مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٦

البيت المعمور ثم نزل في طول عشرين سنة». وروي قريب منه عن ابن عباس. وقد ادعي الإجماع على ذلك. والبيت المعمور الوارد في هذه الرواية والسماء الدنيا في رواية أخرى شيء واحد كما يأتي في محله وإن صح الاختلاف بالاعتبار.

وأشكل عليه : بأنّ نزوله إلى السماء الدنيا لم يكن فيه أي منة علينا ولا معنى لاتصافه بالهداية والفرقان وبقائه في السماء الدنيا مدة سنين وهذا مما ينفيه قوله تعالى : (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ).

وأجيب عنه : بأنّ اتصاف القرآن بالهداية والفرقان اقتضائي أي : من شأنه أن يهدي من التمس الهداية منه ، وأن يكون فرقانا إذا التبس الحق بالباطل. وبعبارة أخرى : إنّ اتصافه بهما يكون بتتميم إنزاله إلى الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

ونوقش في ذلك بأنّه لا يمكن إنزاله جملة واحدة ولو إلى السماء الدنيا ، لأنّ منه الناسخ والمنسوخ ، ومنه ما يكون جوابا لسؤال ، أو إنكار قول ، أو حدوث حادثة ، ولا يتأتى ذلك إلا إذا نزل متفرقا.

ويمكن الجواب عنه : بأنّ الحوادث المتدرجة الزمانية المتقدمة بعضها على بعض أو المقارنة بعضها مع بعض إنّما تكون بالنسبة إلى سلسلة الزمان المتدرجة في الحوادث المحصورة في الزمان الذي لا ينفك عن التغير والحدثان. وأما بالنسبة إلى الله تعالى المحيط بما سواه بكل معنى الإحاطة والعالم بالجزئيات قبل حدوثها ، فتكون جميع الحوادث المتعاقبة في الزمان عنده شيئا واحدا واقعا في آن واحد والإشكال إنّما هو بالنسبة إلى الزماني لا بالنسبة إلى المنزّه عن الزمان.

الثاني : أنّ المراد بنزول القرآن في شهر رمضان هو ابتداء نزوله فيه ثم أنزل بعد ذلك متفرقا في أوقات مختلفة ، والقرآن كما يطلق على المجموع يطلق على البعض أيضا.

ويرد عليه : أنّه مخالف لظاهر الآيات المباركة الدالة على نزول القرآن

٤١

بأجمعه في شهر رمضان وفي الليلة المباركة منه كما مر ، مضافا إلى أنّ بعثة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كانت في غير شهر رمضان ، ومن المستبعد جدا أن لا ينزل في أول البعثة شيء من القرآن الكريم وتخلو مدة منه ، مع أنّ المشهور أنّ أول سورة نزلت مصاحبة للبعثة إما سورة العلق ، أو سورة المدثر ، وفيهما شواهد على أنّهما نزلتا حين البعثة وأمر الرسول بالرسالة.

الثالث : أنّ المراد بنزول القرآن في ليلة القدر هو نزول سورة من سوره المشتملة على جلّ معارف القرآن كسورة الحمد ، فكأنّ نزولها في ليلة القدر من شهر رمضان هو نزول القرآن بأجمعه ، ويصح أن يقال نزل القرآن جملة ، وبذلك يمكن الجمع بين نزول القرآن في أول بعثته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ونزول القرآن في الليلة المباركة من شهر رمضان.

ويرد عليه ما أورد على سابقه من أنّه خلاف ظاهر الآيات الشريفة التي تدل على أنّ القرآن نزل جملة في ليلة القدر ، مع أنّ هذا الوجه في نفسه بعيد جدا ، كما لا يخفى.

الرابع : أنّ المراد بإنزال الكتاب جملة في الليلة المباركة هو حقيقة الكتاب التي وصفت بالمحكمة والمفصّلة والتي يأتي تأويلها في يوم القيامة ، والتي لها وقع في الكتاب المكنون الذي (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) وإنّه في أمّ الكتاب أو في اللوح المحفوظ قبل التنزيل ، كما دلت عليها الآيات المباركة ، وهذه هي التي نزلت على قلب سيد المرسلين جملة ثم أنزل بعد ذلك بالتدريج حسب الوقايع والحاجة ، ولذا أمر بأن لا يعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه قال تعالى : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) [ص ـ ١١٤]. وهذا الكتاب المنزل تدريجا متكئ على تلك الحقيقة المتعالية المنزهة عن تلبيسات المبطلين وشكوك المعاندين ، وقد أنزلها الله تعالى على رسوله فعلّمه تأويله وحقيقة ما يعنيه من الكتاب المبين.

