مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٦

سورة البقرة

الآية ٢١٤

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (٢١٤))

كلام في غاية البلاغة ، وخطاب في منتهى الفصاحة ، يقرع الأسماع بجواهر لفظه ، ويشدّ القلوب بآثار وعظه ، وأجلى بيان لشرح سنة الله تعالى الجارية في الأمم من أنّه لا يمكن الحصول على المقصود ولا الظفر بالمطلوب إلا بعد بذل غاية الجهد ، ولا يتحقق الانتصار إلا بعد الصبر والاصطبار ، ومقاساة الهموم والشدائد ، والآية مرتبطة بالآيات السابقة من حيث إنّها تثبت ما ورد فيها ، فقد دلت على لطف الله تعالى بالناس أن بعث إليهم الأنبياء والمرسلين ليرشدوهم إلى الكمال والسعادة ، وذكر تعالى هنا أنّ ذلك لا يتم ولا ينال الفوز والصّلاح إلا بعد الجهد ومقاساة الهموم والشدائد والثبات والمصابرة حتّى يأتيهم النصر.

٢٨١

التفسير

٢١٤ ـ قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ).

(أم) هنا منقطعة تفيد الإضراب بمعنى بل. و (الحسبان) : مجرد الوهم بلا تصوّر لخصوصيات الموضوع حتى يؤخذ بالراجح منها.

والخطاب لمن هداه الله تعالى إلى الإيمان ، وهم المسلمون الذين أمرهم الله عزوجل بالدّخول في السّلم وعدم اتباع خطوات الشيطان فإنّ في ذلك سعادة الدّارين ، كما أمرهم بالاعتبار من أحوال الماضين الذين بدّلوا ما أنعم الله عليهم كفرا فحلّ عليهم غضب من ربّهم.

وفي الآية تثبيت لما ورد في الآيات السابقة ، وبيان لها بأنّ ما ذكر فيها لا يتحقق ولا يمكن الوصول إلى ما يريده ربّ العالمين والدّخول في الجنة التي وعد المؤمنين بها إلا بالثبات والمصابرة والتسليم والرضا.

وهي تبيّن حكما فطريّا عقليّا بني عليه صلاح الفرد والنوع ، والمجتمع ـ بل هو عادة الطبيعة أيضا ـ وهو أنّه لا يمكن الفوز بالمقصود والوصول إلى المطلوب إلا بعد العمل وبذل الجهد ، وأنّ الأجر على قدر المشقة ، فكلّما عظم المقصود اشتد السعي والجهود ، ويستحيل في السنّة الطبيعية حصول الثمرة من دون غرس الشجرة ، كما يستحيل الأخذ بالنتائج والغايات إلا بعد تحصيل المقدمات.

٢٨٢

وفي الآية التفات من الغيبة إلى خطاب المؤمنين بعد ما نزّلوا منزلة الغيبة في أول الكلام ، والعدول عنهم في أثنائه ثم الرجوع إليهم بالخطاب معهم ، وذلك لوجوه بلاغية.

قوله تعالى : (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ).

المثل ـ بكسر الميم وسكون الثاء ، أو بفتحتين ـ ، كالشّبه والشّبه ، وهو وصف الشيء وبيان نعوته التي توضحه ، وتضرب الأمثال للامتحان والابتلاء.

ومادة (خ ل و) تستعمل في المكان والزمان. وإذا استعملت في الثاني تكون بمعنى المضيّ ، والذهاب ، والانقضاء ، قال تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) [آل عمران ـ ١٤٤] ، وقال تعالى : (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) [الرعد ـ ٦] ، وقال تعالى : (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) [غافر ـ ٨٥] ، ولها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة ، وكذلك في السنة المقدّسة ففي الحديث «إنّ الله تعالى خلو من خلقه ، وخلقه خلو منه». والمراد به المباينة لا العزلة ، كما فسر في أحاديث أخرى.

