مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٦

استعمل في القرآن الكريم في كلّ منهما ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة ـ ١١١] ، وقال تعالى :

(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) [يوسف ـ ٢٠].

والمراد به هنا الأول أي : باع نفسه لله تعالى ، ولا يبتغي إلا إرادته عزوجل ومرضاته ولا يهتم إلا بإصلاح الأمور وتشييد أركان الدّين وإحياء الحق وإماتة الباطل ، ويسعى في سبيل الدّين والإنسانية فلا يريد إلا ما أراده الله تعالى في الأرض ومن عليها وما يريده عزوجل هو الإصلاح ، وقد نصب نفسه لتقويم ما أفسده المفسدون ومن سنته تعالى في خلقه أنّه إذا ظهر رجال أظهروا في الأرض البغي وأشاعوا الفساد أعقبهم رجالا آخرين وهبوا أنفسهم لله تعالى فيقيمون الحق ويميتون الباطل ، فيصلح بهم أمر الدّنيا والدّين ، وبهم ينوّر الله الأرض ويتمّ بهم ما نقص ، وإلا لما قام للدّين عمود ولا اخضرّ للإنسانية عود ، ولم يكن للإنسان اجتماع ، قال تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) [الحج ـ ٤٠].

ويستفاد من سياق الآية الشريفة : تجدّد الشّراء ودوامه ، وأنّ العوض ليس خصوص رضاء خاص من مراضيه تعالى ، بل كلّ ما يرتضيه وجملة مرضاته ، ولها مراتب لا نهاية لها.

وفي التعبير بالشراء هنا ، وفي قوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة ـ ١١١] ، لطف وعناية وجذبة روحانية ، وأدب قرآني ، كما في قوله تعالى : (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [المزمل ـ ٢٠] ، وإلا كيف يعقل أن يشتري أو يستقرض المالك الحقيقي من المملوك الفقير من كلّ جهة. أو ليس ذات الإنسان وجميع شؤونه منه جلّت عظمته حدوثا وبقاء؟! وهل التوفيق والتأييد لمثل ذلك إلا منه عزوجل؟!! وقد شرح سبحانه وتعالى هذا الشراء في آيات أخرى ، وسيأتي التعرّض لتفسيرها في محلّها إن شاء الله تعالى.

٢٢١

قوله تعالى : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ).

الرؤوف من أسماء الله الحسنى ، وتقدم أنّ الرأفة أخص من الرحمة في آية ١٤٣ من هذه السورة. وكلّ ما ورد في القرآن الكريم جملة (رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) يؤتى بها من غير توصيف بالرّحيم مثل المقام ، وقوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) [آل عمران ـ ٣٠] ، وفي غيرهما يتبع بالرّحيم ، ولعلّ السرّ في ذلك أنّ العبودية حيث إنّها أخص المقامات والدّرجات تقتضي أخص الألطاف والعنايات.

ومما تقدم يستفاد الوجه في ذكر هذه الجملة المباركة في المقام فإنّ وجود مثل هذا الإنسان الكامل في الخلق ـ الذي قد اتصف بما وصفه الله تعالى من أهمّ مصاديق رأفة الله بعباده ، وهو من مننه تعالى على خلقه ، ومن الخير العام لجميع عبيده.

ومن ذلك يعلم أنّ الآية الشريفة وإن نزلت في شخص معيّن لكن حكمها عام ، وقد ذكرنا مرارا أنّ المورد لا يخصّص عموم الوارد. نعم مثل هذا الشخص الذي وصفه تعالى بما وصفه وجعله منّة على خلقه لا يكون كلّ أحد بل هو المؤمن الخالص الذي باع نفسه لمرضاة الله تعالى ، وقد نصبه سبحانه نورا يهتدى به ومنارا يستضاء منه ، وجعله سبيلا للرّشاد ومرجعا للعباد ، ومن أجلى أفراد هذا الصنف هو عليّ بن أبي طالب (عليه‌السلام) الذي ورد فيه عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ـ قولا وعملا ـ على ما رواه الفريقان : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» وما صدر عن عليّ (عليه‌السلام) بالنسبة إلى النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كذلك ما يبهر منه العقول ومن سيرة عليّ (عليه‌السلام) وأعماله وأقواله التي ورد بعضها في كتاب نهج البلاغة وسائر جهاته التي تكفي أن يعدّ (عليه‌السلام) معجزة لنبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بعد القرآن العظيم. ومن غير ذلك مما هو كثير يعلم علما قطعيا بأنّ هذه الآية الشريفة وما في سياقها ينحصر مصداقها في عليّ (عليه‌السلام) وإن كان لجميع أصحاب الرّسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مقام رفيع وشأن منيع.

