مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٦

بحث روائي

في العلل والمحاسن عن علي (عليه‌السلام) عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في جواب مسائل اليهودي قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ما من مؤمن يصوم شهر رمضان احتسابا إلا أوجب الله له سبع خصال : أولها ـ يذوب الحرام في جسده. والثانية ـ يقرب من رحمة الله. والثالثة ـ يكون قد كفّر خطيئة أبيه آدم. والرابعة ـ يهون عليه سكرات الموت. والخامسة ـ أمان من الجوع والعطش يوم القيامة. والسادسة ـ دخول الجنة وبراءة من النار. والسابعة ـ يطعمه من ثمرات الجنة».

أقول : في هذا السياق روايات كثيرة من الفريقين ، واقتضاء الصوم لهذه الأمور إذا كان لله تعالى مع شرائطه المقررة في الشريعة مما لا ريب فيه ، لأنّه رياضة نفسانية ويزيل الشهوات الحيوانية. ويمكن أن يكون ترتب هذه الأمور عليه في بعض النفوس من قبيل ترتب المعلول على العلّة التامة. ولا ريب في تحقق السنخية بين الصوم وهذه الأمور.

في الحديث القدسي قال الله تعالى : «الصوم لي وأنا أجزي به».

أقول : أما كون الصوم لله تعالى فلأنّه أمر قلبي ليس من فعل الجوارح فلا يطّلع عليه غيره تعالى ، فيكون الخلوص فيه أكثر من سائر العبادات.

وأما قوله : «وأنا اجزي به» فهو كناية عن كمال الجزاء وعدم حصر له وعدم

٢١

اطلاع أحد عليه ، فيكون المقام نظير قوله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة ـ ١٧] ، هذا إذا قرئ بصيغة المعلوم. وأما إذا قرئ بصيغة المجهول ـ أي أنّه تعالى بذاته الأقدس يكون جزاء لهذا العمل ـ فيكون كناية عن قرب الصائم إلى ربه تعالى بحيث لا يمكن تحديده بحد.

في تفسير العياشي عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) ـ و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ). قال (عليه‌السلام) : «هذه كلّها يجمع الضلّال والمنافقين ، وكل من أقر بالدعوة الظاهرة».

أقول : لا اختصاص لذلك بخصوص الصوم بل يشمل كل من جمع شرائط التكليف ، كما في سائر التكاليف الإلهية.

في تفسير العياشي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) قال : «هي للمؤمنين خاصة».

أقول : يمكن أن يحمل بحسب مراتب القبول لا بحسب أصل التكليف كما في سائر التكاليف الإلهية. إن كان المراد بالمؤمنين طائفة خاصة ، وإلا فالحديث يكون مثل سابقه.

في تفسير القمي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ). قال : «أول ما فرض الله تعالى الصوم لم يفرضه في شهر رمضان على الأنبياء ، ولم يفرضه على الأمم فلما بعث الله نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) خصه بفضل شهر رمضان هو وأمته ، وكان الصوم قبل أن ينزل شهر رمضان يصوم الناس أياما».

أقول : قريب منه في الفقيه عن حفص بن غياث النخعي. والحديثان بظاهرهما مخالفان للآية الشريفة. ومخالفان للروايات الدالة على أنّ الصيام كان مكتوبا على الأنبياء السابقين وأممهم ، وأنّ الأنبياء كانوا يصومون شهر رمضان. ويمكن حملهما على أنّ التفضيل بالنسبة إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) باعتبار

٢٢

إيجابه في شهر رمضان خاصة دون سائر الأمم فإنّ صوم الأنبياء في هذا الشهر كان أعم من الإيجاب عليهم.

في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) : «كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أول ما بعث يصوم حتى يقال : ما يفطر. ويفطر حتى يقال : ما يصوم ، ثم ترك ذلك وصام يوما وأفطر يوما ، وهو صوم داوود ، ثم ترك ذلك وصام الثلاثة الأيام الغر ، ثم ترك ذلك وفرقها في كل عشرة خميسين بينهما أربعاء ، فقبض (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهو يعمل ذلك».

أقول : هذا وارد في صوم التطوّع.

في الكافي أيضا عن عليّ بن الحسين (عليهما‌السلام) : «فأما صوم السّفر والمرض فإنّ العامة قد اختلفت في ذلك ، فقال قوم : يصوم ، وقال آخرون : لا يصوم ، وقال قوم : إن شاء صام وإن شاء أفطر. وأما نحن فنقول : يفطر في الحالين جميعا ، فإن صام في السّفر ، أو في حال المرض فعليه القضاء فإنّ الله عزوجل يقول : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)».

