مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٦

قوله تعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ).

العجلة : طلب الشيء وتحرّيه قبل أوانه ، وهي مذمومة في عامة آيات القرآن الكريم ، ولذا ورد : «إنّ العجلة من الشيطان والتأنّي من الرّحمن». نعم ورد مدحها في جملة من الموارد مذكورة في السنّة المقدّسة يأتي بيانها في محلّها إن شاء الله تعالى ، وقوله عزوجل في شأن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) [القيامة ـ ١٦] ، يمكن أن يكون من العجلة الممدوحة ، ومع ذلك أدّبه الله تعالى بأدب نفسه ترغيبا إلى التّأنّي مهما أمكن ويأتي الفرق بين العجلة والمسارعة في قوله تعالى : (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) [آل عمران ـ ١١٤].

والإثم والآثام : اسم للأفعال المبعدة عن الثّواب والخير ، ويطلق على العقوبة أيضا ، وله استعمالات كثيرة في القرآن الكريم.

و «لا» لنفي الجنس في الموضعين أي : لا إثم على الحاج وقد غفرت ذنوبه بما كان من حجته المبرورة.

والمعنى : فمن تعجّل النّفر من منى في يومين وهما يوم النفر والذي بعده ومن تأخر في النّفر إلى اليوم الثالث عشر لا إثم عليه في الحالتين لأنّه مغفور له سواء استعجل أو تأخر.

والآية تبيّن أمرين :

الأول نفي الإثم مطلقا عن المتنسّك فإنّه قد غفرت ذنوبه.

والثاني التخيير في النّفر فإنّ الاستعجال في النفر والتأخير سواء فهو مغفور له على أي حال ، وذلك لدفع توهّم أنّ في التعجيل إثما ، فيكون الكلام من باب المزاوجة التي تعد من أنحاء الفصاحة وإلا فإنّ التأخير فضيلة. كما يقال : إن أعلنت الصدقة فحسن وإن أسررتها فحسن أيضا وإن كان الإسرار أحسن وأفضل ولذلك نظائر كثيرة في كلمات الفصحاء.

قوله تعالى : (لِمَنِ اتَّقى).

١٨١

أي : لمن اتصف بصفة التّقوى التي هي من أجلّ المقامات فيكون بالنسبة إليه كلّ واحد من النفر الأول والثاني على حدّ سواء ، ويشمل ذلك التجنب عن محرّمات الإحرام كالصيد ونحوه فمقام المتقين أوجب التوسعة والتخيير لهم في النفر فيكون قوله تعالى : (لِمَنِ اتَّقى) قيدا لتمام الجملة التي قبله ، ويدل عليه بعض الأحاديث أيضا.

وقد يقال : إنّ المراد بقوله تعالى : (لِمَنِ اتَّقى) الاجتناب عن المحرّمات في الإحرام ويكون على هذا قيدا لخصوص (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) يعني أنّ من اجتنب المحرّمات في إحرامه لا بأس عليه أن ينفر في النفر الأول ، ويشهد عليه سياق الآيات الواردة في الحج بعد ملاحظة مجموعها كما تدل عليه جملة من الأحاديث.

ويمكن إرجاع هذا الوجه إلى الأول بعد القول بأنّ إطلاق التّقوى نص في المورد.

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

أمر بالتّقوى بفعل الطّاعات والاجتناب عن المعاصي ، والحث عليها وتذكير بالحشر والحساب فإنّ أمر التّقوى لا يتمّ إلا مع ذكر الحشر والحساب والجزاء ، فيكون ذلك داعيا إلى العمل وباعثا على ملازمة التّقوى قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) [ص ـ ٢٦] ، وقال جل شأنه : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [الحشر ـ ١٩] ، وإطلاق هذه الآية المباركة يشمل نسيان المبدأ والمعاد فأنساهم أنفسهم.

وفي الآية ترغيب إلى ملازمة التّقوى في جميع الحالات وإرشاد إلى عدم الاتكال على الطّاعات التي صدرت منه وعدم الاغترار بما فعل من الحسنات.

ومن تكرار الأمر بالتّقوى والذّكر يستفاد أنّه لا بد من ملازمتهما وتمكين النّفس منهما وعدم الغفلة عنهما بحال. وأنّ قبول الأعمال إنّما يكون بهما.

١٨٢

بحوث المقام

بحث دلالي

تدلّ الآيات الكريمة على أمور :

الأول : أنّ قوله تعالى : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) يدل على ثبوت حج التمتع وأنّ قوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) يدل على أنّه وظيفة الآفاقي دون الحاضر المقيم.

الثاني : أنّ الإتيان بضمير الجمع في قوله تعالى : (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) يدل على أنّ المناط رجوع الأصحاب إلى الأهل فلو أقام بمكة يقدر له زمان رجوع أصحابه إلى بلده ، فيجوز له حينئذ أن يصوم السبعة.

الثالث : أنّ قوله تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) يدلّ على أنّ هذه العشرة كاملة في النّسك تقوم مقام المبدل عنه في الحكم ، وقد تقدّم بعض الكلام في هذا التعبير فراجع.

