مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٦

مس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء وكلّ من مس متاعا تجلس عليه يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء وإن كان على الفراش أو على المتاع الذي هي جالسة عليه عند ما يمسه يكون نجسا إلى المساء وإن اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام كلّ فراش يضطجع عليه يكون نجسا» وقد أخذ العرب بعض الأحكام من اليهود فشدّدوا على الحائض فكانوا في الجاهلية لا يساكنونها ولا يؤاكلونها.

وبين الإهمال والتهاون كما عليه النصارى ، فالإسلام أخذ الطريق الوسط وأوجب اعتزال النساء في محل الدم فقط وحرم إتيانه في وقت الحيض وأباح سائر الاستمتاعات ومعاشرتهنّ ومخالطتهنّ.

ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) لأنّ المحيض الأول بالمعنى المصدري ويراد من الثاني مكان الحيض أو زمانه فهو غير المعنى الأول فلا يصح عود الضمير إليه.

ثم إنّه تعالى قدم قوله : (قُلْ هُوَ أَذىً) وهو كالعلة لما يأتي ويترتب عليه الحكم بوجوب الاعتزال عنهنّ وعدم المقاربة معهنّ في محل الدم.

قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ).

المراد من القرب : خصوص الوطي ، وهو في مقابل البعد ، لأنّ من أدب القرآن الكريم الكناية عما يستقبح ذكره بألفاظ أخرى حسنة كقوله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) [البقرة ـ ١٨٧] ، وهذا دليل على أنّ المراد من الاعتزال خصوص المجامعة في موضع الدم وإنّما جيء به تأكيدا للاعتزال وبيانا له.

وقوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) بالتخفيف هي القراءة المعروفة بين المسلمين وهو المرسوم في المصاحف المتداولة وهو ظاهر في انقطاع الدم أي : حتى يخرجن من الحيض بانقطاع الدم عنهنّ.

ويكون الأمر بالاعتزال مقيّدا بحصول نقاء المحل ، والغاية في عدم القرب

٣٦١

هي انقطاع الدم والطهر بعد الحيض ولو لم تغتسل المرأة ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) وهو المناسب للتعليل في صدر الآية المباركة وهو المشهور بين المسلمين.

وقرئ بالتشديد أي : يطهّرن بالغسل بعد نقاء المحل من الدم وهو ظاهر في الاغتسال عن حدث الحيض وتكون الغاية حينئذ في وجوب الاعتزال الغسل ولا يكفي نقاء المحل فقط. وهذه القراءة شاذة لا عبرة بها مضافا إلى أنّ فيها تكلّفا زائدا لم يعلم ثبوته شرعا فيشمله قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «رفع عن أمتي ما لا يعلمون».

قوله تعالى : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ).

أي : فإذا تطهّرن بالنقاء أو بالغسل فلا محذور لكم في مقاربتهنّ على النحو الذي أراده الله تعالى من النكاح ، وقد كنّى سبحانه وتعالى عن الجماع بالإتيان كما يقتضيه الأدب القرآني.

والتفريع لأجل بيان إباحة الوطي بعد تحريمه حال الحيض ولا يكون تكرارا كما ذكره بعض المفسرين.

والظاهر أنّ المراد من قوله تعالى : (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) مطلق ما كتبه الله في هذا الموضوع وهو ابتغاء النسل والذرية وبقاء النوع لا مجرّد التلذذ من الزّواج وفي سياقه قوله تعالى : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [البقرة ـ ١٨٧].

ويكون المعنى : فأتوهنّ من حيث الوظائف الشرعية التي جعلها الله تعالى لكم في هذا الأمر العظيم الذي هو منشأ حياتكم وبقاء نوعكم فإنّ للنكاح أهمية عظمى في الشريعة الإسلامية التي لم تدع جانبا من جوانبه وجهة من جهاته.

ولم يكن النّكاح في نظر الشرع مجرد لهو ونزوة كما ينزو حيوان على آخر وإعمالا للقوة الشهوية بل أراد ما هو أعظم وأنبل من ذلك وتكفي وصية نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلى عليّ (عليه‌السلام) المعروفة التي ذكر فيها بعض آداب النكاح وأحكامه والتي إذا روعيت كان لها الأثر العظيم في تنظيم

٣٦٢

النسل وسعادة الحياة الزوجية وقد أيد كثيرا منها العلم الحديث ولعلّه يكشف عن سائر ما جاء به الإسلام في المستقبل.

وقد ذكر المفسرون والفقهاء في تفسير هذه الآية وجوها بعيدة عن سياقها

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ).

الحب في المقام : بمعنى الأجر والثواب والتأييد ، وهو من صفات فعله تعالى. نعم ، حبه تعالى لذاته بذاته هو عين ذاته ، وقد تقدم الفرق بين صفات الفعل وصفات الذات في أحد مباحثنا السابقة.

