مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٦

وفيه إرشاد للناس بأن لا يعملوا عزتهم وقدرتهم كيف ما شاؤا وأرادوا من دون فكر وروية ، بل لا بد من تطبيقها على النظام العقلي والشرعي ، وإلا فقد يكون وبالا على العزيز القادر ، وقد وردت في السنة الشريفة أحاديث كثيرة في ذلك.

وقد ذكر تبارك وتعالى العزة والحكمة في المقام للإشارة إلى مكان العفو والغفران ، إذ القدرة على الانتقام شيء ، والانتقام الفعلي المنجز شيء آخر كما هو معلوم لكلّ من تدبر.

ومن ذلك يعلم أنّ في الآية روعة الأسلوب في بيان المعنى المقصود وتقدم الوجه في أمثال قوله تعالى : (فَاعْلَمُوا) وذكرنا أنّ هذا التعبير أشد في التذكير والعتاب.

٢١٠ ـ قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ).

بيان لقوله تعالى : (أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) المتضمّن للتوعيد فيكون احتجاجا آخر لعلّ الناس يرتدعون به عن العناد واللجاج ويتركون متابعة الشيطان ، ويدخلون في الصّراط المستقيم بأحسن أسلوب في بيان الحجة.

وقد تغيّر فيه الخطاب من الناس إلى خطاب الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كما أنّه اختلف فيه الأسلوب ففيه الالتفات من الخطاب إلى الغيبة للإيهام بأنّ من يزل عن الصراط المستقيم غير لائق بالخطاب وللإعلام بأنّ الأمة قد يتغيّر حالهم ويزلّون عن الطريق المستقيم ويقع فيهم الاختلاف والتفرّق ، فيشملهم ما أوعده الله تعالى في هذه الآية المباركة.

والاستفهام إنكاري بمعنى النفي.

ومادة (نظر) تدل على الطلب لإدراك الشيء ، وهو الجامع القريب بين جميع استعمالاتها الكثيرة ، سواء كان بالبصر ، أم البصيرة ، أم كان بمعنى الانتظار والإمهال ، لأنّ فيهما يطلب وقوع الشيء بعد ذلك. نعم ، إذا استعملت بالنسبة إلى الله عزوجل كما في قوله تعالى : (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ

٢٤١

الْقِيامَةِ) [آل عمران ـ ٧٧] ، فإنّه يكون بمعنى إنزال الرّحمة ورفع العذاب لأنّه من صفات فعله المقدّس.

وفي المقام يكون بمعنى الانتظار ، أي ينتظرون هذا الأمر وقضاءه فيهم.

والظّلل جمع ظلة : وهي ما يتستّر به ، وسمي السحاب والغمام بذلك. ولم يرد لفظ «ظلل» في القرآن الكريم إلا في أربعة مواضع وجميعها كناية عن التهويل والعظمة ، كما هو المستفاد في استعمال هذا اللفظ في المحاورات.

والغمام : السحاب الأبيض الرّقيق سمّي به لأنّه يغمّ أي يستر ، والمشهور بين المفسرين القول بالمجاز والحذف في مثل الآية فإما أن يكون المحذوف (العذاب) بقرينة قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) [يونس ـ ٥٠] ، وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كثير في المحاورات الفصيحة.

أو يكون أمره تعالى بقرينة قوله جل شأنه : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل ـ ١] ، وقوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) [النحل ـ ٣٣] ، وغير ذلك مما يصح إضماره ، ولا بد من المصير إلى ذلك ـ كما هو كثير في القرآن الكريم ـ فيما لا تلائم نسبته إلى ذاته الأقدس. والكلّ يرجع إلى إرادته المقدّسة.

والملائكة عطف على اسم الجلالة أي : تأتي الملائكة الموكلة بقضائه.

ولعلّ الحذف وإسناد الفعل إلى الذات إنّما هو لأجل أن يعمّ الجميع وليذهب المخاطب إلى أيّ مذهب ممكن ولزيادة التوعيد والتخويف.

