مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٦

العاقل يستفيد أنّه تعالى نفى عنهما جميع المنافع لما أثبت الإثم الكبير فيهما ، فإنّ المنافع إما دنيوية أو أخروية ، ولا وجه لثبوت الأخيرة مع وجود الإثم الكبير بل لا يمكن اجتماعهما في مورد.

وأما المنافع الدنيوية فهي إنّما يرغب إليها الإنسان إذا جلبت له الخير أو دفعت عنه الضّرر وهما منفيان في الخمر والميسر سوى ما يتخيل من المنفعة اليسيرة الوهمية ولا يقدم عليها عاقل. ومن ذلك يستفاد أنّ الخمر والميسر يخلوان من الخير مطلقا.

وقد تصدّى العلماء في مختلف العلوم لذكر أضرارهما ومفاسدهما الفردية والاجتماعية ، فذكر الأطباء تأثير الخمر على صحة الإنسان وما تجلبه من الأسقام والآلام ، واعتبر علماء النفس الخمر من أشد الأشياء تأثيرا على النفس لأنّها تسبب الأمراض النفسية التي تعاود صاحبها حتّى الممات ، وقد بحث عنهما علماء الدّين من حيث تأثيرهما في سعادة الإنسان وشقاوته في الدنيا والآخرة.

وأما أضرارهما الاقتصادية فهي غير خفية على أحد حتّى اعتبرهما علماء الاقتصاد من الأسباب التي تعيق الكمال الاقتصادي في المجتمعات ولا أظنّ أنّ موضوعا كان له هذه الأهمية والتأثير من جوانب متعددة في حياة الإنسان المادية والمعنوية والصحية النفسية والعقلية الفردية والاجتماعية ، ولأجل ذلك ورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «أنّ الخمر رأس كلّ إثم».

وعن الباقر والصّادق (عليهما‌السلام) : «إنّ الله جعل المعصية بيتا ثم جعل للبيت بابا وجعل للباب غلقا ، ثم جعل للغلق مفتاحا فمفتاح المعصية الخمر» ، وعن الصادق (عليه‌السلام) : «إنّ الخمر أم الخبائث ورأس كلّ شر».

وعن الباقر (عليه‌السلام) : «أفاعيل الخمر تعلو على كلّ ذنب كما تعلو شجرتها على كلّ شجرة».

وعن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) : «إنّ الله جعل للشر أقفالا وجعل

٣٤١

مفاتيح تلك الأقفال الشراب».

وقد ألف العلماء في كلّ واحد من الخمر والميسر كتبا مستقلة تشتمل على فوائد جليلة من شاء فليرجع إليها.

وتحريمهما لا يختص بهذه الشريعة بل حرّمتهما جميع الأديان الإلهية ففي الحديث عن الصادق (عليه‌السلام) : «ما بعث الله نبيا قط إلا وفي علم الله أنّه إذا أكمل له دينه كان فيه تحريم الخمر ولم تزل الخمر حراما ، إنّ الدّين إنّما يحوّل من خصلة إلى أخرى ، فلو كان ذلك جملة قطع بهم (بالناس) دون الدّين».

ونحن نتكلّم في هذا البحث عن الجانب الخلقي للخمر وتأثيرها في الصفات الخلقية للإنسان إجمالا.

من المعلوم أنّه لم يخلق الله جلّ جلاله خلقا أعزّ وأشرف لديه من العقل الذي جعله مدار إنسانية الإنسان ، وبه امتاز عن سائر المخلوقات وفاق به عليها ، وهو مناط التكليف ، وعليه يدور الثواب والعقاب ، كما أنّ به يقوم الجزاء في يوم الحساب. وتدل على ذلك الأدلة الكثيرة العقلية والنقلية فكلّ ما يضاد العقل وينافيه ، أو يسلبه ويعاديه يكون من أبغض الأشياء لدى الله وجميع الأنبياء والمرسلين والملائكة أجمعين ، والخمر لا أثر لها إلا ذلك ، فهي أم الخبائث كما كنّاها به نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقد لعن شاربها :

فعن الصادق (عليه‌السلام) : «من شرب جرعة من خمر لعنه الله وملائكته ورسله والمؤمنون».

