مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٦

ردوا الدّراهم عليه ولم يجدوا هديا ينحرونه وقد أحلّ لم يكن عليه شيء ولكن يبعث من قابل ويمسك أيضا» أي يمسك عن النساء إذا بعث هذا في المحصور.

وأما المصدود : فإنّه يذبح في مكانه حلا كان أو حرما وقد نطقت بذلك جملة من الرّوايات ، وقد نحر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) هديه بعد أن صدّه المشركون في الحديبية وأحلّ من الإحرام والتفصيل يطلب من كتاب الحج من الفقه.

الرابع : أنّ قوله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) يدل على تشريع حج التمتع الذي هو أحد الأقسام الثلاثة في الحج والقسمان الآخران هما حج الإفراد ، وحج القران. والفرق بين الأول والأخيرين هو :

١ ـ أنّ الأول وظيفة من لم يكن مقيما وحاضرا عند المسجد الحرام ويدل عليه قوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة ـ ١٩٦] ، وهو الآفاقي الذي يبعد عن المسجد الحرام بما يعادل ٨٨ كيلومترا كما حدّدته السنة الشريفة.

٢ ـ أنّ الأول مركب من عملين : هما العمرة والحج ، ولا يقع الثاني بدون الأول ، وأما الأخيران فلا يكونان كذلك بل هما عمل واحد وهو الحج إلا أنّ حج القران يساق فيه الهدي مع عقد الإحرام بخلاف حج الإفراد.

٣ ـ أنّ وجوب الهدي يختص بالتمتع بخلاف القسمين الأخيرين وهناك فروق أخرى مذكورة في كتب الفقه.

ولا خلاف ولا إشكال في أصل تشريع حج التمتع بإجماع الأمة وأئمة الحق (عليهم‌السلام) والنصوص المتواترة بين الفريقين ، وهو أفضل أنواع الحج مطلقا لنصوص معتبرة كثيرة منها : ما ورد عن أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) : «لو حججت ألفا وألفا لتمتّعت» وهو يتحقق على نحوين :

الأول : أن يحرم أولا بعمرة التمتع ثم بعد قضاء مناسكها والانتهاء منها يحلّ ويحرم بالحج ، وهذا مما لا نزاع في مشروعيته من أحد من المسلمين

٢٠١

ولا تختص مشروعيته بأصحاب محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ويدلّ عليه قوله تعالى : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) والنصوص المتواترة بين الفريقين منها ما عن أهل البيت (عليهم‌السلام) عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» ، وروي عن جابر أنّ سراقة بن مالك قال : «يا رسول الله هذا الذي أمرتنا به ـ يعني الإحلال بعد العمرة إلى الحج ـ لعامنا هذا أم إلى الأبد فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : بل إلى الأبد إلى يوم القيامة» ورواهما الجمهور في مجامعهم.

وأخرج البخاري وأحمد والنّسائي وغيرهم عن عليّ (عليه‌السلام) قال : «إنّ المتعة سنّة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فلا يدعها لقول أحد من الناس» ، وادعى الإجماع على ذلك.

ولهذا القسم شروط مذكورة في كتب الفقه.

الثاني : أن يحرم بالحج حتّى إذا دخل مكة محرما بحج الإفراد يعدل عن حجه إلى عمرة التمتع ويتم حج التمتع ، وقد وقع النزاع بين الفقهاء فيه.

أما عند الخاصة : فالمشهور جوازه حتى في فرض العين ، ومنهم من منعه في فرض العين وجوّزه في الندب والفرض غير المتعين.

وأما عند العامة : فمنعه جمهورهم وهو الذي توعّد عليه الخليفة الثاني فقال : «متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أما أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما : متعة النساء ومتعة الحج». وقد وردت في صحته ومشروعيته الأخبار الكثيرة عن الفريقين :

ففي الصحيح عن معاوية بن عمار عن الصادق عن آبائه (عليهم‌السلام) : «لما فرغ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من سعيه بين الصفا والمروة أتاه جبرئيل عند فراغه من السعي فقال : إنّ الله يأمرك أن تأمر الناس أن يحلّوا إلا من ساق الهدي. فأقبل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على الناس بوجهه فقال : «أيّها الناس هذا جبرئيل ، ـ وأشار بيده إلى خلفه ـ يأمرني عن الله عزوجل أن آمر الناس بأن يحلّوا إلا من ساق الهدي» فأمرهم بما

٢٠٢

أمرهم الله تعالى.

فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله نخرج من منى ورؤوسنا تقطر من النساء؟! وقال آخرون : يأمرنا بشيء ويصنع هو غيره.

فقال : «أيّها الناس لو استقبلت من أمري ما استدبرت لصنعت كما صنع الناس ، ولكن سقت الهدي فلا يحلّ من ساق الهدي حتّى يبلغ الهدي محلّه». فقصّر الناس وأحلّوا وجعلوها عمرة.