أقول : تدل عليه روايات متواترة عندنا ، وإجماع الإمامية وقد تقدم عدم صلاحية ما ذكروه لثبوت الصّوم في الحالتين أو التخيير فراجع.

العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «لم يكن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يصوم في السّفر تطوّعا ولا فريضة يكذبون على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) نزلت هذه الآية (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) بكراع الغميم عند صلاة الفجر ، فدعا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بإناء فشرب وأمر الناس أن يفطروا ، فقال قوم : قد توجه النهار ولو صمنا يومنا هذا ، فسماهم رسول الله العصاة ، فلم يزالوا يسمون بذلك الاسم حتى قبض رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)».

أقول : وردت روايات أخرى قريبة منها عن طرق العامة أيضا.

وفي تفسير العياشي أيضا عن الصباح بن سيابة عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «إنّ ابن أبي يعفور أمرني أن أسألك عن مسائل فقال (عليه‌السلام) : وما

٢٣

هي؟ قلت : يقول لك : إذا دخل شهر رمضان وأنا في منزلي ألي أن أسافر؟ قال (عليه‌السلام) : إنّ الله يقول : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فمن دخل عليه شهر رمضان وهو في أهله فليس له أن يسافر إلا لحج أو عمرة أو طلب مال يخاف تلفه».

أقول : لا بد من حمله على الكراهة جمعا بينه وبين الأخبار الدالة على الجواز.

في تفسير العياشي عن أبي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) : «عن حدّ المرض الذي يجب على صاحبه فيه الإفطار؟ كما يجب عليه في السّفر في قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ). قال (عليه‌السلام) : هو مؤتمن عليه ، مفوّض إليه ، فإن وجد ضعفا فليفطر وإن وجد قوة فليصم كان المريض على ما كان».

أقول : ويدل عليه روايات أخر شارحة لقوله تعالى : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) [القيامة ـ ١٤].

وفي رواية أخرى عنه (عليه‌السلام) : «ما حد المرض الذي يفطر فيه الرجل ويدع الصلاة من قيام؟ قال (عليه‌السلام) : بل الإنسان على نفسه بصيرة وهو أعلم بما يطيقه».

أقول : يستفاد من مثل هذه الروايات أنّ موضوعات الأحكام موكولة إلى العرف ما لم يحدها الشارع بحد معين.

في الكافي عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قوله الله عزوجل : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) قال (عليه‌السلام) : «الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش».

في الفقيه عن ابن بكير قال : «سألته عن قول الله عزوجل : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ). قال (عليه‌السلام) : «الذين كانوا يطيقون الصوم ، ثم أصابهم كبر ، أو عطاش ، أو شبه ذلك فعليهم لكل يوم مد».

أقول : هذه الروايات قرينة على ما ذكرنا سابقا من أنّ المراد بالقدرة على الصوم القدرة المتعارفة لا القدرة العقلية.

٢٤

بحث تاريخي

تقدم أنّ الصوم من أهمّ الوسائل التي يلتمس بها العبد التقرب إلى خالقه ، وأعظم السبل في تحلية النفس بالفضائل وتخليتها عن الرذائل وأنّه أول ما يمكن أن يصدر من الحبيب في لقاء حبيبه بالتنزه عما تشتهيه النفس من المستلذات ، فهو من الخير الذي أمرنا الله تعالى بالاستباق إليه ولأجل ذلك وغيره مما هو كثير كتبه الله على الأمم السابقة ، بل هو محبوب لدى جميع الأمم حتى الوثنية منها فلم يخل منه دين من الأديان سواء السماوية منها أم الوضعية ، فقد يظهر من بعض الروايات أنّ المجوس كان لهم صوم ، وأنّ الصيامية نحلة منهم تجردوا للعبادة وأمسكوا عن الطيبات من الرزق ، وعن النكاح والذبح على ما هو المقرر عندهم وتوجهوا في عبادتهم للنيران.

وأما اليهود فالصوم عندهم هو الإمساك عن الأكل والشرب ولم يفرض عليهم إلا صوم يوم واحد ، كما ورد في عهد [اللاويين ١٦ / ٢٩] وكان اليهود يصومون بعد ذلك أياما في مناسبات. وكانوا في ذلك اليوم يلبسون المسوح ، وينثرون الرماد على رؤوسهم ، ويصرخون ويتضرعون ويتركون أيديهم غير مغسولة إلى غير ذلك من العقائد التي كانت عندهم في الصوم ، وكان اليوم هو يوم التكفير أي : اليوم العاشر من الشهر السابع ، كما في سفر اللاويين ، وفيه يحاول اليهودي التشبه بالملاك ، وهذا اليوم يسبق بتسعة أيام تسمى ب (أيام التوبة) حيث يطهرون خلالها تطهيرا يكفل لهم النقاء في خلال العام القادم ، والصوم عندهم يكون من

٢٥

غروب الشمس إلى مساء اليوم التالي.