ومن غير المعقول أن يرتكب عاقل ملتفت أم الخبائث ، وما يزيل النظم والانتظام عما يصدر منه من أعمال جوارحيّة وأفكار جوانحيّة ، فعدّ شرب الخمر من المقبّحات العقلية أولى من عدّه من المحرّمات الشرعية ، مع أنّهما متلازمان كما ثبت في محلّه ، ويدل على ذلك قول الأئمة الهداة : «إنّ الله حرّم الخمر لفعلها وفسادها».

٣٤٢

فمن الآثار الخلقية المترتبة على شرب الخمر : أنّها تسلب لبّ شاربها وتجعل زمام عقله بيد الأهواء والنفس الأمارة ، فعن الصادق (عليه‌السلام) : «السّكران زمامه بيد الشيطان إن أمره أن يسجد للأوثان سجد وينقاد حيثما قاده».

ومن الآثار أنها تذهب الإيمان ، ففي الحديث عن يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «يا يونس أبلغ عطيّة عنّي أنّه من شرب الخمر حتى يسكر منها نزع روح الإيمان من جسده ، وركّبت فيه روح سخيفة خبيثة ملعونة».

وفي حديث آخر عن الصادق (عليه‌السلام) أيضا قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : مدمن الخمر يلقى الله يوم يلقاه كافرا» وفي كثير من الروايات : «أنّ مدمن الخمر يلقى الله كعابد وثن».

ومن الآثار : أنّ الخمر تذهب بنور شاربها فتستولي على قلبه الحجب الظلمانية فلا يعرف ربّه فيكون في حيرة وضلالة فيجسر على ارتكاب المحرّمات وتهون عليه المعاصي والآثام ، فعن ابن يسار عن الصادق (عليه‌السلام) : «إنّ شارب الخمر يصير في حال لا يعرف معها ربّه».

وعن الصادقين (عليهما‌السلام) : «ما عصي الله بشيء أشدّ من شرب المسكر إنّ أحدهم يدع الصّلاة الفريضة ويثب على أمه وبنته وأخته وهو لا يعقل».

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : «قيل له : إنّك تزعم أنّ شرب الخمر أشدّ من الزنا والسرقة؟ قال (عليه‌السلام) : نعم ، إنّ صاحب الزنا لعلّه لا يعدو إلى غيره ، وإنّ شارب الخمر إذا شرب الخمر زنا ، وسرق ، وقتل النفس الّتي حرّم الله ، وترك الصلاة» إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.

ومن الآثار : أنّها تورث الندامة وتأنيب الضمير ، ففي الحديث عن أبي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) : «أنّه قال لأم خالد العبدية : لا تذوقي منه ـ النبيذ ـ قطرة ، لا والله لا آذن لك في قطرة منه ، فإنّما تندمين إذا بلغت نفسك

٣٤٣

هاهنا ـ وأومى بيده إلى منحره ـ يقولها ثلاثا».

ومن الآثار : أنّه تجعل الإنسان مضطرب البال غير مستقرّ النفس تحدّثه نفسه بارتكاب الجناية ، لم يكن للآخرين عنده منزلة وكرامة ، فهو في عداوة دائمة مع غيره ، قال الله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) [المائدة ـ ٩١].

ومن الآثار : أنّها توجب الصّد عن ذكر الله تعالى الذي هو أقوى رادع عن ارتكاب المعاصي ، فلا يراقب الله في أقواله وأفعاله قال تعالى : (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائد ـ ٩١].