والتوبة : هي الرجوع بعد الانحراف والبعد ، وتوبة العاصي هي الرجوع إلى الله تعالى بعد البعد عنه بفعل المعصية.

والمتطهّر : هو الآخذ بالطهارة والمتنزه عن القذارة والنجاسة ، وإتيان الأحكام الإلهية بالايتمار بأوامره تعالى والانتهاء عن نواهيه هو تطهر من المكلّف عن قذارة ارتكاب المنكرات والمخالفة ، وتوبة منه إلى الله تعالى ولأجل ذلك ذكر سبحانه هذه الجملة في ختام هذا الحكم.

وإطلاق قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) يشمل جميع مراتب التوبة من صغائر الذنوب وكبائرها ، وإنّ المبالغة تفيد مطلوبية الاستمرار وكثرتها مطلقا.

كما يشمل جميع مراتب التطهر وكثرته ومن حيث العدد والنوع فيهما لمطلوبية التوبة والطهارة ذاتا وهما من المحسّنات العقلية التي رغب الشرع إليهما ، والله يحب ما هو حسن ذاتا وما هو محبوب الجميع.

وإنّما قدم سبحانه التوبة على الطهارة لتقديم تطهير الروح والباطن على تنظيف الجسم والظاهر بل الثاني طريق إلى الأول والجمع بينهما لبيان أنّ أحدهما بدون الآخر لا أثر له فلا فائدة في التوبة إذا لم يراع فيها جهات الطهارة الظاهرية وكذا بالعكس.

٢٢٣ ـ قوله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ).

٣٦٣

الحرث : هو تهيئة الأرض للبذر وإلقاؤه فيها وزراعتها ويطلق الحرث على المحروث قال تعالى : (أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) [القلم ـ ٢٢] ، وقال تعالى : (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) [البقرة ـ ٢٠٥].

ولفظ أنّى من المبهمات سواء في الزّمان أو المكان ولكن استعماله في الزّمان أشهر. وقيل باستعماله في كلّ منهما في المقام أي أين شئتم ، أو في أيّ محلّ شئتم ، ولكن من إيكال الحكم إلى المشيئة ـ وهي غير محدودة بحد إلا ما نهى عنه الشرع ـ يستفاد التوسعة في إتيان النساء من حيث المكان والزمان.

وذكره بعد اية المحيض لأجل بيان خروج زمان الحيض فإنّه لا استعداد فيه للحرث وغشيان النساء لأنّه أذى لهنّ ، وفيه من القذارة التي يحب الله التطهير منها. فنسبة هذه الآية نسبة الشرح للآية السابقة فتكون مطلقة من حيث الزمان والمكان إلا ما نهى عنه الشرع المبين.

فالآية واضحة في دلالتها على التوسعة ، فلا وقع للبحث عن أنّ كلمة (أنّى) زمانية أم مكانية ، بل هي بمعنى ما شاء لتشمل الجميع بقرينة عموم المشية وإطلاقها وعمومات الحلية والإباحة ، ولا نحتاج إلى أقوال اللغويين أو المفسرين وإعمال الترجيح بينها ، ولا فرق بين ملك الانتفاع المطلق ، والمنفعة المطلقة ، وملك الذات من هذه الجهة ، ويدل عليه قول جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) : «لك أن تستمتع بكلّ جزء منك من كلّ جزء منها». نعم ، هناك موارد استثناها القرآن الكريم ، والسنة المقدسة ، والفقهاء وتعرضنا لها في الفقه بما لا مزيد عليه.

ومن تعليق الأمر بإتيان النساء على مشية المكلّفين واختيارهم يستفاد أنّ الأمر للإباحة دون الوجوب.

كما يستفاد من تشبيه المرأة بالحرث في الآية الكريمة أمور :

الأول : أنّ الإنسان يحتاج إلى الحرث لأنّه منشأ بقاء الحياة وحفظها ، كذلك النساء فإنّهنّ منشأ بقاء النوع ودوامه ببقاء النسل ، ولولاهما لنفذ النوع وزالت الحياة.

٣٦٤

الثاني : أنّ الحارث لما كان يلاحظ خصوصيات الحرث من حيث زمانه ومكانه ، إذ ليس كلّ أرض صالحة للحرث والزرع ، وليس كلّ زمان صالحا للزراعة كذلك لا بد أن يلاحظ في النساء هذه الجهة وهي من أهم جهات الحياة الزوجية وبدونها لم يحصل التعاطف ولم تتحقق المودة والمحبة بين الزوجين ، وقد حرص الإسلام على ملاحظة هذه الجهة ، والعقل يقضي بذلك أيضا.

