مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٦

على هذه الحالة بل بمقتضى السّير التكاملي إنّه استقبل أمورا لم يكن يعرفها من قبل ، وازدادت معارفه وعلومه بعد أن كانت مقتصرة على المحسوسات فقط ، وتمكن من الاستيفاء من الحياة بأفضل مما كان عليه فاقتضى هذا الوضع أن يبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وينزل معهم الكتاب ليبين لهم طريق السعادة وتحفظ لهم الوحدة ويرفع الاختلاف والتزاحم بينهم ، ويسهّل لهم الاستفادة من مزايا الحياة بعد أن لم يتمكن العقل الذي هو شرع داخلي لوحده أن يتصدّى لذلك بل لا بد من شرع خارجي يعضده كما ذكرنا مرارا.

ومن ذلك يعلم أنّه لا يشترط أن يكون بعث الأنبياء (عليهم‌السلام) إلا بعد حصول الاختلاف بين أفراد الناس ، كما ذكره بعض المفسرين.

والمشهور بين المفسرين أنّ المراد بالآية الشريفة أنّ الناس كانوا أمة واحدة على الهداية ، والاختلاف إنّما نشأ بعد نزول الكتاب وبعث الأنبياء ، فإن كان مرادهم من ذلك ما ذكرناه من أنّهم كانوا على الفطرة غير جاحدين للربوبية فلا إشكال ، وإلا فإنّ الهداية إنّما تحصل من بعث الأنبياء (عليهم‌السلام) وإنزال الكتب والمعارف الإلهية.

ثم ما هو الدّاعي لزعزعة الوحدة ببعث الأنبياء الذين هم يبغونها وإشاعة الاختلاف والتنازع بين أفراد الإنسان؟!!.

وقيل : إنّ المراد بالاية المباركة أنّ الناس كانوا أمة على الضلالة بقرينة قوله تعالى : (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) لأنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب إنّما يكونان لرفع الضلالة.

ولكن فساده واضح :

أما أولا : فلأنّ مصلحة إرسال الرسل وبعث الأنبياء لم تقتصر على ما ذكر ، بل يمكن أن تكون لإتمام الحجة عليهم.

وثانيا : إذا كانوا جميعا على الضلالة فما وجه نسبتها إلى البعض منهم وهم حملة الكتاب.

٢٦١

وقيل : إنّ المراد من الآية المباركة أنّ الناس أمة واحدة من حيث بعض الأمور الاجتماعية الفطرية فلا غنى لهم عن الاجتماع والتعاون ولا يمكن حصول الكمال إلا بهما بلا تحديد لذلك بوقت من الأوقات بل هو سنة جارية بعد أن كان الإنسان مدنيا بالطبع ، والاجتماع يؤدي إلى الاختلاف والتشاجر فلذلك بعث الله الأنبياء والمرسلين ، فيكون الفعل الناقص في الآية المباركة (كان) منسلخا عن الزمان ، ويدل على الثبوت.

ويشكل عليه : بأنّ ذلك خلاف ظاهر الآية الشريفة ، كما أنّ تفريع بعث الأنبياء والمرسلين على مجرّد كون الإنسان مدنيّا بالطبع وأنّ الاجتماع يوجب الاختلاف غير صحيح ، بل ذكرنا أنّ بعث الأنبياء (عليهم‌السلام) لم يشترط فيه الاختلاف والتنازع بل هو لأجل بيان الصراط المستقيم ، وجلب السعادة ، وإتمام الحجة عليه والإنسان بفطرته يسعى إلى الكمال وجلب السعادة ولا يتحقق ذلك إلا بإنزال الكتب الإلهية والمعارف الربوبية ، كان هناك اختلاف أولا.

قوله تعالى : (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ).

البعث يأتي بمعنى توجيه الشيء وإثارته ، ويختلف باختلاف المتعلّق وبعث الأنبياء إنّما هو لتوجيه الناس إلى المعارف الحقة وإثارة ما في عقولهم ، فعن عليّ (عليه‌السلام) : «فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكّروهم منسيّ نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول» فجميع المعارف الربوبية كانت موجودة في الفطرة الإنسانية على نحو الاقتضاء والاستعداد ، ولكن احتجبت بالحجب الظلمانية ، وقد بعث الله الأنبياء لإزالة تلك الحجب. وهذا بحث نفيس من مباحث الروح ، وقد أيدته نظريات علمية حديثة في مطلق علوم الإنسان ، ويأتي في المحلّ المناسب الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

والبشارة : هي الوعد برحمة الله ورضوانه وجنته.

والإنذار : هو الوعيد بعذاب الله تعالى وعقابه ، وهما من حكمة بعث

٢٦٢

الأنبياء وإرسال الرسل ، وبهما يتصف ما يأتيه الأنبياء بصفة الثبوت ، والتمكين في نفوس أغلب أفراد الإنسان وإن كان بعض المؤمنين الصالحين يعبدون الله تعالى خالصا لوجهه الكريم من دون أن تتعلّق نفوسهم بغيره.

