مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٦

أولئك قوم ترجحت بهم الأماني من رجا شيئا عمل له ، ومن خاف شيئا هرب منه» ، وعنه (عليه‌السلام) أيضا «لا يكون مؤمن مؤمنا حتّى يكون خائفا راجيا ولا يكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف ويرجو».

فالرجاء لا بد أن يكون مقرونا بالعمل ومع فقده يكون غرورا ، مثل من يلقي البذر في الأرض السبخة ، وقد عزم على عدم تعهد الزرع بالسقي ، وتنقية الأرض وهو يرجو جني الثمار من بذره ، وهذا لا يكون إلا غرورا. بخلاف من ألقى البذر في أرض طيبة ، وقد بنى على التعهد والتنقية وسوق الماء ، وتحقيق كلّ ما هو داخل تحت اختياره في سبيل الحصول على الثمار من زرعه ، ثم يرجو الله تعالى أن يدفع عن زرعه الحوادث والصوارف فيكون رجاؤه محمودا ، وكذا من يرجو الله تعالى والدخول في رضوانه ورحمته لا بد له من الإيمان به ، ومتابعة أنبيائه ، وتطهير القلب من الأخلاق الرذيلة والتحلّي بالأخلاق الفاضلة ثم التعهد بإتيان الطّاعات وترك المعاصي والسيئات ، فيرجو حسن الخاتمة والثبات على الإيمان والمغفرة ، ومثل هذا الرجاء يكون محمودا في نفسه وباعثا على القيام بما يقتضيه الإيمان ويوجب العزيمة في المؤمن ويجعله مثابرا على العمل.

الثالث : إنّ المرجو منه لا بد أن يكون أهلا لما يرجى منه وقادرا على الإجابة ، وهو منحصر به عزوجل لأنّ غيره في معرض الزوال ، ولأنّ عروض الحوادث وأسبابها الخفية غير معلومة لأحد إلا لله تعالى.

نعم ، حيث إنّ الدنيا دار الأسباب ولا تجري الأمور فيها إلا بأسبابها لا بد من تهيئة الأسباب الظاهرية والجدّ والاجتهاد فيها ، ويرجى من الله رفع الموانع التي هي غير معلومة لنا ، فانحصر الرجاء المطلق بالحيّ القيوم ، لأنّ غيره يفنى ولا يدوم.

ثم إنّ للرجاء مراتب ودرجات أعلاها ما إذا كان متعلّقا بالله تعالى وبأسمائه الحسنى وصفاته العليا ، وهذا هو الرجاء المحمود الذي مدحه القرآن الكريم واعتبره أساس العمل الصالح والإيمان الصحيح وموجبا للغفران والارتقاء إلى الدّرجات العليا ، بل ذكرنا أنّ الرجاء الحقيقي لا يكون إلا هذا ويكون

٣٢١

العمل مع هذا الرجاء أعلى من العمل مع الخوف ، فإنّ مثل هذا الرجاء ينبئ عن عبودية صاحبه له عزوجل ، وقوّة معرفته به ، وخوفه منه ، ويكشف عن محبة صاحبه لله تعالى وعلى قدر قوّة المعرفة وشدّة الحب والإخلاص تكون درجات الرّجاء وعلى ذلك يحمل ما ورد في القرآن الكريم من الاختلاف في ذكر المرجو ، قال تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) [الأحزاب ـ ٢١] ، وقال تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) [الكهف ـ ١١٠] ، وقال تعالى : (أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) [البقرة ـ ٢١٨] ، وقال تعالى : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) [العنكبوت ـ ٣٦] ، وقال تعالى : (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) [فاطر ـ ٢٩].

ثم إنّ الرجاء ـ كسائر الفضائل ـ لا بد أن لا يخرج عما هو المطلوب وإلا كان مذموما ، وهو الحد الوسط بين اليأس والقنوط وبين الرجاء بلا عمل.

وللرجاء فوائد وحكم ظاهرة في الدنيا والآخرة ، نذكر المهم منها :

منها : تمامية الإيمان والخلوص والإخلاص فيه والحب لله تعالى.

ومنها : ظهور العبودية المحضة لله تعالى على القلب والجوارح ، وإحساس الافتقار إليه عزوجل.

ومنها : جعل صاحبه مثابرا على الجد والاجتهاد.