الثالث : لزوم مراعاة الجهات الخارجية في الحرث : من سقي الماء والتحفظ عن حوادث الجو وغير ذلك ، كذلك لا بد من مراعاة أحوال النساء وملاحظة الزوجة التي يريد أن يختارها لعشرته والمخالطة معها فلا تقتصر على خصوص أمور خارجة كالجمال والمال ونحو ذلك التي لا ترتبط بسعادة الحياة الزوجية وتنشئة الأولاد وتربيتهم.

الرابع : عدم تحميل الأرض ما يضرّها من كثرة الماء وزيادة البذر ، فإنّه وإن أوجب الانتفاع بذلك عاجلا لكنّه يضرّ بها آجلا وهكذا حال المرأة في كلّ ما يتعلق بها من الاستمتاعات.

الخامس : مراعاة البذر في الحرث بالحفظ والتنمية كذلك لا بد من مراعاة المرأة وما في رحمها من البذر الإنساني فإنّ احتياج المجتمع الإنساني إلى النساء لأجل بقاء النوع ودوام النسل كما يحتاج إلى الحرث في إبقاء البذور ، وتحصيل الغذاء للإنسان لحفظ حياته فجعل الله تبارك وتعالى رحم المرأة منشأ تكوّن الإنسان كما جعل في الرجل المادة الأصلية ، فكلّ واحد من الزوجين يكمّل الآخر ويستعين به في رفع الحاجات ، وقد جعل الله بينهما مودة ورحمة يخدمان النوع خدمات شرعية.

السادس : أنّ الحارث مسلّط على الأرض بأنحاء التعمير والاستفادة منها ، لأنّ الحرث وسيلة لبقاء النّوع وهو غير مقيّد بوقت كذلك الزوج مسلّط على الانتفاع من الزوجة في أيّ وقت شاء بأيّ كيفية أراد بحسب الوظيفة الشرعية.

السابع : أنّ بهجة الأرض وخضرتها وزيادة زرعها مما يوجب انبساط الحارث وفرحه كذلك جمال الزوجة ونظافتها ونزاهتها الفاضلة من موجبات فرح

٣٦٥

الزوج وانبساطه ورغبته على الحياة الزوجية. وغير ذلك مما هو منشأ لحسن هذا التشبيه والتنزيل.

ثم إنّ إعطاء هذه السلطة الانتفاعية المطلقة للزوج وتسليطه عليها يستلزم في جملة من النفوس التعدي عن الحقوق التي لا بد للزوج من مراعاتها بالنسبة إلى الزوجة ، ولذلك أمرهم بالتقوى ، وأنذرهم على المخالفة ، ووعد المؤمنين بالبشارة.

قوله تعالى : (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ).

أي : عاملوا النساء معاملة إذا ظهرت يوم عرض الأعمال تكون زينا لكم ولا تكون شينا فتنتفعوا منها في الدنيا والآخرة ، فإنّ الله تعالى يراكم فعلا ، ويوم ظهور الأعمال وسرائر النفوس تتمثل أمامكم أعمالكم ، فإن أحسنتم لهنّ أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها.

وأكد سبحانه ذلك بقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) وبقوله جلّ وعلا : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) وفي سياق ذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) [الحشر ـ ١٨].

ويمكن أن يكون المراد من قوله تعالى : (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) هو التقديم في الدنيا بالاستيلاد وإنجاب الأولاد لبقاء المجتمع الإنساني الذي يكر على أفراده الفناء والموت وببقائه يبقى الدّين الإلهي وتتحقق عبادة الله تعالى ويظهر توحيده عزوجل ، وذلك يتطلب تنشئة الأولاد صالحين قد تربوا على دين الحق والأخلاق الفاضلة ، ويكون فيهم بقاء ذكر الآباء وبقاء للنسل الذي طلبه الله تعالى من الزواج ، فيكون تقديم الأولاد الصّالحين من تقديم العمل الصالح الذي طلبه الله عزوجل ، والأمر بالتقوى لأجل عدم تعدّي حدود الله تعالى وانتهاك حرماته.

قوله تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ).

أي : لا بد أن يكون عملكم عمل من أيقن بملاقات الله تعالى وهو يجازيه على أعماله خيرا كان أو شرّا وكل من علم بأنّه يلاقي المحاسب المرتقب لا

٣٦٦

يتساهل في تهيئة نفسه للحساب.

وفي الآية المباركة إرشاد إلى مراقبة النفس ، والتحفظ على الأعمال لئلا يصدر العمل عن غفلة ، وفيها من التوعيد على المخالفة ما لا يخفى.

قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).

وعد منه تعالى لأهل الإيمان الذين يراعون أحكام الله تعالى ويراقبونه في أعمالهم وفيه إرشاد إلى أنّ الخوف من الله تعالى والتقوى من لوازم الإيمان.