والمعنى : يا أيّها المؤمنون كيف تتوهمون وتطمعون أن تدخلوا الجنة ولما يجر عليكم ما جرى على الصالحين من قبلكم في شؤون دينهم ودنياهم ، فإنّكم تبتلون وتمتحنون بمثل ما جرى على الغابرين فإنّ الطريق المسلوك واحد ، فكلّما جرى على السالكين الواصلين إلى المطلوب يجري على اللاحقين لوحدة المبدأ ، والغاية ، والسلوك.

وفي الآية تسلية لنبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأصحابه مما كانوا يلاقونه من المشركين المعاندين من صروف البلاء وأنواع الأذى.

قوله تعالى : (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا).

بيان للمثل الذي ذكره سبحانه فيما تقدم.

و (المس) : هو اللمس إلا أنّ الثاني أعم من الأول ، لأنّه لا يقال في

٢٨٣

المس إلا والممسوس معه ، بخلاف الثاني فإنّه يصح أن يقال : لمسته فما وجدته.

والتعبير به في المقام لبيان أنّ البأساء والضرّاء لم يعرضا عليهم فقط بل أصابتاهم ومستا وذاقوا شدائدهما فصبر المؤمنون وثبتوا على دينهم ولم يهنوا.

و (البأساء) : ضدّ النّعماء ، وهي ما يصيب الإنسان في غير نفسه من أنحاء الأذى. و (الضرّاء) : ضدّ السرّاء ، وهي ما يصيب الإنسان في نفسه ، كالقتل والجرح ونحوهما. و (الزلزلة) هي الاضطراب الشديد ، وتضاعف حروف لفظها يشهد على تضاعف معناها ، ولم ترد هذه الهيئة في القرآن الكريم إلا في ستة مواضع كلّها تدل على الشدّة والاضطراب العظيم ، سواء أكان في الدنيا أم في الآخرة ، قال تعالى : (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) [الأحزاب ـ ١١] ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج ـ ١].

قوله تعالى : (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ).

أي : أنّ الرسول والمؤمنين مع ثباتهم وصبرهم على تحمل المكاره والأذى ، وإحاطة أعداء الله تعالى بهم ووقوعهم في الاضطراب والهول الشديدين يفزعون إلى الله تعالى ، يطلبون منه النصرة ، ويستمدّون منه عزوجل العون ، ويستنزلون رحمته.

وقوله تعالى : (مَتى نَصْرُ اللهِ) مقول قول المرتبطين مع الله تعالى من الرسول والمؤمنين دعاء منهم واستنصارا للحق ، ورغبة منهم في إظهار دين الله عزوجل ، والنصرة على الأعداء.

ويصح أن يكون مقول المؤمنين لرسولهم ، أو يكون مقولهم لله تعالى ، ويجوز أن يكون بالاختلاف.

وفي الآية إرشاد للمؤمنين إلى أن يكونوا مثلهم في الصّبر وتحمّل الأذى والفزع إليه عزوجل.

٢٨٤

قوله تعالى : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ).

جملة مستأنفة لا تتمة لمقول الرسول والذين آمنوا معه. ووعد من الله تعالى لهم بالبشرى بالنصر وقربه منهم ، كما وعد عزوجل به في آيات أخرى ، قال تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) [الصّافات ـ ١٧١ ـ ١٧٢].

ولفظ (ألا) ـ بالفتح ـ : يفتتح به الكلام للتنبيه والإعلام ، يؤتى به للإشعار بعظمة الكلام وأهميته ، وفي المقام لا شيء أهم وأعظم من قرب نصر الله تعالى لأهل البلاء والمحن ، كما في قوله تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس ـ ٦٢].

٢٨٥

بحوث المقام

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور :

الأول : تدل الآية الشريفة على دوام الابتلاء والامتحان في الأمم وجريانهما وفق السنة الإلهية ، ولا يستثنى من ذلك قوم ولا أمة.

وتدل أيضا على تكرار الحوادث وما جرى على الأمم الغابرة ، وهو المعبّر عنه بعود التاريخ وتكراره.