وتقديم البشارة على الإنذار لأجل أنّه تعالى سبقت رحمته غضبه فيكون ذلك بلحاظ الجاعل والمشرّع ، أو لأنّ تلك الوحدة التي كانت بين الناس في الاعتماد على الأمور الفطرية مما اقتضى تقديم البشارة على الإنذار في المقام.

وفي بعض الآيات الأخرى قدم سبحانه النذير على البشير ، قال تعالى : (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف ـ ١٨٨] ، وقال تعالى : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) [هود ـ ٢] ، ويكون ذلك بلحاظ حال العباد والمكلّفين حيث إنّ التوعيد أقوى لديهم على الحث على العمل من التبشير ، فمجموع الآيات الواردة في هذا السّياق تجمع بين ما هو مقتضى شأنه تعالى وما هو مقتضى حال العباد ، فيكون الاختلاف باختلاف حالات الأمم وسائر الجهات.

وإنّما عبرّ سبحانه وتعالى بالبعث دون الإرسال ، لأنّ حال الإنسان في هذا الدور من حياته على الأرض كانت حال خمود وخمول لا يقصد إلا البقاء والاستفادة من وسائل الحياة البسيطة كما ذكرنا فكان الأنسب أن يبعث الله النبيين ليثيروا لهم الدّفائن التي أودعها الله تعالى في عقل الإنسان وينبهه بما يمتاز به عن سائر مخلوقاته ، وما يؤول إليه أمره وينير له طرق كماله ومنازل سيره الاستكمالي ، وهذا هو وظيفة النبي الذي يبعثه الله تعالى إلى خلقه.

وقد ذكر سبحانه النبيين دون المرسلين ، لأنّ النبي أعم من الرّسول فيشمل من ليس له كتاب وشريعة مستقلة ، فإنّه بنفسه يكفي في الحجية والدّاعوية إلى الله تعالى.

قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ).

بيان لكون الأنبياء مبشرين ومنذرين أي : إنّ تبشيرهم وإنذارهم لا

٢٦٣

يكونان إلا من كتاب الله تعالى ، وهو القانون الأتم الأكمل والنظام الرباني التشريعي.

والمراد به في المقام : هو الضم ، سواء كان في الإرادة أو في اللفظ أو في الحروف ، أو في الصحيفة ، أو في الخارج ، وكلّ شيء يراد فهو جمع في الإرادة ، فإذا قيل فهو جمع في اللفظ ، وإذا كتب فهو جمع في الصحيفة. وإن أنشئ خارجا فهو جمع في الاتحاد ، وإذا عمل به فهو جمع في الخارج.

فالجامع في الجميع هو النظم والجمع.

وقد استعمل الكتاب بتمام هذه الاستعمالات في القرآن الكريم ، كما وردت هذه المادة بهيئات مختلفة في القرآن العظيم ، وفي خصوص لفظ (الكتاب) في أكثر من مأتي مورد ، وتستعمل في المعارف المعنوية والشؤون الأخروية.

والكتاب أخص من الصحيفة قال تعالى : (صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) [البينة ـ ٢] ، وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «أنزل الله مائة وأربعة كتب وأنزل منها على آدم (عليه‌السلام) عشر صحف ، وعلى شيث خمسين صحيفة ، وعلى أخنوخ ـ وهو إدريس ـ ثلاثين صحيفة ، وهو أول من خطّ بالقلم. وعلى إبراهيم (عليه‌السلام) عشر صحف ، والتوراة ، والإنجيل ، والقرآن».

والمراد من الكتاب في المقام جنسه ليشمل الشرائع السماوية الخمسة المختصة بأولي العزم من الأنبياء : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد (عليهم‌السلام) ، قال تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) [الشورى ـ ١٣].

ويستفاد من هذه الآية المباركة بانضمام الآيات الأخرى أنّ نوحا أول من أتى بشريعة في كتاب سماوي متضمن لمنهاج إلهي يرشد إلى الصّلاح ويشمل من الأحكام والمعارف التي تهدي الإنسان إلى السعادة في الدّارين ، كلّ شريعة بحسب ما يلائمها من الظروف والقابليات إلى أن انتهت إلى شريعة

٢٦٤

خاتم الأنبياء الجامعة لجميع الشرائع الإلهية السابقة مع ما تختص بها من معارف ربوبية وأحكام إلهية.

ولا يستفاد من الآية أنّ لكلّ نبي كتابا مستقلا ـ كما عن بعض المفسرين ـ كما هو المعلوم من مثل هذا التعبير في المحاورات بل قصد منها أنّ النبيين يحكمون بالكتاب النازل من السّماء ولو كان نازلا على بعضهم ، فيسمى من أنزل عليه الكتاب صاحب الشريعة وسائر الأنبياء إنّما يتبعون أحد هؤلاء ، فإنّ النبوات السّماوية ذات مراتب متفاوتة ، إما من جهة نفس النبيّ ، والأنبياء يختلفون في مرتبة الاستعداد الذاتي كاختلاف سائر أفراد الناس فيه ، أو من جهة ما أمروا بالإنباء عنه فإنّه يختلف اختلافا كثيرا حسب المقتضيات والظروف التي لا يحيط بها إلا الله عزوجل ، أو من جهة الامة بعد اتفاق الجميع في الإنباء عن المبدأ والمعاد وبعض المستقلّات العقلية. فالآية تشمل كلا القسمين من الأنبياء (عليهم‌السلام).