وفي غير ذلك يصومون تذكارا للرزايا التي وردت عليهم فخصصوا أربعة أيام للصوم حزنا بعد خراب الهيكل الأول ، وهي اليوم التاسع من الشهر الرابع من كل سنة ، وهو يوم استيلاء الكلدان على القدس. واليوم العاشر من الشهر الخامس ، وهو يوم احتراق الهيكل والمدينة. واليوم الثالث من الشهر السابع ، وهو يوم استباحة نبوخذ نصّر لاورشليم قتلا ونهبا. واليوم العاشر من الشهر العاشر ، وهو يوم ابتداء حصار القدس.

وأما النصارى ـ على اختلاف مذاهبهم ـ فهم متفقون على وجوب الصوم في الجملة فقد ورد في إنجيل [متى ٦ ر ١٦] «ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين ، فإنّهم يغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين ، الحق أقول لكم إنّهم قد استوفوا أجرهم ، وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك لكي لا تظهر للناس صائما». وقد نسب إلى السيد المسيح أنّه صام أربعين يوما بلياليها.

والصوم عندهم مفروض في أزمنة معينة خاصة وإن اختلفوا في قواعده فإنّه عند أكثرهم الانقطاع عن المأكل من نصف الليل إلى الظهر ، فالكاثوليك منهم الصيام عندهم كثير وشديد ، وهو عندهم : الإمساك عن الطعام والشراب يومهم وليلهم ولا يأكلون إلا قرب المساء ، وإذا أفطروا لا يشربون خمرا ، ولا يتأنقون في المأكل ، والفرض عندهم هو الصوم الكبير السابق لعيد الفصح وما سواه فهو نفل ، وهو كثير كصوم يوم الأربعاء تذكارا للحكم على السيد المسيح ويوم الجمعة يوم صلبه ، وكذا صوم الأيام الأربعة السابقة للميلاد وعيد انتقال العذراء ، وعيد جميع القديسين ، هذا ما كان عليه الكاثوليك أول الأمر ولكن جرت تغييرات في فروض الصوم حتى صار صوم كثير من الأيام السابقة فرضا ، ومن ذلك وجوب الصوم والانقطاع عن اللحم يوم الجمعة ما لم يقع يوم عيد ، وأضيف إليه يوم السبت أيضا. ومن ذلك صوم البارامون أي : صوم الاستعداد للاحتفال بالأعياد الكبرى.

وأما الروم الآثوذكس فأيام الصيام عندهم أكثر ، وقوانينهم أشد ، وأهمها

٢٦

أربعة أولها : الصوم السابق لعيد الفصح. الثاني : من العنصرة إلى آخر حزيران. الثالث : خمسة عشر يوما قبل انتقال العذراء. الرابع : أربعون يوما قبل الميلاد.

وأما الأرمن والقبط والنساطرة فهم أشد الملل النصرانية في الصوم وأكثرها صوما ، وهو عندهم إجباري لا يجري فيه من التساهل ما يجري عند غيرهم ، فإنّ الأرمن يصومون الأربعاء والجمعة من كل أسبوع إلا ما وقع منهما بين الفصح والصعود ، ولهم أيضا عشرة أسابيع يصومونها كل سنة. وبالجملة إنّ الصّوم عندهم يذهب بنصف السنة.

وأما البروتستانت فالصوم عندهم سنة حسنة لا فرض واجب ، وهو عندهم الإمساك عن الطعام مطلقا بخلاف سائر الطوائف المسيحية فإنّ الصوم عندهم الانقطاع عن بعض المآكل كما عرفت.

والصوم عند المسلمين هو الإمساك عن الأكل والشرب وغيرهما من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، وفيه من الشروط والآداب والأحكام ما لم يكن لغيرهم ، ولذا يفسده عندهم ما لا يفسده عند غيرهم.

وأما الفرض عندهم هو شهر رمضان ، وغيره نفل يعم السنة إلا ما كان محرما كصوم يومي العيدين ، وله أحكام كثيرة عندهم فلتراجع الكتب الفقهية.

وأما الصوم عند غير الأديان الإلهية ، فالمصريون القدماء كانوا يصومون تعبدا لا يزيس واليونان لذيميتيز ـ آلهة الزراعة ـ وكذا إذا أراد أحدهم أن ينخرط في زمرة المطلعين على أسرار كيبلي استعد لذلك بصوم عشرة أيام.

وأما الرومان فقد كانوا أكثر صوما من اليونان ، ولهم أيام معلومة يصومونها كل عام تعبدا لزفس وسيريس ، وإن ألمّت بهم حادثة صاموا استعطافا لمعبوداتهم.