الثاني : أنّ تمنّي الجنة بدون تحمّل متاعب التكليف ومشاقه في مرضاة الله من اللغو الباطل ، ومن جوامع كلمات نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «حفّت الجنة بالمكاره». ويمكن أن يجعل ذلك من القواعد العقلية من باب ملازمة المعلول للعلة التامة ، وعدم انفكاكه عنها.

الثالث : أنّ تمنّي النّصر من الله جلّت عظمته عند تناهي الشدّة لا يكون منافيا للشكر والتسليم ، والرضا بالقضاء ، لفرض أنّ الجميع منه تعالى وإليه عزوجل. ومن ذلك يعلم أنّه لا يضرّ بمقام الرسول لو طلب من الله تعالى النّصر مع علمه بوعده عزوجل له به ، فإنّ الرسل يطلبون من الله تعالى دائما النّصر بلسان الحال أو المقال.

٢٨٦

الرابع : يدل قوله تعالى : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) على أنّ عند شدة البلاء يكون النّصر ، وتدل عليه أحاديث من السنة الشريفة منها قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «عند تناهي الشدة يكون الفرج».

الخامس : لم يذكر سبحانه درجات الجنة ومقاماتها لعدم تناهيها ولأنّها تختلف باختلاف مراتب المبتلين بالبأساء والضّرّاء.

وإذا كان هذا حال من أراد الوصول إلى الجنان فكيف حال من أراد الوصول إلى ساحة الرّحمن وظهور تجلياته عزوجل فالطريق يكون أصعب ، والامتحان أشد ، فلا بد من ترك ما سواه والتوجه إلى من لا يقصد الملأ الأعلى إلا إياه ، والتفاني في حبّ الله تعالى ، ومراقبة النفس في جميع الأحوال.

ألاحظه في كلّ شيء رأيته

وأدعوه سرّا بالمنى فيجيب

ملأت به سمعي وقلبي وناظري

وكلّي وأجزائي فأين يغيب

السادس : إنّ قوله تعالى : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) يتضمّن قاعدة عقلية عرفانية ، وهي محبة الخالق لخلقه ، والمعبود الحيّ القيوم لعباده ، واستباق العلّة التامة لمعلولها ، وتربيبه العظيم لجميع جهات العبد بذاته وأعراضه ، وقد أثبت أهل الفلسفة العملية أنّ هذا الشوق تكويني ، كما فصّلوا ذلك في مباحث النفس ، وشرح المقام يأتي في مستقبل الكلام إن شاء الله تعالى.

٢٨٧

بحث أدبي

المعروف أنّ لفظ (ام) يتضمّن معنى الاستفهام ، وهو إما منقطع بمعنى بل ، كما في هذه الآية الشريفة. أو متصل ، وهو تارة بمعنى أو ، كما في قوله تعالى : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) [الدخان ـ ٣٧] ، وأخرى للتسوية ، قال تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة ـ ٦]. والفارق القرائن المعتبرة.

والحق أنّه في الأصل حرف عطف وما ذكروه إنّما يستفاد من القرائن من باب تعدّد الدالّ والمدلول ، كما صرّح به بعضهم فلا اشتراك في البين ، كما هو جار في جملة مما عدّوه من المشترك.

ثم إنّ قوله تعالى : (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) يجوز فيه النصب والرفع ، فعلى الأول يكون غاية لما سبق ، وعلى الثاني يكون ما سبق من الدّواعي لصدور هذا القول من الرسول ، وكلاهما صحيحان لما ذكرنا من أنّ الرسول يستمد العون منه عزوجل دائما في جميع الأحوال ، حالا ومقالا.

و (لمّا) لتأكيد النفي في مقابل الإثبات المؤكد ، وهو يناسب المقام. والفرق بين (لمّا) و (لم) أنّ الأول لنفي قد فعل والثاني لنفي فعل. ويستنتج من ذلك فروق خمسة :

أحدها : ما ذكر.

٢٨٨

الثاني : أنّ «لمّا» تنفي مع توقع الحصول ، و «لم» لنفي المنقطع ، وقد ذكروه في المقام.

