مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٦

نخلة ، فمرّ بهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان ، وعثمان والمغيرة بن عبد الله معهم تجارة قد مرّوا بها من الطائف أدم وزيت ، فلما رآهم القوم أشرف عليهم واقد بن عبد الله ، وكان قد حلق رأسه فلما رأوه حليقا ، قال عمار : ليس عليكم منه بأس ، وائتمر القوم بهم أصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهو آخر يوم من جمادى ، فقالوا : لئن قتلتموهم إنّكم لتقتلونهم في الشهر الحرام ولئن تركتموهم ليدخلنّ في هذه الليلة مكة الحرام فليمتنعنّ منكم ، فأجمع القوم على قتلهم ، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله ، واستأسر عثمان بن عبد الله ، والحكم بن كيسان وهرب المغيرة فأعجزهم ، واستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقال لهم : والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ، فأوقف رسول الله الأسيرين والعير فلم يأخذ منها شيئا ، فلما قال لهم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ما قال سقط في أيديهم ، وظنوا أن قد هلكوا وعنّفهم إخوانهم من المسلمين ، وقالت قريش ـ حين بلغهم أمر هؤلاء ـ : قد سفك محمد الدم الحرام وأخذ المال ، وأسر الرجال ، واستحل الشهر الحرام ، فأنزل الله في ذلك : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) ـ الآية فلما نزل ذلك أخذ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) العير ، وفدى الأسيرين.

فقال المسلمون : يا رسول الله أتطمع أن يكون لنا غزوة؟ فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ). وكانوا ثمانية ، وأميرهم التاسع عبد الله بن جحش.

أقول : الروايات في عدد السرية مختلفة ففي بعضها سبعة وأميرهم عبد الله بن جحش. كما أنّها مختلفة في السائلين ، وقد ذكرنا أنّه يمكن أن يكون السؤال من المشركين والمسلمين ، ويؤيده رواية تفسير القمي.

٣٠١

وقد ذكر في كون القتال كرها وجوه :

منها : أنّ القتل والقتال متضمن لفناء النفوس والتعرض للآلام ، وذهاب الأموال ، ومفارقة الأهل والأحبة ، وارتفاع الأمن والرفاهية ، وغير ذلك مما أوجب كراهية النفوس له ومشقته على الناس طبعا ، وإن كان المؤمنون لا يرفضون ذلك من حيث إنّ الله تعالى أراد منهم ذلك ويشبه ذلك الدواء الذي يتناوله المريض فإنّه يرفضه بطبعه ، ولكن من حيث إنّه يريد الصحة والشفاء فإنّه يرغب إليه.

ومنها : أنّ ذلك بالنسبة إلى بعض المؤمنين دون جميعهم ، فإنّ الله تعالى مدح طائفة بالطاعة والصدق والاستقامة في الدّين ، وعاتب طائفة أخرى بالتهاون والزيغ والنفاق فنسب الكراهة إلى جميعهم باعتبار أنّ بعضهم كاره له ، وهذا جار في معاتبة الأقوام والأمم ، كما هو ظاهر من الآيات القرآنية.

ومنها : أنّ المؤمنين كانوا يكرهون القتال لأنّهم كانوا يخافون الغلبة للعدوّ الذي له من القوة والعدّة ما لم تكن للمسلمين ، فلا يتم لصلاح الإسلام والمسلمين ، فهم في الواقع يكرهون الاستعجال فيرون الأصلح فيه التأخير حتّى يتم لهم الاستعداد.

ومنها : أنّ المؤمنين تربّوا بتربية القرآن وتخلّقوا بالأخلاق الفاضلة فامتازوا بالشفقة والرحمة ، فهم يكرهون القتال لكونه خلاف ذلك والحق ما ذكرناه من أنّ القتال مع أعداء الدّين والمشركين من حيث كونه إزهاقا للروح وموجبا لتوارد الآلام والبعد عن الأوطان ، وإفناء للأموال فهو مكروه للنفوس ، ومن حيث كونه مأمورا به وموجبا لإعلاء كلمة الحق وكون مآله الراحة الأبدية وإن اقترن بالهموم والغموم الدنيوية ، فهو محبوب للمؤمنين المخلصين في إيمانهم الراغبين في نصرة الإسلام ودين الحق. فحكم هذه الآية من الأحكام العقلية الواقعية.

قوله تعالى : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ).

٣٠٢

عسى في مثل هذه الآيات إنّما أتي بها بلحاظ حال المخاطب ، فيصح الكلام حينئذ من دون عناية ، كما يقول الأب الحكيم لولده : شاور في أمورك أهل النصيحة والإخلاص عسى أن يكمل عقلك. وإن استعملت بلحاظ حال المتكلّم فلا بد أن تصرف عن معناها الحقيقي لاستحالة التمنّي والترجي والطمع بالنسبة إليه جلّت عظمته ، وقد تقدّم ما يتعلّق بذلك فيما مرّ من الآيات.

