مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٦

الإسلام فيهنّ ، فهي تدل على أنّ دم الحيض أمر طبيعيّ للنساء أذى لهنّ ينبغي مراعاتهنّ في هذه الحالة ، وليس هو نقص لهنّ يحط من منزلتهن ثم أعطت المنزلة السامية لهنّ عند ما اعتبرهنّ بمنزلة الحرث للرجال ، وبذلك تتحمل مسئولية الحمل والرضاع ونشأة الأولاد وقد أعدها الله تعالى لهذه المسؤولية إعدادا حسنا ، فخلقها صابرة تتحمل الصعاب في هذا السبيل ، عطوفة حساسة للأمور التي تحيط بها ، شغوفة في حبّ الأولاد وتربيتهم وغير ذلك مما تتطلبه هذه المسؤولية.

وقد حذر سبحانه وتعالى الرّجل من استغلال هذه الصفات فيهنّ بالاستخفاف بهنّ أو استحقارهنّ في قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).

وأما الرجل الذي هو الجزء الآخر من المجتمع الإنساني وعلى جانب من المسؤولية الاجتماعية وقد خلقه الله تعالى وحمّله مسئولية تربية الأولاد ومعيشتهم فقد جعل عزوجل المادة الأساسية في الرجل ، وجعل محل انعقادها رحم المرأة التي هي كالوعاء لنشوء الجنين وحفظه ، وقد أعد الله سبحانه الرجل إعدادا جميلا يتحمل هذه المسؤولية فخلقه قويا يتحمل المكاره ، مكافحا في سبيل عيشه وعيش أولاده ، صعبا لا يخرج عن إرادته بسهولة. وغير ذلك مما لا بد منه في هذه المسؤولية وبمقتضى تغاير المسؤوليتين امتاز كلّ واحد منهما بصفات وأخلاق ، ولكن ذلك لا يوجب الفرق بينهما بحسب النوع بحيث يعد أحدهما من أفراد الحيوان ، بل هما متماثلان في الذات والشعور والحقوق ... أو من قبيل الإنسان القليل الاستعداد والكثير.

وقد أيدت ذلك التجارب العلمية الصحيحة ، والفت كتب خاصة فيما يمتاز به الرجل عن المرأة تكوينا.

ويدل على ذلك : أنّ الأحكام الشرعية الإلهية التي نزلت لتكميل الإنسان تعم الرجل والمرأة على حدّ سواء ، وقد أسس الفقهاء «قاعدة الاشتراك» والمراد منها اشتراك النساء مع الرجال في جميع الأحكام الوضعية

٣٨١

والتكليفية إلا ما خرج بالدليل ، ولكن اختص كلّ واحد منهما بجملة من الأحكام الشرعية بمقتضى وظيفة كلّ واحد منهما في المجتمع ، وليست تلك الأحكام التي تخص المرأة مما يدل على نقص المرأة عن الرجل ، بل هي أحكام تتلائم مع مسئوليتها وتكوينها.

ويمكن تقسيم شؤون النساء إلى أقسام :

الأول : التكاليف الشرعية المجعولة لهنّ كما هي مجعولة للرجال.

الثاني : الفضائل والعلوم التي تعتبر من الكمالات التي يرغب إليها شرعا وعقلا فهي مطلوبة منهنّ ما لم يردع عنها الشارع أو تترتب عليها المفسدة وعلى ذلك يحمل ما ورد من النّهي عن تعليمهنّ بعض الأمور.

الثالث : الأمور الاجتماعية التي يفرضها الاجتماع الإنساني فلا بأس بممارسة المرأة لها مع التحفظ على ما يريده الشرع منها كالستر والعفاف.

الرابع : الأمور التي تنافي عفتها وتوجب تبذلها واحتكاكها مع الأغيار وهذه لا تجوز عقلا وشرعا بل وعرفا.

هذا موجز الكلام في شأن النساء بحسب نظرة الإسلام وسنتابع البحث في الآيات الشريفة المناسبة إن شاء الله تعالى.