وقوله تعالى (بِالْحَقِ) يصح تعلقه بالكتاب كما يصح تعلقه بالنزول للتلازم بين حقيقة النزول وحقيقة الكتاب ، فإذا تعلّق بأحدهما يستلزم التعلق بالآخر.

وإنّما وصف سبحانه الكتاب بالحق لأجل إعلام الناس بأنّ الأنبياء إنّما بعثوا وأنزل معهم الكتاب لبيان الحقّ والهدى ، فالقيد توضيحي أتي به تجليلا وتعظيما للكتاب السّماوي لا أن يكون احترازيّا ، وله نظائر في القرآن الكريم تأتي الإشارة إليها.

قوله تعالى : (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ).

أي ليحكم الكتاب المنزل من الله تعالى المتضمن للشرع الإلهي. أو ليحكم الله عزوجل المنزل للكتاب بين جميع الناس. ولا فرق بين الوجهين بعد اعتبار الحكم مطلقا عند العقلاء بحسب الفطرة ففي العرف يقال : حكم القانون ، أو حكم الجاعل للقانون.

وهذه الآية وما في سياقها بيان لإحدى حكم وفوائد إنزال الكتب

٢٦٥

السّماوية ، ويدل عليه البرهان العقلي بالقول : بأنّ الاختلاف وجداني بين الناس ويجب رفعه في تنظيم النظام ، ورفعه منحصر بالحكم بالحق فيجب الحكم بالحق لرفع الاختلاف بين الناس ، سواء كان في أمور الحياة أو في غيرها مما يكون منشأه الجهل والأهواء الباطلة.

والحكم بين الناس بالحق من أهم الأمور النظامية ، وبزواله واختلافه يختل النظام ، ولذلك اهتم الإسلام به وحصر الحكم والحاكم في أربعة :

الأول : أن يكون الحاكم والحكم كلّ منهما بالحق ، والحاكم يعلم أنّ حكمه حق ، وهذا مطلوب للرّحمن ويكون مصيره إلى الجنان.

الثاني : أن يكون الحاكم فاقدا للشرائط وكان حكمه حقّا ، وهذا مبغوض للرّحمن ومصيره إلى النّيران.

الثالث : الصورة السابقة مع كون حكمه باطلا وهذا أيضا مثل السابق بالأولى.

الرابع : أن يكون الحاكم جامعا للشرائط ، وحكمه حق ، وهو لا يعلم أنّه حق ، وهو أيضا مبغوض ومصيره إلى النّار ، كلّ ذلك لكثرة أهمية الحكم بالحق الذي هو من صفات الله تعالى وأعظم منصب من مناصب الأنبياء فلا وجه لأن يدنّس بما لا ينبغي أن ينسب إليهم (صلوات الله عليهم أجمعين) ، وقد ذكرنا بعض ما يتعلّق بالمقام في كتاب القضاء من (مهذب الأحكام).

قوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ).

الاختلاف : هو التغاير في الجملة ، والمتخالفين أعم من الضدين والمتناقضين لإمكان ارتفاعهما واجتماعهما ، والثاني لا يمكن اجتماعهما وإن أمكن ارتفاعهما ، والأخير لا يمكن فيه ارتفاعهما ولا اجتماعهما. وهذه المادة كثيرة الاستعمال في القرآن بهيئات مختلفة.

والاختلاف إما تكويني ، كاختلاف الليل والنّهار ، واختلاف الألوان والألسنة ؛ أو اختياري ينتهي إلى الإرادة وهي تنتهي إلى خصوصيات

٢٦٦

الاستعدادات الذاتية فتنتهي أخيرا إلى الذات ، وهو ينتهي إلى القدرة الأزلية ، وأشير إلى ذلك في قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) [الروم ـ ٢٢].

ولو قلنا بأنّ الاختلاف بين الناس في المقاصد والغايات وسائر الفطريات لهم في الجملة مقهورة تحت إرادة الحي القيوم على نحو الاقتضاء لا العلية التامة لكان حسنا ، ويترتب على ذلك أهم أمور النظام الأحسن وأعظمها ، ويأتي شرح هذه الجمل في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

ومادة (بغي) تأتي بمعنى تجاوز الاقتصاد في ما هو قابل للتجاوز سواء تجاوز أم لا. وهو على أقسام : فتارة من الحق إلى الحق. وأخرى من الباطل إلى الحق ، وهما ممدوحان. وثالثة من الحق إلى الباطل. ورابعة من الباطل إلى الباطل ، وهما مذمومان.

ويمكن أن يستفاد ذلك من قوله تعالى : (يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) فهو بالمفهوم يدل على ثبوت البغي بالحق.