وهذه الآية الكريمة وما في سياقها تدل على أنّ ما وراء هذا العالم المادي الذي يدور مدار الأوهام والخيال عالم آخر لا يكون فيه إلا الحقائق المتأصلة والإدراك الصحيح المطابق للواقع ، فربما يكون ما نزعمه خيرا في هذا العالم شرّا في ذلك العالم ، وربما يكون شرّا في هذا خيرا في ذاك ، وقد ثبت ذلك بالأدلة العقلية أيضا ، وأيدت بالتجارب الشخصية والنوعية ، ولا معنى للاستكمال إلا ذلك.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

تأكيد لما تقدّم ، وبيان لخطأ معتقدهم ، فإنّه بعد أن ذكر ما تزلزل به جهلهم المركب وحصل لهم الشك في اعتقادهم وتصورهم أعقب سبحانه ذلك بأنّه عالم بحقائق الأمور وأثبت العلم المطلق ونفاه عنهم وأنّهم لا يعلمون إلا ما علّمهم الله تعالى ، فلا بد من تسليم الأمر إليه.

والآية تثبت العلم المطلق لله عزوجل ، وقد دلّت الأدلة العقلية والشرعية عليه ، فإنّ العلم الحقيقي إنّما هو فيما إذا كان علما بمبدإ الشيء ، وغايته ، ومادته ، وصورته ، وجميع عوارضه الشخصية. وتمام جهات استكماله وزمانه ، ومكانه ، وبقائه ، وفنائه وما يتعلق به ، وما يتفرّع عنه كلّ ذلك على نحو العلم الحضوري الفعلي الإحاطي ومثل ذلك محال بالنسبة إلى غيره جلّت عظمته ، لأنّ الأشياء من أول حدوثها إلى آخر ما يتوارد عليها من الصور والاستكمالات حاضرة لديه فعلا بلا تدرج وجودي ، أو تخلل زمان في البين ، فهي في هذا العالم كنقطة واحدة حاضرة لديه بلا تقدم وتأخر في البين.

٣٠٣

وهذا هو الذي حيّر جميع الأفهام وزلت فيه الأقدام ، مع كون العلم عين ذاته الأقدس فكيف يمكن أن يوجد مثل هذا العلم في غيره. مضافا إلى أنّ العلم الحضوري الحقيقي مختص به وعلم ما سواه حصولي على مراتبه الكثيرة ، مع أنّ غالب علوم ما سواه اعتقادي وهو أعم من الإحاطة الواقعية بحقيقة الشيء ، ولذلك كلّه كان علمه عزوجل على الإطلاق ، كما هو قوله عزوجل : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ، وفي بعض الدّعوات المأثورة : «سبحانك تعلم وزن الظلمة والنور ، سبحانك تعلم وزن الفيء والهواء ، سبحانك تعلم وزن الرّيح كم هي من مثقال ذرة ، سبحانك تعلم عجيج الوحوش في الفلوات ومعاصي العباد في الخلوات وأنين الحيتان في البحار الغامرات ، سبحانك تعلم لمحات العيون وخطرات القلوب وخائنة الأعين وما تخفي الصدور». ومبحث علمه عزوجل من المباحث الجليلة المهمة في علمي الفلسفة والكلام ، وسيأتي في الموضوع المناسب شرح ذلك إن شاء الله تعالى.

٢١٧ ـ قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ).

جملة قتال فيه بدل اشتمال عن الشهر الحرام ، لأنّ الزمان يشتمل على ما يقع فيه ، ونظيره في المكان قوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) [البروج ـ ٤].

والمعنى : يسألونك عن القتال في الشهر الحرام.

وإنّما وقع السؤال عن الشهر تعجبا من هتك حرمته ، وإلا فإنّه كان لأجل القتال فيه.

ومن مجموع السؤال والجواب يستفاد أنّ حادثة وقعت في الشهر الحرام اقتضت هذا السؤال ، وقد ورد في الروايات ما يبيّن تلك الحادثة ، ويأتي في البحث الروائي ذكرها.

والسؤال يمكن أن يكون من المسلمين على سبيل الاستفهام ، أو من المشركين على سبيل الإنكار.

٣٠٤

قوله تعالى : (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ).