٣٨٢

سورة البقرة

الآية ٢٢٤ ـ ٢٢٥

(وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥))

بعد أن ذكر سبحانه وتعالى بعض الأحكام الشرعية التي تهدي الإنسان إلى الكمال وتوجب له الطهارة ، وحذّره جل شأنه عن المخالفة والمعصية. وأمره بالتقوى ذكر هنا بعض الأحكام العامة في الإيمان وبيّن أنّ من التقوى الاجتناب عن الحلف باسم الله تعالى في كلّ شيء فإنّه مانع عن البر والتّقوى والإصلاح التي لا بد أن يبتغيها المؤمن في كلّ أعماله ثم بيّن سبحانه أنّه لا يؤاخذكم بالأيمان اللاغية التي لا يعقد العزم عليها فإنّه لا كفارة فيها ولا عقاب وإنّما يؤاخذ الله تعالى الإنسان بالنيات التي يعقد عليها الأعمال ثم بشره بالغفران.

٣٨٣

التفسير

٢٢٤ ـ قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ).

مادة (عرض) تأتي بمعنى الإظهار للغير لمصلحة فيه ، ولهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم قال تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأحزاب ـ ٧٢] ، وقال تعالى : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) [الأحقاف ـ ٣٤] ، وقال تعالى : (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) [الكهف ـ ١٠٠] ، ولم تستعمل هيئة (عُرْضَةً) إلا في المقام فقط.

والأيمان جمع يمين : وهي بمعنى الحلف والقسم ، تذكّر وتؤنث ، وهي فعيل من اليمن بمعنى البركة لأنّها تحفظ الحقوق ، أو لأجل أنّ العرب كانت تضرب اليمين على اليمين عند الحلف فسمّي الحلف يمينا. وقد وردت جميع مشتقات اليمين والحلف في القرآن الكريم.

ومن عادة الناس الحلف بالعظماء والأكابر وما هو محترم لديهم على اختلاف مذاهبهم ومللهم.

وفي القرآن الكريم حلف الخالق بالمخلوق ، والمخلوق بالخالق ، ولعل أحلى قسمه تعالى قوله عزوجل : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)

٣٨٤

[الحجر ـ ٧٢] ، ومن أشده وأعظمه قوله جل جلاله : «وعزتي وجلالي وعلو قدري وارتفاع مقامي لأقطعنّ أمل كلّ مؤمل أمل غيري».

والمعنى : لا تجعلوا الله تعالى في معرض حلفكم إذا أردتم أن تحلفوا ، وهذا يشمل المرة الواحدة فضلا عن الزائد لأنّ عظمته تعالى غير متناهية ولا يمكن دركها بالعقول مطلقا فكيف يحلف بما لا يدرك إلا مفهوم لفظه.

قوله تعالى : (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ).

بيان لأيمانكم ، أي : لا تجعلوا الله في معرض الحلف به في هذه الأمور الثلاثة التي هي مرضية له تعالى فضلا عما لا يكون مرضيا له ، أو شككتم في أنّه مرضيّ له تعالى ، فتشمل الآية الحلف على ترك البر والتّقوى والإصلاح بين الناس بالأولى.

وإنّما ذكر سبحانه هذه الأمور لأنّ سائرها يرجع إليها ، أو لأنّها أهم الأمور النظامية الاجتماعية ، أو لأنّها مورد النذور والأيمان بين الناس غالبا ، فتشمل الآية غيرها بالأولى ، ويؤيد هذا المعنى بعض الروايات كما يأتي.

وللمفسرين في تفسير هذه الآية الشريفة أقوال :

منها : أنّ هذه الآية غاية للحكم أي النّهي في (لا تَجْعَلُوا) أي : لا تحلفوا بالله لأن تبروا وتتقوا وتصلحوا فتكون تعليلا لما تقدم.

ومنها : أنّ قوله تعالى : (أَنْ تَبَرُّوا) تقدير (أن لا تبروا) أي : لا تكثروا الحلف بالله فإنّه يؤدي إلى أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس ، فإنّ من أكثر الحلف بشيء أدّى إلى استصغار ما أقسم به فلا يبالي الكذب ولا الحنث.

ومنها : لا تجعلوا الله بواسطة الحلف به مانعا وحاجزا عما حلفتم على تركه ، فإنّه لا يرضى أن يكون اسمه حاجبا عن الخير. وغير ذلك من الوجوه ، ولكنّ الوجه الذي ذكرنا أنسب وأشمل وإن أمكن إرجاع بعض الوجوه المتقدمة إلى ما قلناه.

٣٨٥

قوله تعالى : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

أي : إنّ الله سميع لأيمانكم وجميع أقوالكم عليم بنياتكم وأحوالكم ولا يخفى عليه شيء في السّموات والأرض ، وفي الآية نوع من التهديد وفيها إرشاد إلى مراقبة الإنسان لأقواله ونياته.

٢٢٥ ـ قوله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ).