وهذه الآية تدل على أنّ لكلّ واحد من الزوجين حقّا على الآخر يحاسبه الرقيب ، وهي أعظم اية في تشريع قانون الزواج والتأكيد في مراعاة حق الزوجة وفي السنة الشريفة ما يفسر ذلك فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «أحبّكم عند الله أحسنكم إلى زوجته» ولا يعقل أن يكون قانون أضبط وأشمل لحقوق الزوجية من هذه الآية. ولم تصل الإنسانية في أمر الزواج إلى هذا المستوى من الانحطاط ولم يتحمل المجتمع الإنساني من الآلام والمتاعب في الحياة الزوجية إلا لأجل الإعراض عما أنزله الله تعالى فيها.

٣٦٧

بحوث المقام

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على أمور :

الأول : يستفاد من قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً) أنّه كان في الحيض عادة متبعة عندهم إما شديدة قاسية عليهم كما كانت اليهود تفعله بالنسبة إلى النساء عند عروض الحيض أو مهملة وبسيطة كما كانت تفعله النّصارى ، أو بعض العرب من رجحان إتيان النساء في هذه الحال.

وفي الجواب كان الحكم الشرعي الذي يعتبر وسطا بين تلك العادات.

الثاني : يدل قوله تعالى : (قُلْ هُوَ أَذىً) على جميع ما يتعلق بهذا الدم من الآثار الصحية والنفسية بالنسبة إلى الحائض وما يتعلق بالنسبة إلى الزوج الذي يمنعه هذا الدم من أهم الاستمتاعات وما يتعلق بالنطفة إن فرض انعقادها في هذه الحالة. فتشمل هذه الجملة الفصيحة الموجزة على كثير مما يذكره الأطباء وغيرهم في هذا الدم.

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَ) الأخذ بالاحتياط في هذا الأمر فإنّه وإن كان كناية عن إتيان النساء إلا أنّه يدل على شدة الاهتمام

٣٦٨

لأنّه يصير الإنسان في حالة تغلب عليه الشهوة فلا يتوجه إلى فعله كما هو واضح.

الرابع : يدل قوله تعالى : (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) على أنّه وراء هذا الحكم الشرعي أمر مكتوب من عند الله جعله في الزواج الذي لا بد من ابتغائه في هذه الحياة لتسلم عن المشكلات وتبتعد عن الشقاء.

وإطلاقه يشمل ما أمره الله من حيث كيفية المعاشرة والمخالطة ، وحسن الأخلاق ، وابتغاء النّسل الصّالح وغير ذلك مما له دخل في هذه الحياة التي أحبّ الله تعالى أن تكون هنيئة سعيدة.

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) الجانب الخلقي في الأحكام الشرعية التي أنزلها الله تعالى من حيث إنّها جاءت لتكميل النفوس الناقصة بإتيان ما أمره الله تعالى والانتهاء عن نواهيه وتطهيرها عن القذارات المعنوية بالابتعاد عن سفاسف الأمور ورذائل الأخلاق.

السادس : يستفاد من صيغة الجمع في التوابين والمتطهرين والمبالغة فيهما تعميم التوبة والتطهير بالنسبة إلى جميع الذنوب صغائرها وكبائرها وتكرارها والإدامة عليها بالاستغفار أو بإتيان الوظائف الشرعية وحسن التطهير عن جميع القذارات الحسية والمعنوية كالأخلاق الرذيلة والعلوم الباطلة والإدامة على الطهارة وتكرارها.

السابع : يستفاد من قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) حسن الثواب لمن يتبع أوامر الله تعالى وينتهي بنواهيه لا سيّما في المقام الذي تهيج فيه القوى الشهوية والنزوات الشيطانية ، ولذا ورد في بعض الأخبار أنّ المرأة إذا عملت بوظائفها حال الحيض يكون ثوابها كثواب الشهيد في سبيل الله تعالى.

الثامن إنّما كرّر سبحانه وتعالى «الحب» لبيان تعدد الموضوع والاهتمام بهما ، وهما قد يجتمعان وقد يفترقان. مع أنّ تكرار لفظ الحب محبوب في حد نفسه وأنّه يوجب زيادة الترغيب.

٣٦٩

التاسع : يستفاد من قوله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) احتياج المجتمع الإنساني في بقاء النوع إلى النساء كاحتياجهم إلى الزرع ، وأنّهنّ الجزء المكمّل لهذا المجتمع بل الأصل في مادته ، وبالتآلف معهنّ تتم الحياة السعيدة وفي هذا التعبير كمال العطف بهنّ وفيه من حسن الأسلوب وروعة البيان ما لا يخفى.