أي : قل في جوابهم إنّ القتال في الشهر الحرام كبير إثمه إن لم يعارضه ما هو أكبر منه ، فإنّ ترك القتال في الشهر الحرام إنّما هو لأجل حرمة الشهر الحرام واحترام الناس له فإذا عارض ذلك ما هو أعظم وأكبر ، كالفتنة من المشركين والصد عن سبيل الله أو إذا ابتدأ المشركون بالقتال في الشهر الحرام فلا ريب في جواز قتالهم حينئذ. وكيف كان فالآية تدل على حرمة القتال في الشهر الحرام.

قوله تعالى : (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ).

هذه الآية وردت في ذم المشركين ، وذكر مطاعنهم وما اقترفوه من الكبائر التي أوجب قتالهم ، فذكر سبحانه أمورا أربعة :

الأول : الصدّ عن سبيل الله. والصدّ يأتي بمعنى الصّرف والمنع ، قال تعالى : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) [النمل ـ ٢٤] ، وربما يأتي بمعنى الانصراف أيضا ، قال تعالى : (يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) [النساء ـ ٦١].

وغالب استعمال هذه الكلمة إنّما هو في الصّرف والمنع عن الحق وهي كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات مختلفة.

والمراد من سبيل الله : عبادته والدخول في دينه ، ومنه منع النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومن معه من المؤمنين عن دخول مكة المكرمة.

الثاني : الكفر بالله جلّت عظمته.

الثالث : الصّد عن المسجد الحرام إذا كان عطف (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) على سبيل الله ، فيكون من باب ذكر الخاص بعد العام تأكيدا وتعظيما ، ويصح العطف على الضمير في (بِهِ) ، أي كفر بالمسجد الحرام ، لأنّ إلقاء احترام المسجد الحرام المجعول له كفر به شرعا.

٣٠٥

الرابع : إخراج أهل المسجد منه ، وهم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والمؤمنون. وهذه كلّها جرائم ارتكبها المشركون بحق النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والمؤمنين والإسلام ، وقد وصفها سبحانه بأنّها أكبر عند الله ، يعني أنّه لو فرض أنّ قتال بعض أصحاب النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) للمشركين في الشهر الحرام وقع عن علم أو غير علم ، فإنّ ما يصدر من المشركين من الجرائم والجنايات أكبر عند الله تعالى.

وقوله عزوجل : (أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) خبر للمبتدءات الثلاثة في الجملة السابقة المعطوف بعضها على بعض.

قوله تعالى : (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ).

جملة مستأنفة تبيّن العلّة التي من أجلها شرع القتال مع المشركين.

يعني : إنّ ما أنتم عليه من الشرك الاعتقادي الموجب لكلّ فتنة وافتتان بين المسلمين أكبر وأعظم من القتل فلا يحق للمشركين الطعن في المؤمنين.

ولقد جاهد المشركون في افتتان المؤمنين عن دينهم بشتّى الأساليب من إلقاء الشبهات ، والدّعوة إلى الكفر ، والتعذيب وغير ذلك.

قوله تعالى : (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا).

بيان لحكم من أحكام الصراع بين الحق والباطل الذي يظهر في كل عصر في مظاهر ، ويتطوّر في كلّ دهر بأطوار ، وهو من شعب معاداة الشيطان للرّحمن والإنسان.

وفيه التفات إلى خطاب المسلمين لتحذيرهم وإرشادهم إلى عداوة المشركين لهم ما داموا على الإيمان. أي أنّ المشركين لا همّ لهم إلا أن يقاتلوكم ليردوكم عن دينكم ، وهم يجهدون في ذلك غاية جهدهم واستطاعتهم.

وقوله عزوجل : (إِنِ اسْتَطاعُوا) استبعاد لما يريدونه ، وإيعاز إلى عدم

٣٠٦

الوصول إلى غرضهم. وفيه إيماء إلى غاية جهدهم في ذلك. كما أنّ فيه البشرى بأنّهم لا يستطيعون مهما جهدوا في ذلك فإنّ الحق لا يزول فقد نزل من السّماء وله دولة ، وإن كان للباطل جولة.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ).

الارتداد والردة : الرجوع إلى الطريق الذي جاء منه ، والرّدّة في الدّين : الرّجوع من الإيمان إلى الكفر.

ومادة (حبط) تأتي بمعنى الفساد والهلاك والبطلان ، وغالب استعمالاتها في القرآن إنّما هو بالنسبة إلى الآثار المترتبة على الأعمال في نظر الشرع ، قال تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر ـ ٦٥] ، وقال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [آل عمران ـ ٢٢].

وفي الآية تهديد للمرتد ، ومن يرجع عن دينه إلى الكفر ببطلان أعماله في الدنيا من حيث الأحكام الظاهرية المترتبة على الإيمان ، كحقن دمه وموالاة المؤمنين له ، وغير ذلك. وفي الآخرة باعتبار الجزاء والثواب الأخروي لأنّه مشروط بالموافاة على الإيمان.