مادة (لغو) تأتي بمعنى ما لا فائدة فيه ولا نفع ، ويطلق اللفظ على صوت الطّير والعصافير من هذه الجهة.

والمراد به في المقام : الحلف الخالي عن القصد الاستعمالي الجدي الذي تدور عليه المحاورات المتعارفة بين الناس فإنّه إذا لم يحرز ذلك لا يترتب الأثر على الكلام بلا فرق بين الإخباريات والإنشائيات والوضعيات والأحكام مطلقا.

فيكون الأصل في بيان المراد والظهور هو القصد الاستعمالي الجدي وعليه يبتني التفهيم والتفهّم والمؤاخذات والكلام بدونه تكون لغوا بالنسبة إلى المعنى المطلوب لا فائدة فيه ولا يترتب عليه الأثر المقصود.

والآية المباركة تبيّن أنّ الأيمان الخالية عن القصد الاستعمالي الجدي تكون لغوا لا يترتب عليها الأثر ، فلا يؤاخذ الله تعالى الناس عليها. وتقع مثل هذه الأيمان في حشو الكلام وتجري على اللسان كثيرا من دون أن يعقد صاحبها على أنّها يمين ويدل على ما ذكرنا قوله تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) [المائدة ـ ٨٩].

والمراد بعدم المؤاخذة عدم الكفارة وعدم العقاب.

قوله تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ).

المراد من كسب القلب في المقام : القصد الجدّي والنية والعزم أي : ولكن يؤاخذكم بما نوت قلوبكم في الأيمان من المخالفة العمدية والكذب والحنث وما يكسبه الإنسان من الإثم فيما عقد قلبه بالأيمان.

٣٨٦

والآية تدل على أنّ قسما خاصا من اليمين يكون مورد المؤاخذة وهو ما تصلح النية فيه ، وفي غيره لا مؤاخذة فيه ، للقاعدة العقلية من انتفاء الحكم بانتفاء الموضوع.

ويستفاد من الآية الكريمة كمال الأهمية للنيات ، فإنّ عليها يدور صلاح الأعمال وفسادها والثواب والعقاب ، وظاهر اللفظ إنّما يكون معتبرا لأجل كونه كاشفا عن النيات.

قوله تعالى : (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ).

الغفور والحليم من أسماء الله تعالى الحسنى ، والأول مبالغة في التجاوز والغفران عن الذنب بالشرائط المقرّرة في الشريعة ، والثاني عبارة عن الإمهال وترك التعجيل في العقوبة.

وتعقيب هذه الآيات المباركة بهذين الاسمين الشريفين للإشارة والترغيب إلى عدم اليأس من رحمة الله تعالى لو تحققت المخالفة لبعض تلك الأحكام أحيانا لإغواء الشيطان فيتوب إليه تعالى ويرغم أنف الشيطان ، فذكر جل شأنه هذين الاسمين للإعلام بزيادة التوجه والتنبيه والمبالغة في عدم حصول اليأس عند صدور المعصية.

٣٨٧

بحوث المقام

بحث أدبي

قوله تعالى : (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) فيه وجوه من الإعراب :

الرفع : على أنّه مبتدأ والخبر محذوف أي البر والتقوى والإصلاح ، أولى من اليمين بالله تعالى.

والنصب : إما على تأويل لا تمنعكم اليمين بالله تعالى البر والتقوى والإصلاح.

أو على أنّه مفعول لأجله ، أي : لأجل أن تبروا وتتقوا وتصلحوا.

أو على أنّه منصوب بنزع الخافض.

وقيل : إنّ التقدير : أن لا تبرّوا ولا تتقوا ولا تصلحوا. وحذف كلمة «لا» كثير ، مثل قوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء ـ ١٧٦] ، أي : أن لا تضلّوا.

وقال الخليل والكسائي إنّه في موضع خفض والتقدير : في أن تبروا فأضمرت وخفضت بها.

٣٨٨

بحث فلسفي

من الألفاظ الشايعة في القرآن الكريم والسنة المقدسة : القلب وهو من التقلّب ، والصرف والتصرّف ، وله إطلاقان :

الأول : العضو المعروف في جسم الحيوان ، أي : اللحم الصنوبري النابت في الطرف الأيسر من الحيوان وهو كمضخة للدم السائل في العروق.