ويمكن أن تكون الآية المباركة على المعنى الحقيقي من دون إضمار شيء في الموردين ، أي يأتي الله تعالى وتأتي الملائكة. ويكون المراد من الظّلل من الغمام الحجب كما ورد في الحديث : «إنّ لله تعالى سبعين ألف حجاب من نور وسبعين ألف حجاب من ظلمة لو كشفت لأحرقت سبحات وجهه كلّ ما انتهى إليه بصره» فيكون مفاد مثل هذه الآية المباركة عبارة عن

٢٤٢

بعض أفراد التجلّي له جلّت عظمته. ولعلّ الله تعالى يوفقنا لبيان معنى الحجب وكشف بعض أسرارها في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

ولا يستفاد من قوله تعالى : (يَأْتِيَهُمُ) في المقام وغيره أنّه قد نسب إليه صفة من صفات الأجسام فإنّه تعالى منزّه عنها بالأدلة القطعية الضرورية ، بل المراد به بعض مراتب التجلّي ، أو الإحاطة أو غيرهما مما يليق بالذات الربوبي لا الإتيان الظاهري ، وسيأتي في البحث الفلسفي ما يرتبط بالمقام.

ويمكن أن يكون المراد من قوله تعالى : (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) ما يكون بمنزلة الجنود لبيان الأهمية ، وإلا فإنّ جنود ربّك كثيرة ، قال تعالى : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الفتح ـ ٧] ، وقال تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) [الأحزاب ـ ٩].

ولعلّ إنزال القهر والعذاب في الغمام عند إرادة التعذيب والانتقام يكون أشد ، والقهارية أظهر ، قال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) [الأحقاف ـ ٢٤] ، وهذه سنته تعالى في عباده فيبلي العصاة والظالمين بما يراد فيه النفع ، وينتفع أولياؤه بما يئسوا من نفعه ، وتنحصر هممهم في الانتفاع من النافع العظيم والملك البار القديم.

وكيف كان فالآية الشريفة متضمنة لتوعيد آخر وفيها بيان لبعض آثار متابعة خطوات الشيطان.

يعني : ما ينتظر من يتبع خطوات الشيطان إلا نزول عذاب الله تعالى الذي له طرق كثيرة تختلف حسب اختلاف الجهات والخصوصيات فقد ينزل العذاب على الإنسان وتحيط به النقمة ، كإحاطة الغمام بالأرض فيسترها عن الشمس ، كذلك يستره عن رحمة الله تعالى.

وهذه الجملة المباركة تشير إلى أمرين :

أحدهما : السّتر عن الحقائق الواقعية ، وعدم الوصول إليها ، وأنّ متابعة

٢٤٣

خطوات الشيطان تستر شمس الحقيقة عن البصائر كما تستر الشمس عن الأبصار بالغمام.

الثاني : أنّه تحيط به المكاره والمتاعب كإحاطة ظلل الغمام بما أظلّت عليه ، وإن كان الإنسان لا يدرك ذلك ما دام متابعا لخطوات الشيطان ، والوجه في ذلك معلوم فإنّ التابع إنّما يتبع المتبوع في ما يدعو إليه حتّى يصير مثله وتسري فيه غريزته وطبيعته ، فإذا كان المتبوع من أهل الضّلال والفساد تسري في التابع هذه الغرائز فيصير نسخة أخرى من المتبوع فإذا اشتدت وقويت هذه الغرائز في الناس واستفحل الأمر ولم تنفعه النصائح والنذر لا بد من نزول العذاب في ظلل كالغمام لتحسم به مادة الفساد وتنقلع أسباب الضلال.

والحاصل : إنّ ما ورد في الآية الشريفة يبين الحكم الوضعي لمتابعة الشيطان والزلل عن الدخول في السّلم ، ويستفاد منها سنخية العذاب مع المعصية وملائمته مع الإثم.

وفيها إشارة إلى بعض كيفيات عذاب الاستقبال وعذاب الآخرة فيرجع تحصّل معنى الآية الشريفة : هل ينتظر هؤلاء علامات قيام الساعة ، وانقضاء الأمر بالنسبة إلى أهل الجنة وأهل النار وحينئذ فلا تنتفع كلّ نفس بإيمان لم تكن آمنت به من قبل.

ففي الآية تهويل عظيم وتوعيد شديد لأمر متوقع الحصول في هذه الدنيا ، فتكون مرآة لما يقع في الآخرة.

ومن ذلك يعلم أنّ العذاب لا يختص بالدنيا فقط أو الآخرة كذلك بل تكون وعيدا لما سيقع في الدنيا والآخرة.

قوله تعالى : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ).

جملة حالية ، أي : حضر زمان القضاء وفصل الأمر فيقضي بالحق ولا رادّ لقضائه ، وحذف الفاعل المعلوم في المقام للتهويل وإظهار الكبرياء كما هو كثير في المحاورات الفصيحة.

٢٤٤

قوله تعالى : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).