وفيه : أنّه مخالف لسياق القرآن الذي نزل بلسان الأمة. نعم للقرآن حقيقة واحدة واقعية يحيط بها قلب نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، ولكن مورد الكلام في الأول دون الثاني.

٤٢

والحق أن يقال : إنّ القرآن يختلف عن سائر الكتب الإلهية من جهات كثيرة فهو آخرها ، المهيمن عليها ، وأنّه (أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود ـ ١] ، وأنّ فيه (تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً) [يوسف ـ ١١١] ، وأنّه (لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس ـ ٣٧] ، وأنّه (فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الزخرف ـ ٤] ، ويكفي في عظمة أمره قوله تعالى : (رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى ـ ٥٢]. ولا ريب في أنّ مثل هذا الكتاب له من الجلال والعظمة والكبرياء ما لا يمكن دركه بالعقول وإن بلغت ما بلغت ، وحينئذ لا يمكن لنا أن نقول بنزوله مرة واحدة ، سواء كان دفعة واحدة أم تدريجا من دون أن يعرف من أنزل عليه تأويله ، وهو النبي العظيم حبيب ربّ العالمين وصاحب الشرع المبين ، الذي هو سر من أسرار عالم الجبروت ، وقد انطوى فيه العالم الأكبر ، وهو بنفسه كتاب إلهي تكويني ، وله المقام المحمود عند رب العالمين ، ومع ذلك كلّه يكون غافلا عمّا ينزل عليه ، وهذا بعيد جدا فلا بد وأن يكون عارفا به وبتأويله وحقيقته وجميع خصوصياته فأنزل جميعا على قلب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله). كما هو المتيقن من قوله تعالى : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى). [سورة النجم ـ الآية ـ ١٠] ، ثم بعد ذلك أنزل عليه تدريجا في مدة الدعوة ولا مانع من تعدد الوحي الذي هو سر إلهي بين الموحي والموحى إليه ، وفيه ابتهاج للمنزل عليه ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) [القيامة ـ ١٩] ، وقوله تعالى : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) [ص ـ ١١٤] ، ومن المعلوم أنّه إن لم يكن عارفا به وعالما بخصوصياته لا معنى لتعجيل القرآن وإظهار بيانه فبالوحي يظهر ما في قلبه على ظاهر لسانه.

ولا ينافي ذلك أنّ القرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ، أو إلى البيت المعمور ـ أو بيت العز ـ حسب اختلاف التعبيرات في الروايات ، أو أنّه ينزل ما يراد إنزاله في السنة في ليلة القدر ، كما في بعض الروايات ، أو له نزول آخر ، فإنّ للنزول والتنزيل غايات متعددة ومراتب مختلفة يتعددان

٤٣

بتعددها ، فتارة ينزل من مرتبة العلم الأزلي وهو مرتبة الذات ـ لفرض أنّ علمه تعالى عين ذاته جل شأنه ـ إلى مرتبة فعله عزوجل ، وأخرى ينزل جملة أو تفصيلا على قلب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله). وثالثة ينزل لإبراز عالم الغيب في عالم الحس والعيان ، أو بالعكس. وهذا ظاهر لكل من تأمل في المقام.

هذا إذا لوحظ النزول والإنزال وما يماثلهما من التعبيرات بالنسبة إلى ذات الكتاب العظيم وحقيقته. وأما إذا لوحظ من حيث إضافته إلى ذات المبدإ تبارك وتعالى فالنزول والإنزال لا وجه لهما ، لأنّهما من صفات الأجسام ، وهو تعالى منزه عنها فإنّه جل شأنه محيط بجميع ما سواه بالإحاطة الحقيقية.

ومن ذلك يظهر ما عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إنّ الله ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا» فلا بد من حمل هذه الرواية وأمثالها على نزول الرحمة والألطاف الإلهية وقربها من العباد ـ كما ورد في عشية عرفة ـ وتخصيصها بالليل ، والثلث الأخير منه ، لأنّه وقت التهجد وغفلة الناس عمن يتعرض لنفحات رحمة الله والانقطاع إليه أشد وعند ذلك تكون النية خالصة والرغبة إليه تعالى وافرة وذلك مظنة القبول والإجابة.

الغاية من تعدد النزول :

لا ريب في أنّ تعدد نزول القرآن يدل على عظمته ، وتفخيم أمره ، وإعلاء شأن من نزل عليه والاعتناء به ، وأنّه تكريم لبني آدم حيث نزل فيهم هذا الكتاب الكريم وإعلام للملائكة وسكان السّماوات بأهميته ، وأنّه آخر الكتب السماوية ، وإتمام الحجة على الخلايق ، ولذا لم يكن كتاب إلهي غيره ينزل متعددا أو ينزل نجوما وقد خفي على المشركين والكافرين عظمة هذا الكتاب حيث اعتبروه كسائر الكتب الإلهية على ما حكى عنهم عزوجل فقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) فأجابهم عزوجل : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) [الفرقان ـ ٣٢]. ويمكن أن يكون المراد بتثبيت الفؤاد عنايته تعالى بجهة ابتلائه مع الناس وشدة معاداتهم للوحي والموحى إليه.