٢٢٢

ومن أراد مزيد الاطلاع فليراجع ما ضبطه العامة في شأن هذا الرّجل العظيم يعترف بصدق ما قلناه. ولنعم ما نسب إلى الخليل حيث قال : «أخفى أعاديه فضائله حسدا ، ولم يبدها أحبّاؤه خوفا ، ومع ذلك ظهرت كالنجم اللامع يشرق للكلّ».

وقد وردت عدة روايات بطرق مختلفة أنّ هذه الآية المباركة نزلت في عليّ (عليه‌السلام) حين بات على فراش النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لما أرادت قريش قتله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وسيأتي في البحث الرّوائي بعضها.

ومن تأمل في أحوال عظماء العالم وأكابره يرى أنّه لا قصور فيهم من وجه إلا عدم استعداد الظروف وقصورها عن إبراز مقاماتهم العلميّة والعمليّة وجهات فضائلهم ، ومع ذلك فقد أفنوا جميع شؤونهم وحيثياتهم في سبيل الله تعالى والإنسانية.

فكما أنّ الطبيعة تظهر بالتدريج أسرارها وكنوزها كذلك تكون كنوز الحقائق من أفراد البشر تظهر بالتدريج بل التسرّع في الظهور مع عدم ملائمة الظروف وعدم استعداد المظروف تضييع لها كما هو معلوم ، ولذا ورد في علامات انبساط الحق والعدل الحقيقي أنّ الله تعالى يتمّ عقول العباد ويكمل أحلامهم لئلّا يستهان بالحجة ويوضع من قدره ، وليس إرسال الرّسل وبعث الأنبياء في زمان سيطر فيه الجهل والظلم إلا نورا في الظّلمات تنتفع به الأجيال اللاحقة ، وللبحث تتمة تأتي إن شاء تعالى في الموضع المناسب.

٢٢٣

بحوث المقام

بحث روائي

في الدر المنثور عن السدي في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف لبني زهرة أقبل إلى النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في المدينة وقال : جئت أريد الإسلام ، ويعلم الله إنّي لصادق فأعجب النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ذلك منه ، فذلك قوله تعالى : (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) ثم خرج من عند النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فمرّ بزرع لقوم من المسلمين وحمر ، فأحرق الزّرع وعقر الحمر ، فأنزل الله : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ).

أقول : نقله جمع من المفسرين. والأخنس لقب لهذا الرّجل لأنّه خنس يوم بدر بثلثمائة رجل من حلفائه من بني زهرة عن قتال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله). قيل وكان رجلا حلو المنظر والقول ، وتقدم ما يتعلّق بالرواية في التفسير فراجع.

وفي المجمع عن ابن عباس أنّ الآيات الثلاث نزلت في المرائي والمنافق ، لأنّه يظهر خلاف ما يبطن. قال : «وهو المروي عن الصادق (عليه‌السلام)».

أقول : مرّ ما يتعلّق بذلك أيضا.

٢٢٤

في تفسير العياشي عن أبي الحسن الرضا (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) قال (عليه‌السلام) : «النسل هم الذرية والحرث الزرع». وروي أنّ الحرث الذرية.

وفي المجمع عن الصادق (عليه‌السلام) : «المراد من الحرث في هذا الموضع الدّين ، والنّسل الناس (الإنسان)».

أقول : يصح إطلاق الحرث على الدّين أيضا لأنّه بمنزلة البذر الذي يبذر في الأرض ليستفاد منه ، ولكنّه يبذر في القلوب.

في تفسير العياشي عن جابر عن الباقر (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) قال : «إنّها نزلت في عليّ (عليه‌السلام) حين بات على فراش رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لما أرادت قريش قتله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)».

أقول : تواترت الروايات أنّها نزلت في عليّ (عليه‌السلام) ليلة المبيت في فراش النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله). فقد روى الشيخ في أماليه بأسانيده عن رجال أهل السنة وغيرهم عن زين العابدين وابن عباس وأنس وأبي عمرو بن العلا ، وعن عمّار عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله). وروى في تفسير البرهان بخمسة طرق ، وعن الثعلبي عن ابن عباس ، وعن جابر عن الباقر (عليه‌السلام).