العاشر : يدل قوله تعالى : (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ) الاهتمام بتربية الأولاد ، لأنّهم أهمّ شيء يقدمه الإنسان لنفسه كما قال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : ولد صالح يستغفر له ، وصدقة جارية ، ومصحف يقرأ فيه» وفي قوله تعالى : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) [البقرة ـ ١١٠] ، بيان وشرح لمثل هذه الآية.

الحادي عشر : إطلاق قوله تعالى : (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ) يشمل جميع ما يصلح لأن يقدم للآخرة من الأعمال الصالحة أو الأخلاق الفاضلة أو المعتقدات الحقة كما يستفاد منه كمال الترغيب إلى ذلك والاهتمام بالتقوى.

الثاني عشر : يستفاد من قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) نهاية الاهتمام بمراقبة النفس والتحذير وعن المعاصي كما يستفاد البشارة لمن عمل بذلك وأنّ مراقبة النفس والعمل بالأحكام الإلهية من مقوّمات الإيمان وتدل على ذلك آيات كثيرة.

٣٧٠

بحث فقهي

يستفاد من الآيات الشريفة ما يلي من الأحكام الفقهية :

الأول : الحيض دم يخرج من الرحم ذو أوصاف معلومة تختلف باختلاف الأمزجة والأمكنة والأزمنة وقد حددته الشريعة الإسلامية بحدود خاصة وقيود مخصوصة وردت في السنة المقدسة ، وشرحها الفقهاء بما لا مزيد عليه تعرضنا لها في كتابنا (مهذب الأحكام).

وهو يختلف عن كلّ دم خارج عن الرّحم تراه المرأة كالنفاس والاستحاضة ودم العذرة ، ولا فرق في حصول الحيض بين أن يكون طبيعيا أو بالعلاج والمناط تحقق شرائطه المعتبرة شرعا.

والحيض من الحدث الأكبر وهو ما يوجب الغسل كالجنابة ، والنفاس ، وكذا بعض أقسام الاستحاضة ، فلا يرتفع حدث الحيض إلا بالغسل ولا يكفي تطهير المحل.

الثاني : الطهارة والنجاسة من الأمور الشايعة عند الناس بلا اختصاص لهما بقوم دون آخرين أو ملة دون أخرى.

وهما ناشئتان عن وجدان الأشياء ما يوجب تنفر الطبع والرغبة عنها ، أو ما يوجب الإقبال والرغبة إليها ، وهذا المنشأ وإن كان بادئ الأمر محسوسا ولكنّ الإسلام عمّهما بالنسبة إلى المحسوسات والمعقولات كالأخلاق والعقائد والأقوال

٣٧١

والأفعال ونحو ذلك.

والنجاسة : هي القذارة المحدودة شرعا. والطهارة : صفة خاصة تنافي النجاسة وهي إما ظاهرية ـ التي تحصل من زوال النجاسة والتجنب عنها ـ أو معنوية ولها مراتب كثيرة قال تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) [المدثر ـ ٥] ، وقال تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب ـ ٣٣] ، وقال تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [الواقعة ـ ٧٩].

فكما أنّ ظاهر البدن واللباس يستقذر بالقذارات الظاهرية فلا بد في تطهيرهما بالكيفية المقررة في الشريعة الإسلامية ، كذلك تستقذر الروح بالمعاصي والذنوب والأخلاق الرذيلة ولا بد من تطهيرها بالإيمان والتوبة والاجتناب عما يوجب التنفر والكراهة وإلا حصل التباعد بينها وبين المبدأ الفياض فتبتعد عن محالّ القدس ، وتخرج عن الصراط المستقيم وتهوي أخيرا إلى سواء الجحيم وقد اهتم الإسلام بكلّ منهما نهاية الاهتمام وكماله.

والطهارة في جميع الكتب السماوية تكون على قسمين : إما طهارة حدثية ، أو طهارة خبثية ، والأولى ترفع الأحداث وهي : الوضوء ، والغسل ، على ما هو المقرّر في الشرع الإسلامي. والثانية تزيل النجاسة الحاصلة بملاقاة إحدى الأعيان النجسة وهي في الشريعة الإسلامية إحدى عشرة : الدم ، والبول ، والغائط ، والمني من الإنسان وبعض الحيوانات ، والميتة ، والكلب ، والخنزير البريان ، والمشرك ، والمايع من المسكر على ما هو مفصّل في الفقه.

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) أنّ المحرّم هو إتيان النساء في محلّ الحيض فقط ، لاختصاص العلة التي ذكرها سبحانه في الآية الشريفة بهذا الموضع ، فيحرم الجماع في الفرج لا مطلق التلذذ والتمتع والمعاشرة ويكون ذلك حدّا وسطا بين تحريم مطلق المعاشرة مع الحائض كما يفعله اليهود وبعض العرب وبين الإباحة المطلقة كما يفعله النّصارى أو بعض مشركي العرب الذين كانوا يستحبون المعاشرة معهنّ في هذا الوقت.