وأما الهنود فقد فاقوا جميع الأمم بالصيام حتى إنّهم يقضون أياما لا يأكلون ولا يشربون ويألفونه صغارا فلا يوهن قواهم كثرته كبارا.

٢٧

سورة البقرة

الآية ١٨٥

(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥))

الآيات مرتبطة بعضها مع بعض ذات نسق منظّم وأدب رفيع وأسلوب رائق في بيان حكم إلهيّ ألقاه عزوجل متدرّجا ليأنس به الطبع ، فبيّن سبحانه مدّة الصيام وأنّها قليلة ولكنّها عظيمة بسبب نزول القرآن الفاصل بين الحق والباطل فيها ، ووضع الصيام عن المرضى والمسافرين وقد أخبر سبحانه وتعالى أنّه يريد اليسر للإنسان في تكاليفه ولم ينزّل الأحكام الشرعية لتعسيره ثم بيّن بعض الغايات لهذا التكليف العظيم.

٢٨

التفسير

١٨٥ ـ قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ).

جملة مستأنفة. بيان للأيام المعدودات. مرفوعة على الابتداء ، والخبر «الذي أنزل».

ومادة (شهر) تأتي بمعنى الظهور ، وسمي الشهر شهرا لظهوره ، وهو جزء من اثني عشر جزء التي تحصل من دوران الأرض حول الشمس سواء عدت بالأهلة أو بغيرها ، وجمعه في القلة أشهر ، وفي الكثرة : شهور.

وقد ورد في القرآن الكريم مفردا وجمعا في موارد كثيرة ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ) [المائدة ـ ٢] وقال تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) [البقرة ـ ١٩٢] ، وقال تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ) [التوبة ـ ٣٦]. وتحديد الزمان بالأشهر قديم جدا يأتي في قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ) [البقرة ـ ١٨٩] البحث في ذلك.

ورمضان مأخوذ من [رمض] وهو شدة وقع الشمس على الرمل وغيره ، ويقال رمض الصائم يرمض إذا حرّ جوفه من شدة العطش ، والرمضاء : الحجارة الحارة ، وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «صلاة الأوّابين إذا رمضت الفصال» أي : وقت نافلة الظهر هو أن تحمى الرمضاء فتبرك الفصال من شدة

٢٩

حرها وإحراقها أخفافها.

وعن جمع من اللغويين أنّ هيئة فعلان ـ بفتح الأول والثاني ـ يراعى فيها الاضطراب والحركة في الجملة ، كالخفقان واللّمعان ، والسّيلان ونحوهما ، وقد ادعى الكلية في ذلك.

سمي هذا الشهر بهذا الاسم ، لأنّ حدوث هذه التسمية كان في شدة الحر ، فإنّهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة عدوها بالأزمنة التي وقعت فيها ، أو لأنّه يحرق الذنوب ويسقطها عن الصائمين فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «إنّما سمي رمضان لأنّه يرمض ذنوب عباد الله» ، أو إنّه مأخوذ من الرمضاء ـ بسكون الميم ـ وهو مطر يأتي قبل الخريف يطهّر وجه الأرض عن الغبار ، كما نقل عن الخليل ، فكذلك شهر رمضان يطهّر قلوب هذه الأمة عن الخطايا والرذائل.

وهو ممنوع من الصرف للتعريف ، والنون الزائدة ، ولم ترد هذه المادة في القرآن الكريم إلا في هذا المورد.

وفي بعض الأخبار أنّ رمضان اسم من أسماء الله تعالى فعن أبي جعفر الباقر (عليهما‌السلام) : «لا تقولوا جاء رمضان وذهب رمضان ، فإنّ رمضان اسم من أسماء الله» ، وقد روي عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مثله كما في كنز العمال. ولعل الوجه فيه أنّه عزوجل يسقط ذنوب عباده ويغفر لمن يشاء ، ويشهد له ما في بعض الآثار أنّه شهر الله تعالى ، ولذا من الأدب أن لا يفرد في الكلام ، بل يقال : شهر رمضان ، ولكن وقع التعبير به مفردا في بعض الأخبار ، لبيان أصل الجواز ، ولم أظفر في الدعوات المأثورة أنّه اطلق عليه تعالى (رمضان) في ما تفحصت عاجلا.

قوله تعالى : (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ).

بيان لحكمة تخصيص هذا الشهر بالصوم. والقرآن يأتي بمعنى الجمع ، وسمي كتاب الله به ، لأنّه جمع فيه المعارف والأحكام ، والعلوم. وهو علم للكتاب المنزل على رسول الله خاتم النبيين محمد بن عبد الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)

٣٠

الذي جمع فيه المعارف الإلهية والأحكام الشرعية والعلوم المتعالية.