ومنها : حصول الاطمينان والسعادة ، فإنّ الرجاء بالمبدأ القيوم الحيّ يؤثر في النفس ويبعد عنها القلق والاضطراب ، لأنّه يرى نفسه متعلّقة بالمبدأ القيوم الذي لا حدّ لقدرته وفضله ، ولذا نرى أنّ المؤمنين الراجين أسعد الناس بالا وأبعدهم عن القلق والاضطراب.

ومنها : حصول المراقبة التي هي من أفضل مقامات الأولياء.

ومنها : أنّه ارتباط معنوي وذكر حالي لله جلّت عظمته ، في جميع الأحوال.

ومنها : أنّه يرغب صاحبه على العمل ويحرّضه على الجهد والاجتهاد

٣٢٢

ويبعده عن التكاسل والتهاون.

ومنها : أنّ العمل معه أقرب إلى القبول لأنّ الله يحب من عباده أن يرجوه ويسألوه من فضله ، كما في الحديث.

ومنها : محبوبية الرّاجين لله تعالى عند الناس وتوجه القلوب إليهم كما كان كذلك سيرة الأنبياء والأولياء ، قال تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) [الأحزاب ـ ٢١].

٣٢٣

سورة البقرة

الآية ٢١٩ ـ ٢٢٠

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠))

ذكر سبحانه في هاتين الآيتين بعض الأحكام الشرعية والتكاليف الإلهية التي لها دخل عظيم في تنظيم حياة الإنسان الفردية والاجتماعية كما أنّ لها تأثيرا كبيرا في تهذيب النفوس وإصلاح الأخلاق ، فقد حرّم الخمر والميسر اللذين يجلبان الشقاء والدمار ، ثم بيّن عزوجل أنّ الإنسان لا بد له أن يطلب في حياته العفو في جميع شؤونه. وأخيرا أمرهم بإصلاح أمر اليتامى الذين هم جزء من المجتمع الإنساني والاعتناء بهم وتنظيم شؤونهم والمخالطة معهم وجعلهم إخوانهم فلا بد من مراعاة الأخوة معهم.

٣٢٤

التفسير

٢١٩ ـ قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ).

تقدم الكلام في جملة (يَسْئَلُونَكَ). ونزيد هنا أنّ هذه الجملة ذكرت في ستة مواضع متواليات ثلاث منها مع حرف العطف ، وثلاثة أخرى مفصولة بدونه. ولعلّ الوجه في ذلك أنّ التي مع العطف وقع السؤال فيها دفعة واحدة ، والتي بدونه وقع السؤال فيها متفرّقا وفي مجالس متعددة.

ومادة (خمر) تأتي بمعنى الستر ، وسمي المسكر خمرا لأنّه يستر القوة العاقلة فلا تميّز بين الخير والشر ، والحسن والقبيح. ومنها الخمار لأنّه يستر رأس المرأة. والخمرة هي السجادة الصغيرة سميت بذلك لأنّها تستر الوجه عن الأرض ، وفي الحديث «كان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يسجد على الخمرة». وخمرت الإناء إذا غطيت رأسها. والخمر : كلّ مايع مسكر ، ويتخذ من أغلب الفواكه ، ويختلف في درجات السكر.

والميسر : هو القمار مشتق من اليسر ، وهو وجوب الشيء لصاحبه أو من اليسر لسهولة اقتناء المال من غير مشقة ، ويسمّى المقامر ياسرا. وأما كيفيته فإنّ له طرقا مختلفة في كلّ عصر بحسبه ، وإن كان له عند العرب كيفية مشهورة.

وقد ذكر الخمر والميسر في موارد متعددة من القرآن الكريم مقرونين بالشيطان والإثم.

٣٢٥

قوله تعالى : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ).

الإثم والأثام : هو العقاب ، وما يمنع عن الخير والثواب ، ولا يستعمل إلا فيما يوجب الشقاء والحرمان ، ويذهب السعادة والإيمان.

ومادة (نفع) تأتي بمعنى ما يتوصل به إلى الخير ، ولها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة ، وتستعمل في الدنيا والآخرة قال تعالى : (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) [النحل ـ ٥] ، وقال تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة ـ ١١٩] ، وإن كان ما يتوصل به شرّا فهو ضرّ ، قال تعالى : (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) [الفرقان ـ ٣] ، وفي العرف يستعمل النفع في المنافع المحرّمة أيضا ، وكذا في اصطلاح الفقهاء ، وهي ليست من الخير في شيء إلا أن يراد بالخير مطلق المنفعة والانتفاع ، كما هو الظاهر. فتتطابق اللغة والعرف والاصطلاح.