الثاني : اللطيفة الربانية أو العقل العملي أو النفس الناطقة الإلهية في مقام فعليتها ، أو النفس اللوامة الفعلية ، أو الجميع بحسب مراتبها المختلفة شدة وضعفا ، لأنّه على أيّ تقدير من الحقائق التشكيكية ، وإن كان الحق هو الأخير كما هو المستفاد من الأخبار الشريفة وكلمات العلماء.

ومن هذا الإطلاق قوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [الشعراء ـ ١٩٤] ، ومفهوم قوله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) [الأعراف ـ ١٧٩] ، وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق ـ ٣٧] ، وما ورد في الحديث : «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرّحمن» وفي القدسيات : «لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنّما يسعني قلب عبدي المؤمن» وما ورد في الحديث : «سأل موسى ربّه أين أجدك يا ربّ؟ قال عزوجل أنا عند المنكسرة قلوبهم».

٣٨٩

ومن أسمائه الحسنى المباركة : «يا مقلّب القلوب» إلى غير ذلك مما هو كثير.

وعن بعض أكابر الفلاسفة أنّ القلب بهذا المعنى من أبواب الجنة وبه تصير ثمانية بخلاف النار فإنّ أبوابها سبعة ، وليس لها باب القلب واستظهر ذلك من الآيات المباركة منها قوله تعالى : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) [سورة الهمزة ـ ٩] ، وقد تحير العلماء في ذلك.

ولعلّ إطلاق القلب وإرادة الرّوح أو النفس أو الإنسان نفسه في بعض الآيات كقوله تعالى : (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة ـ ٢٨٣] ، وقوله تعالى : (وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) [ق ـ ٣٣] ، وقوله تعالى : (يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) [البقرة ـ ٢٢٥] ، لأجل أنّه مبدأ الروح وبتلفه يتلف الحيوان ولذا ينسب إليه عند العرف كلّ ما فيه شوب درك مثل الحب والبغض ونحوهما.

كما يطلق عندهم الصدر ويراد به القلب باعتبار الحال والمحل كقوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [الأنعام ـ ١٢٥] ، وقال تعالى حكاية عن موسى (عليه‌السلام) : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) [طه ـ ٢٥] ، وغير ذلك من الآيات الشريفة.

٣٩٠

بحث روائي

في تفسير القمي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) قال : «هو قول الرّجل في كل حاله لا والله وبلى والله».

وفي تفسير العياشي عنه (عليه‌السلام) أيضا في الآية المباركة قال (عليه‌السلام) : «هو قول الرّجل لا والله وبلى والله».

أقول : إنّ إطلاق الرواية يشمل جميع ما ذكر في تفسير الآية الشريفة ولفظ الجلالة من باب المثال لكل اسم مختص به عزوجل.

وفي الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) قال : «إذا دعيت لتصلح بين اثنين فلا تقل عليّ يمين أن لا أفعل».

وفي تفسير العياشي عن الباقر والصادق (عليهما‌السلام) في قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) يعني : «الرجل يحلف أن لا يكلّم أخاه وما أشبه ذلك أو لا يكلّم أمه».

أقول : إنّ الرواية تدل على أنّ المعتبر في الحلف الرجحان أو التساوي فلا ينعقد في المرجوح فتكون بيانا لبعض معاني قوله تعالى : (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا).

٣٩١

وفيه أيضا قال (عليه‌السلام) : «يا سدير من حلف بالله كاذبا كفر ومن حلف بالله صادقا أثم إنّ الله عزوجل يقول : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) قال (عليه‌السلام) : «اللغو قول الرجل : لا والله وبلى والله ولا يعقد على شيء».

أقول : روى مثله العياشي عن أبي الصباح والمراد بذلك أن لا يكون له قصد استعمالي جدّي.

روى الواحدي في أسباب النزول في قوله جل شأنه : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) قال الكلبي : «نزلت في عبد الله بن رواحة ينهاه عن قطيعة ختنه بشير بن النعمان ، وذلك أنّ ابن رواحة حلف أن لا يدخل عليه أبدا ولا يكلّمه ولا يصلح بينه وبين امرأته ، ويقول : قد حلفت بالله أن لا أفعل ولا يحل (لي) إلا أن أبر في يميني فأنزل الله تعالى هذه الآية».

أقول : تقدم ما يدل على ذلك أيضا.

٣٩٢

بحث فقهي

يستفاد من الآية الشريفة أحكام :

الأول : أنّ الأيمان على ما يستفاد من الآية الشريفة بضميمة ما ورد في شرحها من السنة المقدسة على أقسام ثلاثة :

الأول : يمين التأكيد والتثبيت كما إذا قال : والله إنّ هذا اليوم يوم الجمعة ، وهو كذلك.