الثالث : أنّ «لمّا» للنفي المستمر إلى الحال ، ومنفي «لم» يحتمل الاتصال.

الرابع : أنّ منفيّ «لمّا» لا يكون إلا قريبا من الحال ولا يشترط ذلك في منفيّ «لم».

الخامس : أنّ منفيّ «لمّا» جائز الحذف لدليل ولا يجوز ذلك في منفيّ «لم».

٢٨٩

بحث روائي

ذكر الواحدي في أسباب النزول في قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ).

نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدّة والحرّ (والخوف) والبرد ، وسوء العيش وأنواع الأذى ، وكان كما قال الله تعالى :

(وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) [الأحزاب ـ ١٠].

أقول : هذا من باب التطبيق وبيان بعض الصغريات وإلا فحكم الآية عامّ إلى قيام الساعة.

٢٩٠

سورة البقرة

الآية ٢١٥

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥))

هذه الآية تبيّن حكما من الأحكام الاجتماعية النظامية التي يتقوّم بها نظام المعاش والمعاد ، فقد بينت أصل الإنفاق وما ينفق به ، ومن ينفق عليه. وهي مرتبطة بالآيات السابقة من حيث إنّها جميعا ترشد الإنسان إلى ما هو السبيل في سعادته ، وتوطئة لما يأتي من الآيات الواردة في الجهاد من حيث إنّ بذل المال كبذل النفس من علامات الإيمان ، فمن وطّن نفسه على بذل المال هان عليه بذل النفس في سبيل الله تعالى.

٢٩١

التفسير

٢١٥ ـ قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ).

(الإنفاق) من المعاني المعروفة بين الناس. وأصله النقل والتبديل. سواء كان بالعوض ـ كما في المعاوضات ـ أو بدونه ـ كما في المجانيات لأغراض صحيحة أم فاسدة. في سبيل الدّنيا أم الآخرة. فالكل إنفاق إلا أنّ بعض المذكورات ممدوح وبعضها مذموم. ولهذا اللفظ استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات شتّى.

والسؤال يعرض لكلّ مؤمن يريد معرفة تكاليفه الشرعية ، ومنها أصل الإنفاق وجنسه ، ومن ينفق عليه ، وسائر خصوصياته ، لئلا يكون هدرا وباطلا.

وقد ورد مثل هذا السؤال في خمسة عشر موردا في القرآن العظيم قال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) [الأنفال ـ ١] ، وقال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) [البقرة ـ ٢١٩] ، وفي جميعها ترغيب للناس إلى السؤال عن الأحكام ، وتحريض لهم بالاهتمام في رفع الجهل وإعلان بأنّ السؤال من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) سؤال من الله تعالى ، وإبلاغ بأنّ معلّم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومربيه هو الله عزوجل ، ولذا عقّب سبحانه في جميع تلك الموارد بجملة (قُلْ). وقد تقدم في قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) [البقرة ـ ١٨٩] بعض ما ينفع المقام.

٢٩٢

والسؤال وإن كان لمعرفة جنس ما ينفق ونوعه ، فإنّ (ما) إنّما تكون لمعرفة حقيقة الشيء ، سواء بالمعنى المنطقي أم بالمعنى العرفي الذي تنزّل عليه الخطابات القرآنية. ولكنّ الجواب عام يشمل جنس ما ينفق ، ومن ينفق عليه ، لأنّ الخير يتضمن جميع جوانب الموضوع وخصوصياته زمانا ومكانا وصفة. فإنّ الخير ما كان محبوبا عقلا وشرعا. والحرام والمشتبه لا يكونان كذلك ، فقد ورد في السنة الشريفة أنّ الإنفاق منهما يكون إثما وزورا على المنفق ، وهو مستفاد من هذه الآية الشريفة ، فإنّ السنة شارحة للقرآن العظيم الذي هو الأصل لجميع المعارف الإلهية ، ولو ظهر القرآن في صورة التكثرات فإنّه يظهر في السنة المقدّسة. ولو تجلّت السنة الشريفة في الصورة الوحدانية لتجلّت في الصورة القرآنية. والجميع شروق غيبي على العقل الكلّي المجرّد ، وتجلّ إلهي في عالمي الملك والملكوت حصل لسعادة الإنسان ولتكميل العقول الناقصة.