والتنكير في الآية إشارة إلى هوان النفع ومجهوليته.

وقد ذكر العلماء مضار الخمر والميسر ومنافعهما ، وصنفوا في ذلك كتبا كثيرة ، وقد أثبتت التجارب صدق ما قاله القرآن الكريم في شأنهما.

قوله تعالى : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما).

المراد من النفع : ما يقصده الناس وإن كان خياليا وهميا. والآية تبيّن واقعهما بما لهما من الآثار في الدّنيا والآخرة ، لاشتمالهما على ما يضرّ الفرد والمجتمع ، بل تأثيرهما في معيشة الإنسان ونسله في الدنيا وسوء العاقبة في الآخرة ، فإذا كان الأمر كذلك فيهما فلا بد للمؤمن أن يترك الإثم الكبير فيهما.

وإنّما وصف سبحانه الإثم بالكبر دون الكثرة ، لبيان عظمة الإثم والعقاب حتّى كأنّ النفع في مقابله يكون معدوما ، ولذا أفرده عزوجل ولم يقل من منافعهما ، لأنّ العدد لا تأثير له في الكبر.

ولم يصف سبحانه الإثم بالكبر إلا في الخمر والميسر. نعم ، وصف الشرك بالعظيم ، قال تعالى : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) [النساء

٣٢٦

ـ ٤٨] ، ولم يشك أحد في حرمة الشرك. ولعلّ ما ورد في السنة المستفيضة من جعل الخمر والميسر من المعاصي الكبيرة مقتبس من هذه الآية الشريفة.

ومن ذلك يعرف أنّ الآية الشريفة ظاهرة في التحريم ، ولا ينبغي الشك في ذلك ، ولو كان بضميمة قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) [الأعراف ـ ٣٢] ، فإنّ هذه الآية تدل على حرمة الإثم صريحا ، والخمر والميسر من مصاديقه. وأما ما ذكره جمع من المفسرين من أنّ الآية لا تدل على حرمة الخمر صريحا ، لأنّها تدل على أنّ فيهما الإثم وهو أعم من الحرمة ، فلا يستفاد منها تشريع عام يطالب به جميع الأمة ، ولذا كانت مورد اجتهاد الصحابة فترك الخمر بعضهم ولم يتركها آخرون ، وكان ذلك تمهيدا للقطع بتحريمها حتّى نزل قوله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [المائدة ـ ٩٣]. فإنّ فساده واضح ، لأنّ الآية نص في أنّ في الخمر والميسر إثما ، والإثم بمعنى العقاب كما يظهر من موارد استعمالاته ، قال تعالى : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) [النساء ـ ٤٨] ، ومجرد مقابلته للنفع في المقام لا يدل على كونه بمعنى الضرر ، كما عرفت ، فصرف الآية بالاجتهاد إلى غير ما هي نص فيه اجتهاد في مقابل النص ، يضاف إلى ذلك أنّ آية المائدة التي نزلت بعد هذه الآية تدل على توبيخ شديد لمن هتك الحكم واستعمل الخمر ولا يكون ذلك إلا فيما هو محرّم مؤكد في الشريعة قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة ـ ٩٢ ـ ٩٣].

قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ).

مادة ـ (نفق) تأتي بمعنى المضيّ والنفاذ أي المضيّ من محل إلى محل آخر ، والنفاذ من موضع والوجدان في موضع آخر ، وهي كثيرة الاستعمال في

٣٢٧

القرآن الكريم بالنسبة إلى الله تعالى ، وبالنسبة إلى العباد وتنقسم إلى الواجب وغيره ، كما تعم المال وغيره ، كالأخلاق الفاضلة ونحوها.

ومادة (عفو) في جميع استعمالاتها الكثيرة تتضمن معنى السهولة سواء كانت خالقيا أو خلقيا ، ولعلّ من أعذبها قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف ـ ١٩٩] ، الذي هو مجمع الكمالات. وقوله تعالى : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [الشورى ـ ٤٠] ، والعفو من أسماء الله المقدّسة ، لأن تدبير النظام الأحسن في الدنيا لا يتم إلا بذلك.

والمعنى : يسألونك عما يتعلّق بالإنفاق ذاتا وصفة ، وصرفا ، ومصرفا قل إنّه سهل عليكم ، ومنه الوسط لا الإفراط ولا التفريط ومنه تقديم النّفس وذوي القرابة ، ومنه نزاهة المنفق به عن الحرام والشبهات ، كما أن منه خلوص الإنفاق عن الرياء والمنة.