بيان لصدر الآية المباركة فإنّ من ترجع إليه الأمور بجميع جزئياتها وكليّاتها لا بد وأن يكون مبدأ لجميع تلك الأمور ، لما أثبتناه سابقا من تلازم المبدأ والمرجع.

وفي الآية الشريفة من التهديد وتهويل الأمر ما لا يخفى وإعلام بأنّ من كان يتوجه إليه في الجملة لا بد وأن يعدّ نفسه للرجوع إليه تعالى.

٢١١ ـ قوله تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ).

تثبيت وتأكيد لما ذكر في الآيات السابقة وقد أورد عزوجل من أحوال بني إسرائيل بعد ما ذكر من الوعيد للاعتبار من أحوال الماضين ، وللإعلام بأنّه يجري في المخاطبين ما جرى في الأمم السابقة إن هم استمروا في العناد واللجاج وأعرضوا عن الدّخول في السّلم وزلّوا عما جاءهم من البينات.

والاعتبار بأحوال الماضين أمر تربوي له أهميته الكبرى في تهذيب النفوس والتأثير العظيم في إصلاحها. وقد اعتنى به عزوجل في القرآن الكريم بذكره تعالى أحوال الأمم السابقة وما جرى عليهم وفيه من الفوائد الكثيرة ، بل هو أمر فطري في الجملة حتى لقد ارتكز في النفوس : «أنّ التاريخ يعيد نفسه» ولعلّنا نتعرّض للبحث عنه في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

وكيف كان ففي الآية المباركة تسلية لنبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله). وإنّها تشير إلى أنّ الجحود واللجاج طبيعة واحدة وإن تعددت مظاهرهما في الأمم المختلفة كقوم إبراهيم ، وقوم لوط وقوم موسى ، ومشركي العرب ، وكلّ ذلك ينشأ من الصّراع بين الحق والباطل الذي هو قديم ، هو الصّراع بين العقل والجهل.

وقد ذكر سبحانه بني إسرائيل لأنّهم كانوا وثيقوا الصلة بالعرب ، وكانوا مجاورين لهم يعرفون من أخبارهم ويتتبعون آثارهم فهم بمرأى منهم ومنظر.

٢٤٥

والمعنى : إنّ هؤلاء بني إسرائيل قد آتاهم الله الآيات البينات التي تهديهم إلى الحق ، وتوضح لهم طريق السعادة ، وترشدهم إلى سبيل الرشاد. فاسألهم أيّها الرسول الكريم كم آتيناهم من آية بينة فأنكروها وكذّبوها فعاقبهم الله تعالى أشد العقاب وعذّبهم بسوء العذاب ، فاعتبروا بحالهم وما آل إليه أمرهم من سوء العاقبة وذهاب الملك والنبوة عنهم.

وفي السؤال تقريع وتوبيخ لهم بما صدر عنهم من الطغيان والكفران بعد ما أنعم الله عليهم بأنواع النّعم والإحسان.

قوله تعالى : (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

بيان لسنة الله تعالى في خلقه وتطبيق للكلّي أي ومن يغيّر نعمة الله تعالى بالكفران والجحود ويضعها غير موضعها بعد ما جاءته من الآيات البينات التي أرسلها الله لتكون سببا في سعادته فإنّ الله تعالى يعاقبه بأشد العذاب ، والله شديد العقاب ، لأنّه يرجع إلى وجوب شكر المنعم الذي هو أصل جميع الكمالات الإنسانية ودرك المعارف الربوبية ، فشدة العقاب إنّما هي أمر وضعي يترتب على من رضي بالذّل والهوان ، والهمّ والخسران ، وقد عاقب نفسه بنفسه فحصلت له الندامة العظمى ، قال تعالى : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [النحل ـ ١١٨].

وفي الآية الشريفة تهديد وتوعيد لمن يتعدّى حدود ما أنزله الله تعالى ، وبيان لسنته الجارية في خلقه ، وتقدم في الآيات السابقة نظير هذه الآية.

وقد نسب سبحانه العقاب إلى نفسه في المقام وغيره مع أنّ الفعل منسوب إلى العبد بسبب سوء أعماله ، ولكن نسبته إلى العبد بنسبة العلة الفاعلية ، وأما جزاء الفعل فإنّه منسوب إليه بنسبة العلّة الغائية وليس من الله تعالى إلا جعل القانون وبيان الجزاء على الموافقة والمخالفة وهو داخل في باب الإرشاد ، وقد رجحنا في أصول الفقه تبعا للمحققين أنّ الأوامر والنّواهي في التشريعيات إنّما هي إرشاد إلى المصالح اللازمة الدرك أو المفاسد اللازمة

٢٤٦

الدفع ، وبعد ذلك يحكم العقل باللزوم.