وقام إليه سراقة بن مالك المدلجي فقال : يا رسول الله هذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «بل للأبد إلى يوم القيامة ـ وشبك بين أصابعه ـ» وأنزل الله بذلك قرآنا : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ).

وقريب منه : ما رواه مسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة في جوامعهم وأحمد في مسنده وغيرهم عن الصادق وعن الباقر عن جابر وقد ذكرت في مجامعهم روايات كثيرة بمضامين مختلفة.

قال القرطبي : «قد تواردت الآثار عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيه ـ أي في مشروعية هذا القسم ـ أنّه أمر أصحابه في حجة من لم يكن معه هدي ولم يسقه وقد كان أحرم بالحج أن يجعلها عمرة ، وقد أجمع العلماء على تصحيح الآثار بذلك عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ولم يدفعوا شيئا منها إلا أنّهم اختلفوا في القول بها والعمل لعلل» ثم ذكر بعض تلك العلل وهي موهونة لمن تدبر فيها ولذلك لم يعمل بها كثير من علمائهم.

وأما قول الخليفة فهو مردود من جهات وقد ذكرت في الكتب الكلامية ، وسيأتي في الموضع المناسب في هذا التفسير إثبات أنّ أحدا لا يقدر أن يدفع حكما إلهيّا نطق به القرآن الكريم أو جاء به الرّسول الأمين (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

الخامس : إطلاق قوله تعالى : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) يقتضي إجزاء

٢٠٣

ما صدق عليه الهدي من النّعم الثلاثة إلا أنّ الفقهاء قيّدوه واشترطوا في الهدي شروطا كثيرة لأدلة خاصة وهي مذكورة في كتب الفقه فراجع.

كما أنّ ظاهر الآية الشريفة أنّه لا بد وأن يكون الهدي كاملا وعن واحد فلا يجزي بعض الهدي.

السادس : ظاهر قوله تعالى : (ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) إجزاء الصيام في تمام ذي الحجة وأفضله السابع والثامن والتاسع كما في روايات كثيرة منها ما في صحيح رفاعة عن الصادق (عليه‌السلام) «عن المتمتع لا يجد الهدي قال : يصوم قبل التروية بيوم ويوم التروية ويوم عرفة ، قلت : فإن قدّم يوم التروية قال (عليه‌السلام) : يصوم ثلاثة أيام بعد التشريق ـ الحديث ـ».

ولا يجوز له صوم أيام التشريق إذا فاته ذلك وتدل عليه روايات كثيرة وإجماع الإمامية منها ما في صحيح ابن سنان : «أنّ الصادق (عليه‌السلام) استشهد بأنّ بديل بن ورقاء أمره رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بأن ينادي بمنى في الناس : أن لا يصوموا» وغيره من الأخبار المروية عن الفريقين.

السابع : الانتقال إلى الصّوم هو في زمان تعذر ثمن الهدي في محلّ وجوبه على تفصيل مذكور في كتاب الحج من (مهذب الأحكام).

الثامن : الظاهر من قوله تعالى : (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) أن يكون الرجوع إلى الأهل كما تدل عليه الرّوايات ولكنّ الرّجوع على قسمين حقيقي وهو أن يرجع بنفسه إلى الأهل أو حكمي فيما إذا رجع أصحابه وأقام بمكة فإنّ عليه الانتظار مدّة وصول أصحابه إلى الأهل وذكرنا أنّ ذلك ربما يستفاد من قوله تعالى : (إِذا رَجَعْتُمْ).

التاسع : ذكرنا أنّ ظاهر قوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أنّ الحضور مقابل النائي وهو من لم يكن من أهل مكة وقراها ، وهو مطلق ولكنّ السنّة حدّدت الحضور وقيدته بما إذا كان بينه وبين مكة ما يساوي ثمانية وثمانون كيلومترا ، لأدلة خاصة ذكرناها في كتابنا (مهذب الأحكام) قسم الحج منه.

٢٠٤

العاشر : ظاهر قوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) أنّها أشهر معلومة عند العرب وقد أقرّها الإسلام. ويستفاد منه أنّ ذا الحجة من أشهر الحج يصح إيقاع بعض الأعمال التي يعتبر أن تكون في الحج فيه كما في ثلاثة أيام الصّوم ويدل عليه صحيح عبد الرحمن بن الحجاج.

كما يستفاد منه أنّه لا يجوز الإحرام بالحج في غير الأشهر الثلاثة كما لا يصح إحرام عمرة التمتع في غيرها لأنّها داخلة في الحج كما عرفت.

الحادي عشر : ظاهر قوله تعالى : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) أنّه يجوز إيقاع إحرام الحج في أيّ وقت من هذه الأشهر الثلاثة إذ أنّ فرض الحج يتحقق بالإحرام فيهنّ. كما أنّ ظاهر قوله تعالى : (فَمَنْ فَرَضَ) أنّه يجب إتمامه لأنّه جعله فرضا على نفسه.