والمراد به في المقام القسمان الأخيران من الأقسام.

وقد تستعمل بمعنى أصل الطلب ، ولهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة كلّها بالنسبة إلى الناس ، ولم أجد استعمالها بالنسبة إلى الله تعالى ، ولا بالنسبة إلى أهل الآخرة فيها ، سواء كان في النعيم أو في الجحيم.

والمعنى : إنّ الاختلاف إنّما حصل من حملة الكتاب العالمين به بغيا منهم وتجاوزا فحرّفوا كتاب الله تعالى وضيّعوه وتعدّوا حدوده.

ويستفاد من قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) أنّ الاختلاف الحاصل في الكتاب والشريعة لا يكون إلا من حملة الكتاب الذين قد استبانت لهم الآيات ، وهم الأصل في الاختلاف الواقع في الأديان الإلهيّة وأنّ غيرهم وإن كانوا على الخلاف ، ولكنّهم منحرفون عن الصّراط وليسوا بغاة ، ويشهد لذلك

٢٦٧

الاختلاف في كلّ علم فإنّه يكون من العالمين به دون غيرهم ممن لا علم له به.

كما يستفاد من قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) أنّ الكتاب إنّما نزل لرفع الاختلاف والتوفيق بين الناس وإسعادهم بما فيه من الحجج الواضحة والبراهين القويمة ، ولكن يشوب الحق أهواء العالمين به وأغراضهم الفاسدة وزيغهم بتحريف الكتاب أو تأويله بما لا يرتضيه عزوجل ، أو بتبديل آياته ، أو الأخذ بمتشابهاته والإعراض عن محكماته.

ومن مجموع الآية المباركة يستفاد أنّ الدّين المنزل من الله تعالى لا اختلاف فيه ، وهو موافق للفطرة التي لا تلبيس فيها ، قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) [الروم ـ ٣٠] ، والاختلاف إنّما يكون من غيره عزوجل الحاصل بين علماء الكتاب وحملته من بعد علم ، ولذا يكون من بغي وهو تعالى لا يعذر الباغي في الدّين ، وأما غيره ممن انحرف عن الدّين فقد يعذره إن اشتبه عليه ولم يستطع حيلة ، وعلى ذلك دلّت آيات كثيرة قال تعالى : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [الشورى ـ ٤٢].

قوله تعالى : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ).

مادة (أذن) تأتي بمعنى الإرادة والمشيئة ، وقد استعملت فيهما في القرآن الكريم فيما يقرب من عشرين موردا. ويلزمهما العلم ، ولا ريب في أنّ الإرادة والمشيئة أخص من العلم ، قال تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة ـ ١٠٢] ، وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) [النساء ـ ٦٤] ، أي بإرادة الله وأمره. وقال تعالى : (فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران ـ ٤٩] ، وقال تعالى : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة ـ ٣٣٩] ، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

والآية في مقام بيان الإيمان الحق الذي لا اختلاف فيه واقعا إلا اختلاف حصل من بغي حملة الكتاب.

٢٦٨

والمعنى : إنّ الله تعالى هدى الّذين آمنوا في مورد اختلاف الناس في الحق الّذي هو الدّين والمعارف الإلهية بعلمه وإرادته ، فالهداية الحقيقية التي هي أشرف المقامات الإنسانية وأجلّ المعارج العرفانيّة تنتهي إليه جلّت عظمته على نحو الاقتضاء لا على نحو العلية التامة ليلزم الإلجاء والجبر ، فإنّ الله تعالى لا يجبر أحدا على الإيمان والهداية ويدل على ذلك قوله تعالى : (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

ويستفاد من الآية المباركة : أنّ لله تعالى أفرادا من الناس في كلّ أمة لهم قابلية الهداية والاهتداء إلى الحق وهم المؤمنون الذين لا يؤثر فيهم اختلاف الناس في الحق. بهم ينوّر الله السّبيل ، وقد أفنوا حياتهم في سبيل الله تعالى ، وهم في سكون واطمئنان وسائر الناس في اختلاف واضطراب ، وبهم تتم الحجة على العباد.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

أي : يهدي ويوصل ـ على سبيل الاقتضاء ـ من أراد من عباده إلى الواقع الذي هو الصراط المستقيم كما مر.

٢٦٩

بحوث المقام

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور :

الأول : أنّ الآية المباركة تدل على أنّ الفطرة الإنسانية وإن كانت سبب الاتحاد في برهة من الدّهر إلا أنّها غير كافية في رفع الاختلاف والتنافر بين الناس. والدّين المنزل من الله تعالى المتضمن لمنهاج الأمة في الحياة. والمتكفّل لجميع شؤون الإنسان في الدّارين هو السبب الوحيد لرفع الاختلاف والتنافر والاضطراب ، وأنّه يوجب سكون النفس واطمينان القلب والاستفادة مما أودعه الله تعالى في الإنسان من الفطرة والعقل ، وفي الأرض من الوسائل بأحسن وجه وهو الذي يوجب الاتحاد بين أفراد الناس.