ورواه جمع غفير من العامة ، فقد روى الحافظ أبو نعيم عن ابن عباس ، وأبو السعادات في فضائل العشر بأسانيده عن أبي اليقظان عمار. ورواه الحاكم في المستدرك ، والذهبي في تلخيص المستدرك وأخطب خوارزم في المناقب ، والجويني في فضائل الصحابة وفرائده بأسانيدهم عن زين العابدين. ورواه أحمد بن حنبل في مسنده. ومسلم عن أبي داوود الطيالسي وغيره. والنسائي في خصائصه صحيحا ورواه الغزالي في كتاب الإحياء باب الإيثار ، ورواه القرطبي في تفسيره وغيرهم من علماء العامة ورواتهم.

وفي الدر المنثور أنّها نزلت في صهيب : «أنّه أقبل مهاجرا إلى رسول الله

٢٢٥

(صلى‌الله‌عليه‌وآله) فاتبعه نفر من قريش وقالت له : يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك وتخرج أنت ومالك ، والله لا يكون ذلك أبدا فقلت لهم : أرأيتم إن دفعت لكم تخلّون عنّي؟ قالوا : نعم. فدفعت إليهم مالي فخلّوا عنّي فخرجت حتى قدمت المدينة ، فبلغ ذلك النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقال : ربح البيع صهيب مرّتين».

أقول : روي أيضا أنّها نزلت في أبي ذر بشرائه نفسه بأمواله والآية لا تلائم شيئا منها ، وقد تقدّم في التفسير ما يتعلّق بمثل هذه الروايات. والعجب من السيوطي وغيره من المفسرين أنّهم ينقلون الأحاديث المتعلّقة بالآيات حتّى الشواذ والمناكير ولكنّهم لم يذكروا المستفيضة الواردة في نزول هذه الآية.

وفي المجمع أنّها نزلت في الرجل يقتل على الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر. وقيل : إنّها نزلت في من يقتحم القتال فيقتل.

أقول : إنّه من باب التطبيق ، ولكن تطابقت نصوص الفريقين على أنّ الآية الشريفة نزلت في عليّ (عليه‌السلام) بل الشواهد العقلية دالة على ذلك كما ذكرنا. ولكن مقتضيات الظروف اقتضت تارة أن يقال إنّها نزلت في صهيب. وأخرى : إنّ معاوية يرشي ويعطي لسمرة بن جندب مالا كثيرا حتى يفتعل ويقول إنّها نزلت في حق عبد الرحمن بن ملجم.

ولا عجب في ذلك من مثل معاوية الذي ليس له أيّ دافع ديني كما يعترف به المؤرخون من المسلمين وغيرهم وما ضبطه التاريخ من حياته. وأما سمرة بن جندب فهو معروف عند الكلّ وهو الذي رد على نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في حديث «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» المعروف بين الفريقين ويكفينا فيهما قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لعن الله الراشي والمرتشي».

٢٢٦

بحث فلسفي

سرّ التفدية وآثارها : لا شك في أنّ أكمل ما في الوجود وأجلّه والساعي إليه جميع الموجودات إنّما هي السعادة الأبدية يطلبها بالفطرة كلّ ذي حياة وشعور ، بل كلّ ممكن موجود ، قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء ـ ٥٤] وهذه السعادة تختلف باختلاف الموجودات وكذلك الطرق المنتهية إليها ، كما تقدّم في أحد المباحث السابقة.

ولكن لا يفوز أحد بالسعادة الحقيقية الأبدية ، ولا يصل إليها إلا بالتقرّب إلى الحقّ جلّ وعلا وإنّ طرق التقرب إليه متعددة ، كما أنّ مراتب التقرب إليه كذلك بل إنّها غير متناهية.

وللمتقرّبين إليه درجات ومنازل حسب تجلّيه عزوجل لهم والإشراقات والجذبات الحاصلة من الأحدية المطلقة لهم بلا فرق بين الأنبياء والأولياء والمؤمنين ، بل مطلق العباد إن كان لهم الاستعداد للاستكمال وترقية النفس.