ومن ذلك يعرف : أنّ جميع ما ذكره المفسرون من صغريات ما ذكرناه لا أن يكون من المعاني المتباينة ، وكذا ما ورد في الأخبار على ما يأتي في البحث الروائي.

وماذا من المبهمات ، كما أثبته علماء الأدب تبعا للمحاورات ، فيطلق على الذات ، والصّفات ، والحالات ، ولا يختص بخصوص السؤال عن الذات لا سيّما بعد كون حسن الإنفاق بأصل الحال من الفطريات مع أنّ السائلين هم من العرب الذين تضرب بجود بعضهم الأمثال فيكون السؤال عن الجهات الخارجة عن الذات ، وإنّما عبّر تعالى بهذا التعبير ، لكونه أشمل وأجمع.

وقد كرر هذا السؤال في موردين أحدهما المقام ، والثاني قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) ـ الآية [البقرة ـ ٢١٥] ، وقد بيّن سبحانه فيه المصرف. ولعلّ الوجه في ذلك بيان أهمية الإنفاق والإيثار على النفس ، فإن له التأثير الكبير في النظام الاجتماعي ، والتكافل بين الأفراد والاتحاد بينهم لا سيّما إذا كانوا محتاجين قد داهمهم الفقر والحاجة ، فيظهر أثر الإنفاق في وحدتهم وتماسكهم وعزّتهم ، وكان ذلك ظاهرا في بدء الدّعوة

٣٢٨

وأول الإسلام ، ولأنّ الإنفاق يشوبه ما لا يرتضيه الرّب ، وما لا يليق بالإنفاق المحمود ، فاقتضى ذلك تكراره وبيان الخصوصيات بكلمات جامعة تبيّن جميع جوانبه.

وفي الآية روعة الأسلوب ، وجمال في اللفظ والمعنى تؤثر في النفس فيرغب الإنسان عند سماعها إلى الإنفاق ، وبذل المال ، واعتباره سهلا يسيرا وإن كان ما أنفق مالا كثيرا ، وتحصل حالة انبساط للغني والفقير ، والجواد والبخيل ، وهي تدعو المنفق إلى إمعان النظر فيما ينفقه والمنفق عليه وأصل الإنفاق.

وسياق الآية مثل قوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج ـ ٧٨] ، وقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة ـ ١٨٥].

قوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ).

الآيات جمع آية ، وهي العلامة الظاهرة الملازمة لظهور شيء آخر ، فإذا أدركت الآية أدرك ذلك الشيء أيضا. وبعبارة أخرى الآية دليل ظاهر لمدلول يظهر بها بعد إدراكها ، كما هو شأن جميع العلل الإثباتية. وجميع ما في القرآن من الأحكام الإلهيّة والآثار الوضعية علامات واضحة وأدلة قاطعة لمداليل تظهر بها بعد التأمل والتفكر. كما أنّ شعاع الشمس علامة لإثبات وجودها كذلك جميع الموجودات آيات كونية على وحدانية الله تعالى وحكمته وكماله.

وفي كلّ شيء له آية

تدل على أنّه واحد

وكتابه التشريعي مطابق لكتابه التكويني من هذه الجهة ، فيكون جميع ما سواه من آيات جماله وجلاله وكبريائه ، والعوالم في كتابه التكويني كسور القرآن في الكتاب التشريعي. وأما كتابه الأنفسي ـ أي الإنسان الكامل ـ الجامع بين كتابيه التكويني والتشريعي ، ففيه من الآيات والحكم ما لا يخفى.

٣٢٩

والمعنى : بمثل هذا البيان وبهذا النحو من الحكمة يشرّع الله تعالى الأحكام ويبيّن الآيات التي تتعلّق بمصالح العباد وسعادتهم.

قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ).

الظرف ـ في الدنيا والآخرة ـ متعلق بقوله تعالى : (تَتَفَكَّرُونَ). أي أنّ غاية تشريع الأحكام ، والحكمة في جعلها أنّها تجعلكم تستعملون عقولكم وتتفكرون في أمر الدّنيا والآخرة وشؤونهما ، وتعملون ما فيه صلاحكم في الدّارين.

والفكر : قوة مودعة في الإنسان توجب العلم بما يراد ، وبها امتاز عن سائر المخلوقات ، والتفكر إعمال تلك القوة ، وقد ورد في الكتاب العزيز والسنة الشريفة الاهتمام الكبير بإعمال هذه القوة التي هي من أعظم وودائع الله جلّ جلاله في هذا العالم ، ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة». وسيأتي في الآيات المناسبة ما يتعلّق بذلك.