ومن الآثار : أنّها تورث سوء العاقبة ، فعن مسعدة بن زياد عن أبي عبد الله عن آبائه (عليهم‌السلام) عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «يجيء مدمن الخمر المسكر يوم القيامة مزرقّة عيناه ، مسودّا وجهه ، مائلا شدقه ، يسيل لعابه ، مشدودا ناصيته إلى إبهام قدميه ، خارجا يده من صلبه ، فيفزع منه أهل الجمع إذا رأوه مقبلا إلى الحساب».

وعن الباقر (عليه‌السلام) : «من شرب المسكر ومات وفي جوفه منه شيء لم يتب منه بعث من قبره مخبّلا مائلا شدقه ، سائلا لعابه ، يدعو بالويل والثبور» إلى غير ذلك من الأخبار التي تدل على سنخية العقاب مع المعصية وتناسب الجزاء مع العمل كما هو واضح.

إلى غير ذلك من الآثار التي تترتب على شرب الخمر ويشترك الميسر في كثير من تلك الآثار وهي وجدانية يعرفها كلّ مرتكب لهذه المعصية فجدير بالإنسان أن يترك هذا الإثم الكبير كما وصفه الجليل في كتابه الكريم.

٣٤٤

سورة البقرة

الآية ٢٢١

(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١))

بعد أن ذكر سبحانه وتعالى أنّ حب الإنسان لشيء أو كرهه له لا يغيّر الواقع بل هو محفوظ في حدّ نفسه ولا يعلمه إلا الله تعالى وأنّ شأن الإنسان أن يبغي الصّلاح في أفعاله ذكر تعالى في هذه الآية المباركة من مصاديق تلك القاعدة نكاح المشركات والمشركين ، وحكم بأنّه ليس من صلاح المؤمن نكاح المشركة وإن أعجبه هذا النكاح ، بل لا بد للناس أن يذكروا الله تعالى ويختاروا ما يدعو إليه في الدنيا والآخرة.

٣٤٥

التفسير

٢٢١ ـ قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ).

النكاح : اسم للعقد الموجب لحلية الجماع. وقال بعضهم : إنّه محال أن يكون اسما للجماع ، لأنّ أسماء الجماع كلّها كنايات لاستقباح اسمه كاستقباح فعله ، فيلزم من ذلك الخلف وهو محال.

وفيه : أنّه ليس من المحال الذاتي حتّى يقبح بالنسبة إليه تعالى بل هو تكلّم مع الناس على حسب اصطلاحهم كما في قوله تعالى : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) [التحريم ـ ١٢].

وقد اختلفوا في أسماء جميع العقود هل هي أسماء للأسباب ، وتستعمل في المسببات مجازا أو بالعكس؟ وقد سرى هذا الاختلاف إلى الفقه والفقهاء أيضا.

والظاهر : أنّه لا معنى لهذا النزاع وسقوط هذا الاختلاف ، لأنّ المراد بالأسباب الأسباب الجامعة للشرائط المعتبرة مطلقا وهي من الأسباب التوليدية لحصول مسبباتها وظاهر الأدباء الاتفاق على أنّه لا فرق في الأسباب التوليدية بينها وبين مسبباتها في أنّ الاستعمال فيهما على كلّ تقدير يكون حقيقيّا ، فلا فرق في المقام بين أن يقال النكاح اسم العقد الموجب لحلية الوطي. أو اسم للوطي الحاصل حليته من العقد ، وقد استعمل في كلّ منهما بالقرائن.

٣٤٦

و (لا تنكحوا) ـ بالفتح ـ من الثلاثي متعدّ بنفسه إلى مفعول واحد أي : لا تزوّجوا الكافرات ، فيكون الخطاب متوجها إلى الأزواج.

والمشركات جمع مشركة : من الإشراك وهو اتخاذ الشريك لله سبحانه وتعالى ، فيختص بالوثني والوثنيّة ولا يشمل حينئذ سائر الكفار من أهل الكتاب المنكرين لنبوة نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، واستدل على ذلك بقوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ) [البينة ـ ١] ، والعطف يقتضي المغايرة ، ولأنّ المشرك في اصطلاح القرآن يطلق على ذلك وعلى هذا القول تكون الآية الشريفة مقتصرة على خصوص المشركين والمشركات من الوثنيين دون أهل الكتاب.