٣٧٢

الرابع : ربما قيل بدلالة قوله تعالى : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) على حرمة إتيان النساء من أدبارهنّ ، ولكنّه فاسد ، لأنّ الآية وردت لبيان حكم خاص في حالة مخصوصة ولا دلالة لها على شيء آخر إلا بضميمة مفهوم اللقب ، أو أنّ الأمر يقتضي النّهي عن ضده. وقد أثبتنا بطلان كلّ منهما في الأصول ومن شاء فليراجع كتابنا (تهذيب الأصول).

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) التوسعة في إتيان النساء وجواز الاستمتاع من الزوجة من حيث المكان والزمان إلا ما ورد النّهي عنه شرعا ، وإطلاق الآية المباركة يشمل جواز إتيان الزوجة قبلا ودبرا وهو المشهور بين فقهاء الفريقين والمسألة مذكورة في كتب الفقه مفصّلة.

السادس : ربما قيل بأنّ إطلاق قوله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) يدل على جواز العزل عند الجماع.

ولكنّه موهون جدّا لأنّ الإطلاق إنّما يؤخذ به إذا كان في مقام البيان ومع العدم أو الشك في البيان لا يمكن التمسك به كما ثبت في علم الأصول.

السابع : يدل قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) على كفاية نقاء المحل ولو بملاحظة مجموع الآية بصدرها وذيلها بعد رد بعضها إلى بعض كما هو الشأن في استفادة حكم من الأحكام الشرعية من الأدلة.

٣٧٣

بحث روائي

في الدر المنثور في قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) قال : «الذي سأل عن ذلك أبو الدحداح وهو ثابت بن الدحداح».

وفي أسباب النزول للواحدي عن أنس : «أنّ اليهود كانت إذا حاضت منهم امرأة أخرجوها من البيت فلم يواكلوها ، ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيت فسئل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن ذلك فأنزل الله عزوجل : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) ـ الآية ـ فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : جامعوهنّ في البيوت واصنعوا كلّ شيء إلا النكاح ، فبلغ ذلك اليهود ، فقالوا : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن خضير ، وعباد بن بشر فقالا : يا رسول الله إنّ اليهود قالت كذا وكذا أفلا نجامعهنّ؟ فتغيّر وجه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حتى ظننا أن قد وجد عليهما فخرجا ، فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فأرسل في أثرهما فسقاهما فعرفنا أنّه لم يجد عليهما».

أقول : روى مثله أحمد والدارمي ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وأبو يعلى ، وابن المنذر ، وأبو حاتم ، والنحاس في ناسخه ، وأبو حيان ، والبيهقي في سننه عن أنس. وتقدم في التفسير ما يدل على صحة ما

٣٧٤

ورد في الرواية من التوراة.

في الكافي : «سئل الصادق (عليه‌السلام) ما لصاحب المرأة الحائض منها؟ فقال (عليه‌السلام) : كلّ شيء ما عدا القبل بعينه».

وفيه أيضا عنه (عليه‌السلام) : «فليأتها حيث شاء ما اتقى موضع الدم».

أقول : الروايات في هذا المعنى متواترة.

في الكافي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «المرأة ينقطع عنها دم الحيض في آخر أيامها قال (عليه‌السلام) : «إذا أصاب زوجها شبق فليأمرها فلتغتسل فرجها ثم يمسها إن شاء قبل أن تغتسل. وفي رواية والغسل أحبّ إليّ».

أقول : في سياقها روايات أخرى تدل على أنّ المراد بالتطهير انقطاع الحيض لا الاغتسال ، وهي تؤيد قراءة (يَطْهُرْنَ) بالتخفيف.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) أي اغتسلن.

أقول : هذا محمول على الاستحباب جمعا بين الروايات فيجوز الوطي بعد النقاء وإن كان الأفضل أن يكون بعد الغسل.

وأما ما يقال من ظهور لفظ التطهر في الغسل لأنّه ظاهر في الأمر الاختياري. فهو مخدوش أولا لكونه أعم من ذلك كما لا يخفى.

وثانيا : الروايات في شرح الآية الكريمة تكون قرينة على أنّ المراد هو النقاء من الحيض فلا وجه لتعيّن هذا الاستظهار بعد الجواز قبل الغسل وكون الغسل أحب كما ورد في الحديث السابق.

في التهذيب عن عبد الله بن أبي يعفور عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) قال (عليه‌السلام) : «هذا في طلب الولد فاطلبوا الولد من حيث أمركم الله ، إنّ الله تعالى يقول : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ).