قوله تعالى : (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

تهديد آخر للمرتد بالخلود في النار لفرض تحقق الكفر ، والارتداد منه.

٢١٨ ـ قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا).

مادة (أمن) تأتي بمعنى الطمأنينة وزوال الخوف ، وكذا الأمان والأمانة ، وقد تستعمل اسما ، والفارق القرائن. وهذه المادة في هذه الهيئة (آمنوا) استعملت في القرآن الكريم فيما يقرب من مأتين وستين موردا غالبها مقرون بالمدح والثناء لكثرة عناية الله تعالى بالمؤمنين.

والهجرة تعني : مفارقة الإنسان غيره بالبدن أو اللسان ، أو القلب والمهاجرة : متاركة الإنسان غيره ، ولها درجات أعظمها المهاجرة من الباطل

٣٠٧

إلى الحق ، ومن الشهوات إلى العقل ، ومن حضيض الحيوانية إلى الروح الإنسانية ، وهي مورد دعوة الأنبياء ، وترغيب كتب السّماء ، وفي الحديث «المهاجر من هجر المحرّمات» ويتصف بها حينئذ جميع الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين فإنّهم يهاجرون إلى ربّهم في جميع حالاتهم وشؤونهم. ويكون مقصدهم من ذلك السّفر من الخلق إلى الحق ، وغاية هذا السّفر هو التحلّي بأنوار الحق والتجلّي بنور العظمة على قلوبهم. ويدل على ذلك قوله تعالى حكاية عن نبيّه لوط (عليه‌السلام) : (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [العنكبوت ـ ٢٦] ، وهي من الهجرة إلى الجمال القدسي المطلق ، وسرّ الكلّ مما تحقق ولم يتحقق.

والمراد به في المقام : الذين آمنوا وهاجروا من بلادهم لأجل إعلاء كلمة الحق ، والقيام بنصرة الدّين.

وإنّما كرّر (الَّذِينَ) للعناية بالهجرة والجهاد ، والاهتمام بهما.

قوله تعالى : (وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ).

الجهاد والمجاهدة : استفراغ الوسع في مدافعة العدو ، وهو على أقسام : مجاهدة العدو الظاهر ، ومجاهدة الشيطان ، ومجاهدة النفس الأمارة ، وقد يعبّر عن الأخيرة بالجهاد الأكبر ، كما ورد في الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال بعد الفراغ من بعض الغزوات : «فرغنا عن الجهاد الأصغر وعليكم بالجهاد الأكبر». ويتحقق باليد واللسان ، فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «جاهدوا بألسنتكم كما تجاهدون بأيديكم».

وسبيل الله : كلّ ما أذن الله تعالى فيه ، ويرجى ثوابه ، ويبتغى رضوانه.

والجهاد بمعناه العام ـ أي استفراغ الوسع في دفع الموانع عن الوصول إلى المقصود والمراد ـ من أعظم ما بني عليه نظام التكوين ومن أهم أركان النظام الأحسن ، فلو فرض عدم الجهاد والمجاهدة والمصابرة في سبيل المرام لاختل النظام وبطل الاستكمال بين الأنام مطلقا ولا يختص ذلك بالإنسان بل يعم الحيوان أيضا. فالوصول إلى المقامات العالية دنيوية كانت أو أخروية لا

٣٠٨

يكون إلا بالمجاهدة ، وقوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) [النجم ـ ٤٠] ، وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت ـ ٦٩] ، شرح لحقيقة ما عليه نظام العالم وبيان لواقع مصير بني آدم في النشأتين ، ومرآة لما هو عليه في الحالتين ، هذا في سلسلة الاستكمالات الاختيارية ، وهكذا بالنسبة إلى سلسلة الاستكمالات التكوينية غير الاختيارية التي لا تتم إلا بالجهد الأكيد الشديد ولذا سمي هذا العالم بعالم التغيّر والكون والفساد ، فالجهاد والمجاهدة داخلان في السلسلتين ، ومصيرهما إلى الله تعالى : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) ومبدؤهما هو الله عزوجل أيضا.

قوله تعالى : (أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ).

أولئك خبر للذين. أي إنّهم يطلبون رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة وهي محيطة بهم بسبب أعمالهم الصالحة ، فيكون طلبهم طلبا عمليّا لا مجرّد اعتقاد الرّجاء والرّغبة إليه.

ويستفاد من هذه الآية أنّ رحمة الله لا تنال إلا بالعمل الصالح والمجاهدة في مرضاته.