٤٤

محل النزول وزمانه :

ذكرنا أنّ القرآن نزل تارة جملة ، وأخرى نجوما ، وعرفت أنّ نزوله الجمعي كان في الليلة المباركة من شهر رمضان بمقتضى الآيات الشريفة ، ولكن نزوله التدريجي لم يكن له محلّ معيّن أو زمان كذلك فقد كان ينزل على قلب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حسب المقتضيات إلا أنّ ابتداءه كان من حين بعثته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وانتهاءه قبل رحيله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهو مدة دعوته البالغة عشرين سنة أو أكثر على اختلاف الروايات.

فقد نزل جملة من سور القرآن في مكة المكرمة مهبط الوحي المبين ، وجملة منها في المدينة مهجر الرسول الأمين (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وقد نزل عليه من القرآن في الحضر وفي السفر وفي النهار وفي الليل ، وبعض السور نزلت مكررة كسورة الحمد ، وبعضها نزلت وقد شيعتها ملائكة السماء ، كسورة الأنعام ، وإنّ بعض السور مكي والبعض الآخر مدني كل ذلك معلوم مذكور في الكتب المؤلفة في علوم القرآن ، وإن كان لهم اختلاف في بعض الجهات.

وقد ذكر العلماء وجوها للتمييز بين السور المكية والسور المدنية وأهمها هي :

الأول : أنّ السور المكية تمتاز بقوة نبرتها وأسلوبها التهكمي فإنّها نزلت في قوم عتاة جبابرة فاتخذت وجه التهديد والتعنيف لهم والإنكار عليهم ولذا وردت السجدة فيها ، بخلاف السور المدنية فإنّها نزلت في قوم ذوي ذلة وضعف فاتخذت أسلوب اللين والعطف.

الثاني : أنّ السور المكية أكثرها تشير إلى إثبات الإله الواحد العزيز الجبار ، وإثبات يوم القيامة والمعاد وأوصافه. وأما السور المدنية فتشير إلى صفات الإله والحساب.

الثالث : أنّ السور المكية خالية تقريبا عن القصص والأحكام والفرائض والسنن ، بخلاف السور المدنية.

٤٥

الرابع : أنّ في السور المدنية ذكر المنافقين بخلاف السور المكية فإنّ فيها ذكر الأمم والقرون.

الخامس : أنّ السور المدنية أغلبها فيها جملة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، بخلاف السور المكية فإنّ الأغلب فيها (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أو أولها حرف تهج غالبا.

عروج القرآن :

كما أنّ للقرآن نزولا حسب ما تقدم كذلك له صعود وتجليات أي : ظهور في المظاهر اللايقة به.

منها : تجلياته في قلوب أولياء الله المخلصين وأحبائه العارفين ، كما هو ظاهر عند أهله وإشراقاته المعنوية على النفوس المستعدة لها.

ومنها : صعوده إليه جلّت عظمته فمنه المبدأ وإليه المنتهى ، لقوله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [الفاطر ـ ١٠].

ومنها : صعوده إليه تعالى ، وتجسّمه لأهل الحشر ، لأن يشفع في من له أهلية الشفاعة ، كما في كثير من الأحاديث وشكواه ممن ضيّعه.

ومنها : صعوده إلى مقام الشهادة عند الميزان ، كما هو الشأن بالنسبة إلى الأنبياء والمرسلين ، ويدل عليه كثير من الآيات ، كما يأتي.

بل يمكن أن يقال : إنّ جميع آثاره الباهرة الظاهرة منه من مراتب صعوده كشفائه للمرضى وحجبه عن الأرواح الشريرة إلى غير ذلك مما وضع له كتب مستقلة ، وعن عليّ (عليه‌السلام) في القرآن «لا تحصى عجائبه ولا تنقص غرائبه».

خلق القرآن :

وقع الكلام بين العلماء السابقين في قدم القرآن وخلقه وذهب إلى كل واحد منهما فريق وأقام الدليل على مختاره ولا فائدة في هذا النزاع الذي أشغل بال المسلمين برهة من الزمن.