وفي الآية حث للإنسان على البحث عن حقائق الموجودات وأسرار الطبيعة ، والتفكر في أمور المبدأ والمعاد ، وجميع ما هو مرتبط بمصالح الإنسان من حيث سعادته أو شقاوته وكشف المعارف والعلوم وترغيب له في أن لا يأخذ شيئا إلا بعد التروّي والتفكر فيه.

ثم إنّه لم يرد في القرآن الكريم بالنسبة إلى الفكر المطلوب له تعالى إلا لفظ التفكر ، والغالب اقترانه بالآيات ، ومثل هذا التأكيد لا ينبغي أن يكون مورده الزائل الفاني ، والحادث المتغيّر ، بل يقصد القرآن من ذلك أن يستعمل الفكر فيما هو الأصلح والأنفع للإنسان في الدنيا والآخرة ، وهو جميع العلوم والأمور المرتبطة بالمبدأ والمعاد ، فإنّ التفكر فيهما يدعو الإنسان إلى اختيار الطّريق المستقيم وما هو سبب لنجاته من أهوال المعاد ، كما يدعوه إلى اتباع رشده والإيمان بالله تعالى وما أنزله على الأنبياء والمرسلين ، والعمل بما هو الصّلاح له في الدّارين ، وهذا هو التفكير الصحيح الذي تدعو إليه جميع

٣٣٠

الكتب السّماوية والسنة الشريفة ، ويأتي تفصيل هذا الإجمال بعد ذلك.

٢٢٠ ـ قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ).

الآية تتضمن حكما من الأحكام الاجتماعية النظامية ، وهو الاهتمام بشؤون اليتامى ، فأمر سبحانه بالإصلاح لهم في جميع شؤونهم فإنّه من الخير المحبوب لدى الجميع ، فيشمل إصلاح نفوسهم بالتربية والأدب ، وإصلاح أموالهم بالتنمية والتكثير ، وإصلاح المعاشرة معهم ، كلّ ذلك لإطلاق الآية الشريفة فإنّها تشمل جميع أنحاء الإصلاح في النفوس والأموال والأحوال.

والتنكير فيها يدل على أنّ هذا الإصلاح لا بد أن يكون واقعيا لا مجرّد الإصلاح الظاهري الادعائي فقط ، ويرشد إلى ذلك قوله تعالى في ذيل الآية الشريفة : (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ).

وسياق الآية المتضمنة لنوع من التسهيل في أمر اليتامى حيث إنّها أجازت مخالطة اليتامى ، وذكر سبحانه في ذيلها : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) يكشف عن أنّ الحكم في أمر اليتامى كان شديدا ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) [النساء ـ ٩] ، وقوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) [النساء ـ ٢] ، ومن ذلك يظهر أنّ هذه الآية نزلت بعد تلك الآيات ، وهذا مما يؤكده بعض الروايات كما سيأتي في البحث الروائي.

قوله تعالى : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ).

عناية أخرى بأمر اليتامى حيث أمر الناس بالمخالطة معهم ، واعتبرها كمخالطة الأخ لأخيه ، وليس من شأن الأخوة ابتعاد بعضهم عن البعض.

والآية تشير إلى أهم ركن من أركان الاجتماع الذي به تتحقق المساواة بين الأفراد ، وهو الأخوة بينهم فإنّها إن تحقّقت في أي اجتماع جلبت الخير والسعادة لهم والإخلاص بين أفراده مع الصفاء وحسن النيّة ، وتجعل الفرد يشعر بأنّه يسعى إلى مصلحة المجتمع وهذه هي الأخوة الحقيقية التي نادى

٣٣١

بها الإسلام في قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات ـ ١٠] ، وفيها تلغى الأنانية وما يوجب فساد المجتمع من أنواع البغي والظلم ، كالاستعباد والاستكبار ونحوهما ، وبذلك تتحقق المعادلة بين جميع الأفراد ويعم الخير والسعادة بينهم.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ).

إعلام منه تعالى بأنّه لم يكل أمر اليتامى إلى الناس فقط بل جعل نفسه الأقدس مشرفا عليهم لعناية خاصة بهم ، فقد بيّن عزوجل أنّه العالم بحقيقة الأمر وما تضمره القلوب ، ويميّز بين من قصد الإصلاح ومن قصد الإفساد ، فلا تفسدوا بالنسبة إلى اليتامى فإنّه يجازيكم على ذلك ، وهذا من باب ذكر السبب وإرادة المسبب ، وهذه الآية ترشد الناس إلى مراقبة النفس ، وهي لا تتم إلا بمراقبة الله تعالى في الأعمال والنيات.

قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ).

مادة (عنت) تأتي بمعنى المشقة ، والهلاك ، والذلة ، قال تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) [التوبة ـ ١٢٨] ، وقال تعالى : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [طه ـ ١١١].

والمعنى : ولو شاء الله لأوقعكم في المشقة والكلفة في أمر اليتامى ولكن ما جعل عليكم في الدّين من حرج ، وهو يريد لعباده اليسر لا العسر ، فلا يكلّفهم إلا بما يناسب حالهم فأباح مخالطتهم والمعاملة معهم معاملة الأخوة.

وهذه الآية تدل على أنّ في الحكم نوعا من التخفيف والتسهيل.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

أي إنّ الله قويّ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا راد لقضائه ، حكيم في أفعاله يحكم وفق الحكمة ، ويجري التكاليف على حكمة العدل والمصلحة.

والعزّة والحكمة من صفات الذات وهي غير محدودة بحد أبدا ، وهكذا الصفات الذاتية.

٣٣٢

بحوث المقام

بحث روائي

في تفسير العياشي عن عامر بن السمط عن عليّ بن الحسين (عليه‌السلام) قال : «الخمر من ستة أشياء : التمر ، والزبيب ، والحنطة ، والشعير ، والعسل ، والذرة».

أقول : الخمر : ما يخمر العقل ويصح إطلاقها بهذا المعنى على كلّ ما له هذا الأثر ، فيكون الحصر في الحديث إضافيا وقد تقدّم أنّ الخمر تؤخذ من أغلب الفواكه.

في الكافي عن الباقر (عليه‌السلام) : «ما بعث الله نبيا قط إلا وفي علم الله تعالى أنّه إذا أكمل له دينه كان فيه تحريم الخمر ولم تزل الخمر حراما وإنّما ينقلون من خصلة ثم خصلة ولو حمل ذلك عليهم جملة لقطع بهم دون الدّين».

أقول : يستفاد منه أنّ تشريع القوانين إنّما هو بالتدرج والتأني بحسب مقتضيات الظروف والاستعدادات. وأنّ الخمر حرام في جميع الأديان الإلهية بل حرمتها عقلية كما ذكرنا مرارا.

في الكافي عن عليّ بن يقطين قال : «سأل المهدي أبا الحسن (عليه

٣٣٣

السلام) عن الخمر قال : هل هي محرمة في كتاب الله عزوجل ، فإنّ الناس إنّما يعرفون النّهي عنها ولا يعرفون التحريم لها؟ فقال له أبو الحسن (عليه‌السلام) : بل هي محرّمة في كتاب الله فقال : في أي موضع محرّمة في كتاب الله عزوجل يا أبا الحسن؟ فقال (عليه‌السلام) : قول الله عزوجل : (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) فأما قوله (ما ظَهَرَ مِنْها) : يعني الزنا المعلن ، ونصب الرايات التي كانت تعرفها الفواجر للفواحش في الجاهلية.

وأما قوله تعالى : (وَما بَطَنَ). يعني : ما نكح من الآباء ، لأنّ الناس كانوا قبل أن يبعث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إذا كان للرجل زوجة ومات منها تزوج بها ابنه من بعده إذا لم تكن أمه فحرّم الله عزوجل ذلك.

وأما الإثم فإنّها الخمر بعينها ، وقد قال الله عزوجل في موضع آخر : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) فأما الإثم في كتاب الله عزوجل فهي الخمرة والميسر وإثمهما أكبر كما قال الله تعالى فقال المهدي : يا عليّ بن يقطين هذه فتوى هاشمية فقلت له : صدقت والله يا أمير المؤمنين الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت قال : فو الله ما صبر المهدي ـ الى أن قال لي ـ : صدقت يا رافضي».

أقول : هذه الرواية مطابقة لما قلناه.

وفي الكافي أيضا عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : إنّ الخمر رأس كل إثم».

أقول : يشهد له الاعتبار والعقل وكنيتها بأم الخبائث كما في النصوص.

وفي الكافي أيضا عن جابر عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «لعن رسول الله في الخمر عشرة : غارسها ، وحارسها ، وعاصرها وشاربها ، وساقيها ، وحاملها ، والمحمول إليه ، وبايعها ، ومشتريها ، وآكل ثمنها».