وأولو العزم من الأنبياء ـ وفي مقدمتهم نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ـ من أشرف المتقرّبين إليه تعالى ، وإنّهم أول سلسلة التفدية الحقيقية والفداء الخالص لخالق الأرض والسّماء ، ولأجل ذلك حازوا آخر مقامات الفناء فيه جلّت عظمته ، قال تعالى : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم ـ ١٠] ، وعنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «أبيت عند ربّي

٢٢٧

فيطعمني ربّي ويسقيني» ، وقال تعالى حكاية عن خليله إبراهيم (عليه‌السلام) : (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء ـ ٨٠].

وإنّ لله جلّ جلاله بالنسبة إليهم عنايتان فبعناية يحبّهم ويجذبهم إلى نفسه وبعناية أخرى يحفظهم عن الطمس والمحق.

ومن ذلك يظهر : أنّ أهم آثار التفدية والفداء إنّما هو الفناء في المفدّى وهذا يختص بالأنبياء وأولياء الله تعالى العظام لما فيهم من الاستعداد الكامل لذلك من كلّ جهة ، وهم اللائقون لذلك ، كما يأتي البحث عنه في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

وهناك تفدية أخرى وهي وإن رجعت آخر الأمر إلى التفدية للخالق والفناء فيه ، ولكن بواسطة من تقرّب إليه تعالى ، كتفدية الحواريين لعيسى (عليه‌السلام) قال تعالى حكاية عنه (عليه‌السلام) : (قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران ـ ٥٢].

وتفدية عليّ (عليه‌السلام) لنبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) [البقرة ـ ٢٠٧].

وتفدية كل بحسب شأنه ، وإنّها التفدية الواقعية لما عرفوا من الدّلائل وانكشفت لهم الحقائق وإنّ شأنها كشأن تفدية الأنبياء للخالق.

ومن فروع ذلك تفدية المؤمنين بالنسبة إلى نبيّهم أو مشاعر دينهم فهي ترجع إلى الفداء للخالق لكن بحسب شأنهم واستعداداتهم.

وأما تفدية الناس بعضهم لبعض فإن رجعت إلى التفدية لأولياء الله تعالى كما مر وكانت مأذونا فيها من قبل الشرع فهي استكمال للنفس وموجبة للسعادة وإلا فهي فضيلة إن لم ينه الشرع عنها.

ثم إنّ التفدية تارة : غير اختيارية كما في تفدية التكوينيات كلّ ناقص لكامله وكلّ كامل لأكمله. وأخرى : اختيارية ، ولكن قد يستلزم ذلك سلب

٢٢٨

الاختيار في بعض الموارد حسب التجليات والإشراقات ، وغالب هذه المباحث حاليّ لا أن يكون مقاليّا.

وإذا تحققت التفدية الحقيقية يتحقق التجلّي بمرتبته الكاملة ، مع أنّه علّة فاعلية للتفدية ببعض مراتبه كما أنّه العلّة الغائية حيث إنّها علة فاعلية بوجودها العلمي وغائية بوجودها الخارجي ، فليس المبتدأ والمنتهى إلا شروق النور القدسي الإلهيّ الذي هو أصل الوجود والحياة ، فيكون الفداء للسعادة الأبدية غاية تجرّد النّفس ونهاية كمالها.

تفدي لحب جلال الله نفسك إن

أردت تكشف سرّ العالمين معا

فإنّما النفس كالمرآة إن ظهرت

أرتك فيها جمال الكلّ منطبعا

والفرق بين التفدية والحب ـ الذي هو ميل النفس مع العقل ـ بالشدة والضعف ، فالحب والقرب والفداء مفاهيم مختلفة لحقيقة واحدة ذات مراتب متفاوتة تشكيكية وكذا العشق ، ولا تختص تلك بالمعنويات الواقعية بل تجري في غيرها أيضا ، بل ربما يفدي بعض الناس نفسه وإن لم يكن فيه غرض صحيح عقلي.

٢٢٩

بحث عرفاني

قد ثبت في الفلسفة العملية وحققه العرفاء الشامخون أنّ أنس النفس بالكليّات يوجب ارتقاءها عن حضيض البهيمية إلى أوج الإنسانية الحقيقية مطلقا فضلا عمّا إذا كانت تلك الكليّات من العالم الغيبي الرّبوبي فتأنس النفس إلى عالم لا حدّ لأية جهة من جهاته لتباعدها حينئذ عن دار الغرور واتصالها بمنبع النور الذي لا يمكن تحديد أشعته بأيّ حدّ من الحدود الإمكانية ، ومرضاة الله تعالى لا تكون إلا من منبع النور ، وتجرّدها بالكلية عن دار الغرور فتشرق على النفس حينئذ أنوار ذلك العالم فتبتهج بما لا تدرك ولا تعلم ، هذا إذا لوحظ ذات تبديل النفس بمرضاة الله جلّت عظمته.