٤٦

فالحق ان يقال : إنّ للقرآن اعتبارات فإذا لوحظ من حيث إنّه علم الله عزوجل فهو قديم واجب بالذات ، لما ثبت بالأدلة العقلية والنقلية من أنّ علمه جلّت عظمته عين ذاته. وإذا لوحظ من حيث معارفه الحقيقية الواقعية ، فهو الذي لا يزول ويبقى ويدوم وإن مرت الأمم والعوالم وتغايرت النشآت والمعالم ، وبناء على ذلك فهو أزلي أبدي من حيث أنّ مبدأه من الله تعالى ومنتهاه إليه عزوجل.

وإذا لوحظ من حيث إنّه فعل من أفعاله فهو حادث.

ويمكن الجمع بين من يقول بأنّه قديم ومن يقول بأنّه حادث ورفع النزاع بينهم وإن كان هذا الجمع خلاف ظاهر الكلمات.

٤٧

بحث روائي

في الكافي عن أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) : «لا تقولوا جاء رمضان ، وذهب رمضان ، فإنّ رمضان اسم من أسماء الله ولكن قولوا شهر رمضان». وروي قريب منه عن عليّ (عليه‌السلام) وكذلك في كنز العمال.

أقول : تقدم الكلام فيه ، وقلنا إنّه محمول على نحو من التأدب.

في الكافي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «القرآن جملة الكتاب ، والفرقان المحكم الواجب العمل به».

وفي تفسير العياشي عنه (عليه‌السلام) أيضا : «الفرقان هو كلّ أمر محكم ، والكتاب هو جملة القرآن الذي يصدق فيه من كان قبله من الأنبياء». ومثله في تفسير القمي.

أقول : بحسب هذا الاصطلاح يكون الفرقان أخصّ من القرآن فلا يطلق الفرقان على المتشابهات ، وإلا فقد قلنا إنّ الفرقان يصح إطلاقه على جميع القرآن باعتبار أنّه الفارق بين الحق والباطل.

في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : «فمن شهد منكم الشهر فليصمه ، ما أبينها!! من شهد فليصمه ومن سافر فلا يصمه».

وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) مثله.

٤٨

أقول : هذا الحديث ظاهر في أنّ المراد من الشهود الحضور مقابل السفر كما هو ظاهر الآية الشريفة بقرينة المقابلة ولو أريد من لفظ «شهد» الشهادة بمعنى الرؤية يستفاد الحضور بالملازمة أيضا من ذيل الآية الشريفة.

في التهذيب عن الصادق (عليه‌السلام) : «إذا دخل شهر رمضان فلله فيه شرط قال الله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فليس للرجل إذا دخل شهر رمضان أن يخرج إلا في حج أو عمرة ، أو مال يخاف تلفه ، أو أخ يخاف هلاكه. وليس له أن يخرج في إتلاف مال أخيه ، فإذا مضت ليلة ثلاث وعشرين فليخرج حيث شاء».

أقول : هذا محمول بالنسبة إلى أصل المسافرة في الشهر على المرجوحية بقرينة سائر الروايات وتتأكد الكراهة في العشرة الأخيرة فهو حكم أدبي.

في تفسير العياشي عن ابن أبي عمير عن الصادق (عليه‌السلام) قلت له : «جعلت فداك ما يتحدث به عندنا أنّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) صام تسعة وعشرين أكثر مما صام ثلاثين أحق هذا؟ قال (عليه‌السلام) : ما خلق الله من هذا حرفا ، فما صام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلا ثلاثين ، لأنّ الله يقول : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) فكان رسول الله ينقصه؟!».

أقول : في هذا الموضوع روايات كثيرة بعضها دالة على أنّ شهر رمضان تام لا ينقص وبعضها دال على أنّه قد يتم وقد ينقص ، ولا بد من الأخذ بالقسم الأخير للوجدان وحمل القسم الأول على بعض المحامل ، وقد فصّلنا القول في ذلك في الفقه.

في الكافي عن سعيد النقاش قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : أما إنّ في الفطر تكبيرا ، ولكنّه مسنون قلت : وأين هو؟ قال (عليه‌السلام) : في ليلة الفطر في المغرب والعشاء الآخرة ، وفي صلاة الفجر ، وفي صلاة العيد ثم يقطع ، قلت : كيف أقول؟ قال (عليه‌السلام) : تقول : الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله والله أكبر ، الله أكبر على ما هدانا. وهو قول الله : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) يعني

٤٩

الصّيام ، (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) ، والتكبير أن تقول : الله أكبر ، لا إله إلا الله والله أكبر ، ولله الحمد».

وفي تفسير العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) : «إنّ في الفطر تكبيرا. قلت : ما التكبير إلا في يوم النحر؟ قال : فيه تكبير ، ولكنّه مسنون في المغرب والعشاء والفجر ، والظهر ، والعصر ، وركعتي العيد». وقريب منه ما أخرجه ابن جرير في التفسير بسنده عن زيد بن أسلم وابن عباس.