وقد ورد هذا اللفظ في القرآن فيما يزيد على خمسين موردا كلّها مقرونة بالتجليل والتعظيم ، وله أسماء كثيرة للقاعدة المعروفة : كلما ازداد المعنى بهاء وكمالا ازدادت ألفاظه جمالا وجلالا. وهو المهيمن على جميع الكتب السماوية ، والمشتمل على أسرار يصعب على الأذهان فهمها ، ولا يمكن الإحاطة بها إلا نزرا يسيرا ممن شملتهم عناية الله تعالى ، فعلّمهم ما لم يمكن دركه بغير إفاضة منه عزوجل مع اعترافهم بالقصور ، والتواضع أمام عظمته ، فإنّ درك حقيقة الوحي يختص بالموحي ، وأمين الوحي والموحى إليه ، وهي من الأسرار التي لا يتقدمهم فيها أحد.

ومادة (نزل) تدل على الانحطاط من العلوّ في جميع مشتقاتها سواء كان ذلك حقيقيا أو اعتباريا. وأما التنزيل فقد لوحظ فيه التفرق بخلاف الإنزال فإنّه أعم منه.

وللتنزيل والإنزال مراتب مختلفة وغايات متعددة يتعددان بتعددهما ويختلفان باختلافهما :

فتارة : ينزل من مرتبة العلم الأزلي إلى مرتبة فعله تعالى.

وأخرى : ينزل جملة على أقدس قلب وأصفاه في الممكنات ، وهو قلب نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيكون كشهاب برق إلهي يبرق على شمس الحقيقة ليزيدها بهجة وجلالا ، ولمعة وإجلالا.

وثالثة : ينزل متفرقا ليقرأه على مكث ، وسيأتي في المبحث الآتي ما يتعلق بنزول القرآن.

والآية تدل على أنّ القرآن الكريم نزل في شهر رمضان إلا أنّها لم تعيّن في أيّ وقت منه ، ولكن ورد في آية أخرى أنّه في ليلة مباركة ، قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) [الدخان ـ ٣]. وفي ثالثة : ذكر أنّها ليلة القدر ، قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر ـ ١]. والأخيرة تكون مبينة للآيات السابقة ، فلا منافاة في البين.

٣١

وقد تشرف هذا الشهر بنزول القرآن فيه ، ولذا اختص بالصيام ولا يعقل شرف فوق شرف كتاب الله عزوجل ، وإن كان هذا الشهر مقدس من القديم وكان الصوم فيه عبادة قديمة ، وقد ورد في الأخبار بأنّ الكتب السماوية من صحف إبراهيم ، والتوراة ، وزبور داوود ، والإنجيل ، والقرآن نزلت في هذا الشهر. وفيه تقدر جميع الأمور بكليّاتها وجزئياتها ، قال تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان ـ ٤]. وفيه القضاء المبرم الذي لا تغيير فيه ولا تبديل ، ويأتي في المحلّ المناسب تفصيل ذلك.

قوله تعالى : (هُدىً لِلنَّاسِ).

الهداية : هي الدلالة بلطف ، والهدية : الإعطاء ، ففي الإعطاء والبذل تسمى هدية ، وفي الدلالة هداية ، وقد ذكرت هذه المادة بجميع مشتقاتها في القرآن الكريم في ما يزيد على ثلاثمائة مورد ، وفي جميع استعمالاتها مقرونة بالشرف والتعظيم ، إلا في مثل قوله تعالى : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) [الصافات ـ ٢٣] ، وقوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد ـ ١٠]. ويمكن الاستعمال بداعي التهكم لا الحقيقة.

والمعروف بين الأدباء أنّ الهداية إن تعدت إلى المفعول الثاني بنفسها كانت بمعنى الإيصال إلى المطلوب ، وإن تعدت (باللام أو إلى) كانت بمعنى إراءة الطريق ، وهذا من إحدى القرائن التي يجدها المتتبع في الكلمات.

والهداية : إن كانت بمعنى الإيصال إلى المطلوب بالنسبة إلى الله عزوجل فهو غير متناه. لأنّ المطلوب لا حد له بوجه من الوجوه. نعم استعداد من يهدى له مراتب متناهية ، لفرض إمكانه.

وإن كانت بمعنى إراءة الطريق فهي كثيرة ، وللمجاهدات والرياضات الشرعية دخل كثير في الهدايتين ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت ـ ٦٩]. وتقدم ما يتعلق بهذه المادة في أول سورة البقرة فراجع.