الثاني : أنّ الأديان الإلهية التي جاءت في سبيل سعادة الإنسان في الدّارين تختلف في الكمالات حسب مقتضيات الظروف ، فكلّ دين لا حق أكمل من سابقه إلى أن ينتهي إلى خاتم الأديان فإنّه يستوعب جميع احتياجات الإنسان وقوانينه أكمل القوانين. ولا كمال فوق ما جاء به خاتم النبيين (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، ولذا ختم سبحانه وتعالى النبوة بما جاء به (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

الثالث : يستفاد من الآية الشريفة أنّ حكمة إرسال الرسل وبعث الأنبياء

٢٧٠

(عليهم‌السلام) إنّما هي تكميل الإنسان وبيان سبل السعادة له ورفع الاختلاف الذي هو من غرائز الإنسان بعد أن لم يتمكن العقل والفطرة بانفرادهما بتوجيه الإنسان إلى ذلك ، وقد خلق الله تعالى الإنسان وهو يحب الكمال ويسير نحو الاستكمال ، والله تعالى هو الذي اعتنى بهداية كلّ شيء إلى تمام خلقه وكماله المعدّ له ، قال تعالى : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه ـ ٥٠] ، ولا شيء أكمل من أن يهتدي الإنسان إلى سعادته وكماله في الدنيا والعقبى ، فهو يرسل الرسل والأنبياء لتكميل الإنسان وجلب السعادة له.

الرابع : تعلق المشيئة بهداية عبد من عباده غير معلوم لغيره تعالى ، فلا يمكن أن يحيط بالخصوصيات غيره جلّت عظمته ، وكذا بالنسبة إلى تعلق المشيئة بضلالة أحد من عباده.

الخامس : يستفاد من الاقتصار على الصّراط المستقيم في قوله تعالى : (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أنّه هو الهداية الحقيقية الأبدية التي لا نفاد لها ، وأنّه أعلى مراتب الهداية ، بل هو الغاية القصوى لكلّ مؤمن ، وهو أعظم وسام يمنحه الله عزوجل لمن يشاء من عباده يتعزّز به في الدنيا ويرفع به إلى الدّرجات العليا في العقبى ، وقد ذكرنا ما يتعلّق به في سورة الحمد ، فراجع.

وذكر لفظ (من) الظاهر في ذوي العقول من باب التغليب لا الحصر.

السادس : الحكم نحو من الإيجاد وهو إما خارجي أو اعتباري وفي قوله تعالى : (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) هو الثاني ، والإيجادي منه يختص بالله جلّت عظمته ، وهو يشمل جميع الموجودات بجواهرها وأعراضها ومجرداتها ، فإن جميع مخلوقاته تحت حكمه الشامل للسّماوات والأرض. وأما التشريعي ففي القرآن الكريم والسنة الشريفة منه شيء كثير.

٢٧١

بحث روائي

في تفسير العياشي عن يعقوب بن شعيب عن الصادق (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ). قال (عليه‌السلام) : «كان هذا قبل نوح أمة واحدة فبدا لله فأرسل الرسل قبل نوح. قلت : أعلى هدى كانوا أم على ضلالة؟ قال (عليه‌السلام) : بل كانوا ضلّالا كانوا لا مؤمنين ولا كافرين ولا مشركين».

أقول : الظاهر أنّ في قوله (عليه‌السلام) : «فأرسل الرسل قبل نوح» ، إجمالا لا سيّما بعد ملاحظة صدر الرّواية وما يأتي من الرّوايات فإن أمكن حمله على محمل صحيح ، وإلا يردّ علمه إلى أهله.

والمراد من قوله (عليه‌السلام) : «فبدا لله» هو إظهار المخفي ، كما يأتي شرحه في قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [الرّعد ـ ٣٩].

كما أنّ المراد من قوله (عليه‌السلام) : «بل كانوا ضلّالا» أي عدم إعمال فطرتهم بما أراده الله تعالى لا الضّلالة في أصل الفطرة حتى يناسب قوله (عليه‌السلام) : «كانوا لا مؤمنين ولا كافرين ولا مشركين» وما يأتي من الروايات.

وفي المجمع عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (كانَ

٢٧٢

النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ). قال (عليه‌السلام) : «كانوا قبل نوح أمة واحدة على فطرة الله لا مهتدين ولا ضلّالا فبعث الله النبيين».

أقول : هذا موافق للأمر التكويني لعدم تشعب الأفكار ، بل كانوا على سذاجة الفطرة لا مهتدين بالهداية التشريعية ، ولا ضلّالا بضلالة الكفر ، لعدم إتمام الحجة بالرسل وعدم حدوثها بعد فلما بعث الله الرسل وأتم الحجة بهم اختلفوا وتفرقوا.