الثاني عشر : يستفاد من قوله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) وجوب الوقوف فيها وأنّ له وقتا محدودا يجتمع الناس فيها ويفيضون فإنّ الإفاضة لا تكون إلا بعد الكون كما يستفاد من قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) وجوب الوقوف ولو بقدر الذكر عند المشعر الحرام.

والمراد من الذكر : مطلق التسبيح والتهليل والدعاء ، وقد ورد في رواية أبي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) : «يكفيه اليسير من الدعاء».

الثالث عشر : المستفاد من سياق قوله تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) أنّه الإفاضة من المشعر الحرام إلى منى لأنّه تعالى ذكر الوقوف بعرفات والإفاضة منها فيكون كلاما مستأنفا لا أن يكون تأكيدا للإفاضة من عرفات والتأسيس خير من التأكيد لكثرة الفوائد فيه.

الرابع عشر : إنّ قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) مطلق من حيث الكيفية والكمية إلا أنّ السنة حدّدته بخمسة عشرة تكبيرة من بعد كلّ فريضة من صلاة الظهر يوم النّحر إلى صلاة الصبح من اليوم الثالث عشر.

وصورته المتفق عليها بين المسلمين : «الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد». وقد زاد أصحابنا تبعا للمأثور عن الأئمة الهداة

٢٠٥

(عليهم‌السلام) : «الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا ورزقنا من بهيمة الأنعام» ويدل على كلتي صورتيه عدة روايات من الخاصة والعامة.

الخامس عشر : المستفاد من سياق الآية الشريفة : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى) أنّه راجع للعموم المستفاد من حكم ما قبله أي : الاتقاء عما يحرم على المحرم وقد فسرت في الروايات بخصوص الصيد والنساء وهذا هو المشهور عند الإمامية.

ثم إنّ أعمال الحج الواردة في القرآن الكريم المشروحة في السنة المقدّسة هي :

الأول ـ الإحرام : قال تعالى : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) [المائدة ـ ٩٦]. وقال تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة ـ ٩٥] وغيرهما.

الثاني ـ الطواف : قال تعالى : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج ـ ٢٩] ، وقال جل شأنه : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ).

الثالث ـ صلاة الطواف : قال تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة ـ ١٢٥].

الرابع ـ السعي بين الصفا والمروة : قال تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [البقرة ـ ١٥٨].

الخامس ـ الوقوف بعرفات : قال تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) [البقرة ـ ٢٠٠].

السادس ـ الوقوف بالمشعر الحرام : قال تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) [البقرة ـ ٢٠٠].

السابع ـ الإفاضة إلى منى والكون فيها : قال تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) [البقرة ـ ٢٠١].

٢٠٦

الثامن ـ الهدي : قال جل شأنه : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الحج ـ ٣٨].

التاسع ـ الإحلال والتقصير : قال تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة ـ ٢] ، وقوله تعالى : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) [البقرة ـ ١٩٦].

العاشر ـ أيام منى : قال تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) [البقرة ـ ٢٠٥].

الحادي عشر ـ قضاء المناسك : قال تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) [البقرة ـ ٢٠٠] ، ولم يذكر سبحانه في القرآن رمي الجمرات ولا العيد ولعلّ السرّ في ذلك أنّه بعد ذكر الرّجم الكبير المذكور في قوله تعالى : (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) [ص ـ ٧٧] ، يكون جميع أنحاء الرّجم من المؤمنين قولا وعملا من صغريات ذلك الرّجم ، وأما عدم ذكر العيد فيمكن أن يكون قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة ـ ٢٠١] إشارة إليه.

٢٠٧

بحث عرفاني

تقدّم في أحد المباحث السابقة أنّ الطاعات والعبادات في الإسلام إنّما هي ألطاف إلهيّة لتكميل النّفوس المستعدّة والوصول إلى الغاية المتوخاة من خلق الإنسان ، فبالعبادة ينال الإنسان مقام العبودية التي هي مجمع الكمالات الإنسانية وبها يصل إلى درجة الخلّة الحقيقية ، وبها يتقرب العبد إلى خالقه ويصل إلى ساحة قدسه ، وبها تتخلّى النفس من الرّذائل وتتحلّى بالفضائل وتتخلّق بالأخلاق الإلهيّة لتتجلّى أنوار الغيب على القلوب وتفوز بالسعادة التي هي فوق كلّ مطلوب وبها ينال العبد مرتبتي الفناء في الله تعالى والبقاء به عزوجل. كلّ ذلك إذا أتى العبد بها على وجهها المطلوب.