٣٧٥

أقول : الحديث يبيّن أنّه لا تنافي بين صدر الآية وذيلها فإنّ طلب الولد على ما أمره الله تعالى شيء والتمتع بالزوجة شيء آخر.

في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) قال (عليه‌السلام) : «كان الناس يستنجون بالكرسف والأحجار ثم أحدث الوضوء ، وهو خلق كريم فأمر به رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وصنعه وأنزل الله في كتابه : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ).

أقول : يستفاد من الحديث أنّ الاستنجاء بالكرسف والأحجار مجز أيضا ولكن التطهر الحاصل من الماء مبالغة في الطهارة وهي مما يحبه الله تعالى. والروايات في هذا المعنى كثيرة.

وفي الكافي أيضا عن محمد بن النعمان الأحول عن سلام بن المستنير قال : «كنت عند أبي جعفر (عليه‌السلام) فدخل عليه حمران بن أعين وسأله عن أشياء فلما همّ حمران بالقيام قال لأبي جعفر (عليه‌السلام) أخبرك أطال الله تعالى بقاءك لنا وأمتعنا بك أنّا نأتيك فما نخرج من عندك حتى ترق قلوبنا وتسلو أنفسنا عن الدنيا ويهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال ، ثم نخرج من عندك فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدّنيا قال : فقال أبو جعفر (عليه‌السلام) : إنّما هي القلوب مرّة تصعب ومرّة تسهل ، ثم قال أبو جعفر (عليه‌السلام) أما إنّ أصحاب محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قالوا : يا رسول الله نخاف علينا النفاق فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : ولم تخافون ذلك؟ قالوا : إذا كنا عندك فذكّرتنا ورغّبتنا وجلنا ونسينا الدّنيا وزهدنا حتّى كأنا نعاين الآخرة ، والجنة والنار ونحن عندك ، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت وشممنا الأولاد ورأينا العيال والأهل يكاد أن نحوّل عن الحال التي كنا عليها عندك وحتّى كأنا لم نكن على شيء ، أفتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقا؟

فقال لهم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : كلّا إنّ هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا ، والله لو تدومون على الحالة التي وصفتم أنفسكم

٣٧٦

بها لصافحتكم الملائكة ومشيتم على الماء ، ولو لا أنكم تذنبون فتستغفرون الله تعالى لخلق الله خلقا حتّى يذنبون فيستغفروا الله تعالى ، فيغفر لهم ، إنّ المؤمن مفتن تواب أما سمعت قول الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) وقال تعالى : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ).

أقول : أطوار القلوب وحالاتها في قربها إلى الله تعالى وبعدها عن غيره تارة والتوجه إلى الدّنيا أخرى معلومة لمن كان له قلب أو ألقى السّمع وهو شهيد ، وتدل على ذلك الأدلة الكثيرة العقلية والنقلية.

ولا ريب في أنّ طهارة القلب بالتوجه إلى الله تعالى والإعراض عن غيره نحو طهارة معنوية هي غاية استكمال الإنسان ، والطهارة الظاهرية من طرق حصولها وكلّ منهما محبوبة لدى الله تعالى.

والمراد من قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لو تدومون على هذه الحالة» أي : الانقطاع إلى الله تعالى والانقلاع عن غيره وهي العبودية الخالصة التي لا يشوبها شيء ، وقد تقدّم بعض الكلام فيها في قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) [البقرة ـ ١٢٤].

وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لو لا أنّكم تذنبون فتستغفرون الله تعالى لخلق خلقا حتى يذنبوا فيستغفروا الله تعالى فيغفر لهم» إشارة إلى قاعدة أثبتها الفلاسفة الإلهيّون والعرفاء : أنّ جميع ما في هذا العالم مظهر من مظاهر أسمائه تعالى المقدّسة ، فلو لم يتحقق الذنب لم يتحقق العفو والغفران والتوبة بالنسبة إليه عزوجل ، فمن لوازم هذه الأسماء المقدّسة تحقق الذنب مع أنّه بنفسه يوجب استكانة المذنب عند ربه وطلبه العفو والغفران منه. والحديث يشرح الطهارة المعنوية.

في تفسير العياشي والقمي في قوله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) عن الصادق (عليه‌السلام) : «أي متى شئتم في الفرج».

وفي تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن الرجل يأتي أهله في دبرها فكره ذلك وقال : إياكم ومحاشي النساء

٣٧٧

وقال إنّما يعني (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) : أيّ ساعة شئتم».

وفي تفسير العياشي عن معمر بن خلاد في قوله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) عن أبي الحسن الرضا (عليه‌السلام) أنّه قال : «أي شيء تقولون في إتيان النساء في أعجازهنّ؟ قلت : بلغني أنّ أهل المدينة لا يرون به بأسا قال (عليه‌السلام) : إنّ اليهود كانت تقول إذا أتى الرجل من خلفها خرج ولده أحول فأنزل الله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) يعني : من خلف أو قدام خلافا لقول اليهود ولم يعن في أدبارهنّ».