وفي تفسير العياشي عن مسعدة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قول الله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) قال (عليه‌السلام) : «كان ذلك قبل نوح فقيل : فعلى هدى كانوا؟ قال (عليه‌السلام) : بل كانوا ضلّالا ، وذلك أنّه لما انقرض آدم وصالح ذريته وبقي شيث وصيّه لا يقدر على إظهار دين الله الذي كان عليه آدم وصالح ذريته. وذلك أنّ قابيل توعّده بالقتل كما قتل أخاه هابيل فسار فيهم بالتقية والكتمان فازدادوا كلّ يوم ضلالا حتّى لم يبق على الأرض معهم إلا من هو سلف ، ولحق الوصي بجزيرة في البحر يعبد الله ، فبدا لله تعالى أن يبعث الرسل ، ولو سئل هؤلاء الجهال لقالوا قد فرغ من الأمر ، وكذبوا ، إنّما هو شيء يحكم به الله في كلّ عام ثم قرأ (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) فيحكم الله تبارك وتعالى : ما يكون في تلك السنة من شدّة أو رخاء أو مطر أو غير ذلك. قلت : أفضلّالا كانوا قبل النبيين أم على هدى؟ قال (عليه‌السلام) : لم يكونوا على هدى ، كانوا على فطرة الله التي فطرهم عليها ، لا تبديل لخلق الله ، ولم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله ، أما تسمع لقول إبراهيم : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) أي ناسيا للميثاق».

أقول : هذه الرّواية تجمع بين ما دلّ على أنّهم كانوا قبل نوح ضلّالا ، وما دلّ على أنّهم لم يكونوا كذلك ، فيكون المراد بالضلال أي عدم فعلية دعوة الرسل الإلهية فيهم. وسيأتي شرح البداء وما قيل من أنّه قد فرغ من الأمر في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

٢٧٣

وفي تفسير العياشي عن الثمالي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «كان ما بين آدم وبين نوح من الأنبياء مستخفين ومستعلنين ، ولذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسمّوا كما سمي من استعلن من الأنبياء ـ الحديث ـ».

أقول : إنّ الوجه في كونهم مستخفين عدم صلاحية الظروف لإظهار الدّعوة ، كما عرفت في الرواية السابقة.

وفي نهج البلاغة قال (عليه‌السلام) في خطبة له يذكر فيها خلق آدم (عليه‌السلام) : «وأهبطه إلى دار البلية ، وتناسل الذرية ، واصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم لما بدّل أكثر خلقه عهد الله إليهم ، فجهلوا حقه ، واتخذوا الأنداد معه ، واجتالتهم الشياطين عن معرفته ، واقتطعتهم عن عبادته ، فبعث فيهم رسله ، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكّروهم منسيّ نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول ، ويروهم الآيات المقدّرة ـ الخطبة ـ».

أقول : إنّ هذه الخطبة تشتمل على حكمة بعث الأنبياء وإرسال الرسل (عليهم‌السلام) وأنّهم يدعون إلى الفطرة الإنسانية كما أنّ الفطرة تدعو إليهم أيضا ، فهم مع الفطرة متلازمان في الواقع ، ولكنّ الفطرة بوجودها الوجداني لا تكفي في نوع الإنسان للداعوية فلا بد من تكميلها بحجة خارجية ، وهي الأنبياء والرسل ، كما ذكرناه في البحث الفلسفي.

وقوله (عليه‌السلام) : «واجتالتهم الشياطين» أي استخفتهم فجالوا معهم في الضّلال.

وقوله (عليه‌السلام) «ليستأدوهم» أي يؤدّي لهم الأنبياء ميثاق الفطرة ، وسيأتي إن شاء الله في الموضع المناسب شرح الخطبة الجليلة.

وفي التوحيد عن هشام بن الحكم قال : «سأل الزنديق أبا عبد الله (عليه‌السلام) فقال : فمن أين أثبتّ أنبياء ورسلا؟ قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : إنّا لما أثبتنا أنّ لنا خالقا صانعا متعاليا عنّا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيما لم يجز أن يشاهده خلقه ، ولا أن يلامسه ولا يلامسهم ، ولا يباشرهم

٢٧٤

ولا يباشروه ، ولا يحاجهم ولا يحاجوه فثبت أنّ له سفراء في خلقه وعباده يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما فيه بقاؤهم وفي تركه فناؤهم ، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، وثبت عند ذلك أنّ له معبّرين وهم الأنبياء وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدبين بالحكمة مبعوثين بها غير مشاركين للناس في أحوالهم وعلى مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب ، مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدّلائل والبراهين والشواهد : من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، فلا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقال الرّسول ووجوب عدالته».

أقول : حديث شريف يبيّن احتياج الناس إلى النبوة ووجوبها في الخلق وبيان ارتباط الخلق مع الخالق.

ويتضمّن الحديث ما يجب أن يتصف به الأنبياء ، ولزوم كون الأنبياء مظهرين للمعجزة في الخلق ليكون ذلك علامة على أنّهم بعثوا من عالم الغيب إلى عالم الشّهادة ، وأنّه لا يمكن خلوّ الناس من أول خلقهم إلى آخر فنائهم عن حجة لله تعالى عليهم إمّا ظاهرة أو مستورة خفية ، لعدم استعداد الظروف لظهورها. وكل ما ورد في الحديث الشريف مطابق للآيات القرآنية والشواهد العقلية ، كما ستعرف في المحلّ المناسب إن شاء الله تعالى.