ومن العبادات في الإسلام الحج الذي هو السّفر إلى الله تعالى للوقوف بين يدي عظمته والدخول في ضيافته في بيته وحرمه الذي جعله من أبواب رحمته فمن دخله كان من الآمنين.

وهو سفر يتضمّن كثيرا من الأسرار التي لا يطّلع عليها إلا من خلع عن نفسه الأغيار ودخل في حريم كبرياء الجبار.

وهو السّفر الذي تتحقق فيه الأسفار الأربعة التي تكون للسّلّاك من العرفاء ولا ينال العبد ما في هذا السّفر ولا يصل إلى الوجه المطلوب إلا إذا كان ملتفتا إلى سفره : مبدئه وغايته ، ومتوجها إلى كلّ جليل ودقيق في

٢٠٨

الحركات والأفعال بل حتى الخطرات ، فإنّ المقام جليل والمطلب خطير ولا يناله إلا من كان بانيا على التكميل ، لأنّ أصل تشريع هذا السّفر إنّما هو لتحريك النفس الإنسانية إلى المشاعر الربوبية والانتقال منها إلى المنازل المعنوية والتوجه فيها إلى المعارف الإلهية ، وتحلّي النفس بأخلاق الله تعالى فتصير الدّنيا والآخرة عنده كمرآتين متقابلتين تحكي إحداهما عن الاخرى على نحو النقص والتمام اللذين هما من خصوصيات الذات والزمان لا من جهات أخرى.

وفي هذا السّفر منازل ومقامات لا يمكن الوصول إليها إلا بعد طيّها والخروج منها على الوجه المطلوب ونبذ ما هو المعتاد والمألوف فإنّ الشيطان حريص على الغواية والتضليل.

وأول تلك المنازل حمل الزاد وتهيئة المركب كما في سائر الأسفار الدنيوية فإنّ أول ما يفعله المسافر حمل الزاد ومعرفة أمن الطريق وتوثيق الصلة مع أرباب النّواحي وتثبيت الارتباط مع مدبّر كلّ بلد ومديره ليأمن كيدهم ، وكلّ ما عظم السفر اشتدت الحاجة إلى الزاد.

والسّفر إلى الحج سفر إلى الله تعالى فلا بد من الاهتمام بما يأخذه من الزّاد وقد أخبرنا الله عزوجل أنّ التقوى هي خير الزاد فإنّها من أعظم السبل في توثيق الصلة والارتباط مع مالك الملك ومدبّر الأمور وهي مالكية أزمة الآخرة ويتبعها مالكية أزمة الدنيا فإنّها تبع الآخرة فإنّ للدنيا جهتين : الأصالة. لكونها محلّ العمل ، فلو لا الدنيا لما كان عمل ولا عامل ولا تكليف ولا جزاء. وجهة التبعية لكونها مزرعة الآخرة. فلو لا الآخرة لما خلقت الدّنيا ، فبالتقوى ينال محبة الله تعالى وبها يمتطي ضهوة النّفس الأمارة ويأخذ لزمامها. وهي مفتاح كلّ خير وصلاح.

ومن منازل هذا السّفر الخطير الإعراض عما سواه عزوجل والابتعاد عن الأغيار ، لأنّه السّفر إلى الله والسّير إلى حريم كبريائه عزوجل فلا بد أن يكون حجه وعمرته لله ربّ العالمين.

٢٠٩

ومن منازله أيضا البناء والعزم على إتيان العمل جامعا للشرائط وأن لا يقدم عليه إلا وهو مطمئنّ النفس على إتمامها فإنّ قطع العمل والرجوع عن السّير بعد التلبّس به مما لا يليق بمقام العبودية بل قد يوجب الحرمان كما هو معروف لدى أهل العرفان.

ثم يحرم عند الوصول إلى الميقات وهو أول المقامات فيحرم النفس عن المشتهيات ويوقفها عن كافة الشهوات ويطرح عنها كلّ مشتبه وحرام عند خلعه الثياب عن الأبدان.

ويتهيّأ للدخول في الحرم الإلهي والورود في ضيافة الرّحمن ولا بدّ أن يلاحظ أنّه في المأمن الإلهي ، وهو من أهمّ ما يبتغيه أهل السّير والسلوك في الله تعالى فيجب أن يكون السّعي والعمل متفقين مع الإرادة القلبية وكلاهما لله تعالى فترتفع الأغيار وتزول الحجب والأستار.

ثم الطواف بالبيت رمز العشق بالله عزوجل وهو جذب روحي وإظهار للعبودية فلا بد وأن يكثر من ذلك كالمحب الذي تيّمه الحب وذلله وهو يطوف حول بيت الحبيب وقد علا صوته بالبكاء والنحيب لعلّه يلقاه أو يجيب ، وفي الطّواف حكم وإشارات منها التردد في محالّ القدس والإعلام بأنّ الطالب للحبيب لا بد له من الفناء فيه ليفوز بلقياه ونيل إفاضاته.