قوله تعالى : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

تثبيت لرجائهم ، ووعد منه عزوجل بتحقق رجائهم. أي : والله يغفر لهم سيئاتهم السابقة ، ورحيم بهم من حيث أعمالهم الصالحة.

٣٠٩

بحوث المقام

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على أمور :

الأول : لم يذكر الفاعل في قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) لأنّ خفاءه أنسب صونا له من الهتك والاستخفاف إذا نسب المكتوب الذي هو مورد الكراهة إليه.

الثاني : إنّما كرر (عَسى) في قوله تعالى : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) لأجل أنّ القتال مورد كراهة المؤمنين ، والسّلم مورد محبتهم. فأعلمهم سبحانه بأنّهم مخطئون في الموردين ، ولو ذكره سبحانه مرّة واحدة لما أفاد ذلك.

الثالث : تدل هذه الآيات وما في سياقها على أنّ معاشرة الكفار مع المسلمين قد توجب زوال أصل الدّين ، فضلا عن المسامحة والتساهل في الالتزام بأحكام الإسلام.

الرابع : يدل قوله تعالى : (فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) على أنّ الحبط مشروط بالموت على الكفر ، فتكون الأقسام أربعة :

١ ـ إمّا أن يكون مؤمنا ويموت على إيمانه ولم يلبس إيمانه بظلم ، فهو

٣١٠

من أهل الجنة ويستحق الثواب الدائم.

٢ ـ وإمّا أن يكون كافرا ويموت على الكفر فهو من أهل النار.

٣ ـ وإمّا أن يكون قد خلط عملا صالحا وآخر سيئا ، فإن وفّق للتوبة يكون من أهل الجنة.

٤ ـ وإن لم يوفق للتوبة فإمّا أن يستحق ثواب إيمانه أولا ، والثاني باطل بالأدلة الشرعية والعقلية ، فيتعيّن الأول ، وحينئذ فإمّا أن يثاب ثم يعاقب ، وهو باطل إجماعا ، أو يعاقب ثم يثاب بالجنة ، وهو صحيح ، للنصوص الدالة عليه.

فلا موضوع للإحباط والموازنة الكليتين. نعم لا بأس بهما في الجملة. هذا إجمال الكلام ، ويأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيهما.

الخامس : يدل قوله تعالى : (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أنّ الحبط إنّما يكون بالنسبة إلى الأعمال وآثارها ، ففي الدنيا يحكم على المرتد بكفره وموته ، وتبين منه زوجته ، وتعتدّ عدة الوفاة ، وتقسّم أمواله بين ورثته ، ولا توبة له بالنسبة إلى هذه الأربعة ، وأما بالنسبة إلى غيرها فالمحققون من الفقهاء على قبول توبته ، وأما بالنسبة إلى الآخرة فلا ثواب له ومأواه النار ، هذا حال المرتد الفطري. وأما الملّي فله أحكام خاصة مذكورة في كتب الفقه.

السادس : يستفاد من قوله تعالى : (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) أنّ سبب القتال مع المشركين إنّما هو الفتنة والافتتان في الدّين ، ويرجع ذلك إلى تعاند الحق والباطل الذي هو من الأمور العقلية ، بل الفطرية والشرعية. والمراد بالحق كلّ ما حققه الله جلّت عظمته ، كما أنّ المراد بالباطل كلّ ما أبطله الله وهو تعالى عالم بهما ولا يخفى عليه شيء مما خلق. فلا بد من إحقاق الحق وإبطال الباطل ، اللذين هما أساس النظام الأحسن ، ويجب عقلا مراعاته ، ويقبح إهماله ، وهو محال بالنسبة إلى الحكيم جلّ جلاله لا سيّما إذا كان إحقاق الحق وإبطال الباطل بالنسبة إلى الحياة الأبدية للإنسان الذي هو أشرف

٣١١

مخلوقاته عزوجل ، ومن أبرز مظاهر ذلك إزالة الشرك والكفر والجحود ، التي هي من موجبات الفتنة في الدّين ، ومن أهم الموانع في إحقاق الحق ، فيكون قتال المشركين من الواجبات العقلية النظامية.

السابع : يستفاد من قوله تعالى : (أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) أنّ موضوع الرّجاء هو العمل الصالح ، وإلا فلا أثر له بل يكون غرورا.