وفي الخصال قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ملعون ملعون من جلس على مائدة يشرب عليها الخمر».

٣٣٤

أقول : إطلاقه يشمل ما إذا كان الخمر بصورته المتعارفة أو في ضمن شيء آخر.

وفي الكافي عن إسماعيل قال : «أقبل أبو جعفر (عليه‌السلام) في المسجد الحرام فنظر إليه قوم من قريش فقالوا : هذا إمام أهل العراق فقال بعضهم : لو بعثتم إليه ببعضكم فسأله فأتاه شاب منهم فقال : يا عم ما أكبر الكبائر؟ قال (عليه‌السلام) : شرب الخمر».

أقول : يمكن أن يكون المراد من قوله : «أكبر الكبائر» بالإضافة إلى سائر المحرّمات فإنّ الكبائر متفاوتة في الإثم ويستفاد من بعض الأخبار أنّ الشرك بالله تعالى أكبر الكبائر فلا منافاة بين الرّوايات لأنّ الأكبرية من الأمور الإضافية شدّة وضعفا ويأتي في البحث الأخلاقي ما يرتبط بالمقام.

وفي الكافي عن جابر عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «لما نزل قول الله عزوجل على رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) قيل : يا رسول الله ما الميسر؟ قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : كل ما تقامر به حتى الكعاب والجوز».

أقول : الميسر موضوع للحكم باعتبار معناه اللغوي ، فيشمل مطلق القمار.

وفي تفسير العياشي عن علي بن محمد الهادي (عليه‌السلام) عن قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) فما المنفعة جعلت فداك؟ فكتب (عليه‌السلام) : كل ما قومر به فهو الميسر ، وكل مسكر حرام.

أقول : هذا إعراض عن تفصيل الجواب لمصلحة وتقدّم ما يدل على ذلك.

في الكافي وتفسير العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) قال (عليه‌السلام) : «العفو : الكفاف».

٣٣٥

وفي رواية أخرى عن أبي بصير قال : «العفو القصد».

وفي المجمع عن الباقر (عليه‌السلام) : «العفو ما فضل عن قوت السنة».

وفيه أيضا عن الصادق (عليه‌السلام) ، «العفو الوسط من غير إسراف ولا إقتار».

أقول : كلّ ما ذكر من المعاني في العفو مطابق لما ذكرناه في التفسير والروايات متقاربة في المعنى.

وفي الدر المنثور في قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) عن ابن عباس : إنّ نفرا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقالوا : لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا ، فما ننفق منها؟ فأنزل الله تعالى (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) وكان قبل ذلك ينفق ماله حتّى ما يجد ما يتصدّق به ولا مالا يأكل حتّى يتصدّق عليه».

أقول : روي قريب من ذلك في عدة روايات.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) ـ الآية ـ عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «إنّه لما نزلت : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) أخرج كل من كان عنده يتيم ، وسألوا رسول الله في إخراجهم فأنزل الله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ).

وفي المجمع عن الباقر (عليه‌السلام) : «لما نزلت : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) كرهوا مخالطة اليتامى فشق ذلك عليهم فشكوا إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فنزلت الآية».

أقول : يستفاد من الحديث أنّهم زعموا أنّ التجنب عن الأيتام من حسن المعاشرة معهم فنهى الله عن ذلك وأمر بالإصلاح.

وفي الدر المنثور عن ابن عباس قال : «لما أنزل الله (وَلا تَقْرَبُوا مالَ

٣٣٦

الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى) ـ الآية ـ انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيجس له حتى يأكله أو يفسد فيرمى به فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فأنزل الله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم».

أقول : الجسّ هو التتبع ومرّ ما يتعلق بالحديث.

٣٣٧

بحث فقهي

يستفاد من الآيات الشريفة أحكام شرعية وهي :

الأول : يستفاد من قوله تعالى : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ) حرمة الخمر والميسر بل الحرمة فيهما من ضروريات الدّين ولا ينكرها أحد ، والخمر لا تختص بصنف خاص ، بل كل مسكر خمر وكلّ خمر حرام بإجماع أئمة الحقّ والمسلمين ونصوص سيد المرسلين وأئمة الدّين (صلوات الله عليهم أجمعين) ومنه الفقاع فإنّه خمر استصغره الناس كما في الحديث.