فالآية المباركة تبيّن حكما من الأحكام المستقلّة العقلية ، وهو وجوب شكر المنعم ، وقد ابتنى الفلاسفة جملة من المسائل العلمية عليه.

٢١٢ ـ قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا).

الزينة معروفة ، وهي إما نفسانية كالعلوم والمعارف الحقة ، أو بدنية كالجمال ونحوه. أو خارجية كالمال والجاه ونحوهما. والقسم الأول إمّا دنيوية أو دنيوية واخروية معا ، كالمعارف الحقة والاعتقادات الحسنة والأخلاق الفاضلة. وبالجملة الزينة إما واقعية حقيقية ، أو وهمية خيالية التي هي ما سوى ما ينفع في الآخرة.

ثم إنّ الزينة المستعملة في القرآن الكريم تارة : تنسب إلى الله تعالى قال سبحانه وتعالى : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات ـ ٧] ، وأخرى : إلى الشيطان قال تعالى : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام ـ ٤٢] ، وثالثة : تستعمل من دون أن تنسب إلى أحد قال تعالى : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) [الرعد ـ ٣٣].

والآية في موضع التعليل لما تقدم في الآيات ، وذلك أنّ السبب في الزّلل وعدم الدّخول في السّلم وتغيير نعم الله تعالى والجحود بآياته عزوجل إنّما هو تزيين الحياة الدّنيا وحبها هو الذي رأس كلّ خطيئة كما في الحديث وهذه قضية وجدانية ، وذلك لأنّ كلّ إنسان محفوف بالشهوات الكامنة فيه التي خلقها الله تعالى لحفظ النظام الأحسن فإذا كان معتقدا بالمبدأ والمعاد يكون مانعا من أن يتابع شهوات النفس ويعمل بها ، وكلّ ما قوي هذا الاعتقاد يضعف المقتضي عن الفعلية حتّى يصل إلى مرتبة ينعدم الرادع والمانع فيصير المقتضي علّة تامة للغواية ، وكذا بالعكس وحينئذ يكون حب الدنيا وزينتها سببا في صرف النفس عما يوجب كمالها ، والإعراض عما يؤثر في إصلاحها وتهذيبها فلا يعمل إلا ما ترتضيه نفسه وهواه ولا يكون همه إلا إعمال شهواته ، وتكون الدنيا أكبر همّه فلا تنفع فيه النذر والزواجر ، ولا يؤثر فيه ما أنزله الله

٢٤٧

من الآيات البينات.

ومن ذلك يعلم أنّ الأمر لا يختص بالكافرين ، بل يشمل كل من جرى فيه ما ذكرناه ، فتشمل الآية الشريفة كل من بدّل النعيم الأبدي والسعادة الدائمة بالزخرف العاجل الفاني من المسلمين وغيرهم الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم بل ربما كان العقاب فيهم أشد لتمامية الحجة عليهم بعد الاعتقاد بالإسلام ومعارفه.

وتزيين الدنيا إمّا أن يكون من الشيطان وميل النفس الأمّارة إليها كما في قوله تعالى : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) [الأنفال ـ ٤٨] ، وقوله جل شأنه : (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [النحل ـ ٦٢] ، وقوله تعالى : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) [النمل ـ ٢٤] ، أو يكون قد زينها الله تعالى للناس لأجل الامتحان وابتلائهم كما في قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الكهف ـ ٧] ، وفي هذه الصورة إن وقعت الدّنيا وزينتها في طريق اكتساب المعارف الإلهية والكمالات الإنسانية وتهذيب النفس وإصلاحها فهي ممدوحة من كلّ جهة ، بل هي الآخرة بنفسها. وأما إذا لم تكن كذلك بل كانت صارفة عنها ومضيّعة لها فهي الدّنيا المذمومة ، وبذلك يجمع ما ورد في السنة المقدّسة من ذم الدنيا وما ورد في مدحها فتحمل الذامة على الثانية والمادحة على الأولى.

قوله تعالى : (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا).

مادة (سخر) تستعمل لإعمال الغرض المقصود قهرا فإن كان استخفافا بالطّرف واستهزاء بالنسبة إليه تسمّى سخرية ، وإن كان لغرض آخر من الأغراض الصحيحة تسمّى تسخيرا. ولهذه المادة استعمالات كثيرة بهيئات مختلفة في القرآن الكريم ، قال تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) [الحجرات

٢٤٨

ـ ١١] ، وقال تعالى : (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) [الزخرف ـ ٤٢] ، وقال تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [الجاثية ـ ١٣].

