال أو الحالة ، نحو قوله تعالى : (عَلى سَفَرٍ) في جملة من الآيات الشريفة.

ومنها : المصاحبة ، كقوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) [البقرة ـ ٣٧]. أي مع حبه ، وقوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) [الرعد ـ ٦]. أي مع ظلمهم.

ومنها : معنى الباء ، كقوله تعالى : (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) [الأعراف ـ ١٠٥] إلى غير ذلك مما فصلوه وظاهرهم جعل الكلمة من متعدد المعنى ، ولها نظائر كثيرة في كلماتهم.

ولكنه ممنوع لأنّ هذه المعاني إنّما تستفاد من (على) بالقرائن الداخلية أو الخارجية ، وإلا فهو مستعمل في جميع ذلك في ذات الاستعلاء ولو اعتبارا وما ذكروه من المعاني يستفاد من جهات أخرى فيكون من باب تعدد الدال والمدلول لا من تعدد ذات المعنى.

١٤

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور :

الأول : قد تكرر التأكيد على الصوم بقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، وقوله تعالى : (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) وقوله تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وذلك للترغيب في هذه العبادة أي الصوم لما فيه من الفضل العظيم والثواب الجزيل ـ الذي عد منه أنّه «جنّة من النار» ـ والفوائد الجمة ، ولما فيه من الإمساك عن الشهوات النفسانية فيحصل الشبه بين الصائم والروحانيين وإنّه من أقوى الروابط بين العابد والمعبود.

الثاني : إنّ في قوله تعالى : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) من التلطّف والعناية ، وإسقاط كلفة الصيام ما لا يخفى.

الثالث : إنّ في ترتب التقوى على الصوم بشارة عظيمة للصائمين ، لأنّ التقوى من أقرب وسائل القرب إلى الله تعالى وأقوى الزواجر عن إطاعة الشيطان ، وفيه من البشارة إلى الوصول إلى مقام المتقين الذي هو من مقامات الصدّيقين.

الرابع : تدل الآية الشريفة على أنّ المكلّفين بالنسبة إلى الصيام على حالات ثلاث :

١٥

الأولى : المقيم الصحيح القادر فيجب عليه الصوم ولا يجوز له تركه بوجه.

الثانية : المسافر أو المريض الذي لا يمكنه الصوم ـ إما لأجل أنّ الصوم يزيده ضررا أو يبطئ برءه ـ فيجب عليهما الإفطار مع وجوب القضاء بعد البرء والحضر ، إلا أنّ الفدية تختص بالمريض غير المتمكن من القضاء دون المسافر على تفصيل مذكور في الفقه.

الثالثة : الشخص الذي يقدر على الصوم مع المشقة وغاية الجهد كالشيخ والشيخة وذي العطاش ونحو ذلك يجب عليه الفدية عن كل يوم بمد على ما مر ، والأحكام مفصلة في الفقه.

الخامس : إنّ قوله تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يدل على محبوبية الصيام والترغيب إليه ، ورفع الكلفة في الإمساك.

وقيل : إنّه يرجع إلى من رخص له بالفدية ، فيكون تكليف من يطيق الصوم ويبلغه غاية جهده أنّ الصوم خير له من الفدية.

ويرد عليه : أنّ سياق الآية يدل على أنّ الجملة راجعة إلى من خوطب بأصل الصيام ومن كتب عليه ، ويؤكد ذلك أنّ الخطاب في من عليه الفدية إنّما هو بلفظ الغيبة ، مضافا إلى ذلك أنّه لا يناسب التأكيد بقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) مع أنّ التكليف بالنسبة إليه إنما هو الفدية بدلا عن الصوم فلا يصح إرجاع الجملة إلى ما ذكروه.

١٦

بحث فقهي

يستفاد من الآية الشريفة الأحكام الشرعية التالية :

الأول : وجوب الصوم في أيام معدودات ، وهي : شهر رمضان كما ذكره تبارك وتعالى في الآية التالية ، فالآية الشريفة من المبينات ، وليست هي منسوخة ، وما ذكر في ذلك واضح البطلان.

الثاني : المرض الموجب للإفطار ليس المراد منه كلّ مرض ، كما هو ظاهر الإطلاق ، بل سياق الآية المباركة يدل على أنّه المرض الذي يخاف فيه الشخص على نفسه من زيادته أو بطء برئه ، كما فصّل في السنة المقدسة.

الثالث : تدل الآية المباركة على أنّ السفر موجب للإفطار وقد حددته السنة بحدود وشروط مذكورة في الفقه مفصّلا.

وقال بعض : إنّ قوله تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) راجع إلى الصيام في السفر ، فقالوا بأفضلية الصوم للمسافر.