أقول : يستفاد من مجموع الأخبار الواردة في هذه الآية أنّ كلمة (أَنَّى) تستعمل في الأعم من الزمان والمكان والمحلّ وهو صحيح مطابق لعموم اللفظ. نعم ، هناك بحث آخر مستقل أنّ إتيان النساء من أعجازهنّ هل يجوز أو يحرم أو يكره؟ والمسألة مذكورة في الفقه والمشهور بين الإمامية الجواز مع الكراهة خصوصا مع عدم رضاها بذلك.

في الدر المنثور عن الدارقطني في غرائب مالك مسندا عن نافع قال : «قال لي ابن عمر : أمسك عليّ المصحف يا نافع : فقرأ حتّى أتى على : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) قال لي : تدري يا نافع في من نزلت هذه الآية؟ قلت : لا ، قال : نزلت في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها فأعظم الناس ذلك فأنزل الله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) قلت له : من دبرها في قبلها قال : «إلا في دبرها».

أقول : ذكر ابن عبد البر الرواية بهذا المعنى عن ابن عمر معروفة عنه مشهورة.

وفيه أيضا : أخرج ابن راهويه وأبو يعلى وابن جرير والطحاوي في مشكل الآثار وابن مردويه بسند حسن عن أبي سعيد الخدري : «أنّ رجلا أصاب امرأته في دبرها فأنكر الناس عليه ذلك فأنزلت : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ

٣٧٨

فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ).

أقول : تدل على إباحة الوطي من الدبر روايات كثيرة عن الجمهور بعدة طرق.

وفيه أيضا عن الطحاوي عن عبد الله بن القاسم قال : «ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك في أنّه حلال ـ يعني وطي المرأة في دبرها ـ ثم قرأ : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) ـ الآية ـ ثم قال : فأيّ شيء أبين من هذا؟».

في الدر المنثور أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال : «كانت الأنصار تأتي نساءها مضاجعة ، وكانت قريش تشرح شرحا كثيرا فتزوج رجل من قريش امرأة من الأنصار فأراد أن يأتيها فقالت : لا إلا كما يفعل فأخبر بذلك رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فأنزل الله تعالى : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أي قائما وقاعدا ومضطجعا بعد أن يكون في صمام واحد».

أقول : روي قريب من ذلك عن الصحابة بعدة طرق والمراد من الشرح : وطي المرأة نائمة على قفاها ، والمراد من الصمام : الفرج.

في تفسير القرطبي عن عمرو بن دينار قال : سمعت سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : «سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهو يخطب يقول : إنّكم ملاقو الله حفاة عراة مشاة غرلا. ثم تلا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : واتقوا الله واعلموا أنّكم ملاقوه».

أقول : أخرج قريبا منه مسلم في صحيحه. والغرل جمع أغرل : وهو الأغلف أي غير مختون. والوجه في ذلك ثبوت المعاد الجسماني بجميع الأجزاء والخصوصيات التي كان الجسم عليها.

٣٧٩

بحث اجتماعي

ذكرنا أنّ الحيض في النساء من الأمور الطبيعية كسائر الأمور التكوينية المتعلقة بالإنسان ـ الرجال والنساء على حدّ سواء ـ كالتنفس والصحة ، والمرض ونحو ذلك إلا أنّها تختلف من حيث إنّ بعضها فيه نوع من الأذية ويتنفر الطبع منه ، والبعض الآخر ليس كذلك والإنسان مركب منهما وهذا معلوم لكلّ أحد.

والحيض من القسم الأول فهو أذى للنساء كما نطقت به الآية الشريفة. ولكن ذلك لا يوجب الحطّ من منزلة المرأة في المجتمع الإنساني ، فإنّها والرجل عضوان منه يشتركان في بقائه وتحقيق مقاصده وأغراضه ، ويتحمل كل واحد منهما المسؤولية الملقاة على عاتقه فيه ، ويسعيان في سعادته أو شقاوته. مضافا إلى ذلك أنّ بالرجل والمرأة تقوم الحياة الزوجية التي هي أساس المجتمع الإنساني.

هذا هو نظر الإسلام إلى المرأة ، لا كما تراه الأقوام البدائية التي لم تجعل لهنّ أي دور بارز في المجتمع ، وما عليه المدنية الحاضرة التي جعلت المرأة مبتذلة يخذها الرجل العوبة في تحقيق مآربه وأغراضه مما أوجب صرفها عن المسؤولية التي جعلها الله تعالى عليها.

والآية المباركة التي تقدم تفسيرها تكشف عن جوانب متعددة مما يراه

٣٨٠