٣١٢

بحث روائي

في الدّر المنثور عن ابن جرير عن ابن عباس قال : كنت رديف رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقال : يا ابن عباس ارض عن الله بما قدّر ، وإن كان خلاف هواك ، فإنّه متبت في كتاب الله ، قلت : يا رسول الله فأين وقد قرأت القرآن؟! قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

أقول : الحديث مطابق لعموم الآية الشريفة وإطلاقها الشاملين للأمور الوضعية والتشريعية ، وكلّ ما هو مقدّر. كما أنّ الحديث إرشاد إلى اختيار رضاء الله تعالى على رضى النّفس ، فلا يستفاد منه أنّ عسى دالّة على الوجوب والإلزام.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) ـ الآية ـ. «أنّه كان سبب نزولها أنّه لما هاجر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلى المدينة بعث السرايا إلى الطرقات التي تدخل مكة تتعرّض لعير قريش ، حتى بعث عبد الله بن جحش في نفر من أصحابه إلى نخلة ، وهي بستان بني عامر ليأخذوا عير قريش حين أقبلت من الطائف عليها الزبيب والأدم والطعام ، فوافوها وقد نزلت العير وفيهم عمرو بن عبد الله الحضرمي ، وكان حليفا لعتبة بن ربيعة ، فلما نظر الحضرمي إلى عبد الله بن جحش وأصحابه فزعوا وتهيّئوا للحرب ، وقالوا : هؤلاء أصحاب محمد ، فأمر عبد الله

٣١٣

بحث فقهي

ذكرنا أنّ الآية الشريفة تدل على حرمة قتال المشركين في الشهر الحرام ، وهو المشهور بين الإمامية ، ويدل عليه مضافا إلى ما تقدم قوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة ـ ٥] ، وبعض الروايات.

هذا هو الحكم الأولي ، ولكن قد يعرض على ذلك ما يوجب رفع هذا الحكم وتبديله ، لقاعدة تقديم الأهم على المهم ، التي هي من القواعد العقلية المهمة ، ويرشد إلى ذلك قوله تعالى : (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) ، ولأجل ذلك قاتل الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) المشركين في ذي القعدة ، لأنّ الذين قاتلهم الرسول ممن هتكوا حرمة الشهر وبدأوا بالقتال.

ثم إنّ الهجرة من الأمور الإضافية ، ولها مراتب كثيرة كمية وكيفية ، شدة وضعفا ، وقد ذكرنا أنواعها ، وهي في اصطلاح الفقهاء الهجرة من بلاد الكفر ، وقد بحثوا في وجوبها. ولكن ذكرنا في الفقه أنّ الهجرة عن المعصية أو للقيام بنصرة الدّين واجبة مطلقا. وما ورد من أنّه «لا هجرة بعد الفتح» إنّما هو بالنسبة إلى بعض أقسام الهجرة لا مطلقا.

كما أنّ الجهاد أيضا له مراتب كثيرة ، فكلّ من ترك المعاصي والمشتبهات فهو مجاهد ، وإلى ذلك يشير ما ورد من أنّ «المؤمن مجاهد».

٣١٤

بحث فلسفي

تقدم أنّ قوله تعالى : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) يشير إلى وجود عالم الحقائق التي لا تغيير فيها ولا تبديل ، وهو بمعزل عن الأوهام والخيالات النفسانية التي تتعلّق بما هو المحسوس والمأنوس من المادة والماديات مع الغفلة عمّا وراء ذلك. فإذا تعلّق الحب والكراهة بما هو قابل للتغيير والتبديل كانا متغيّرين فربّ شيء يكون خيرا في عالم المادة هو شرّ في عالم الواقع ، وهكذا بالعكس. وعلى هذا يمكن تقسيم الحبّ والكراهة في النفوس إلى أنواع :

الأول : ما إذا حصلا عن مباد وهمية خيالية ، وفي مثل ذلك لا يكونان إلا خيالا في خيال. وموطن هذا النوع إنّما هو الدّنيا بما هي دنيا ، فتحصل المحبة والكراهة في نفوس أهل الدّنيا بالوهم والخيال من دون أن يكون لهما حقيقة وواقع ، قال تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) [الحديد ـ ٢٠].

كلّ ما في الكون وهم أو خيال

أو عكوس في المرايا أو ظلال

ولو تأملت أحوال أهل الدنيا لا تجدها إلا كما ذكرناه.

٣١٥

الثاني : ما إذا حصلا من مباد عقلية اعتقادية لكنّها غير مبنية على كراهة الله عزوجل ورضائه ، ويتحقق ذلك غالبا في العلوم النظرية ، فإنّ المتأمل فيها يرى أنّ أحدهم يستدل على شيء بدليل عقلي ، ويستدل الآخر بدليل عقلي آخر على نقيض الأول مع أنّ الواقع لا خلاف فيه ولا اختلاف ، وأهل الشهود والعرفان يبطلون جميع ذلك ويجعلونه حجابا عن الوصول إلى الواقعيات.

إن قيل : على هذا لا وجه لاختلاف الفقهاء مع أنّ علمهم في الواقع وعن الواقع.