أقول : التكبير مندوب وقد وردت في ذلك روايات كثيرة من الفريقين في كيفية التكبير وكميته مذكورتان في كتب الفقه ، من شاء فليرجع إليها.

في محاسن البرقي عن بعض أصحابنا في قول الله تعالى : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ). قال : «التكبير التعظيم لله ، والهداية الولاية».

أقول : هذا من بيان بعض مصاديق التكبير ، والهداية ، ولا منافاة بينه وبين ما تقدم.

٥٠

سورة البقرة

الآية ١٨٦

(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦))

تحريض للدعاء بأسلوب بليغ يشعر بالعطف والحنان والمحبة ، وترغيب الإنسان بالوصول إلى الفيض المطلق وغاية الكمال وهي الرشاد وفي الآية الشريفة تلميح لبعض شروط الدعاء التي إذا توفرت تجعل الدعاء مستجابا ، وفي تعقيب شهر رمضان بهذا الخطاب فيه من الحث على الدعاء في هذا الشهر وأنّ له اختصاصا به والقبول فيه مما يخفف ثقل التكليف بالصوم فيه ، وهذا مما دلت عليه السنة المقدسة ففي بعض الأخبار : «من فاته الدعاء في شهر رمضان فلينتظر يوم عرفة ، ومن فاته الدعاء فيه فلينتظر شهر رمضان المقبل».

٥١

التفسير

١٨٦ ـ قوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي).

السؤال : طلب معرفة شيء واستدعاؤها ، أو طلب مال. وفي الأول يتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه تارة ، وبحرف الجرّ أخرى ، تقول : سألته كذا ، وسألته عن كذا ، قال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) [الأنفال ـ ١] ، وقال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) [البقرة ـ ١٨٩] ، وقال تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) [المعارج ـ ١]. وإذا كان لطلب المال يتعدى إليه بنفسه أيضا ، وبمن أخرى ، قال تعالى : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [الأحزاب ـ ٥٣] والمعروف أنّ الطلب إذا كان من العالي إلى السافل ، فهو أمر.

وإذا كان بالعكس فهو سؤال. وإذا كان من المساوي فهو استفهام ، وقد ذكرنا في الأصول أنّه لا كلية في ذلك ، ويختلف الدعاء عن السؤال في أنّ الأخير بمنزلة الغاية للأول.

والعبد ، والعبودية ، والعبادة : بمعنى التذلل والخضوع ، وتقدم في سورة الحمد ما يتعلق به. وللعبد في القرآن دلالات :

الأولى : في مقابل الحر ، وهو الذي يباع ويشترى كسائر الأمتعة وله أحكام خاصة في الإسلام مذكورة في الكتب الفقهية ، قال تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) [البقرة ـ ١٧٨].

٥٢

الثانية : عبد الإيجاد يعني خلقهم للعبودية والخضوع له تعالى ، كما في قوله تعالى : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم ـ ٩٣].

الثالثة : المخلصون من عباده تعالى الذين لهم مع الله جل جلاله حالات ، وله عزوجل معهم عنايات ، ولهم في القرآن قصص وحكايات ، وهم الذين استثناهم الشيطان عن غوايته فقال تعالى حكاية عنه : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص ـ ٨٣] ، لأنّهم اتخذوا الله تعالى بذاته الأقدس معبودا لأنفسهم بتمام معنى العبودية الحقيقية ، فاتخذهم الله تعالى عبادا لنفسه ومدحهم بأبلغ المدائح ، ولعلّ أرقّها قوله تعالى : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان ـ ٦٣].

الرابعة : عبد لله تعالى ولكنّه يطيع الشيطان ويتبعه ، قال تعالى حكاية عنه : (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً) [النساء ـ ١١٨] ، سواء كان مسبوقا بالكفر ثم آمن كذلك أم لم يكن ، والجميع عبيده عزوجل لكثرة رأفته وعنايته بخلقه ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الحجر ـ ٤٩] وقوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) [الشعراء ـ ٥٢] مع أنّهم كانوا من سحرة فرعون ، فإنّ المنساق من هذه الآيات أنّ مجرد الإيمان بالله جلت عظمته في مقابل الكفر به يكفي في شمولها له وهو مقتضى الرحمانية والرحيمية المطلقة له عزوجل.

وفي الكلام من العناية واللطف ما لا يخفى.

قوله تعالى : (فَإِنِّي قَرِيبٌ).