كما أنّه لا يختص الميسر بصنف خاص من القمار بل يشمل كلّ ما يسمّى قمارا وإن لم يكن مثل ما كان شايعا في عصر التنزيل.

الثاني : يستفاد من قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) محبوبية الإنفاق والصّدقات مطلقا ولا يختص بخصوص قسم خاص من الإنفاق بل يشمل جميع أقسام الإنفاق من الواجب والمندوب ولكن للإنفاق مطلقا آدابا وشروطا مذكورة في كتب الفقه.

الثالث : إنّ حفظ اليتيم ومراعاته والقيام بشؤونه من التكاليف النظامية وقد يصير تكليفا عينيا لأجل أمور كما هو مفصّل في الفقه وقد اهتم الشرع بهذا الموضوع وورد في فضله روايات كثيرة ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيما رواه الفريقان : «أنا وكافل اليتيم كهاتين في

٣٣٨

الجنة» وجمع بين إصبعيه السبابة والوسطى ، ويتضاعف الثواب لأجل عروض عناوين خاصة كما إذا انطبق عنوان القرابة والرحمية كما يتضاعف إذا كان أنثى ونحو ذلك.

واليتيم كل صبيّ انقطع عن أبيه وهو محجور عن التصرف في أمواله ويرتفع حجره إذا بلغ رشيدا وانقطع يتمه بعد بلوغه ، لقول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في جوامع كلماته المباركة التي اختص بها : «لا يتم بعد احتلام ، ولا رضاع بعد فطام».

ولا يجوز لأحد التصرّف في أموال اليتامى ونفوسهم إلا مع وجود المصلحة ، وقيل يكفي عدم المفسدة ، وقد ذكرنا التفصيل في الفقه في كتاب النكاح من (مهذب الأحكام).

الرابع : لا يختص اليتيم بمن علم انتسابه إلى أب معلوم مات بعد ولادة اليتيم ، بل يشمل اللقيط في بلاد الإسلام وعلم بموت والده ولو بالقرائن.

الخامس : يجوز للمتصدي لأمور اليتيم بالوجه الشرعي أن يأخذ أجرة مثل عمله من مال اليتيم إذا لم يقصد المجانية ، لأصالة احترام العمل إلا ما خرج بالدّليل ، ولو لم يكن لليتيم مال يجرى عليه من بيت المال ، والمتصدّي لذلك الحاكم الشرعي أو من يكون مأذونا من قبله.

السادس : أطلق سبحانه إصلاح اليتامى ولم يقيّده بقيد وهو من الأمور العرفية المختلفة باختلاف الأزمنة والأمكنة وسائر الجهات ، فالمناط كلّه عرف المتشرعة ولكن لا بد من الاهتمام بالتربية الدينية لهم لأنها أكبر إصلاح لهم وأهم ، ومن فقد العلم والآداب فهو أشد يتما وإن كان في حياة والده وسيأتي في الآيات المناسبة ذكر بقية أحكام اليتامى.

٣٣٩

بحث أخلاقي

من الأمور التي اهتم الإسلام بها واعتنى بها اعتناء بليغا وشدّد النكير على ارتكابها. ونهى عنها بأساليب مختلفة ووصفها بأوصاف متعدّدة تنبئ عن أنّها من شرّ الرذائل وأخبث الأمور ، الخمر والميسر فقد ذكرهما في مواضع متعددة من القرآن الكريم ووصفهما بأنّهما من خطوات الشيطان الذي يريد أن يوقع بهما بين أفراد الإنسان العداوة والبغضاء ، وأثبت فيهما الإثم الكبير ، كما اعتبرهما من الرّجس الذي يجب الاجتناب عنه وأصرّ الإسلام على ذمهما والاستهانة بهما ففي السنة الشريفة من ذلك الشيء الكثير ، ويكفي في خستهما أنّهما من أفعال أهل الجاهلية فقد كانا منتشرين قبل الإسلام ، ونزل القرآن ينهى عنهما على سبيل التدرج ، فنزل قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) فذكر فيه الإثم والمنفعة ورجح الإثم عليها وكان ذلك كافيا في الرّدع ثم نزل قوله تعالى في الخمر : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء ـ ٤٣] ، وأخيرا ورد الأمر بتركهما في قوله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) [المائدة ـ ٩١].

وقد ذكر سبحانه كلمة جامعة تكشف عن جميع ما يتعلّق بهما وما ينطوي فيهما من الأضرار والمخاطر ، فقال عزوجل : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) وإذا ألقي هذا الخطاب الكريم إلى

٣٤٠