والمعنى : ويسخر الكافرون من الذين آمنوا. والأسباب لذلك كثيرة فإما أن يكون لأجل الزهد في الدنيا والإعراض عن ملاذها وفقرهم فيها ، أو لأجل تحملهم الشدائد والمصائب في جنب الله تعالى ، أو لأجل إيمانهم ، أو غير ذلك. وسخرية من زيّن له شيء ورآه حسنا ممن ليس على طريقته أمر فطري في الجملة فأهل الدنيا يسخرون من أهل الآخرة ، قال تعالى : (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) [هود ـ ٣٨].

وسخرية أهل الباطل لأهل الحق من مظاهر الصراع القديم بين الحق والباطل ، والآية في مقام ذم سخرية المؤمنين وقد أجمل سبحانه الذمّ كما أجمل مدح فوقية المتقين على الكافرين ليشمل جميع مراتب المدح والذم ، لأنّ لكلّ منهما مراتب بل مراتب الفوقية غير متناهية.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

بيان لحال المؤمنين في نعيم الآخرة وأنّهم فوق الكافرين يوم القيامة جزاء لاستعلاء الكافرين عليهم في الدنيا والسخرية منهم.

ولم يذكر سبحانه وتعالى جزاء سخرية الكفار في الدنيا واكتفى جلّت عظمته بأنّهم فوقهم يوم القيامة لأجل تعليم أهل الإيمان بأنّ خسة الطرف تمنع عن مجازاة المؤمن له ، بل ينبغي له أن يكون ممن مدحه الله تعالى بقوله جلّت عظمته : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان ـ ٧٢] ، وقوله تعالى : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان ـ ٦٣].

وإنّما عبّر سبحانه ب (الَّذِينَ اتَّقَوْا) وأثبت الفوقية لهم دون سائر المؤمنين لبيان أنّ التقوى هي الأصل في الوصول إلى الدرجات العالية ، وإشارة إلى أنّ المقصود من الإيمان إنّما هو التّقوى لا مجرّد القول باللسان بلا عمل من الجوارح والأركان.

٢٤٩

ويمكن أن يكون المراد من التّقوى في المقام الإيمان في مقابل الكفر ، فيكون ذكر التّقوى للإشادة بفضلها وعظم منزلتها.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).

أي : إنّه تعالى يرزق من يشاء من عباده كلّا حسب الأهلية والاستحقاق بغير حساب ، لأنّ الذات والفضل فيه جلّت عظمته غير متناهيين والله ذو الفضل العظيم.

وإنّما ذكر سبحانه هذه الجملة في ختام هذه الآية ليعلم الناس أنّ الدنيا أيضا بجميع جهاتها وشؤونها تحت إرادته الربوبية القيومية وأنّ لإرادته عزوجل دخلا في الأسباب الظاهرية التي يؤتى بها لتحصيل الرّزق ، كما لها دخل في تنظيم النظام الأحسن الربوبي بل رزق مخلوقاته داخل في هذا النظام الربوبي فلا يدور رزق عبد مدار صلاحه أو عدم صلاحه فإنّا نرى كثيرا من الفجار أغنياء وكثيرا من الأبرار فقراء ، بل الأمر يدور مدار الأمور التكوينية والمصالح الواقعية التي لا يعلمها إلا الله تعالى ، وفي الحديث : «إنّما وسع الله أرزاق الحمقى ليعتبر العقلاء أنّ الدنيا لا تنال بمكر وحيلة».

٢٥٠

بحوث المقام

بحث دلالي

تقدّم أنّ المراد من قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) وما في سياقه من الآيات المباركة هو التجلّي الأعظم لإقامة الحقّ في النّوع. والمستفاد من مجموع ما وصل من الكتاب المبين والسنة الشريفة أنّه ثلاثة :

الأول : ليلة إسراء نبينا الأعظم سيد الأنبياء وخاتمهم حيث به ختمت التشريعات السماوية ، كما أنّ به فتحت أبواب العلوم الربانية فوضع فخر الكائنات الدنيا تحت قدميه ، وشرّف العرش بغبار نعليه ، فأوحى الله جلّت عظمته إلى عبده ما أوحى ، وقد أخذ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الحق من الحق بالحق ، وهو يوم تشريع القوانين الإلهية ، وقد ورد في بعض الدّعوات المعتبرة في البعثة والإسراء «اللهم إنّي أسئلك بالتجلّي الأعظم».