٢٧٥

بحث فلسفي

إنّ موضوع النبوة مطلقا من الموضوعات العامة التي ترتبط بالإنسان من جميع جهاته من نشأته إلى مماته ، وبرزخه وخلوده ، ومن حيث حياته الفردية والاجتماعية ، ومن حيث ارتباطه مع الخالق العظيم ومع الخلق ، ومن حيث سعادته وشقاوته ، وبالجملة إنّ لها تأثيرا مباشرا في كمال الإنسان ، ولها ارتباط وثيق بالنفس الإنسانية وقد بحث عنها في غير واحد من العلوم كعلمي الفلسفة والكلام ، وعلوم الدّين.

وقد اعتنى الله تبارك وتعالى بها اعتناء بليغا ، فأرسل الرسل وبعث الأنبياء وأنزل الكتب مع ما أودع في فطرة الإنسان من حب الكمال والسّعي إلى الصّلاح ، وما ألهمه من العقل الذي يدعوه إلى الاستكمال بالحق اعتقادا وعملا ، ولكن كلّ ذلك لن يقدر على النّهوض إلا مع الانضمام بالنبوة ، كما ستعرف.

وهي بالإضافة إلى أنّها تبليغ للأحكام الإلهية والمعارف الربوبية إنّها أهمّ وسيلة لتربية الإنسان وفق النظام الأحسن وأعظم سبيل لتثبيت تلك المعارف والأحكام في النفس الإنسانية لأنّ لها ارتباطا قريبا بها من حيث إنّها توجب رسوخ تلك المعارف والعلوم في النفس فتحدث ملكات تصدر عنها أعمال ترتسم بموجبها في النفس صور فيكتسب بها كمالات تعيّن لها طريق

٢٧٦

السعادة والقرب من الله تعالى.

وبالعكس لو كانت تلك الملكات هي مجموعة صور عن الأعمال الفاسدة والعلوم الباطلة فتوجب الشقاوة والبعد عن الله تعالى.

ولا ريب في أنّ تلك الملكات تحصل من الأفعال الاختيارية التي تصدر من شعور نفسي كامن في الإنسان أنّه يسعى إلى الكمال وأنّ له مبدءا فياضا يفيض عليه بما يليق به من الكمال لأنّ وصول ذلك الكمال إلى المرتبة الفعلية وتبديل القوة إلى الفعل بحسب اختياره فإن كانت تلك الملكات والأعمال صحيحة وفاضلة توجب السعادة وإلا فالشقاوة والبوار ، ولا يمكن أن يدفع هذا الشعور الباطني في الإنسان إلا اعتقاد الصلاح والفساد الذي يكون منشأ للنبوة العامة.

فتكون سعادة السعداء وشقاوة الأشقياء دخيلتين في نظام العالم ، لأنّ الإنسان أعظم المخلوقات وأفضل الموجودات ، فهذا الموجود العجيب الذي خلق لأجله ما في البرّ والبحر ، وسخّر الله له الليل والنّهار ، فهو بوجوده النوعي غاية الخليقة ، ولم يبارك الله جلّت عظمته على نفسه في جميع مخلوقاته بمثل ما بارك في خلق هذه الجوهرة الثمينة والدّرّة اليتيمة ، فهو مع ذلك كلّه معرض الكون والفساد ، وتزاحم الأضداد ، وإهمال تربية مثل هذا الموجود العظيم يكون نقضا في النظام الأحسن. وهذا الأمر الفطري الوجداني هو منشأ التشريعات السّماوية ، وإرسال الرّسل وبعث الأنبياء ، ويمكن تسمية ذلك بقاعدة اللطف كما سماه أهل الفلسفة والكلام. ولا بأس بذلك إذ لا مشاحة في الاصطلاح.

هذه خلاصة الدّليل العقلي للنبوة العامة ، وينطبق على النبوة الخاصة أيضا.

قد يقال : إنّ في ذلك تعطيل العقل الذي أودعه الله تعالى في الإنسان وشرّفه به على جميع من عداه ، فإنّ العقل بانفراده يكون كافيا للدّاعوية في السّير إلى الاستكمال ، فلا يحتاج إلى النبوة والخلافة الإلهية.

٢٧٧

ولكنّه باطل : لأنّ العقل لو كان بمجرده من دون أن تشوبه الأفكار المادية والإحساسات الناشئة من القوى الشهوية والغضبية ، لكان كافيا فإنّه نور إلهيّ. ولكن أنّى يكون مثل هذا. نعم ، هو بالقوة أما الذي موجود بالفعل فهو مشوب بالأفكار المادية والإحساسات الشهوية والغضبية ، فلا يمكن له النهوض مستقلا إلا بتأييد غيبي إلهي ، ويدلنا على ذلك الأقوام الجاهلية الهمجية والبربرية فإنّهم من أفراد الإنسان وفيهم العقل ، ومع ذلك هم أقرب إلى الحيوان في تصرفاتهم.