ومن ذلك يعلم : أنّ الجواب لم يكن تحويلا لجواب آخر ، بل كان جوابا شاملا لما كان يقصد السائلون معرفته ، وما هو الأفضل لهم وهو من ينفق عليه ، فأجمل سبحانه في الأول لشمول لفظ الخير للجميع من الأعيان والمنافع والانتقاعات وغير ذلك. وفصّل في الثاني لأجل الاهتمام به.

ويظهر مما تقدم : أنّ ما ذكره المفسرون في المقام لا يخلو من مناقشة واضحة.

قوله تعالى : (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ).

(الخير) مقابل الشر ، وهما يتصفان بالحقيقية والإضافية ، ولهذا اللفظ استعمالات كثيرة في القرآن الكريم. ويطلق على ذات المبدأ جلّت عظمته ، وكلّ ما هو في صراطه وطريقه ومضاف إليه حتّى الخلود في الجنة ، فهو من أعم الأشياء لفظا ومعنى. كما أنّ الشر يطلق على ذات الشيطان ، وكلّ ما في سبيله ويضاف إليه إلى الخلود في النار ، وقد جمعهما عليّ (عليه‌السلام) في كلمته المباركة : «ما خير بخير بعده النّار وما شرّ بشرّ بعده الجنّة وكلّ نعيم دون الجنّة فهو محقور وكلّ بلاء دون النّار عافية».

٢٩٣

ولم يعين سبحانه الخير هنا لأنّه يختلف باختلاف الأعصار والأمصار والأمم ، فكلّ ما هو خير عرفا داخل في هذه الآية ما لم يرد نهي شرعي في البين.

والمعنى : قل في جوابهم ما يظهر لهم خصوصيات الموضوع ، فيعرفون ما ينفقونه وهو ما كان خيرا لوجه الله تعالى يرجع نفعه للمنفق والمنفق عليه ، ويعرفون مواضعه حتى لا يكون الإنفاق في غير موضعه تضييعا للمال وتترتب عليه المفاسد.

قوله تعالى : (فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ).

(اليتم) في الإنسان : انقطاع الصبي عن أبيه قبل بلوغه ، وفي الحيوان عن أمه ، وكلّ متفرد في نوعه يتيم ، يقال : درة يتيمة. وابن السبيل المنقطع عن ماله. والمساكين الفقراء.

وقدّم سبحانه الوالدين لأنّهما أقرب الناس ، ولما تحمّلا من المشاق في التربية ، وقد تقدم في قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) [البقرة ـ ١٧٧] ، ما يتعلّق بالمقام فراجع.

ثم إنّ الإنفاق ينقسم حسب التكاليف الخمسة الشرعية ، فهو إما واجب كالزكاة ، والخمس ، والكفارات ، والفدية. أو مندوب كالهدايا والعطيات ونحوهما مما هو كثير. أو مكروه ، كالإنفاق على الأجنبي مع وجود ذي رحم محتاج ، أو الإنفاق على البعيد مع احتياج الجار وفقره ، وعدم المانع من الدفع إليهما في البين أو حرام ، كالإنفاق بالأموال المحرّمة أو المشتبهة في ما إذا وجب الاحتياط والاجتناب عن أطراف الشبهة ، وهي كثيرة. أو مباح ، كالإنفاق للتوسعة من غير الحقوق الواجبة على فقير عنده ما يكفيه لضروريات معاشه. والتفصيل مذكور في كتب الأحاديث والفقه.

قوله تعالى : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ).

وعد من الله تعالى بالجزاء على الخير الصادر من كلّ فاعل ، وإعلام بأنّه لا يغيب عنه فهو محفوظ عنه لا يذهب هدرا باطلا بل يجازي عليه بالجزاء الأوفى.