ولكن الحق أن يقال : إنّ الآية عامة تشمل مطلق الكافر من دون اختصاص بطائفة خاصة من الكفار ، لعموم التعليل في الآية الشريفة الشامل للجميع ، وقد ثبت في العلوم الأدبية ـ وتبعهم علماء الأصول ـ أنّ الخطاب المعلّل بعلّة يكون المدار في خصوص ذلك الخطاب أو عمومه على التعليل دون أصل الخطاب ، فتفيد الآية عموم التحريم للكتابيات والوثنيات معا ويدل عليه قوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) [الممتحنة ـ ١٠] ، فإنّه يشمل كلّ كافر بنبوة نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) سواء كان كتابيا أو مشركا.

وما ذكروه من أنّ العطف يقتضي المغايرة لا كلية فيه ولم يثبت ذلك بل هو في الآية المباركة من قبيل عطف العام على الخاص وهو كثير.

كما أنّه لم يثبت أنّ إطلاق المشرك على الوثني اصطلاح قرآني بل قد اطلق على الكافر أيضا قال تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [البقرة ـ ١٣٥] ، وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف ـ ٩].

فالصحيح ما ذكرناه إلا إذا كان في البين دليل يدل على اختصاص

٣٤٧

اللفظ بخصوص طائفة خاصة من الكفار.

وقد خرج عن عموم الآية المباركة خصوص الكتابيات لقوله تعالى (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [المائدة ـ ٦] ، وليس ذلك من النسخ بشيء كما عن بعض المفسرين ، والمسألة فقهية ذكرناها بفروعها في كتابنا (مهذب الأحكام) فراجع كتاب النكاح منه.

قوله تعالى : (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ).

المراد من الأمة : المملوكة أي : إنّ الزّواج بالمملوكة المؤمنة خير من الزّواج بالمشركة وإن كانت حرّة لأنّ الإيمان بالله تعالى من أعظم الصفات وأجلّها وأفضلها وهو باق وما سواه من الصفات التي هي البواعث على النكاح التي هي خيرات دنيوية وهمية زائلة ولو كانت بحيث توجب الإعجاب.

وفي الآية رد لعادة كانت متبعة عندهم من استذلال الإماء ، والتعيير بالزّواج منهنّ ، فنفى سبحانه ذلك بأنّ المؤمنة ولو كانت مملوكة خير من المشركة ولو كانت حرّة وإن أعجبتكم.

قوله تعالى : (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ).

(وَلا تَنْكِحُوا) ـ بضم التاء ـ من باب الإفعال متعدّ إلى المفعول الثاني والخطاب متوجه إلى من يتولّى النكاح.

يعني : لا تزوّجوا المؤمنات بالمشركين حتّى يؤمنوا فإنّ العبد المؤمن خير من حرّ مشرك وإن أعجبكم حسنه وماله وشرفه. والواو في قوله تعالى : (وَلَوْ) حالية ، و (لو) بمعنى إن.

والآية تدل على كراهة التزويج للأغراض الدنيوية الزائلة. وأنّ الكفؤ المعتبر في الزّواج إنّما يتحقق بالإيمان فقط.

٣٤٨

قوله تعالى : (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ).

بيان لحكمة هذا الحكم. والإسلام في (أُولئِكَ) إشارة إلى المشركين والمشركات المذكورين آنفا.