الثاني : ما تقرن بالطلب والسؤال ، وحث المسؤول على إنجاح المقصود ، كقول الحالف : «أسألك بالله أن تقضي لي حاجتي» والدّعوات المأثورة مشحونة بذلك.

الثالث : ما تقع تأكيدا لما التزم به كقول القائل : «والله لا أرضى ـ مثلا».

ولا يترتب شيء على القسم الأول سوى الإثم لو كان كاذبا في حلفه ، وهي من المعاصي الكبيرة وتسمى باليمين الغموس لأنّها تغمس صاحبها في النار وفي بعض الأخبار : «إنّها تذر الدّيار بلاقع من أهلها».

وكذا لا أثر بالنسبة إلى القسم الثاني ولا كفارة أيضا على الحالف ولا على المحلوف عليه لو لم ينجح المقصود.

٣٩٣

وأما القسم الأخير ففيه شرائط مذكورة في الفقه ويترتب على حنثه الإثم والكفارة.

الثاني : لا أثر لليمين إلا إذا كانت بالله عزوجل أو بأسمائه المقدسة المختصة به لفظا أو بالقرينة الظاهرية ، فاليمين بغير ذلك لا أثر لها ولو كان عظيما.

الثالث : الأيمان الصادقة كلّها مكروهة ، سواء كانت على الماضي أو المستقبل وتتأكد الكراهة في الأول ، فعن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في الموثق : «لا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين فإنّه عزوجل قال : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ).

وعن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في موثق ابن سنان قال : «اجتمع الحواريون إلى عيسى (عليه‌السلام) فقالوا يا معلّم الخير أرشدنا فقال : إنّ موسى نبيّ الله (عليه‌السلام) أمركم أن لا تحلفوا بالله كاذبين وأنا آمركم أن لا تحلفوا بالله كاذبين ولا صادقين».

نعم ، لو أراد بها دفع مظلمة عن نفسه أو عرضه أو غيرهما جاز بلا كراهة والتفصيل يطلب من الفقه.

الرابع : يتعلّق اليمين بكلّ مباح فيه غرض صحيح غير منهي عنه شرعا كما يتعلّق بترك كلّ حرام أو مكروه ، وبفعل كلّ واجب أو مندوب ولا يتعلّق بغير ذلك بل يكون لغوا وباطلا.

٣٩٤

بحث عرفاني

كل من أحب شيئا وعشقه لا يحلف بمحبوبه ومعشوقه إلا نادرا بل لا يحلف به في الأمور المهملة وإذا حلف يبر بحلفه ولا يحنث ولو أدى إلى بذل النفس والنفيس والله تعالى أحب الموجودات إلى خلقه وهو تعالى يطلب من خلقه أن يكونوا عبادا له عزوجل يأتمرون بأوامره وينتهون عن نواهيه مطيعين له يراقبونه في جميع أمورهم وتنظيم نظام العبودية يقتضي أن لا يبادروا إلى الحلف به.

كما لا يحلف أحد بمحبوبه فإنّه تعالى المحبوب الحقيقي لكلّ موجود ولو حلفوا به فإنّ عبوديتهم له عزوجل تقتضي الوفاء به بكلّ ما أمكنهم.

٣٩٥

سورة البقرة

الآية ٢٢٦ ـ ٢٢٧

(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧))

بعد ما بيّن سبحانه وتعالى حكما عاما من أحكام الأيمان واعتبر أنّ المناط فيها عقد النية وكسب القلب فيها وإلا كانت من اللغو الذي لا يؤاخذه الله تعالى به.

ذكر عزوجل في هاتين الآيتين حكم اليمين الخاصة وهي إيلاء الرّجل من الزوجة على ترك مباشرتها فأمر سبحانه يتربص أربعة أشهر بعد الرفع إلى الحاكم فإمّا أن يرجع الزّوج أو يطلق لأنّ الله تعالى لا يرضى بالظلم.

٣٩٦

التفسير

٢٢٦ ـ قوله تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ).

مادة الإيلاء والإلية تأتي بمعنى : الحلف المقتضي للتقصير فيما يحلف.

وشرعا : الحلف المانع عن مقاربة المرأة ومباشرتها ، وله أحكام خاصة في السنة المقدسة ، وقد وضع الفقهاء له كتابا مستقلا.

وهاتان الآيتان وردتا في تشريعه وبيان بعض أحكامه ، ولم يرد في القرآن الكريم غيرهما في الإيلاء.