والصلاة في المقام إشارة إلى التشبّه بخليل الرّحمن في تركه طاعة الشيطان.

وفي السّعي بين الصّفا والمروة انقطاع إلى ربّ الخلائق وإبراز التحيّر في ذاته المقدّسة واظهار العشق له ونبذ كلّ صنم ووثن ومعبود سواه.

والوقوف بالمشاعر العظام إنّما هو تذكير بالوقوف بين يدي الله تعالى في عرصات يوم القيامة وإبراز الخضوع والخشوع لعظمته تعالى وإظهار التذلّل والعبودية لساحة قدسه فلا بد وأن يكون على سكينة ووقار طالبا مغفرته ورضوانه ، فإنّ تلك المشاعر العظام ليست إلا من مظاهر التوحيد وإلقاء الشرك والكفر. والوقوف فيها مع ما فيها من الزحام إراءة نموذج ما يكون في طريق

٢١٠

المصير إليه تعالى وظهور الحق وفناء التكثّرات فيه.

والإفاضة منها مع ضجيج الحجيج والنّداء والعجيج ، وهم يفيضون من كلّ حدب وصوب قد تخلّوا عن الأهل والأوطان وهم ضيوف جنابه يريدون ساحة قدسه قد تلقّاهم الرّبّ الرّحيم بكلّ حنان ورأفة وعناية ورحمة وهو الرّبّ الرّحيم قد وعدهم أن يزيل عنهم كلّ أهوال المحشر فكان هو المبدأ والمنتهى وتجلّت الإفاضة منه وإليه.

وفي رمي الجمرات استعداد الإنسان للابتعاد عن الشيطان والإعراض عن الخطيئات والسيئات.

وفي إفناء حياة الهدي بالذبح إشارة إلى إفناء النّفس الأمّارة بعد الإهلال وإظهار التقصير والعجز ، وكناية عن طرح كلّ رذيلة عن النّفس والمجاهدة معها في كلّ حقير وكبير.

والرجوع من الحرم إلى الأهل يعتبر رجوعا لتكميل معارف الدّين وأحكام شريعة سيد المرسلين فيتجلّى في هذا السّفر كلّ ما يبتغيه أهل العرفان.

ولا بد أن يكون في جميع الأحوال مولعا بذكر الحبيب طالبا منه مغفرته ورضوانه فإنّ الحبيب لا ينفك عن البكاء والنحيب إذا صد عن حبيبه وطرد عن بابه.

ملأت به سمعي وقلبي وناظري

وكلّي وأجزائي فأين يغيب

هذه نبذة يسيرة ممّا لا بد أن يعمله السائر في هذا الطريق فإنّ في الحج قد اجتمعت قواعد السّير والسلوك المتبعة في تهذيب النفس.

وفي الحج تتجلّى المشارقات الربوبية على الرّوح الإنساني ، فكم من عناية إلهيّة تفاض على أهل عرفات؟!!

وكم من شروق غيبيّ يشرق على النفوس المستعدّة في المشعر الحرام؟!!.

وكم من تجلّيات ربوبية تظهر للذوات القابلة في الرّكن والمقام!!

٢١١

وكم من نفس تلوثت بالذنوب والآثام تطهر عند إراقة الدّماء في منى!! وكم من ذنوب يحطّمها الرّبّ العظيم عند الحطيم!!.

وكم من خطايا يغفرها الرّبّ الغفور الرّحيم عند التعوّذ بالملتزم والمستجار!!.

وكم من نفس تصل إلى مناها عند الوصول إلى منى!!.

وكم من عناية ولطف تظهران لعبده عند استلام الرّكن الذي هو يمين الله في الأرض يصافح بها عباده!!.

٢١٢

سورة البقرة

الآية ٢٠٤ ـ ٢٠٧

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧))

قسّم سبحانه وتعالى في الآيات السابقة الناس إلى المؤمنين الذين يطلبون الدّنيا والآخرة والكافرين الذين يطلبون الدّنيا لوحدها. وأتم الكلام بذكر التّقوى وذكر هنا أحوال الناس من حيث الصفات ونتائج الأعمال ، وأنّهم على صنفين :

المنافقون : الذين يراؤون في أعمالهم ، يظهرون الإيمان ويسرّون الكفر ، وقد ذكر سبحانه وتعالى بعض صفاتهم التي عرفوا بها وأوعدهم النار بسوء صنيعهم وما عملته أيديهم من الذنوب والآثام.

والصنف الثاني : هم المخلصون في أعمالهم الذين يبتغون مرضاة الله في جميع أحوالهم ولا يريدون إلا وجهه تعالى ثم ختم كلامه عزوجل بذكر بعض الأسماء الحسنى حيث وعد عباده الخير والإحسان ودفع الشر والفساد.