يقال : الاختلاف إنّما هو في كيفيات الاستظهار عن الواقع.

الثالث : ما إذا حصلا عن مباد عقلية مقررة بالشريعة الإلهية المحيطة بالجميع إحاطة واقعية ، وهذا هو المناط فيما ينفع للآخرة بل الدنيا أيضا نفعا واقعيا لا وهميّا ، وهذا النوع مبرّأ عن الاختلاف والتغيير.

ويمكن أن تكون الأمور تختلف باختلاف الأفراد بحسب ما ذكرنا ، فإنّ بعضهم يعد القتال في سبيل الله تعالى سعادة ليست فوقها سعادة ، وإنّ بعضهم يكرهونه لأجل أنّه فناء للنفوس والأموال ، كما ذكرنا.

٣١٦

بحث أخلاقي

الرجاء : فضيلة عالية ، وله منزلة كريمة سامية ، ومن الأخلاق الفاضلة أمرنا بالتخلّق بها ، وهو يورث المجاهدة بالأعمال والمواظبة على الطّاعات ، وهو من دعائم الإيمان وركائز الأعمال لا يليق إلا بمن كان مؤمنا مجاهدا ، وقد اعتبره علماء الأخلاق والسلوك من جملة مقامات السّالكين وأحوال الطالبين.

بل هو من ملازمات الحياة التي لا ينفك عنها الإنسان ، وبدونه لا يمكن الفوز بنعم الحياة ، ولا الظفر بالعيش الهنيء. فهو والرّغبة والأمل من الأمور الدخيلة في نظام هذا العالم ، فإنّ بالآمال يتقبل الإنسان المشكلات ويقتحم الصّعاب. وبالرغبات تقوم الأسواق وتتحقق أنواع التجارات ، وبالأماني تقضى الحاجات وتقبل الطلبات ، وبالرجاء يعمل الإنسان ويكافح في سبيل العيش والبقاء. ولنعم ما قيل :

أعلّل النّفس بالآمال أرقبها

ما أضيق العيش لو لا فسحة الأمل

وبالجملة إنّ للرجاء أثرا كبيرا في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية وله الأهمية الكبرى في الجانب التربوي والدّيني له ، مضافا إلى كونه من أركان الإيمان إذا كان متعلّقا بالله تعالى. فإنّه يكشف عن عبودية صاحبه له عزوجل ، وقوة معرفته به وخوفه منه ، لأنّه يرجع إلى حسن الظن بالله تعالى الذي هو مجمع جملة من الأخلاق الفاضلة ، ولذا ورد الأمر به في كثير من الروايات.

فالرجاء يضاعف العزيمة ، ويجعل صاحبه مثابرا على العمل بالصبر

٣١٧

والثبات ، وهو عامل من عوامل النصر والغلبة ، قال تعالى : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) [النساء ـ ١٠٤].

ولقد ورد ذكر الرّجاء في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم ، واعتبره من الأخلاق الفاضلة التي ينبغي للمؤمن أن يتحلّى بها ، بل اعتبره من أجزاء الإيمان ، قال تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف ـ ١١٠] ، وقد أدرجه الأنبياء والمرسلون (عليهم‌السلام) في جملة ما يدعون إليه ، قال تعالى : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [العنكبوت ـ ٣٦] ، وقد نوّه الجليل عزوجل بعظيم فضله حيث وعد المؤمنين الصالحين تحقيق رجائهم ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) [فاطر ـ ٢٩] ، ويعرف كمال أهميته أنّ الحرمان منه يعد عند الله تعالى استكبارا ، قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) [الفرقان ـ ٢١] ، وقد أوعد من لا يرجو لقاء الله بعظيم العذاب ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [يونس ـ ٧] ، كما أهمله عزوجل ، قال تعالى : (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [يونس ـ ١١] ، ولذلك كان اليأس ـ الذي هو ضد الرجاء ـ من المعاصي الكبيرة التي توجب البعد عن الله سبحانه ، والانحراف عن الصراط ، قال تعالى : (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ* قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) [الحجر ـ ٥٥ ـ ٥٦] ، وقد ورد في السنة الشريفة أخبار كثيرة تبيّن فضله ، يأتي ذكر بعضها في ضمن هذا البحث.

ولا تختص هذه الفضيلة بالإسلام بل يعتبر الرجاء ثانية الفضائل الثلاث عند المسيحيين ، وهي الأمانة ، والرجاء ، والمحبّة ، وهو عندهم فضيلة عظمى

٣١٨

ينتظر بها أنواع النّعم في الدنيا ، والسعادة في الآخرة.