٢٩٤

وإنّما ذكر سبحانه الخير مع أنّه عالم بجميع ما يصدر عن الإنسان من خير وشر ، قال تعالى : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) [التوبة ـ ١٦] للاهتمام به ، وكثرة العناية به مطلقا.

والآية مع إيجازها تشتمل على الخير ، وثمرته ، وعلم الله تعالى به ، وجزائه عليه ، وذلك لأنّ الخير محبوب له ، وهو عالم بصدوره ومحبته لشيء تكون جزاء حسنا له.

ويستفاد من هذه الآية أمور :

الأول : ترغيب الناس في فعل الخير ، والاستكثار منه ، لغرض أنّه في علم الله تعالى لا يغيب عنه.

الثاني : الإيماء إلى كون الإنفاق وفعل الخير ينبغي أن يكون بعيدا عن الرياء والشرك ، والمنة وجميع أنحاء الشر ، فإنّ الإنسان إذا استحضر عند فعله الخير علم الله تعالى به خلص عمله.

الثالث : عدم احتقار اليسير من المال في الإنفاق ، فإنّ المناط كله خيرية الإنفاق ومحبوبيته عند الله تعالى وعند الناس قال تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران ـ ٩٢] ، ولذا استبدل عزوجل الإنفاق في صدر الآية وذيلها بالخير وفعله.

الرابع : يستفاد من إطلاق هذه الآية وأمثالها أنّ ذات الخير محبوبة له عزوجل ، سواء قصد في فعله القربة أم لا ، نعم ، لا بد أن يكون خالصا من أنحاء الشر ، كما ذكرنا.

٢٩٥

بحث روائي

في المجمع في الآية أنّها نزلت في عمرو بن الجموح ، وكان شيخا كبيرا ذا مال كثير ، فقال : يا رسول الله بماذا أتصدّق؟ وعلى من أتصدّق؟ فأنزل الله هذه الآية.

وفي الدر المنثور عن ابن المنذر عن ابن حيان مثله.

أقول : السؤال وإن كان عن أصل الإنفاق ومن ينفق عليه ، ولكن لا وجه لتخصيص ظاهر الآية بذلك بعد صحة إرادة جميع خصوصيات الإنفاق ، كما ذكرنا.

وفي الدر المنثور عن ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريح قال : سأل المؤمنون رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أين يضعون أموالهم؟ فنزلت (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ). فذلك النفقة في التطوع ، والزكاة سوى ذلك كلّه.

أقول : يجري فيه ما تقدّم في سابقه. ويأتي أنّ الآية شاملة لجميع أقسام الإنفاق واجبا كان أو غيره بحسب ما فسّرت في السنة فلا وجه للتخصيص ، كما لا وجه للنسخ.

وفي الدّر المنثور أيضا عن السدي قال : يوم نزلت هذه الآية لم يكن

٢٩٦

زكاة ، وهي النفقة ينفقها الرجل على أهله ، والصدقة يتصدّق بها فنسختها الزكاة.

أقول : لا نسبة بين هذه الآية وبين آية الزكاة ، إلا أن يراد من النسخ شيء آخر.

٢٩٧

سورة البقرة

الآية ٢١٦ ـ ٢١٨

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨))

بعد أن ذكر سبحانه في الآية المتقدمة بذل المال في سبيل الله فكان توطئة لهذه الآيات الواردة في الجهاد في سبيل نصرة الدّين ، وبذل النفس لإعلاء الحق ، وقد ذكر عزوجل بعض الاعتراضات على هذا التكليف الجديد ، وبيّن أنّ الفتنة في الدّين أكبر من القتل ، وبه أجاب عن اعتراض المعترضين ، ثم ذكر أنّ صراع الحق مع الباطل قائم لا بد من إزالته ، وأنّ الارتداد عن الدّين يوجب الحبط والخلود في النار ، كما أنّ الاستقامة في الدّين والجهاد في سبيله يكون موجبا للدخول في رحمة الله وغفرانه.

٢٩٨

التفسير

٢١٦ ـ قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ).