يعني : أنّ المشركين من شأنهم الدّعوة إلى ما يوجب الدخول إلى النار لاعتقادهم الباطل وسلوكهم طريق الشرك والضلال وقد رسخت فيهم رذائل الصفات ، وتربّوا على سوء الأخلاق فعميت أبصارهم عن الحق والحقيقة فهم يرشدون إلى الضّلال ويدعون إلى أسباب النار قولا وعملا فيجب الاجتناب عنهم والحذر منهم لا سيّما في الحياة الزوجية التي هي من أقوى الأسباب في انتقال صفات أحد الزّوجين إلى الآخر فيكون له الأثر السيّئ على هذه المعاشرة ويوجب الشقاء والدّمار وهذا على نقيض ما يرتجى من هذه المعاشرة.

وأما المؤمنون فهم على خلاف المشركين فإنّهم بسلوكهم مسلك الإيمان واعتقادهم الصّحيح ، واستكمالهم بمكارم الأخلاق ، فهم يدعون إلى ما يوجب الدخول إلى المغفرة والجنة قولا وعملا بإذن الله تعالى وهو الذي هداهم إلى الإيمان وإلى ما يوجب الدخول إلى الغفران والجنان ، فتكون دعوتهم ودعوة الله تعالى متطابقتين وكلتاهما توجبان المغفرة والجنة.

وفي الآية كمال العناية بالمؤمنين ، وفيها دلالة على أنّ المؤمنين يرجعون في دعوتهم وفي جميع شؤونهم إلى الله تعالى ولا يستقلّون في شيء.

أو لأنّ الله تعالى يدعو إلى المغفرة والجنة بما يشرعه من الأحكام التي تكون لمصلحة الإنسان وتهديه إلى السعادة ، فقد أمرهم بمخالطة من يتقرّب بهم إلى الله تعالى وردع عن عشرة من يكون في عشرته البعد عن ساحة الرّحمن فهي دعوة منه عزوجل إلى المغفرة والجنة ويشير إلى ذلك ذيل هذه الآية الشريفة.

قوله تعالى : (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

٣٤٩

بيان لحكمة أصل هذا التشريع ، أي أنّه تعالى ينزل الأحكام والأدلة ويوضحها للناس لأجل أن يتذكروا ما فطر الله في أنفسهم من قبول التوحيد والحق والحقيقة ، والمعارف الواقعية. ولفظ «لعلّ» المستعمل في المقام وغيره ، وكذا (عسى) ونحوهما إما بمعنى التعليل أي : (لكي ، أو لأن) ونحوهما كما هو المعروف بين الأدباء. أو تستعمل في معانيها الحقيقية لكن بداعي أصل المحبوبية لا بداعي تحقق نفس تلك المعاني حتّى يستلزم النقص بالنسبة إليه جلّ جلاله.

٣٥٠

بحوث المقام

بحث دلالي

الآية الشريفة تبيّن جانبا من الجوانب التي تبتني عليها الحياة الزوجية التي اهتم بها الإسلام ووضع لها قوانين وضوابط وآدابا إذا روعيت حق المراعاة لتم الصّلح والوئام بين الأفراد وخلص الإنسان من الشقاء والدّمار وحظى بالحياة السعيدة الهنيئة.

فإنّ الآية تبيّن ما يجب مراعاته في تحقيق هذه العشرة ، فإنّ كلّ واحد من الزوجين لباس للآخر وخليط معه ، ومن شأن كلّ خليط اكتساب صفات الآخر فأمر عزوجل بلزوم التحفظ على الجانب المعنوي والرّوحاني في هذه الحياة بماله من الأثر التربوي والاجتماعي والفردي وعليه تستند قدسية الزّوج وهو ملاحظة الإيمان بالله تعالى الذي هو فطري في الجملة لا سيّما في النفوس الضعيفة ومرحلة الشباب في الإنسان وقد دلت على ذلك الأدلة العقلية كما ثبت في الفلسفة القديمة والحديثة ولعلّه لأجل ذلك قدّم سبحانه وتعالى هذا الأمر على ما يتعلّق بأحكام النّساء لما له الأهمية الكبرى بالنسبة إلى الحياة الزوجية بين الزوجين ولما له الأثر الكبير في نشوّ الأولاد والصّلة بالاجتماع ، بل الرضاع فإنّ اللبن يعدي كما ورد في عدة من الأخبار ، فهذا الحكم له من الآثار ما لا يدركها أحد إلا الله تعالى ولذا أكد عليه بأنحاء