ثم إنّ الرّجاء ، والتمنّي ، والأمل وإن كانت مفاهيم مختلفة إلا أنّها في أصل الحقيقة واحدة ، والفرق بينها اعتباري فقط ، فإنّ الأمل يطلق على رغبة ما هو مرضيّ ومحمود ، والتمنّي يطلق في المجهول المطلق وما لم يعلم بحصول المتوقّع بل حتى مع استحالته أيضا بخلاف الرّجاء فإنّه يطلق في الأعم مما هو مرضيّ ومحمود كما أنّه لا يطلق الا على انتظار المتوقع إذا حصل أكثر أسبابه ، ولأجل ذلك كان الرّجاء ممدوحا والتمنّي مكروها ، ففي الحديث : «الأماني بضائع النّوكى» أي الحمقى. فالرّجاء هو تعلّق النفس بما هو المحبوب عند تحقق أكثر أسبابه ولذا يرتاح القلب من انتظاره ، لأنّ الإنسان يشتاق إلى حصول نتيجة عمله وثمرة جهده.

قال الشاعر :

أمانيّ إن تحصل تكن غاية المنى

وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا

وقد اعتبر علماء الأخلاق الرجاء من العوامل الدّاعية إلى العمل ، ويجعل صاحبه صبورا يتحمّل في سبيل تحقيق غرضه أنواع المشاق ذا عزيمة قوية ، والوجه في ذلك معلوم لأنّ العلم بالمراد تصوّرا وتصديقا من مقدّمات الإرادة ، وبدونه لا يتحقق لها موضوع ، كما ثبت في علم النفس ، ولذا كان طلب المجهول المطلق محالا ، وإذا حللنا ذلك بالدقة العقلية نرى أنّه ينحل إلى العلم بالمراد إجمالا ، والتصديق بفائدته كذلك ، والرجاء بترتبها عليه والخوف عما يوجب البعد عنه فيرغب إلى ارتفاعه ويرجو زواله ، فيكون الرجاء والخوف مأخوذين إجمالا في تحقيق الإرادة ، بلا فرق في ذلك بين الأمور التشريعية وغيرها.

فيكون للرجاء والخوف دخل في أصل الأعمال ، وهما متلازمان ويتقابلان في الوجود والعدم ، فإنّ الخوف عن عدمه يلزمه الرجاء وجودا ، واعتبرهما علماء الأخلاق جناحين يطير بهما المؤمنون إلى كلّ مقام محمود ،

٣١٩

ومطيتين يقطع بهما العامل كلّ طريق مخوف حتى يصل إلى المطلوب. فهما جزءا إرادته ، يكشفان عن شدة تعلّق صاحبهما بمتعلّقهما ومحبته لهما ، فكلّ حبّ مصحوب بالخوف والرجاء ، وعلى قدر تمكنه من قلب المحب يشتد خوفه ورجاؤه ، فإنّ التطلع إلى رؤية المحبوب ورجاء ملاقاته يصحبهما توقع حدوث المكروه ولا أقلّ من احتمال صرفه عن رؤية المحبوب فيظلّ الإنسان دائما بين الخوف والرّجاء ، وهو يعيش بينهما امنا مطمئنّ النّفس إذا كانا متعلّقين بالله تعالى ، قال عزوجل : (يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) [الإسراء ـ ٥٧] ، وفي الحديث «ما اجتمعا في قلب عبد في هذا الموطن ـ أي عند النزع ـ إلا أعطاه الله ما رجا وآمنه مما يخاف».

ومما ذكرنا يظهر أنّ حقيقة الرّجاء تتقوّم بأمور :

الأول : إنّه جزء من الإرادة في الإنسان التي بموجبها صارت أفعاله ذات قيمة أخلاقية.

الثاني : إنّه يتعلّق بما هو متوقع الحصول بعد ما مهد جميع أسبابه الاختيارية ولم يبق إلا الأسباب الخارجة عن الاختيار فيرجو تمهيدها ورفع الموانع عن تحقيق المرجو ، ولأجل ذلك لا ينفك الرجاء عن العمل ، وهذا مما أكد عليه القرآن الكريم في مواضع متعددة ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) [البقرة ـ ٢١٨] ، أي إنّ الرجاء لا يليق إلا بهؤلاء فلا يستحقه غيرهم. وقال تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف ـ ١١٠] ، ولقد ذم الإسلام من يرجو الغفران بدون العمل والإيمان ، قال تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) [الأعراف ـ ١٦٩] ، وقال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «الأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الجنة».

وفي الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) قيل له : إنّ قوما من مواليك يلمّون بالمعاصي ، ويقولون : نرجو ، فقال (عليه‌السلام) : «كذبوا ليسوا لنا بموال

٣٢٠