القرب معلوم. والقريب من أسماء الله الحسنى ـ وجميع أسمائه المقدسة حسنى ، وإنّما التوصيف إضافي لا أن يكون حقيقيّا ـ وهو إما أن يلحظ بالنسبة إلى الذات المقدسة ، قال تعالى : (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) [هود ـ ٦١] ، وقال تعالى : (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) [سبأ ـ ٥٠] ، ويبيّن هذا المعنى قوله تعالى : (وَهُوَ

٥٣

مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [الحديد ـ ٤] ، وقد فصل ذلك في الفلسفة تفصيلا دقيقا لعلنا نشير إليه في ضمن المباحث الآتية.

أو يلحظ بالنسبة إلى رحمته الواسعة ، قال تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف ـ ٥٦].

ويطلق القرب بالنسبة إلى المكان ، كقوله تعالى : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) [التوبة ـ ٢٨] ، وهو كثير في القرآن. وأخرى : بالنسبة إلى الزمان ، قال تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) [الأنبياء ـ ١]. وثالثة : بالنسبة إلى الفعل كالتصرف وغيره ، قال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) [الإسراء ـ ٣٤] ، وقال عزوجل : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) [الإسراء ـ ٣٢] ، وقال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) [الأنعام ـ ١٥١]. ورابعة : بالنسبة إلى النسب ، كقوله تعالى : (أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى) [النور ـ ٢٢] ، وقال تعالى : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) [النساء ـ ٣٦].

كما يطلق ويراد به القرب المعنوي من طرف الخلق ، قال تعالى : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [النساء ـ ١٧٢] ، وقال تعالى : (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [آل عمران ـ ٤٥] ، وقال تعالى : (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) [المطففين ـ ٢٨].

والقرب المعنوي : إما من الله تعالى بالنسبة إلى خلقه ويصح أن يعبّر عنه باللطف ، والعناية ، والرعاية ، والقدرة ، ونحو ذلك. وإما من المخلوق بالنسبة إليه عزوجل وهو حالة انقطاع إلى الله تبارك وتعالى بحيث لا يعلم حقيقتها إلا المتقرّب إليه جلّت عظمته والعبد المتقرّب منه ولا يحيط بها إلّا الله عزوجل ، ولكلّ ما ذكرناه مراتب كثيرة.

والمراد بقربه تعالى ـ في المقام ـ : القرب باللطف والرحمة والإجابة الذي لا حد له ولا نهاية لا أن يكون قربا زمانيا أو مكانيا فإنّه تعالى يجلّ عنهما وهو محيط بهما بالإحاطة القيّومية الحقيقية.

وربما يكون القرب فيه من قبيل قرب العلّة الحقيقية من المعلول المحتاج

٥٤

إليها حدوثا وبقاء ، وقد ورد في بعض الدعوات المأثورة عن الأئمة الطاهرين (عليهم‌السلام) : «يا جاري اللصيق ، يا ركني الوثيق» ، كما ورد في بعض مخاطبات الله تعالى مع موسى بن عمران : «يا موسى أنا بدّك اللازم».

وكيف كان وفيه الكناية اللطيفة فإنّ فيه تمثيلا لحاله في سهولة إجابة دعائه وسرعة إنجاح حاجة من سأله بحال من قرب مكانه.

قوله تعالى : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ)

مادة [ج وب] تأتي بمعنى القطع ، ولها استعمالات كثيرة في القرآن بهيئات مختلفة ، والجواب يطلق غالبا في مقابل السؤال. والسؤال إن كان لطلب المقال فجوابه المقال ، وإن كان لطلب المنال فيكون جوابه المنال. ومن الأول قوله تعالى : (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) [الأحقاف ـ ٣١]. ومن الثاني قوله تعالى : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما) [يونس ـ ٨٩] أي أعطيت سؤلكما. والاستجابة : التحري والتهيؤ للجواب ، يعبّر بهما عن الإجابة لعدم الانفكاك بينهما غالبا لا سيما بالنسبة إلى الغنيّ المطلق والرحيم بعباده في جميع العوالم ، فهذه المفاهيم الثلاثة أي : الدعاء ، والإجابة ، والاستجابة ، من المفاهيم الإضافية بالنسبة إليه عزوجل ، قال تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر ـ ٦٠] ، وقال تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ) [آل عمران ـ ١٧٢] ، وقال تعالى : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) [الرعد ـ ١٨].

فالآية الشريفة في المقام تشتمل على علل الحكم أي : أنّ الداعين لكونهم عباد الله فإنّ الله قريب منهم وقربه إليهم موجب لإجابة دعواتهم ، وذلك أنّ عباده ملك له بالملكية الحقيقية ، وهذه هي المقتضية لكونه قريبا منهم على الإطلاق وإلا فإنّ ما سواه تعالى فقير بحد ذاته وإنّما يملك بالملكية الاعتبارية بتمليك المالك الحقيقي للأشياء له وهو الله سبحانه وتعالى فلو لم يشأ الملكية لم يملك أحد ، كما يظهر من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [الفاطر ـ ١٥].