ولفظ الناس قد ذكر في القرآن في ما يقرب من مأتين وخمسين آية ،

٣٢

وأصل معناه من الاضطراب. وهو اسم جنس له أنواع كثيرة تعرف بالقرائن المحفوفة بالكلام ومع عدمها يرجع إلى العموم.

والمعنى : إنّ القرآن أنزل في شهر رمضان لهداية الناس إلى الصراط المستقيم بحسب اختيارهم ، ولا معنى للهداية الجبرية وإن كانت مقدورة لله تعالى ، قال عزوجل : (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) [الرعد ـ ٣١]. ولكن عنايته الأزلية اقتضت أن تكون اختيارية لأنّ الكمال في الهداية بالاختيار.

قوله تعالى : (وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ)

البينات جمع البينة ، وهي الدلالة الواضحة الكافية عقلا لإتمام الحجة ، قال تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال ـ ٤٢].

والفرقان : ما يفرق بين الحق والباطل ، وهو كثير مثل الكتب السماوية ، قال تعالى : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [البقرة ـ ٥٣]. والزمان الذي يغلب فيه الحق على الباطل ، قال تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) [الأنفال ـ ٤١]. والمكان الذي يقضى فيه بالحق ويعمل فيه. والمعاجز الصادرة من الأنبياء فرقان ، كما أنّ السنة المقدسة فرقان ، والعقل الداعي إلى عبادة الرحمن واكتساب الجنان فرقان ، والعالم الذي يعمل بعلمه فرقان. وكلّ ما يضاف إليه تعالى فرقان مقابل ما يضاف إلى الشيطان.

والقرآن أجلى تلك المظاهر بل هي منطوية في القرآن فهو قرآن بوجوده الجمعي ، وفرقان بوجوده التفصيلي ، ولا يختص الفرقان بالتفرق الحسي وبحسب المدارك الظاهرية ، بل يشمل التفرق بحسب جميع المدارك ، قال تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان ـ ٤]. فجميع التقديرات الإلهية وجميع مراتب قضائه عزوجل من الفرقان ، وفي الحديث : «إنّ الفرقان المحكم الواجب العمل ، والقرآن جملة الكتاب» وهو من بيان بعض المراتب ، وإلا فالقرآن بجميع آياته فرقان.

٣٣

وقد ذكر سبحانه وتعالى في المقام ثلاث خصال للقرآن الكريم : وهي أنّه هدى للناس ، وهذه خصلة من لوازم ذات القرآن ، بل جميع الكتب السماوية ، واشتماله على البينات الواضحة لكل فرد ، والفرقان بين الحق والباطل. فإنّ لكل حق حقيقة ، وعلى كل حقيقة نور. وفي مقابل كل حقيقة باطل ، وشأن الكتب السماوية والأنبياء ومن يحذو حذوهم علما وعملا تمييز الحق عن الباطل ، وعرضه على عقول الناس ، كل ذلك على حسب التدرج والتأنّي ، كما هو سنته تعالى في أصل الإيجاد ، أو في جهات التشريع.

قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

الشهود بمعنى الحضور ، سواء كان بالبصر أو البصيرة ، أو الواقع فالكل شهود ، وهو من الصفات ذات الإضافة ، فكما أنّ الشاهد يشهد المشهود فهو أيضا حاضر لدى الشاهد.

وفي المقام يمكن أن يكون المراد بالشهود الحضور مقابل الغيبة والسّفر ، ويعضده قوله تعالى : (أَوْ عَلى سَفَرٍ). أو يكون المراد الأعم منه ومن استجماع شرائط صحة الصوم ، ويعضده قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً).

قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

العدة : هي المعدودة ، أي عليه صوم أيام أخر مثل الأيام التي فاتته من صوم شهر رمضان. ومن التفصيل بين حكم الحاضر وحكم المسافر في شهر رمضان وإثبات وقتين لهما يستفاد أنّه لا رجحان لصوم المسافر في شهر رمضان ، ويدل عليه ما يأتي من قوله تعالى ، وإلا لما كان لهذا التأكيد والتمييز بين الموضوعين والحكمين معنى.

قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ).

الإرادة : هي من الوجدانيات لكل ذي شعور ، لأنّ من لوازم الحياة التحرك بالإرادة ، واشتقاقها من ورد.

وعن جمع من المفسرين وغيرهم أنّها بمعنى الطلب ، ولا كلية فيه كما

٣٤

أثبتناه في (تهذيب الأصول). والإرادة من الله جل شأنه فعله.

والمعنى : إنّ الله تعالى أراد في كلّ ما شرعه من الأحكام اليسر النوعي ، ومنه إفطار المريض والمسافر.