وأما إذا انطبق عليه عنوان آخر فيعظم ذلك بحسب عظم ذلك العنوان وكمال أهميته ، فإذا كانت التفدية مثلا بإزاء حفظ نفس حبيب الله تعالى وصفيّه من خلقه ، وهو مبدأ الإفاضات وغاية خلق المخلوقات ، بل هو صورة إجمالية لنظامي التشريع والتكوين ، فما أعظم هذه التفدية!! فإنّها وقعت بإزاء الجميع في الجميع ، ولا تصل النفس إلى هذه المرتبة ولم تتصدّ لها إلا بعد لياقتها واستعدادها لمثل هذا الفداء ، وإذا كان الله جلّت عظمته يقول في فداء إسماعيل : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [الصافات ـ ١٠٧] ، فما ذا ينبغي أن يقول جلّ جلاله في مثل هذا الفداء ، ومنه يعلم عظم المفدّى ـ بالفتح ـ والمفدي ـ بالكسر ـ.

٢٣٠

ومن ذلك يظهر سرّ التعبير في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ).

وجميع ما في الكون من مستحسن

فإليك نسبته وباسمك ينطق

من مات في دير الهوى بك صبوة

نال الشهادة وهو حيّ يرزق

من لي سواك أحبّه أو أعشق

ولك الملاحة والجمال المطلق

هذا كلّه في الإنسان الكامل الذي ارتقى عن حضيض البهيمية إلى أوج الكمال ويقابله أنس النفس بالماديات والرّجوع إلى أقصى درجات حضيض البهيمية ، الذين قد وصفهم سبحانه وتعالى في هذه الآية بقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ* وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ).

ومن ذلك يعرف أنّه إذا لوحظ الإنسان من حيث الإضافة إلى الله جلّت عظمته لا يخلو عن أقسام :

الأول : من حيث كونه مخلوقا ومربوبا له تعالى ، وهذه الإضافة تعمّ جميع الممكنات ولا تختص بالإنسان لأنّ الجميع مخلوق ومربوب له ، وتحت قدرته تعالى وإحاطته ، وتدلّ عليها الأدلة العقلية وجميع الكتب الإلهية.

الثاني : أن تحصل الإضافة من حيث التدبير الظاهري والاقتصار عليه فقط من جهة قصور النفس عن درك ما وراء ذلك ، فيكون مثل اعتضاد بعض الناس لبعضهم من جهة المنافع الدّنيوية فقط. فيطلب من الله تعالى حسنات الدنيا فقط ، لقصور السائل عن إحاطة المسؤول عنه.

الثالث : ما إذا حصلت من جهة الاعتقاد بأنّه تعالى محيط بالدنيا والآخرة إحاطة واقعية حقيقية ، وهو جلّ شأنه فوق الكلّ فيطلب منه حسنات الدنيا والآخرة والوقاية عن عذاب النار.

الرابع : ما تكون الإضافة باللسان فقط ، ويكون ظاهره خلاف باطنه بالنسبة إليه عزوجل ، وهو المنافق والمرائي الذي يرتكب كلّ إثم ، وقد ذمه الله

٢٣١

تعالى في القرآن الكريم وأوعده الخزي في الدّنيا وأشد العذاب في الآخرة وهو الذي لا يقوّمه إلا السيف.

الخامس : أن تكون الإضافة حاصلة من بذل النفس والمال والإرادة في مرضاة الله تعالى فلا يشاء إلا ما شاء الله تعالى ، ولا يريد إلا ما أراده.

وقد ذكرت الأقسام الأربعة الأخيرة في هذه الآيات الشريفة ، وذكر القسم الأول في موارد كثيرة من القرآن بالنسبة إلى جميع المخلوقات لا سيما الإنسان.

٢٣٢

سورة البقرة

الآية ٢٠٨ ـ ٢١٢

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢))

الآيات الشريفة تشتمل على مضامين عالية ، ومعارف إلهية ، وأحكام اجتماعية. وهي ترشد الإنسان إلى اتباع الحق ، وتحذره عن الباطل ، وتبيّن له طريق السعادة ، وترغّبه إلى الإنسانية الكاملة ، وتأمره بالابتعاد عما يوجب الانحراف عنها.