الثاني : يوم كمال عقل جميع الناس واقعا وعملا ، وهو يوم ظهور الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) وهو أعظم أيام التجلّي الربوبي ، وقد أجمعت الأنبياء على أنّه سيأتي هذا اليوم ، وأثبتته القواعد الفلسفية المتقنة ، وفي الحديث «إذا ظهر الحجة وضع الله يده على رؤوس العباد فتمّت بها

٢٥١

عقولهم ، وكملت بها أحلامهم» وقد روى الفريقان بأسانيد متواترة عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يظهر رجل من ولدي يملأ الله به الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا».

الثالث : يوم الجزاء الأكبر ، وهو يوم الجزاء على القوانين السماوية ، يوم ظهور الحق والعدل الإلهي. هذا ما يمكن القول في هذه الموضوعات الثلاثة بإيجاز ، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل كلّ واحد منها.

ويصح أن يراد بهذه الآية المباركة جميع هذه الموارد الثلاثة ، إذ الحقيقة واحدة وإن اختلفت بالاعتبار ، وقد ورد تفسير الآية بكلّ واحد منها :

فعن أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) قال : «هو يوم القيامة».

وفي تفسير العياشي عن الباقر (عليه‌السلام) في تفسير الآية المباركة «ظهور المهدي (عليه‌السلام)» كما ورد تفسيرها بالرجعة ، كما رواه الصّدوق عن أبي عبد الله (عليه‌السلام).

هذه هي تجلّيات الله تعالى الكبرى ، وهي أهم بمراتب كثيرة من تجلّيه لموسى بن عمران (عليه‌السلام) والاختلاف بينهما بالكلية والجزئية.

ومن عجائب الأمر أنّ هذه التجلّيات الثلاثة غاية خلق العالم مع أنّها من مبادئه.

٢٥٢

بحث روائي

في الكافي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) قال : «في ولايتنا».

وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما‌السلام) في قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) قال : «أمروا بمعرفتنا».

أقول : حيث إنّ معرفتهم والدخول في ولايتهم يشتمل على معرفة الله تعالى وأحكامه المقدّسة ، فيكون من باب التطبيق لا محالة.

وفي التوحيد والمعاني عن ابن فضال قال : «سألت الرضا (عليه‌السلام) عن قول الله عزوجل : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ). قال (عليه‌السلام) : «يقول : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالملائكة في ظلل من الغمام وهكذا نزلت. وعن قول الله عزوجل : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا). فقال (عليه‌السلام) : «إنّ الله لا يوصف بالمجيء والذهاب ، تعالى عن الانتقال وإنّما يعني بذلك : وجاء أمر ربّك والملك صفّا صفّا».

أقول : ما ورد في الحديث بيان حسن جدّا للآية الشريفة كما هو شأنه (عليه‌السلام) في بيان الآيات المتشابهات. والمراد بقوله (عليه‌السلام) :

٢٥٣

«هكذا نزلت» هو النزول البياني والتفسيري على قلب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

في تفسير العياشي عن جابر عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) قال : «ينزل في سبع قباب من نور لا يعلم في أيّها هو حين ينزل في ظهر الكوفة فهذا حين ينزل».

أقول : المراد من قوله «ينزل» أي القائم بقرينة سائر الروايات الواردة في ظهور المهدي ، مثل ما رواه أبو حمزة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «يا أبا حمزة كأنّي بقائم أهل بيتي ـ إلى أن قال ـ إنّه نازل في حباب من نور حين ينزل بظهر الكوفة».

وفي روايات عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) : «أيام الله ثلاثة : يوم الظهور ، ويوم الكرّة ، ويوم القيامة». وفي بعضها : «أيام الله ثلاثة : يوم الموت ، ويوم الكرّة ، ويوم القيامة».

أقول : المراد من الظهور التجلّي ، كما مرّ. وإنّ الحصر فيهما إضافيّ وليس حقيقيّا. وقد تقدّم في البحث الدّلالي ما يرتبط بهذه الرّوايات.

٢٥٤

بحث فلسفي

لقد ثبت في علمي الفلسفة والكلام بالأدلة القطعية أنّ الله تعالى منزّه عن الجسم وصفات الأجسام ، ولذا ذكر العلماء أنّ ما ورد في الكتاب والسنة مما ينسب إليه تعالى صفة من صفات الأجسام لا بد من تأويله بما يليق بذاته المقدّسة.