والمجرور الموصول (لِلَّذِينَ) في محلّ رفع على أنّه خبر مقدم لقوله تعالى : (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ).

والإيلاء من شأنه أن يتعدّى ب (على) ولكنّه في المقام عدّي ب (من) لتضمنه معنى البعد والابتعاد ولذلك يعتبر في الإيلاء أن يكون على قصد الإضرار بالزوجة.

قوله تعالى : (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ).

مادة (ر ب ص) تأتي بمعنى الانتظار لما يرجى حدوثه أو زواله ولهذه المادة هيئات كثيرة في القرآن الكريم قال تعالى : (هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا

٣٩٧

فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) [التوبة ـ ٥٢] ، وقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور ـ ٤٠] ، وقال تعالى حكاية عن شأن المنافقين : (يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) [الحديد ـ ١٤] ، إلى غير ذلك من الآيات المباركة ، والمراد به في المقام مطلق المكث والتأمل.

ولم يضف سبحانه وتعالى التربص إليهنّ كما في آية الطلاق : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة ـ ٢٢٨] ، ولا إليهم لعدم اختصاص ذلك بأحدهما بل هو شامل لكلّ واحد منهما ومشترك بينهما.

أي : أنّ هذه المدة حق ثابت لهما لا يطالب فيها الفيئة أو الطلاق بل هي أمد مضروب للمباشرة والمقاربة.

قوله تعالى : (فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

الفيء : الرجوع إلى حالة محمودة. أي : إن رجعوا عن حلفهم إلى احقاق حق المرأة والوفاء بما أوجب الله تعالى عليهم من حقّها يغفر الله تعالى لهم لأنّ الله غفور رحيم.

والحلف على ترك المباشرة والوطي للإضرار بها مخالف لأمر الله تعالى ، فيغفر الله عزوجل هذه المخالفة بواسطة رجوعه الذي يعتبر كالتوبة ولكن ذلك لا يوجب سقوط الكفارة لأنّها لتدارك المنقصة ـ الحاصلة من عمل غير المرغوب شرعا ـ سواء كانت ذنبا أو نحوه.

٢٢٧ ـ قوله تعالى : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

العزم والعزيمة : إرادة إيجاد الشيء جامعا للشرائط المعتبرة فيه ، أي إن أوقعوا الطلاق فإنّ الله سميع لأقوالهم ـ ومنها الإيلاء والطلاق ـ عليم بأحوالهم ومكنون أسرارهم ، ويستفاد من الآية المباركة تفضيل الفيئة والرجوع على الطلاق حيث وعد لهم المغفرة والرحمة إن فاؤا.

٣٩٨

بحوث المقام

بحث دلالي

لعلّ وجه تعقيب الآية المباركة بقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أنّها مشتملة على حكم من الأحكام الإلهية فيتناسب ذكر السمع والعلم وأما في قوله عز شأنه : (فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) إنّه في معرض بيان فعل المكلف الذي يمكن أن يشتمل على الإثم فيناسب ذكر الغفران والرّحمة ولذلك نظائر كثيرة في القرآن العظيم.

ثم إنّه جلّ شأنه جعل الحد الأقصى للإيلاء أربعة أشهر ـ وهي المدّة التي حدّدها الشارع الأقدس لمطلق المباشرة الجنسية للرجل ـ إما مراعيا جانب المرأة حتّى لا تقع في حرج أو فساد فتأوي إلى غير زوجها وتهين عفتها وتهتك ما حدّده الله تبارك وتعالى عليه لأجل رفع حاجتها الفطرية فحينئذ قرّر الشارع بعد الفترة المحدّدة إمّا برجوع زوجها أو طلاقها.

أو أنّ تلك المدّة كافية غالبا لاختبار الرّجل نفسه فإمّا أن يفيء ـ ويستأنف حياته الزّوجية ـ أو يظلّ في نفرته وفي هذه الصورة لا بد من الطلاق حتى ترد إلى الزوجة حريتها التامة لاختيار حياة زوجية أخرى مع شخص آخر.

٣٩٩

وعلى أية صورة إنّ الطبايع وإن كانت تختلف في كلّ منهما ولكنّ التربص في تلك المدة كاف لتهيئة الحياة الزوجية وفي الأكثر منها ضرر بالنسبة إلى المرأة أو نفس الرّجل هذا مع قطع النظر عن جانب التعبد والانقياد.

٤٠٠