وفي التعبير من التحريض والترغيب ما لا يخفى ، سواء في الترخيص أم في العزيمة ، لأنّ «الله يحب أن يؤتى برخصه كما يحب أن يؤتى بعزائمه» ، ومثل الآية المباركة قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) [النساء ـ ٢٨] ، وقوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج ـ ٧٨].

قوله تعالى : (وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).

تأكيد لما سبق. والعسر : خلاف اليسر.

والمعنى : إنّ الله تعالى لا يريد العسر في تشريعه الأحكام ، ومنها الصيام أداء وقضاء ، ويستفاد منه أنّ الصوم في السفر غير مراد لله تعالى.

قوله تعالى : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ).

أي : ولتعظموا الله تعالى على هدايتكم إلى الدين وشرائعه المقدسة لا سيما الصيام ، فإنّ فيه إصلاح النفوس وتكميلها ، وهذه الغاية من أعلى الفضائل.

وقد وردت روايات تدل على أنّ هذا التكبير وارد في آداب ليلة الفطر إلى أربع صلوات بعدها. وهذا من ذكر بعض المصاديق لكلّ ما يكبّر العبد ربه العظيم ، وإن كان ما يصدر من العبد لا يبلغ ما أنعم عليه ربه الرحيم ، إذ لا وجه لنسبة المتناهي لغير المتناهي ، قال علي (عليه‌السلام) : «وما قدر أعمال أقابل بها نعمك وإنّي لأرجو أن تستغرق ذنوبي في كرمك كما أستغرق أعمالي في نعمك».

قوله تعالى : (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

أي : تشكرون الله على نعمه عليكم كلّها ومنها الصيام ، وفي إتيان [لعل] دلالة على أنّ للأعمال والمجاهدات دخل في قوة اختيار العبد للشكر.

٣٥

بحوث المقام

بحث أدبي

يجوز أن يكون «شهر رمضان» مرفوعا على الابتداء ، والخبر قوله تعالى : (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) أو يكون خبرا لمبتدأ محذوف والصلة صفة له ، والتقدير : الواجب عليكم ، ونحوه.

«ورمضان» غير منصرف لزيادة النون والعلمية. و «هدى» في موضع نصب على الحال من القرآن و «بيّنات» عطف عليه.

واللام في «فليصمه» لام الأمر ، وإذا أفردت كسرت ، وأما إذا وصلت بشيء ففيها الوجهان : الجزم والكسر. وما يوصل بها ثلاثة أحرف : الفاء مثل قوله تعالى : (فَلْيَصُمْهُ) ، وقوله تعالى : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) [قريش ـ ٣]. والواو مثل قوله تعالى : (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) [سورة الحج ـ الآية ٢٩]. وثم مثل قوله تعالى : (ثُمَّ لْيَقْضُوا) [الحج ـ ٢٩].

والشهر منصوب على الظرفية أي حضر فيه.

واللام في (وَلِتُكْمِلُوا) للتعليل ، والجملة عطف على سياق الجملة السابقة ، وقرئ «لتكمّلوا» بالتشديد.

٣٦

بحث دلالي

تدل الآية الشريفة على أمور :

الأول : أنّها تدل على فضل شهر رمضان على سائر الشهور ، وذلك لنزول القرآن الذي هو أشرف الكتب السماوية ـ كما مر ـ وأعظم تجلّ إلهي أبدي في عالم الإمكان ، وفرق بينه وبين تجليه تعالى لموسى بن عمران (عليه‌السلام) بوجوه :

الأول : أنّه تجلّ جزئي بالجزئية الوجودية ـ لا المفهومية ـ لفرد واحد من أفراد الإنسان اللائق ، والقرآن تجلّ إلهي نوعي.

الثاني : أنّ الأول كان في محلّ خاص وهو الجبل ، وهذا من قمة العرش الأعلى إلى قرار الأرض.

الثالث : أنّ في الأول كان التجلّي موجبا لصعق موسى (عليه‌السلام) وتجلّي القرآن موجب لارتقاء القلوب من حضيض الدنيا إلى عالم الغيب المحيط بها ، فيصير المتجلّى له عالما عقليا مضاهيا للعالم العيني.

الرابع : أنّ تجلّي القرآن على قلب نبينا الأقدس (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لم يوجب أن يخر صعقا بل بقي مستقيما باستقامة شروق النور المقدّس الأحدي ، وبقي المتجلّي لهم ببقاء النور المحمدي المقتبس من النور الأقدس الأحدي.

٣٧

الثاني : أنّ قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) يدل ـ أي هذه الجملة المركبة من الشرط والجزاء ـ على أنّ المناط هو ثبوت الشهر وحضوره حقيقة وذلك برؤية الهلال ، أو تقديرا فيما إذا لم يمكن ذلك. وهو لا يدل على أنّ من حضر شطرا من شهر رمضان لا بد له من الإتمام ولو كان مسافرا.