٣٥١

التأكيدات في القرآن الكريم والسنة الشريفة ، ففي المقام نهى عن الزّواج بالمشركين والمشركات وبيّن عزوجل العلّة في ذلك بأنّهم يدعون إلى النار لما يقترفونه من المعاصي والآثام وليس لهم أيّ رادع نفساني يردعهم عن ذلك لعدم اعتقادهم بالله تعالى ، فليس لهم شأن إلا الدّعوة إلى النار مطلقا.

وعلى نقيض ذلك المؤمن فإنّه يدعو إلى المغفرة والجنة والإحسان والتحلّي بمكارم الأخلاق فهو يدعو إلى الله قولا وعملا ، فالإيمان بالله هو أساس كلّ خير وسعادة وله الأثر الكبير في نشوء الأولاد الصالحين بل وصلاح الاجتماع وتقدمه.

ثم إنّه لا فرق في الدّعوة إلى النار بين أن تكون قصدية كإيقاع الناس في المحرّمات وتسهيل أسبابها عليهم أو تكون انطباقية قهرية كمن يعمل منكر يعلم تقليد الناس له فيه فهو يدعوهم إلى النار ولو لم يكن من قصده ذلك.

كما لا فرق بين أن تكون بالمباشرة أو التسبيب قلّت الأسباب أم كثرت ، وكذا لا فرق بين أن يكون موردها النفوس والأعراض أو الأموال المحترمة وإن كان بينها تفاوت بالشدة والضعف.

وتشمل الآية جميع الاعتقادات الباطلة والآراء الفاسدة التي لا يرضى الشرع بها ، بل إنّها تشمل الدّعوة إلى النار بالقول أو الفعل أو الكتابة ونحوها.

وتجري جميع هذه الأقسام بالنسبة إلى المغفرة والجنة ولكن يشترط أن تكون بإذن الله تعالى وإمضائه وإلا كان من التشريع المحرّم.

وما ذكره جمع من الفقهاء من تحقق الاستحباب الشرعي بأخبار قاصرة السند تمسكا بأخبار من بلغه ثواب عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فعمل به فله ذلك الثواب وإن كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لم يقله.

فهو مخدوش : لأنّ مجموع تلك الأخبار بعد رد بعضها إلى بعض لا يستفاد منها إلا المطلوبية النفسية الفعلية من كلّ جهة ، وقد ذكرنا بعض الكلام في كتابنا (تهذيب الأصول) فراجعه هناك.

٣٥٢

ثم إنّه يستفاد من قوله تعالى : (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) أنّ إعجاب الناس لشيء وحكمهم بحسنه لا أثر له ما لم يكن ممضيا شرعا لأنّ الإعجاب والتحسين إنّما يكونا بالنسبة إلى الظاهر دون الحقيقة والواقع فرب إعجاب في الظاهر يكون بخلافه في الواقع.

٣٥٣

بحث روائي

في الكافي عن الحسن بن جهم عن أبي الحسن الرضا (عليه‌السلام) قال : «قال لي : يا أبا محمد ما تقول في رجل يتزوج نصرانية على مسلمة؟ قلت : جعلت فداك ، وما قولي بين يديك؟ قال (عليه‌السلام) لتقولنّ فإنّ ذلك تعلم به قولي. قلت : لا يجوز تزويج النصرانيّة على مسلمة ولا غير مسلمة قال (عليه‌السلام) : ولم؟ قلت : لقول الله عزوجل : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) قال (عليه‌السلام) : فما تقول في هذه الآية : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) قلت : فقوله : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) نسخت هذه الآية فتبسم ثم سكت».

أقول : النسخ قد يطلق على التخصيص أيضا.