٢١٣

التفسير

٢٠٤ ـ قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا).

العجب والتعجب حالة تعرض على الإنسان عند الجهل بسبب الشيء ولذا لا يطلق على الله تعالى ، لعدم إمكان تعقل الجهل بالنسبة إليه جلّت عظمته.

ولهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة قال تعالى : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) [الجن ـ ١] ، وقال جلّ شأنه : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) [الرعد ـ ٥] ، إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

والعجب ـ بضم الأول وسكون الثاني ـ من الصفات الرذيلة التي يجب الابتعاد عنها ، ولذا قال عليّ (عليه‌السلام) : «إعجاب المرء بنفسه أحد حسّاد عقله» والمراد به استكثار العمل والسّرور به من نفسه ولنفسه ، وفي الحديث : «أوحى الله إلى داود فقال : يا داود بشر المذنبين وأنذر الصدّيقين! فقال داود : يا ربّ كيف ذلك؟ فقال تعالى : بشر المذنبين أنّي أغفر ذنوبهم ، وأنذر الصدّيقين أن لا يعجبوا بأعمالهم». ومن المفسرين من لم يفرّق في بيان المعنى.

ومتعلق الظرف في قوله تعالى : (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) هو (يُعْجِبُكَ) أي : إنّ التعجب في الدنيا يحصل من جميع جهاته ، فيشمل القول أيضا

٢١٤

فيكون (قَوْلُهُ) بدل البعض عن الكلّ.

وقيل : إنّه متعلق ب (قَوْلُهُ) وهو صحيح أيضا ، وعلى أي تقدير الآية تشير إلى التعجب من الظاهر المختلف مع الباطن الذي يكشفه الله تعالى بحسب ما شاء وأراد ، وفي المقام بقوله تعالى : (يُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ).

أي : ومن الناس من يظهر الإيمان ويدّعي صفاء السّريرة وحسن الصّحبة ويوهم الزّهد عن الدّنيا والعزوف عن ملاذّها ويدّعي توافق ظاهره مع الباطن وأنّ ذلك في القلب وأنت تعجب من براعته في الكلام ، وحسن أدائه.

قوله تعالى : (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ).

أي : يحلف بالله ويجعله شاهدا على ما في قلبه من المحبة والإيمان ، وأنّ قلبه موافق لما يقوله ، وهذا التعبير آكد من الحلف واليمين ، ومن يقوله كاذبا ينسب الجهل إليه تعالى.

قوله تعالى : (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ).

اللّدد : شدة الخصومة ، والألدّ صفة مشبهة ، وهي تدل على المبالغة أي : شديد الخصام والمجادلة ، وجمعه (لدّ) بالضم ، قال تعالى : (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) [مريم ـ ٩٧].

والخصام مصدر يقال : خاصمته خصاما ومخاصمة ، وقيل : إنّه جمع خصم كصعب وصعاب.

والمعنى : إنّه في نفسه من أشدّ الناس عداوة ومخاصمة للنبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وللمسلمين يضمر في قلبه كلّ عداوة للحق ولأهله.

٢٠٥ ـ قوله تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها).

التولّي إذا كان متعديا بنفسه يفيد معنى الإقبال والتوجه إلى شيء وإذا عدي ب (عن) لفظا أو تقديرا ـ كما في المقام ـ يكون بمعنى الإعراض

٢١٥

والانحراف عنه ، وقد استعمل هذا اللفظ في كلّ من التوجه والإعراض في القرآن الكريم في موارد كثيرة.

والسعي يأتي بمعنى المشي السريع دون العدو ، قال تعالى : (فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) [طه ـ ٦٦] ، ويستعمل في الجد والاجتهاد ، وفي كلّ من الخير والشّر ، قال تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) [النجم ـ ٤٠].

والفساد : خروج الشيء عن الاعتدال والاستقامة وهو خلاف الصّلاح. ويشمل جميع الأنحاء ، سواء كان قليلا أو كثيرا ، في الجزء أو الكلّ أو فيهما.

والمعنى : إذا تولّى عنك بعد إظهار الإيمان وحسن القول كانت غيبته مخالفة لحضوره وإنّ سعيه يكون على ضدّ ما قاله ، فهو يدّعي الصّلاح ويسعى في الأرض الفساد والخراب ، لسوء سريرته وفساد فطرته ، ولا همّ له إلا التمتع في الدنيا والكيد في الناس.

ويمكن أن يكون المراد أنّه إذا تولّى وصارت له الولاية في بلد من البلاد وتسلّط على الناس أظهر الظلم والفساد فيحدث بسوء ظلمه في الرعية ظلمة البلاد فيهلك الحرث والنسل ، ويدل عليه بعض الروايات كما يستفاد ذلك من سياق الآية أيضا.

قوله تعالى : (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ).