والآية الأولى مع إيجازها تتضمّن جميع المعارف الإسلامية ، والكمالات الإنسانية المقرّرة في الشرايع السماوية. وتنهى عن اتباع جميع القبائح العقلية والشرعية.

واشتملت الآيات على كلّ ما يوجب تثبيت ما ورد فيها من الأحكام والمعارف من الوعد والوعيد ، والاعتبار من أحوال الماضين. ومضامينها من

٢٣٣

المستقلات العقلية التي تحكم بها فطرة العقول. ولأجل ذكر فرق الناس وأصنافهم واختلاف أحوالهم في الآيات السابقة أمرهم سبحانه وتعالى بأحكام اجتماعية ترشدهم إلى نبذ الاختلاف ، والتفرّق وعدم تبديل نعم الله بما يوجب سخطه في هذه الآيات.

٢٣٤

التفسير

٢٠٨ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً).

الخطاب مدني ـ كما مرّ ـ والإضافة تشريفية لا اختصاصية والتعبير ـ ب (ادْخُلُوا) لكمال الأهمية كما يأتي.

ومادة (سلم) تأتي بمعنى التعرّي عن العيوب والآفات ، سواء كانت ظاهرية أم باطنية في الدّنيا أو الآخرة.

وهي من المواد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات مختلفة ومنها الإسلام ، والسلام ، والسلامة. ولعلّ أعذب استعمالاتها قوله تعالى في وصف المتقين : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان ـ ٦٣] ، وقوله تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) [الأنفال ـ ٦١].

وهذه المادة في جميع هيئاتها محبوبة عند الناس ، قد أطلقها الله تعالى على ذاته الأقدس في جملة من أسمائه الحسنى ، قال تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ) [الحشر ـ ٢٣] ، فهو تعالى سلام فوق ما نتعقله من معنى السلام ، وسبيله تعالى سبيل السلام وعباده الصالحين سلام من سلام ، وداره دار السلام الذي هو مظهر غيبي وصورة حقيقية لهذه الآية ، فهما متحدتان في الذات ومختلفتان بالاعتبار ، إحداهما جوهر قائم بالذات وهو عالم الآخرة والأخرى عرض قائم بالغير.

٢٣٥

تكون وتبدل العرض بالجوهر وبالعكس سهل في نظام التكوين فضلا عن قدرة العزيز الحكيم ، والجميع عبارة عن الصراط المستقيم الذي له أطوار من الظهور في عالم البقاء ودار الغرور ، ولكنّ الحقيقة واحدة التي هي عبارة عن العبودية الواقعية ، فهو من أعظم تجلّيات الله تعالى لبني آدم وأعظم عناياته على خلقه ، لأن يخرجه من الظلمات إلى النور.

وكافّة هنا بمعنى الجمع والجميع حال من ضمير الجمع في قوله تعالى (ادْخُلُوا) جيء به ليشمل جميع الأفراد للإعلام بأنّ الأمر متعلّق بالأمة بقدر ما هو متعلّق بالأفراد ، فإنّ الجهات الاجتماعية الإسلامية يتقوّم المجتمع بها كما ينتفع الفرد منها لا محالة ، بقرينة ذكر فرق الناس قبل ذلك.

ويحتمل أن تكون (كَافَّةً) تأكيدا للسّلم فتشمل جميع التكاليف الفردية والاجتماعية ، والكمال الفردي والنوعي.

والأولى أن يكون قوله تعالى : (كَافَّةً) تأكيدا لجميع ما سبق ليشمل جميع ما ذكرناه ، بل بينهما ملازمة في الجملة.

والخطاب للمؤمنين ـ كما ذكرنا ـ لكونهم أفضل الأفراد ، وأقرب إلى الرشاد ، ولتكميل الإيمان بالله تعالى بالتسليم له سبحانه والإخلاص له عزوجل ، والبقاء عليه ، فيكون أمرا بالثبات والدّوام كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) [النساء ـ ١٣٦] فعبّر بالدخول للإشارة إلى أنّ المطلوب في الكمالات المعنوية والمعارف الإلهية إنّما هو الإدامة والبقاء لا مجرّد الحدوث فقط ، بل كلّ فضل وكمال شأنه كذلك ، فإنّ المطلوب فيه هو الاستقامة والدّوام ، لأنّ المعارف الإلهية الحاصلة للنفس بالاختيار إنّما تؤثر في ذات الإنسان بواسطة الملكات الحاصلة منها حتّى تصير النّفس بالمواظبة عليها وممارستها شعاعا من أشعة عالم الغيب على النفس فتنبعث عن الذات الأفعال الخيرية ، فتصبح الذات من الذوات المقدّسة.