الكتابة هنا : تأتي بمعنى المفرض والوجوب ، والضمير يرجع إلى المسلمين سوى من خرج بالدّليل ، كما يأتي.

والمراد بالقتال : الجهاد مع الكفار وقتالهم ومحاربتهم.

والكره : عدم الرغبة إلى الشيء في مقابل الرغبة إليه ، ويصح اجتماعهما في شيء واحد باعتبارين فيقال : إنّي أرغب إلى هذا الشيء وأكرهه من حيث إنّ الشرع أو العقل ذمه. أو يقال : إنّي أكرهه ولا أرغب فيه من حيث الطبع ، وأرغب إليه من حيث إنّ العقل أو الشرع مدحه ، والمقام من قبيل ذلك فإنّه مكروه من حيث الطبع ومرغوب من حيث الشرع ، وذيل الآية الشريفة يبيّن ما قلناه.

وقيل : إنّ الكره ـ بالضم ـ ما كان فيه مشقة ذاتا ، ـ وبالفتح ـ تحميل المشقة على الإنسان من الغير فالحقيقة واحدة والفرق بالاعتبار قال تعالى : (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) [النساء ـ ١٨] ، وقال تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) [فصّلت ـ ١١] ، ولا بأس بذلك ، وهو من محسنات الكلام.

وقيل : إنّ الكره ـ بالضم وبالفتح ـ واحد حقيقة ، كالضّعف والضّعف.

٢٩٩

ابن جحش أصحابه أن ينزلوا ويحلقوا رؤوسهم ، فنزلوا فحلقوا رؤوسهم فقال ابن الحضرمي : هؤلاء قوم عبّاد ليس علينا منهم بأس فلما اطمأنوا ووضعوا السّلاح حمل عليهم عبد الله بن جحش ، فقتل ابن الحضرمي وأفلت أصحابه وأخذوا العير بما فيها وساقوها إلى المدينة وكان ذلك في أول يوم من رجب من أشهر الحرم ، فعزلوا العير ، وما كان عليها فلم ينالوا منها شيئا ، فكتبت قريش إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : إنّك استحللت الشهر الحرام ، وسفكت فيه الدم ، وأخذت المال وأكثروا القول في هذه ، وجاء أصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقالوا : يا رسول الله أيحلّ القتل في الشهر الحرام؟ فأنزل الله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) ـ الآية. قال : القتال في الشهر الحرام عظيم ولكن الذي فعلت قريش بك يا محمد من الصدّ عن المسجد الحرام ، والكفر بالله ، وإخراجك منها هو أكبر عند الله ، والفتنة يعني الكفر بالله أكبر من القتل».

أقول : روي في المجمع قريب منه ، والروايات في ذلك كثيرة.

وفي الدر المنثور : أخرج ابن إسحاق. وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي من طريق يزيد بن رومان عن عروة قال : بعث رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عبد الله بن جحش إلى نخلة ، فقال له : كن بها حتى تأتينا بخبر من أخبار قريش ولم يأمره بقتال وذلك في الشهر الحرام ، وكتب له كتابا قبل أن يعمله أنّه يسير ، فقال : أخرج أنت وأصحابك حتّى إذا سرت يومين فافتح كتابك وانظر فيه ، فما أمرتك به فامض له ، ولا تستكرهنّ أحدا من أصحابك على الذهاب معك ، فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه : أن امض حتى تنزل نخلة فتأتينا من أخبار قريش بما اتصل إليك منهم.

فقال لأصحابه حين قرأ الكتاب : سمع وطاعة ، من كان منكم له رغبة في الشهادة فلينطلق معي ، فإنّي ماض لأمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، ومن كره ذلك منكم فليرجع ، فإنّ رسول الله قد نهاني أن أستكره منكم أحدا ، فمضى معه القوم حتّى إذا كانوا بنجران أضل سعد بن أبي وقاص ، وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه فتخلّفا عليه يطلبانه ، ومضى القوم حتى نزلوا

٣٠٠