مع أنّه يمكن أن نقول بأنّ الاستكمالات إن كانت دنيوية فقط أمكن القول بالاكتفاء بالعقل ، وأما الاستكمالات المعنوية التي توجب سعادة الدّارين فهي لا بد أن تكون من المبادئ السّماوية ، والعقل بدونها لا يكفي.

فالكمال إما دنيوي أي للدنيا وفي الدنيا ، أو أخروي أي في الدنيا للآخرة ، أو هما معا أي لهما في الدنيا. ولو فرض الاكتفاء بالعقل فإنّما هو في القسم الأول فقط ، دون الأخيرين اللذين هما الكمال الحقيقي الذي يطلبه الإنسان بالفطرة ، وهو لا يمكن طلبه إلا بتأييد إلهي. وأما الأول فهو كمال جسماني ناقص.

ثم إنّ النبوة العامة التي جاءت لتكميل الإنسان وهدايته ، ليست على نحو العلية التامة بحيث يكون لها فعلية التأثير في الفرد والمجتمعات الإنسانية حتى يستشكل بأنّ النبوة ليست إلا فرضية غير قابلة الانطباق على الحقيقة ، لكثرة ما نرى من الشقاء والخلاف في أفراد الإنسان.

لأنّ النبوة كسائر ما يدعو الإنسان إلى الكمال هي من قبيل المقتضي إنّما تؤثر إذا رفعت الموانع والحجب ووظيفة النبوة إنّما هي إراءة الطريق وإنزال المعارف والأحكام التي لها تأثير مباشر في النفس الإنسانية وتثبت بالأعمال الصالحة والأفعال المرضية صفات وملكات راسخة تصدر عنها الأعمال وتورث مع الأجيال ، فهي كاشفة عن أخلاق الفرد وصفاته هذا بالنسبة إلى الفرد.

٢٧٨

وأما بالنسبة إلى المجتمع فهو إنّما يصلح بصلاح أفراده ، وهذا مما لا يمكن إنكاره ، وما وصلت الإنسانية إلى ما نراه في الوقت الحاضر من الانحطاط وسوء الأخلاق والشقاء إلا بإهمال الدّين والأخلاق الفاضلة والمعارف الحقة.

هذا بالنسبة إلى أصل النبوة التي تقرن بالوحي الذي هو محاورة بين الموحي والموحى إليه تتعلّق بما يريده الله تعالى من عباده.

وأما عدد الأنبياء والمرسلين فإنّ الوارد في القرآن الكريم أنّهم كثيرون مختلفون في الفضل قال تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) [البقرة ـ ٢٥٣] ، ولم يذكر لهم عددا معينا ، ولم يقصص القرآن عن جميعهم ، وإنّما قص عن بعضهم قال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) [المؤمن ـ ٧٨].

فقد عدّ الله تعالى في كتابه الكريم خمسة وعشرين منهم ، وهم : آدم ، ونوح ، وإدريس ، وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وإسماعيل ، واليسع ، وذو الكفل ، وإلياس ، ويونس ، وإسحاق ، ويعقوب ، ويوسف ، وشعيب ، وموسى ، وهارون ، وداود ، وسليمان ، وزكريا ، ويحيى ، وإسماعيل صادق الوعد ، وعيسى ، ومحمد (صلوات الله عليهم أجمعين). وذكر تعالى بعضهم بالكناية والتوصيف ، قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً) [البقرة ـ ٢٤٦] ، وقال تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) [البقرة ـ ٢٥٩] ، وقال تعالى : (وَالْأَسْباطِ) [البقرة ـ ١٣٦] ، وقال تعالى : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف ـ ٦٥] ، وقال تعالى : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) [يس ـ ١٤].

وأما الأحاديث الواردة في عددهم فهي مختلفة ، والمشهور أنّ عددهم مائة وأربعة وعشرون ألف نبيّ ، ففي الحديث عن أبي ذر عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إنّ الأنبياء مائة وأربعة وعشرون الف نبي ، والمرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر نبيا».

٢٧٩

وأما أولو العزم منهم فهم خمسة ـ وهم سادات الأنبياء ـ نوح ، وإبراهيم وموسى ، وعيسى ، ومحمد (صلوات الله عليهم) ، قال تعالى : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف ـ ٣٥] ، ولكلّ واحد من هؤلاء شريعة ، قال تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) [الشورى ـ ١٣].

كما أنّ لكلّ واحد منهم كتابا ، قال تعالى : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) [الأعلى ـ ١٩] ، وقال تعالى : (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) [المائدة ـ ٤٦].

والمراد باولي العزم : أولو الثبات والاستقامة فيما عهد إليهم مما أمرهم الله تعالى به ونهاهم عنه ، وتبليغ ذلك إلى الأمة ، أي الاستقامة في الدّين بالدّين وللدّين بوحي سماوي ، قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) [الأحزاب ـ ٧].

٢٨٠