ويرد عليه : ما ذكرناه آنفا مع منافاته للروايات الكثيرة الدالة على عدم الصوم في السفر ، فقد روى أحمد بن حنبل ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ليس من البر الصيام في السفر».

ورواه ابن حبان في صحيحه عن جابر عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله). ورواه

١٧

غيره عن كعب بن عاصم الأشعري عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وروى ابن ماجة عن عبد الرحمن بن عوف عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «الصائم في السفر كالمفطر في الحضر» ورواه النسائي عن عبد الرحمن موقوفا.

وروى عبد الرزاق في جامعه عن ابن عمر عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) :

«إنّ الله تصدّق بإفطار الصائم على مرضى أمتي ومسافريهم أيحب أحدكم أن يتصدّق على أحد بصدقة ثم يظل يردها».

ورواه الديلمي في الفردوس ، وبمضمونه ورد في أحاديثنا عن أئمتنا الهداة (عليهم‌السلام).

وروى مسلم والنسائي والترمذي عن جابر قال : «خرج رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلى مكة عام الفتح حتى بلغ كراع الغميم (وهو واد أمام عسفان) وصام الناس معه ، فقيل له : إنّ الناس قد شق عليهم الصيام ، وإنّ الناس ينظرون في ما فعلت ، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون إليه ، فأفطر بعضهم وصام بعضهم ، فبلغه أنّ أناسا صاموا ، فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «أولئك العصاة». وروي ذلك في الكافي والفقيه عن الصادق (عليه‌السلام) أيضا.

وأخرج أحمد والأربعة وجماعة عن أنس الكعبي عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : أنّه دعاه إلى الطعام فاعتذر بالصيام ، فقال له (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إنّ الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصيام». وأخرج قريبا منه النسائي عن عمر ابن أمية الضمري عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وروى البيهقي في المعرفة عن سعيد بن المسيب ، والمتقي الهندي في كنز العمال عن الشافعي مرسلا عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «خياركم الذين إذا سافروا قصروا الصلاة وأفطروا». ورواه في الكافي والفقيه عن الباقر (عليه‌السلام).

١٨

وأما الروايات عند الإمامية في وجوب الإفطار في السفر ، فهي متواترة ، وعليه إجماعهم بل عدّ من ضروريات مذهبهم ، ولأجل تلك الروايات ذهب كبار الصحابة إلى أنّ الصائم في السفر عليه الإعادة.

ومع ذلك ذهب قوم إلى التخيير وأنّ من صام في السفر فقد أدّى فرضه ، ومن أفطر وجب عليه القضاء ، وبذلك مضت السنة العملية واستدلوا بما رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن عائشة أنّ حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «أأصوم في السفر وكان كثير الصيام؟ فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : إن شئت فصم وإن شئت فأفطر». وفي مسلم أنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أجابه بقوله : «هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه».

والكل مردود إذ السنة العملية غير ثابتة ، والحديث ظاهر في الصوم المندوب لا الواجب ، وعلى فرضه فهو معارض بالروايات المتقدمة وإجماع أهل البيت ، مضافا إلى أنّ الروايات الدالة على التخيير أو الرخصة في الصوم في السفر ـ مع غض النظر عن الأسانيد ـ لا يعلم ورودها بعد نزول آية الصوم وتحريمه في السفر ، وعليه فلا يبقى مجال للقول بأنّ الإفطار أفضل إن كان في الصوم مشقة والصوم أفضل مع عدمها. والتفصيل بأكثر من ذلك يطلب من السنة.

الرابع : إطلاق الآية الشريفة يدل على أنّ السفر موجب للإفطار سواء كان السفر قصيرا أم طويلا ، وسواء كان فيه المشقة أم لا إذا توفرت الشروط كما هو مفصّل في الفقه.

الخامس : تدل الآية الكريمة على أنّ من كان يقدر على الصوم مع الإطاقة وبلوغ الجهد ـ غير المسافر والمريض والصحيح القادر على الصوم بدون مشقة ـ يجب عليه الإفطار والفدية على تفصيل ذكرناه في الفقه.

السادس : الآية المباركة تدل على أنّ المسافر إذا حضر ، والمريض إذا برىء يجب عليه القضاء.

السابع : ظاهر سياق الآية الشريفة هو السفر الاتفاقي ، لا الدوام به فإنّه

١٩

حينئذ لا يوجب الترخيص في ترك الصوم كما هو مفصل في كتابنا [مهذب الأحكام].

الثامن : المراد من الطعام الوارد في الآية المباركة هو مطلق ما يطعم ويرفع جوع المسكين ، ولا اختصاص له بالبرّ ، كما عن بعض ، ولو كان وجه اختصاص فهو من باب الغالب كما هو مذكور في محلّه.

٢٠