ثم ذكر سبحانه أنّ استجابة الدعاء منوطة بأمرين :

٥٥

أحدهما : أن يكون الداعي داعيا بحسب الحقيقة كما يدل عليه قوله تعالى : (إِذا دَعانِ) فلا بد للداعي الذي يدعو لحاجته أن يكون عالما بحقيقة الدعاء صادقا عليه التوجه إلى الله جل شأنه ، ومتوجها إليه صادرا عن معرفة بحكمته وسعة رحمته دون ما يدور في اللسان مع الغفلة عنه تعالى ، وترشد إلى ذلك الآيات التي تدل على استجابة السؤال إذا كان عن فطرة مثل قوله تعالى : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن ـ ٢٩] ، وذلك لأنّ الاستحقاق كان بحسب الذات فالسؤال كان عن الفطرة ، ومن ذلك يظهر السر في إطلاق السؤال دون الدعاء على السؤال الصادر عن الفطرة وإن لم يكن للسان فيه عمل ، وهذا بخلاف الدعاء.

والأمر الثاني ما ذكره تعالى بعد ذلك :

قوله تعالى : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي).

أي أنّهم إذا أرادوا الإجابة والاستجابة ، وإذا كان الله تعالى قريبا منهم لا يحول بينه وبين دعائهم شيء فلا بد لهم من الاستجابة فيما دعاهم إليه والعمل بما أمرهم من الإيمان والعبادات التي فيها صلاحهم وسعادتهم ورشدهم ، ولا بد لهم من الإيمان بما يتصف به من الصفات الحسنى ، ولا بد لهم من المعرفة بأنّه قريب يجيب دعوة الداع.

قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).

الرشاد : ضد الغي. أي أنّ الأعمال والدعاء إذا صدرت عن روح الإيمان يكون صاحبها راشدا مهتديا ، وقد تقدم الوجه في إتيان كلمة [لعلّ] في أمثال المقام.

٥٦

بحوث المقام

بحث أدبي

الآية الشريفة تشتمل على مضمون رفيع بأحسن بيان وأرق أسلوب وأبلغ خطاب يلقى إلى السامع وهو يشعر بالعطف والحنان ، واستقرار النفس بأنّ خالقها قريب منها يسمع دعاء من يدعوه بكل ما يدعوه ، وهي تتضمن من الأنحاء الأدبية ما يلي :

الالتفات عن خطاب المؤمنين بأحكام الصيام إلى خطاب الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وفيه من التذكير لهم بالدعاء والطاعة والتنويه بشرف الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وعظمته.

إلقاء صيغة التكلم للدلالة على كمال العناية بالدعاء والمدعوّين.

دلالة قوله تعالى : (عِبادِي) على كمال الرأفة والاعتناء بالخلق والاهتمام بالأمر ، ولو قال : [خلقي أو الإنسان] وما أشبههما لما أفاد ذلك.

إتيان الصيغة المؤكدة في قوله تعالى : (فَإِنِّي قَرِيبٌ) دون الفعل للدلالة على ثبوتها ودوامها ، كما أنّه حذف الواسطة ولم يقل : [فقل إنّي قريب] ليدل على أنّ الإجابة منحصرة فيه تعالى.

إتيان الفعل في قوله تعالى : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) للدلالة على استمرار الإجابة وتجددها. ويأتي في البحث الدلالي وجه إتيان ضمير المتكلّم مفردا.

٥٧

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور :

الأول : إتيان ضمير المتكلم المفرد في قوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي) للدلالة على مزيد العطف والعناية. ومن سنته جل شأنه في القرآن الكريم أنّه إذا كان في مقام إظهار الاقتدار والكبرياء والهيمنة يأتي بضمير الجمع غالبا ، مثل قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) [ق ـ ٤٣] ، وقوله جلّ شأنه : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) [يس ـ ١٢] ، وقوله عزوجل : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) [الأحزاب ـ ٧٢] ، وقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) [الدخان ـ ٣] ، وقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر ـ ١] ، وغير ذلك مما هو كثير.

وإذا كان في مقام الامتنان والرأفة والتحنن وإظهار المعية يأتي بضمير المفرد قال تعالى : (لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [طه ـ ٤٦] ، وقال تعالى : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) [طه ـ ١٤] ، وفي المقام قال تعالى : (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) ، فهو مشعر بالتوجه والإلفة وتهييج الشوق ـ كأنّه مما يشبه اختلاط المتكلم مع المخاطبين ـ ما لا يدركه الإعلام ويقصر دون بيانه الأعلام.