الهلاك : زوال الانتفاع المطلوب من الشيء وانتفاؤه ، سواء كان بزوال موضوعه أو بنحو آخر.

والحرث : إلقاء البذر في الأرض وتهيئته للزّرع ، ويطلق بالعناية على الزّرع ، ومطلق العمارة ، قال تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا) [الشورى ـ ٢٠].

وأصل النسل : الانفصال عن الشيء ، والولد يسمى نسلا لانفصاله عن صلب والده فلا يختص بالإنسان ، ويصح التعميم بالنّسبة إلى كلّ مفصول عن

٢١٦

شيء ، فيكون كالفصيلة المصطلح عليها في الأعم من النباتات أيضا.

والمعنى : أنّهم يبالغون في فسادهم وذلك بإفسادهم الحرث والنسل أي فساد الأرض والناس بأنواع الظلم والطغيان وأساليب الفتن والخراب وضروب الإيذاء.

وهلاك الحرث والنسل على قسمين :

قسم : يكون بسبب الاختلال في الأسباب الطبيعية من قتل ونهب وتعطيل أعمال الناس وأنحاء الظلم على ما هو المشاهد المحسوس عند وقوع هذه الأمور ـ كليّا أو جزئيا ـ فتهلك المزارع وتعطّل الصّنايع ، وتظهر في الناس البطالة وتختل أمورهم على كلّ حالة.

وقسم آخر يكون بسبب كثرة المعاصي وإفشاء الظّلم فتمنع السّماء بركاتها وتحبس الأرض خيراتها وتنزل النقمات والبليّات وهي مذكورة في القرآن الكريم ، قال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) [الروم ـ ٤١] ، وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف ـ ٩٦] ، وهذا القسم أهم وأعظم من الأول ، بل يكون كالنتيجة لما يحصل من ظلم الناس ومعاصيهم ، وقد حذّرنا الله تعالى من ذلك في القرآن الكريم بأساليب متعددة ، وسيأتي في الموضع المناسب بيان كيفية تأثير المعاصي في هذا العالم إن شاء الله تعالى.

والآية في المقام تشمل كلا القسمين من الفساد ، لإطلاقها وعدم تقييدها بقسم دون آخر.

ولا ريب في شمول الآية الكريمة للفساد المعنوي أيضا ، وهو تحريف الشرايع الإلهية التي أنزلها الله تعالى لإصلاح النفوس وتهذيبها بالأخلاق الفاضلة واعتدال أحوالها ، وسعادة الإنسان في الدّارين. فيكون عمل هذا الشخص المخالف ظاهره لباطنه تبديل الأحكام الإلهيّة وتغيير الكلم عن مواضعه ، والتصرّف في المعارف الربوبية وإشاعة الفساد وسفاسف الأخلاق

٢١٧

فيوجب ذلك محو نور الفطرة وفساد الأخلاق والفرقة والاختلاف ، وفي ذلك هدم لصرح الإنسانية الشامخ وفناؤها واضمحلال المجتمع الإنساني وإبادته ، وفساد الدّنيا واضطرابها. وأخيرا موت الدّين فتموت الإنسانية بموته فلم يكن الإنسان إلا من الهمج الرّعاع الذين هم أضلّ من الأنعام سبيلا.

ويدل على هذا المعنى ما ورد في بعض الروايات أنّ المراد بالحرث والنّسل هما الدّين والإنسانية.

وفي التاريخ كثير من هؤلاء في مختلف الأمم الذين غلبوا على البلاد وجلبوا الفتن والاضطراب وتصرّفوا في الدّين وما أنزله الله تعالى من الكتاب وأحيوا البدعة وأماتوا الحقّ وأبادوا أهله وانحرفوا عن جادة الصّواب وأعقبوا الدّمار والوبال فكان من سعيهم أنّه شاع الفساد وأصبح الدّين ملعب كلّ لاعب يتصرّف فيه بما شاء وأراد ، فقد أفنوا الإنسانية بسوء صنائعهم وأهلكوا الدّين بفساد الأخلاق وسيبقى الأمر كذلك حتى يغيّر الناس ما بأنفسهم ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد ـ ١١].

ومن ذلك يعرف أنّ مورد نزول الآية وإن كان شخصا خاصّا ـ وهو الأخنس بن شريق الثقفي كما يأتي في البحث الروائي ـ ولكن حكمها عام يشمل الجميع ، كما أنّها لا تختص بالمرائي كما قيل ، بل هي عامة تشمل الجميع وفي جميع الملل والقرون أي كلّ من خالف ظاهره باطنه ، وأنّ المرائي أحد أفراده ، وقد ورد عن عليّ (عليه‌السلام) : «يدعى المرائي بأربعة أسماء يوم القيامة : يا كافر ، يا مشرك ، يا فاسق ، يا منافق» وإنّ السبب الخاص لا ينافي عموم الحكم ، مع أنّ حكمها من القضايا العقلية.

قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ).

تقدّم معنى الفساد ، ولا ريب أنّه مبغوض له تعالى ويعاقب عليه.

وإنّما عبّر سبحانه في المقام بأنّه (لا يُحِبُّ الْفَسادَ) وقال تعالى في آية أخرى : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص ـ ٧٧] ، وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس ـ ٨١] ، لأنّ فساد شيء وعدم محبته

٢١٨

يستلزم مبغوضيته عقلا ، فبالدلالة العقلية تثبت المبغوضية وبالدلالة اللفظية يثبت عدم المحبة.

فيكون مثل هذا التعبير من الحكيم تعالى أوقع في نفوس أهل الإيمان في ترك الفساد من سائر التعبيرات وكذا في نظائر المقام.

وعباد الله المخلصين إنّما يتركون ما لا يحبّه الله تعالى فيزداد إيمانهم وتعلو درجاتهم. ومثل هذه التعبيرات نحو تمييز بينهم وبين غيرهم وبذلك تعرف درجات الإيمان ومراتب كماله.

ثم إنّ الفساد إما شخصي ، أو نوعي ، والجميع إما في المعتقدات أو في العادات أو الملكات والأخلاق أو في الأفعال ، والجميع إما أن يراه صاحبه حسنا أو يكون من الجهل المركب أو يعتقد قبحه ومع ذلك يرتكبه ، ولجملة مما ذكر مراتب مختلفة حتى أنّ ارتكاب المكروهات قد يكون من الفساد سيّما في الأخلاقيات والاجتماعيات.

ولأجل ذلك كرّر سبحانه وتعالى بتعبيرات مختلفة مذمّة الفساد والتحذير عنه ولعلّ أشمل التعبيرات لجميع هذه الخصلة السيئة قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ).

٢٠٦ ـ قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ).

التقوى : عبارة عن إتيان أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه ، أو الإصلاح وعدم الفساد.

والعزة : حالة تعرض للإنسان مانعة من أن يغلب ، وأصلها القوة والعزيز هو الذي يغلب ولا يغلب ، و (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) أي : حملته قوته التي يراها لنفسه على المخالفة ، وقد اكتسب العزّة من الإثم والنفاق والتفاف المنافقين حوله ، لأنّ كلّ منافق مغرور بقوّته وعزّته وهذه هي الحمية الجاهلية المذمومة ، وكما هو شأن كلّ مغرور بما لديه من القوّة والغلبة عند إرشاده إلى ما فيه صلاحه.

٢١٩

وليست هي العزّة الحقيقية التي تكون لله تعالى ولرسوله وللمؤمنين كما قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون ـ ٨] بل هي ادعائية وإنّها حالة يراها لنفسه اكتسبها من الإثم كما حكى الله تعالى عن أصحاب فرعون : (وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) [الشعراء ـ ٤٤].

والمعنى : إذا أمر بالتّقوى والإصلاح أخذته العزّة الظاهرة التي يراها لنفسه والتي اكتسبها من الإثم واجتماع أتباعه حوله على الضّلال فيأنف لما قيل له. أو فتدعوه عزّته على زيادة الإثم والفساد.

والباء في قوله تعالى : (بِالْإِثْمِ) إما للتعدية متعلقة ب (أَخَذَتْهُ) أو للسببية أي العزّة بسبب الإثم الذي في قلبه من الكفر والنفاق وما اكتسبه من الآثام.

قوله تعالى : (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ).

المهاد : المأوى من كلّ شيء ، وجهنّم مهاد للمنافق أي مأوى له ، والأرض مهاد للمشي والزرع ونحوهما. ومهد الصبيّ مأوى راحته.

والمعنى : إنّه تكفيه نار جهنم جزاء له على كفره ونفاقه وكبريائه ، وهي مأوى له ولبئس المهاد الذي مهّده لنفسه بسبب سوء أعماله ، وهذا الجزاء نتيجة حتمية على ما كان يفعله ، فهو من القضايا العقلية التي يغني نفس تصوّرها عن إقامة البرهان كما أنّ كون الجنّة مهادا للمتقين كذلك ، فالتّقوى توجب حصول نعم المهاد ، ومخالفتها موجبة للورود في بئس المهاد.

٢٠٧ ـ قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ).

هذا هو الصنف الذي يقابل الصنف الأول الذي يكون معتزّا بنفسه مضمرا للنفاق مكتسبا للآثام لا يرجى منه إلا الفساد والإفساد ولقد مهّد لنفسه بسبب سوء أعماله جهنّم ولبئس المهاد ، وهذا الصنف يقابله في جميع الصفات كما ستعرف.

والشراء من الأضداد يقال : شراه إذا باعه ، وشراه إذا اشتراه ، وقد

٢٢٠