فيكون المعنى : يا أيّها الّذين آمنوا اثبتوا على الطاعة والتسليم لأمر الله

٢٣٦

تعالى ولا تختلفوا وتتفرّقوا ولا تتبعوا الهوى ، فإنّ في ذلك هلاككم وذهاب سعادتكم.

ومقتضى إطلاق الآية الشريفة خصوصا بعد التأكيد بقوله تعالى : (كَافَّةً) بناء على كونه تأكيدا للسلم شمولها لجميع ما يتعلّق بالشريعة المقدّسة الإسلامية بأصولها وفروعها ، فإنّ جميع ذلك سلم حقيقي للإنسان صدر عن سلام مهيمن على الكلّ.

وإرشاد إلى الدعوة إلى العقل المقرّر بالشريعة ، والشريعة المتممة للعقل ، إذ لا فرق بينهما في الواقع.

وعلى هذا يشمل جميع ما ذكر في معنى الآية ، فإنّ عنوان السّلم للحق الواقعي ينطبق على ذلك كلّه ، كما ينطبق على الإنسانية الكاملة والقرآن ، والخلافة الإلهية لتلازمها مع السّلم للحق الواقعي.

والمراد بالسّلم : السّلم الواقعي لا الادعائي ، وهو يتحقق بعد الإيمان بالله تعالى والاعتقاد بأصول الشريعة اعتقادا تاما والعمل بما اعتقده ، وجميع ما ورد في الروايات في تفسير هذه الآية الكريمة وما ذكره المفسرون ليس إلا من بيان التطبيق والمصداق ، وعمومها يشمل السّلم الشخصي والنوعي ، والدّنيوي والاخروي لانطواء الكلّ في السّلم الذي يدعو إليه عزوجل.

وتشمل الآية الحدوث والبقاء ، والثاني أشدّ من الأول بمراتب ويعلم من ذلك كلّه كثرة ما عليه الناس من المخالفة لمثل هذه الآية.

ومفهومها الالتزامي يدل على أنّ مخالفة السّلم للحق المطلق لا يكون إلا باطلا ، فيكون ذيل الآية بيانا للمفهوم الالتزامي المستفاد من صدر الآية المباركة.

وإنّما عبرّ سبحانه وتعالى ب «السّلم» دون الإسلام لمحبوبية السّلم حتّى عند المنافقين أيضا ، فيكون مفاد الآية نظير قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) [النساء ـ ١٣٦].

٢٣٧

وهذه الآية من الآيات التي تدل على ثبوت مراتب للإيمان ، لأنّه عزوجل جعل موضوع الحكم (الَّذِينَ آمَنُوا) وأمرهم بالدّخول في السّلم.

قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ).

الخطوات جمع خطوة : وهي تتبع الأثر ، وخطوات الشيطان عبارة عن جميع ما يدعو إلى الباطل والضلال ، وجميع مصائده ومكائده في سبيل الانحراف عن الصراط المستقيم ، وما يدعو إليه الرّب الرّحيم.

وذكره في المقام بيان للمفهوم الالتزامي لصدر الآية الشريفة وقد تقدم ما يتعلق بهذه الآية في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [البقرة ـ ١٦٨].

قوله تعالى : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

بيان للسبب في النّهي عن اتباع خطوات الشيطان ، وهذا التعليل علّة عقلية له ، فإنّ العاقل ، بل كلّ ذي شعور لا يتبع عدوّه المبين في العداوة ، وقد ذكرت عداوة الشيطان للإنسان في آيات كثيرة من القرآن ، قال تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [يوسف ـ ٥] ، وفي بعض الآيات المباركة عدوّ مضل مبين قال تعالى : (إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) [القصص ـ ١٥] ، وفي بعضها : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر ـ ٣٥] ، وقد اهتم القرآن بل جميع الكتب السماوية ببيان عداوته بطرق مختلفة ، لأنّه أساس أنحاء الكفر والنفاق ، والفساد ، وسلب السعادة عن الإنسان ، وقد أقسم بعزّة الله تعالى لإغواء العباد فقال : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص ـ ٨٢].