وذلك : لأنّ ما أثبته محققوا الفلاسفة قديما وحديثا في درك حقائق الأشياء إنّما هو كشف الآثار والخواص بحسب القدرة والطاقة. وأما كشف حقائقها والوصول إلى كنهها فإنّه يصعب جدّا لو لم يكن مستحيلا ، فمثلا أقرب الأشياء إلى الإنسان إنّما هو النفس الناطقة التي تحيط بالبدن كإحاطة المدبّر الآمر بالمأمور المطيع المنقاد ، وقد اجتهد العلماء منذ القدم في الفوز بحقيقتها وكشف النقاب عن هذا السّر المكنون ولكنّهم لم يظفروا باللّقيا ، واعترفوا بالعجز والقصور ولم يصلوا إلى حقيقة هذا الغيب المحجوب هذا بالنسبة إلى الممكن المخلوق الضعيف ومثله كثير.

أما بالنسبة إلى الخالق العظيم اللطيف فلا يمكن الإحاطة بذاته وكنه صفاته ، ولا حقيقة أفعاله ، ومع ذلك هو داخل في مخلوقاته لا دخول صفة. وخارج عنها لا خروج عزلة ، فسبحان من لا يتناهى جلاله ، ولا يدرك جماله ، ولا يعلم أفعاله.

٢٥٥

وفي جملة من الدّعوات الشريفة المأثورة : «يا من لا يعلم ما هو ولا كيف هو ولا أين هو إلا هو» فإذا كانت الذات هكذا فكلّما ينسب إليها أيضا لا بد أن يكون كذلك.

ولم يقتصر وضع الألفاظ للمعاني بعالم خاص ، بل هي موضوعة للمعاني العامة في جميع العوالم من مادياتها ومجرداتها وغيبها وشهودها فإنّ العلم مثلا بالنسبة إلى عالم عرض قائم بالموضوع ، وفي عالم جوهر في المحلّ ، وفي عالم ثالث عين ذات الواجب الأقدس ، ومع ذلك العلم علم بمفهوم واحد لا يتعدّد ولا يتغيّر ولا يتبدّل.

ومثال آخر تقول : رأيت زيدا في المنام جاءني وقال لي كذا. مع أنّه ليس في الخارج من ذلك شيء. ويأتي ما ذكرناه في الألفاظ المنسوبة إليه عزوجل مثل المقام : (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ). وقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر ـ ٢٢] ، وقوله تعالى : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) [الحشر ـ ٢] ، وقوله جل شأنه : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) [الزمر ـ ٤٢] ، فإنّها مستعملة في المعنى الحقيقي ، ولكنّ العوالم مختلفة لا أن يكون المعنى متعدّدا ، فقولك : جاءني زيد يشمل مجيئه راجلا وراكبا على الدابة أو في المراكب الحديثة كالسيارة والطائرة وغيرهما ، والمجيء بالخلع واللبس في عالم المعنى. وفي الجميع يصدق مجيء زيد حقيقة ، فيكون إتيان الله تعالى عبارة عن قربه إلى خلقه والإحاطة به لا بمعنى فراغ مكان وإشغال مكان آخر. وسيأتي في نظائر المقام مزيد توضيح إن شاء الله تعالى.

٢٥٦

سورة البقرة

الآية ٢١٣

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣))

الآية المباركة تبيّن الحالة الاجتماعية التي كان الإنسان عليها وحاله من حيث ارتباطه بالله تعالى وإظهار صفاته عزوجل في خلقه ، وقد بينت أنّ الإنسان بطبعه يحب الاتحاد والاجتماع ويطلب بفطرته التفوّق وحصول المزية في الحياة وأمر الدّنيا ، ولقطع التنازع والتشاجر بين الأفراد بعد أن لم يكن العقل وحده كافيا ولذلك استدعى وضع القوانين المحكمة وإنزال المعارف الإلهية فبعث الأنبياء والمرسلين ومعهم الكتاب ليحكم بين الناس.

ثم بيّن أنّ النبوة العامة هي لطف للناس تنير لهم الطريق ، وتهديهم إلى الصراط المستقيم ، وترشدهم إلى السعادة وصلاح أمورهم الدنيوية والاخروية.

وبيّن عزوجل حكما عاما في النبوة أنّها لا بد من اقترانها بالتبشير بالثواب والإنذار بالعقاب ليتصف ما يأتي به الأنبياء بصفة الإلزام والثبوت ، وبذلك بيّن سبب إرسال المرسلين وبعث النبيين.