وفي أسباب النزول عن مقاتل بن حيان قال : «نزلت في أبي مرثد الغنوي استأذن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في عناق أن يتزوجها وهي امرأة مسكينة من قريش ، وكانت ذات حظّ من جمال وهي مشركة ، وأبو مرثد مسلم. فقال : يا نبيّ الله إنّها لتعجبني فأنزل الله عزوجل : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ).

وفي الدّر المنثور عن ابن عباس قال : «نزلت في عبد الله بن رواحة وكانت له أمة سوداء ، وإنّه غضب عليها فلطمها ، ثم إنّه فزع فأتى النبي (صلّى

٣٥٤

الله عليه وآله) فأخبره خبرها فقال له النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : ما هي يا عبد الله؟ فقال : يا رسول الله هي تصوم وتصلّي ، وتحسن الوضوء ، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنّك رسوله فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : يا عبد الله هذه مؤمنة. فقال عبد الله : فو الذي بعثك بالحق (نبيا) لأعتقها ولأتزوجها ، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا : نكح أمة وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أحسابهم ، فأنزل الله تعالى فيهم : (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) ـ الآية ـ.

وفي المجمع إنّ الآية نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي بعثه رسول الله إلى مكة ، ليخرج منها ناسا من المسلمين ، وكان قويا شجاعا فدعته امرأة يقال لها : عناق إلى نفسها فأبى وكانت بينهما خلة في الجاهلية ، فقالت : هل لك أن تتزوج بي؟ فقال : حتّى أستأذن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فلما رجع استأذن في التزويج بها».

أقول : روى قريبا منه الواحدي في أسباب النزول والسيوطي في الدر المنثور عن ابن عباس. ويمكن أن يكون سبب النزول متعدّدا فلا تنافي بين الروايات.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) أنّه منسوخ بقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وقوله تعالى : (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) على حاله لم ينسخ.

أقول : ذكرنا أنّ المراد من النسخ هو التخصيص ، ويأتي الكلام في سورة المائدة إن شاء الله تعالى.

٣٥٥

بحث فقهي

يستفاد من قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) وما في سياقه من الآيات الشريفة والرّوايات أنّ المناط كلّه في رابطة الزواج الإيمان والاعتقاد بالله تعالى والدّين ، وقد صرّح بذلك في عدّة روايات ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إياكم وخضراء الدّمن قيل : يا رسول الله وما خضراء الدّمن؟ قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : المرأة الحسناء في المنبت السوء».

وفي حديث آخر عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالط».

وعنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «عليك بذات الدّين تربت يداك».

كما تدل الآية الشريفة على كراهة قصد الجمال والمال والشرف والحب فقط في النكاح ، وتدل على ذلك روايات مستفيضة.

وصريح الآية الكريمة حرمة النكاح مع الكافر والكافرة مطلقا لعموم العلة وهو المشهور بين الإمامية ، وليست هي منسوخة ولكنّها خصصت بقوله

٣٥٦

تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) ـ إلى قوله تعالى ـ (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [المائدة ـ ٧] ، وذكرنا تفصيل ذلك في الفقه ومن شاء فليراجع كتاب النكاح من (مهذب الأحكام).

٣٥٧

سورة البقرة

الآية ٢٢٢ ـ ٢٢٣

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣))

ذكر سبحانه وتعالى حكما من الأحكام التي ترشد الإنسان إلى حفظ نوعه وبقائه وقد نبهه إلى ما يتحفظ به طهارته المعنوية والظاهرية.

وذكر بعض أحكام النساء من وجوب الاعتزال عنهنّ في زمان الحيض وأمر الإنسان بالسّعي إلى ما أمره الله تعالى حتى يعد عند الله مؤمنا متقيا وقد بشّره بعظيم الثواب.

٣٥٨

التفسير

٢٢٢ ـ قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً).