٥٨

الثاني : الوجه في إلقاء الخطاب إلى الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بقوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ) لأنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قائد الأمة ورأسها ورئيسها بل إنّ ذلك ثابت له بالنسبة إلى جميع الخليقة للإشارة إلى أنّ الدعاء لا بد من وروده من بابه وهو خاتم الأنبياء فإنّه الواسطة في الفيوضات الإلهية وخاتمة جميع المعارف الربوبية ، فهو الخاتم لما سبق والفاتح لما استقبل.

وفيه نحو تعليم للناس في أن يسألوا أمهات الأمور الدينية من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أو من يتبع طريقه علما وعملا ، مع أنّ أسرار الحبيب لا يعرفها إلا الحبيب.

الثالث : إنّ شأن العبد بالنسبة إليه عزوجل هو الدعاء ، وقد وعد تعالى الإجابة إن كان الدعاء جامعا للشرائط (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) [آل عمران ـ ٩]. وأما السؤال عن كنهه وذاته سبحانه وتعالى فهو مرغوب عنه إذ لا يدرك الممكن كثيره ولا ينفع قليله ، بل ربما يضر ، ولذا ورد النهي في السنة عن التعمق في ذاته تعالى ، ويستفاد ذلك من قوله تعالى : (فَإِنِّي قَرِيبٌ) ولا معنى للسؤال عما هو قريب حاضر.

ومن العجائب أن أكون مسائلا

عن حاضر لا زلت أصحبه معي

الرابع : تكريم الداعي السائل بالاضافة التشريفية المعبودية في قوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي) وفيه من الأدب ما لا يخفى وتعليم للعلماء باحترام السائل عن الحق.

الخامس : تضمين الأمر بالدعاء معنى الإجابة في قوله تعالى : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) فإنّه بشارة باستجابة الدعاء ثم التأكيد بقوله تعالى : (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) فإنّه سواء كان خاصا بخصوص هذه الآية أم عاما لجميع التشريعات فإنّه يدل على تحقق مفاد الآية واتباع ذلك بقوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) وهو تأكيد آخر ، ولبيان أنّ الدعاء سبب الرشد الذي هو إصابة الحق والخير ، وإليه يشير قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إنّ أعجز الناس من عجز عن الدعاء ، وأبخل الناس من بخل عن السلام».

٥٩

السادس : إنّ قوله تعالى : (إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) يدل على شروط استجابة الدعاء أحدها سيق لبيان الموضوع ، وهو قوله تعالى : (إِذا دَعانِ) فإنّه معلوم مما قبله ولكنّه ذكر لأجل التنبيه على أنّه ليس كل من يدعو الله لحاجة هو داعيا لله بحقيقة الدعاء لفقد الانقطاع وعدم التوجه إليه تعالى فلا يكون هناك مواطاة بين القلب واللسان ولا يكون دعاء بل التبس الأمر على الداعي فيسأل ما يجهله أو ما لا يريده لو انكشف الأمر له ، أو يكون سؤال لكن لا من الله تعالى وحده ، ولذا ورد إنّ الله لا يستجيب دعاء من قلب لاه متعلق بالأسباب المادية أو الأمور الوهمية فلم يكن دعاؤه خالصا لوجه الله تعالى فلم يسأله بالحقيقة ، وهذا هو المستفاد من مجموع الآيات الواردة في الدعاء والأحاديث الشارحة لها.

السابع : إنّ إفراد الضمير في (عنّي) و (إنّي) و (أجيب) فيه إشارة إلى أنّ إجابة الدعاء منحصرة به تعالى ولا دخل لغيره فيها لأنّه تصرّف من عالم الملكوت الأعلى في عالم الملك الأسفل ولا يليق بذلك غيره عزوجل. نعم الاستشفاع والتوسل بعباد الله الصالحين الذين جعلهم الله تعالى واسطة الفيض لديه شيء آخر لا ربط له بإجابة الدعاء ، كما لا يخفى.

مع أنّ الحنان والرأفة وجذب الداعي إلى مقام القرب يقتضي توحيد الضمير لئلا يعرض على قلب الداعي هيبة العظمة فتشغله عمّا يحتاجه من قليل أو كثير.

كما أنّ في تكرار ضمير الإفراد في (عنّي) و (إنّي) إشارة إلى أنّ المسؤول عنه نفس القريب المجيب وعينه ولا فرق إلا بالاضافة الاعتبارية. فإنّه إذا أضيف إلى السائل يكون مسئولا عنه وإذا أضيف إلى نفسه الأقدس يكون قريبا مجيبا وإن كانت إضافته من صفات فعله لا من صفات ذاته ، وفي المقام سرّ آخر ، لعله يظهر في الآيات المناسبة.

٦٠