٢٥٧

وذكر سبحانه وتعالى أنّ الناس اختلفوا في أمر الدّين ومعارفه فاختلّت بذلك الوحدة التي قصدها الأنبياء والمرسلون ووقع الاختلاف بعد التآلف والاتحاد.

وأعلمنا أنّ الاختلاف في الدّين وما جاء به الأنبياء إنّما يكون ممن أوتوا الكتاب بغيا وظلما منهم بعد ما أتم الله الحجة عليهم ، وهذا غير الاختلاف الذي هو فطريّ في أمر الدّنيا ووسائل الحياة بخلاف الاختلاف الذي هو افتعالي في أمر الدّين.

وفي ذلك تسلية لنبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والمؤمنين.

ثم ذكر أنّ الله تعالى هدى المؤمنين إلى الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

والآية مرتبطة بما سبقها من الآيات في أنّها جميعا تشير إلى ما يكون دخيلا في سعادة الإنسان وما هو سبب في شقاوته ، كما ذكرنا.

٢٥٨

التفسير

٢١٣ ـ قوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً).

مادة (الناس) مما اختلف فيها أهل اللغة في مبدأ اشتقاقها ، فقيل إنّه أناس. وقال آخر : إنّه أنوس. وقال ثالث : إنّه إنسان. وكيف كان فهو معروف ، والمراد به الأفراد المجتمعون من بني آدم. وقد ذكر هذا اللفظ في القرآن الكريم فيما يقرب من مأتين وأربعين موردا ، وجميع الكتب السماوية مشحونة به بلغات مختلفة ، وهو محور حكايات ربّ السّماء ، ومورد دعوة الأنبياء ، لا حدّ لمقصده ومسعاه إذا كان لله وإلى الله تعالى ، كما لا غاية لمنتهاه لبقائه ببقاء الله تعالى.

وهذا القرآن المهيمن على كتب السّماء قد أشار إلى بعض أحواله وبيّن ما يجب عليه أن يكون من أقواله وأفعاله ، وذكر ما ينتهي إليه أمره في مآله ، ويكفي في هداية الإنسان أن يتأمّل في نفسه ويعرف منزلته من أمته ، وفي الحديث عن عليّ (عليه‌السلام) «رحم الله امرءا عرف من أين وفي أين وإلى أين».

والأمة كلّ جماعة يجمعهم جامع واحد ، سواء كانوا من ذوي العقول أم لا ، وسواء كان ذلك الجامع زمانا أو مكانا أو شيئا آخر ، تسخيريا كان أو اختياريا.

٢٥٩

ولهذا اللفظ استعمالات كثيرة في القرآن ، قال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [آل عمران ـ ١١٠] ، وقال تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام ـ ٢٨] ، وقال تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر ـ ٢٤] ، وقال تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً) [النمل ـ ٨٢] ، وقال تعالى : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء ـ ٢٩] ، وقال تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) [القصص ـ ٢٨].

وقد يطلق على الواحد قال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ) [النحل ـ ١٢٠] ، باعتبار أنّه سبب في اتحاد جماعة واتفاق في الدّين.

ولم يبيّن سبحانه متعلّق الوحدة لإفادة العموم فكان الناس متحدين في جميع الشؤون لا تفرق بينهم في الشرائع والنّحل ، وإنّ الاختلاف بينهم في أمور الدنيا وما يتعلّق بشؤون حياتهم ، لما كانوا عليه من السذاجة والبساطة فكانوا على الفطرة الأولية التي لا اختلاف فيها ولا تفرق وليس لهم من العلوم إلا البديهيات والفطريات.

ويمكن تحديد هذا الدور بدور الطفولة في الحياة الإنسانية فلم يكن يعرف من رموز الحياة وأسرار الطبيعة ولم يكن همه من العيش سوى نيل البقاء بالطرق الأولية ، فكان يأوي إلى الكهوف والمغارات للعيش ، ويتغذّى على النبات وما يقع تحت يده من الصيد ، ويدافع عن نفسه بأبسط وسائل الدفاع.

وبالجملة إنّ في هذا الدّور من تاريخ حياة الإنسان على وجه هذه البسيطة لم يكن تعقيد في أيّ وسيلة من وسائل حياته ، وهو على فطرته الأولية في جميع شؤونه العلمية والاجتماعية والدينية ، وقد ورد في الحديث : «كانوا قبل نوح أمة واحدة على فطرة الله لا مهتدين ولا ضلّالا». فالوحدة هي الأصل ما لم يثبت التكثر والتعدد اللذين حصلا بعد قرون عديدة ولم يبق الإنسان

٢٦٠