مادة (حيض) تأتي بمعنى السّيلان وسمّي هذا الدم المخصوص حيضا لسيلانه في الجملة ، وإذا كان عين الفعل منه واوا فهو بمعنى الجمع ومنه الحوض ، ويصح إطلاقه في المقام أيضا ، لأنّه لا يسيل الدم إلا إذا اجتمعت مادته في الرحم ولو في الجملة.

(والمحيض) مصدر ميمي وهو اسم للدم الخاص في وقت معين ، ولم يستعمل في القرآن الكريم إلا بهذه الهيئة كما في قوله تعالى : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) [الطلاق ـ ٤] ، ويأتي المحيض اسما لزمان الحيض ومكانه ، والفارق القرائن المعتبرة.

والحيض من الأمور الطبيعية للنساء وهو منشأ تكوّن الجنين في الرحم ، وله أحكام شرعية ، كما أنّ له اثارا صحية ونفسية معروفة ذكرها علماء الطب والنفس.

وإنّما عبّر سبحانه بالمحيض دون الحيض ، لأنّ للإضافة الحدوثية إلى الحائض دخلا في الجملة في أحكامه ولأجل ذلك صحح عود الضمير (هو) إليه.

والأذى : ما يصيب الإنسان من المكروه في نفسه أو جسمه ، ولهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن بهيئات مختلفة حتى استعملت بالنسبة إلى الله تعالى

٣٥٩

قال سبحانه وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [الأحزاب ـ ٥٧].

وكون الحيض أذى أمر معلوم فإنّه مستقذر ينفر عنه الطبع لكون هذا الدم خارجا عن مزاج الدم الطبيعي لفساده فلا يصلح لتغذية الجنين أو تهيئة اللبن للإرضاع فيرفضه الرحم إلى الخارج مصحوبا بآلام بدنية ونفسية فيكون أذى للنساء كما أنّ لهذا الدم أحكاما خاصة يصعب عليهنّ تحمّلها وهو أذى للزوج لأنّه يحرم عليه مدة الحيض أهم الاستمتاعات إذ الرّحم مشغول بتطهيره وتنقيته والوقاع يضرّه بل هو أذى للنطفة إذا فرض انعقادها في زمان الحيض. وقد كشف العلم الحديث عن كثير مما يتعلّق بهذا الدم ويشمل جميع ذلك إطلاق هذه الكلمة الفصيحة بإيجازها (قُلْ هُوَ أَذىً).

وقيل : إنّ المراد بالمحيض محلّ الحيض ومكانه وباعتبار الملازمة بين الحال والمحل عبّر تعالى بذلك ، فيصح عود الضمير حينئذ بلا استخدام وهذا وإن كان صحيحا ولكنّه صرف لعموم الآية الشريفة إلى بعض المحتملات ، فالصحيح ما ذكرناه.

قوله تعالى : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ).

العزل والاعتزال : التجنب سواء كان بالبدن فقط أو القلب أو بهما والمراد به هنا الأول أي : عدم المقاربة معهنّ في محلّ الحيض فقط بقرينة قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ). وهو المراد أيضا إن أريد بالمحيض زمان الحيض لانسباقه إلى الذهن ، وليس المراد وجوب الاعتزال عن النساء مطلقا فإنّه مخالف لظاهر الآية الشريفة وللنصوص المتواترة وإجماع المسلمين. وبذلك أخذ الإسلام الطريق الوسط بين التشديد التام الذي عليه اليهود فإنّهم لا يساكنون النساء حال الحيض ولا يؤاكلوهنّ ولا يمسوهنّ ولا يضاجعوهنّ ففي التوراة كثير من الأحكام الشديدة بالنسبة إليهنّ فقد جاء في سفر اللاويين الفصل الخامس عشر «كل من مسّها ـ أي المرأة في أيام طمثها ـ يكون نجسا إلى المساء وكلّ ما تضطجع عليه في طمثها يكون نجسا وكلّ ما تجلس عليه يكون نجسا ، وكلّ من

٣٦٠