وتنشأ هذه العداوة من أسباب عديدة :

أولا : إنّها ذاتية حيث قال : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف ـ ١٢] ، ولا أثر للنار إلا إزالة الطّين وتفريقه.

وثانيا : إنّها إرادية إذ لا إرادة له إلا الفساد والضّلال بخلاف المؤمنين

٢٣٨

فإنّهم لا يريدون إلا ما أراده الحق تعالى.

وثالثا : دركه لكرامة الإنسان وفضيلته عليه ، قال تعالى ، (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) [الإسراء ـ ٧٠] ، وقال تعالى حكاية عن الشيطان : (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء ـ ٦٢].

ورابعا : طرده لخبث ذاته عن عالم النّور إلى مهوى الغرور ، قال تعالى : (فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) [الأعراف ـ ١٣].

وخامسا : شعوره بأنّه لا حظّ له في دار النّعيم بل انحطاطه إلى أسفل درك من الجحيم بخلاف الإنسان فإنّه يدرك في الجملة أنّ له مقامات عالية إن أطاع ربّه الكريم ، قال تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) [الدخان ـ ٥١].

وسادسا : اللعن والطّرد والرجم من الله تعالى والإنسان في كلّ حين وآن ، قال تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) [ص ـ ٧٨] ، وقال تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) [الحجر ـ ٣٥].

والعجب من الإنسان مع أنّه يلعن الشيطان لا ينفك عن اقتفاء أثره وتتبع خطواته ، فالآية الكريمة بصدرها وذيلها أجلّ دعوة بأعذب لفظ وأحسن أسلوب للإنسانية الكاملة والتحذير عن المخالفة مع التضمّن للدّليل والبرهان ، خصوصا بعد ملاحظة الآيات اللاحقة.

٢٠٩ ـ قوله تعالى : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ).

الزلة : هي العثرة والاسترسال من غير تعمّد وقصد. أي : فإن أعرضتم عن الدخول في السّلم واتبعتم خطوات الشيطان بعد ما جاءتكم الحجج الواضحات من تشريعاته المباركة وأحكامه المقدّسة ، وبعد ما تبيّن لكم عداوة الشيطان وشقاوته وضلاله وإفساده فلا عذر لكم في الميل عن الحق والإعراض عن الصراط المستقيم.

٢٣٩

والتعبير بالزلة وهي ما يصدر من غير عمد والتفات ، للإعلام بأنّ التعمد في التقصير بعد تمامية الحجة مفروض العدم. وفيها كناية عن أنّه لا ينبغي أن يصدر من العاقل ذلك ، والكناية أبلغ من التّصريح في المحاورات.

ولم يذكر عزوجل العقاب مع الزلة لأنّها كالعثرة تكون بلا قصد ، فلا وجه لثبوت العقاب في ما لا قصد فيه ولا اختيار ، نعم ، توعدهم على ذلك.

قوله تعالى : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

العزيز : القدير الذي لا يغلب وهو من أسمائه الحسنى ، وقد اطلق عليه تعالى في القرآن الكريم فيما يقرب من ثمانين موردا مع تعقبه غالبا بالحكيم أو الرّحيم أو العليم أو الحميد أو الكريم وغيرها.

ولعل وجه إتباعه بهذه الأسماء الحسنى المقدّسة أنّه يطلق مجرّدا على غيره تعالى كقوله سبحانه : حكاية عن بني يعقوب (يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) [يوسف ـ ٩٠] ، وقال تعالى حكاية عن أخوة يوسف : (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف ـ ٨٠] ، وقد استعمل في غيره تعالى موصوفا أيضا ، كقوله عزوجل : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان ـ ٤٩] ، لكنّه للتهكم.

والحكيم هو الذي يفعل بمقتضى الحكمة.

والمعنى : فإن زللتم عن السّلم واتبعتم خطوات الشيطان فاعلموا أنّ الله تعالى مقتدر غير مغلوب في إنفاذ أمره يفعل فيكم بمقتضى حكمته المتعالية بلا إلجاء.

وفي إتيان حكمته المطلقة المتعالية مع قدرته وعزته للإعلام بأنّ قدرته عزّته مقهورتان تحت حكمته التامة التي هي تنظيم الأشياء على وفق النظام الأحسن الرباني ، وليست هي مرسلة من كلّ جهة حتّى ولو حصل محذور في البين.

٢٤٠