الثالث : أنّ قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) تأكيد لما ذكره عزوجل من سقوط الصوم عن المريض والمسافر دفعا للشكوك والأوهام. وإنّما ذكر السفر مع الظرف دون المرض ، لأنّ الثاني من قبيل الوصف بحال الذات ، والأول من قبيل الوصف بحال المتعلق فيصح بذلك اختلاف التعبير بينهما.

الرابع : أنّ تكملة العدة في شهر رمضان تتحقق بالصيام بين الهلالين ـ أي هلال رمضان وهلال شوال ـ ومع الخفاء فثلاثين يوما كما رواه الفريقان عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «الصوم للرؤية والفطر للرؤية» ، وعن عليّ (عليه‌السلام) : «صم للرؤية وأفطر للرؤية ، فإن خفي عليكم فأتموا الشهر الأول ثلاثين يوما».

الخامس : أنّ قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) يدل على أنّ الملاحظ اليسر والعسر النوعيان منهما لا الشخصيان فلا يرد عليه أنّنا نرى تخلّف ذلك في الصوم وجدانا ، لأنّ الشخص المكلّف إنّما يستفيد من هذه العبادة روحا وجزاء أكثر مما يبذله من الجهد.

السادس : لم يذكر في القرآن الكريم قضاء عبادة إلا حكم قضاء شهر رمضان في قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). ويستفاد منه فروع فقهية كثيرة مذكورة في الكتب الفقهية.

٣٨

بحث علمي

الآية الشريفة تدل على نزول القرآن الكريم في شهر رمضان ، وقد ذكر سبحانه في آيات أخر أنّه كان في ليلة القدر منه ، وهي واحدة من الآيات الكثيرة الدالة على نزوله من الله تعالى على رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وجميعها تدل على عظمة المنزل وأهميته ، قال تعالى : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) [الإسراء ـ ١٠٥]. والكلام في نزول القرآن يقع من ناحيتين :

الأولى : في حقيقة النزول وللعلماء والفلاسفة كلام فيها ، وهو مورد البحث عندهم وقد أفردوا لمسألة الوحي كتبا مستقلة ، وسيأتي البحث عنه في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

الثانية : في كيفية النزول وأنّه هل نزل جملة واحدة أو نزل متفرّقا أو هما معا؟ وما يتعلق به من حيث زمان النزول ومكانه وأول ما نزل. والكلام في المقام في هذه الناحية يقع في أمور :

النزول والتنزيل :

الآيات التي وردت في إنزال القرآن الكريم على قسمين : قسم ورد فيه لفظ النزول الدال على الانحطاط من العلو ـ سواء كان ذلك حقيقيا أو اعتباريا ـ جملة واحدة من دون ملاحظة التفرق والتدرج فيه ، قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) [الدخان ـ ٣] ، وقال تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) [الأنعام

٣٩

ـ ٦] ، وقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر ـ ١] ، وقال تعالى :

(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) [ص ـ ٢٩] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

وقسم آخر ورد فيه لفظ التنزيل الدال على الانحطاط من العلو مع التفرق والتدريج قال تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) [الإسراء ـ ١٠٦] ، وقال تعالى : (نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) [الإنسان ـ ٢٣] وغير ذلك من الآيات الشريفة الدالة على نزول القرآن تدريجا في مجموع مدة بعثة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وهي مدة دعوته البالغة عشرين سنة.

وقد استعملت هاتان المادتان بالنسبة إلى غير القرآن أيضا ، كما ورد في نزول الملائكة قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) [المؤمنون ـ ٢٤] ، وقال تعالى : (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان ـ ٢٥] ، وبالنسبة إلى المطر النازل من السماء ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) [النحل ـ ١٠] ، وقال تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) [الأنفال ـ ١١].

ويمكن أن يكون الوجه في ذلك أنّه يلاحظ تارة المجموع فيستعمل النزول والإنزال ، وأخرى يلاحظ البعض والأجزاء فيستعمل التنزيل.

تعدد النزول :

لا ريب في تعدد نزول القرآن حسب المستفاد من الآيات الشريفة والسنة المقدسة الواصلة إلينا وما ذكره العلماء في ذلك الوجوه :

الأول : أنّه أنزل جملة في شهر رمضان إلى البيت المعمور في السماء الدنيا ، ثم أنزل على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) متفرقا ليقرأه على الناس في مجموع مدة الدعوة وقد وردت في ذلك روايات ففي الكافي عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «سألته عن قول الله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) وإنّما أنزل في عشرين سنة بين أوله وآخره.

فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى

٤٠