الرابع : أنّ في قوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) كمال اللطف والعناية. وفيه إشارة إلى حكمة هذا التشريع فإنّ الإنسان في السفر يحتاج إلى الأهل ليخفف عنه ما قاساه من أهوال السّفر وأتعابه فيطمئنّ إليهم ويستريح عندهم والإحلال من إحرام العمرة والتمتع بما

١٨٣

حرّمه الله عليه بسبب إحرامه وعدم احتياج الإهلال بالحج إلى الذّهاب إلى الميقات مرة أخرى ، فيهلّ بالحج من المسجد الحرام أو غيره من أرض مكة كلّ ذلك مما يخفّف عنه ثقل ذلك عن النائي إذ لم يكن له أهل عند المسجد الحرام ولذا عبّر عنه بمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام.

الخامس : المنساق من قوله تعالى : (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) أنّ الأيام في الثلاثة وفي السبعة تكون متوالية.

السادس : يستفاد من قوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) أنّ أشهر الحج كانت معلومة عند العرب في الجاهلية ومعروفة قبل الإسلام وقد قرّرت الشريعة المقدّسة ذلك ولم تغيّرها.

السابع : يستفاد من قوله تعالى : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) أنّ للحج تحريما وتحليلا فمن شرع فيه يجب عليه إتمامه والتحلّل منه.

الثامن : إنّما ذكر سبحانه : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لأنه مع العلم يكون الإنسان أشد احترازا عن الوقوع فيما يوجب العقاب والعذاب ، ولأنّ العالم لا يخالف أمر الله تعالى ، لأنّ علمه يمنعه ويرجى مع العلم استصلاح الحال فيكون الإعلام بالعلم بشدة العقاب لطفا في التقوى للعالم به.

التاسع : من بلاغة القرآن أنّه تعالى صرّح في مقام الإضمار ، فذكر الحج ثلاث مرات والمراد من الأول : زمان الحج ، والثاني : الحج نفسه ، والثالث : ما يعم زمانه ومكانه. ولأنّ الله تعالى أراد من ذكره بالخصوص لبيان أنّ عدمها ليس تكليفا محضا يختص بمن فرض فيهنّ الحج بل هو مطلوب للشارع بنفسه وأنّ الحج بطبعه ينافر ذلك فلو قال تعالى : (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) لأوهم أنّه تكليف لمن فرض فيه الحج كذلك ، فيكون تكليفا خاصّا به لا من حيث طبيعة الحج.

العاشر : أنّ في قوله تعالى : (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) الاهتمام بنفي الجدال أشد من نفي الرّفث والفسوق ، لأنّ الجدال أهمّ وأعمّ ، ولذلك اهتم الجليل به وذكر الحج عقيبه.

١٨٤

الحادي عشر : أنّ في قوله تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) إشارة إلى تحقيق المساواة ، وترك التفاخر ، ولزوم الجماعة ، وللإعلام بأنّ الإفاضة شرع قديم وإرشاد إلى اختيار الإفاضة المشروعة المبنية على السكينة والوقار دون غيرها.

الثاني عشر : يستفاد من تكرار الأمر بالذّكر خمس مرّات شدة عناية الله بخلقه ، وذلك بالحضّ والترغيب بفعل الأصلح ، وإرشادهم إلى القيام بما هو كثير الفائدة والجزاء لهم فأمرهم بالذّكر في هذه المواطن الكريمة والأزمنة الشريفة.

الثالث عشر : إنّما شبّه ذكره تبارك وتعالى بذكر الآباء ، لأنّ أكثر الناس لا يغفلون عن ذكر الآباء والتفاخر بهم ، بل لا يخلو اجتماع بين أفراد الإنسان من التفاخر بما يرونه من الكمال ، ولم يكن جهة كمال في العصور الجاهلية إلا ذكر الآباء والأنساب والتفاخر بها فأرشدهم سبحانه إلى الأحسن والأصلح ، وهو ذكره تعالى لما فيه من النفع العظيم والأجر الجزيل. والترديد إنّما هو بلحاظ اختلاف التّقوى وتفاوتها في مراتب الذّكر ، فمنهم من يقنع بالذّكر كذكر الآباء ، ومنهم من يكون أشد.

الرابع عشر : أنّ في قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) لطفا ظاهرا وإعلاما بأنّ اجتماع الحجيج في المواطن الشريفة وإفاضتهم منها إنّما هي حشر مصغر لا بد أن يتذكر منه الحشر الأكبر ، وهو حشر الناس إلى الله تعالى.

١٨٥

بحث روائي

في الكافي والتهذيب وتفسير العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) قال : «هما مفروضان».

أقول : تمسك (عليه‌السلام) بظاهر الأمر الوارد في الآية المباركة بناء على أنّ وجوب الإتمام في هذا العمل يستلزم أصل الوجوب. والوجوب بالنسبة إلى حجة الإسلام من ضروريات الدّين ، ويدل عليه قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران ـ ٩٧] ، وأما بالنسبة إلى العمرة فإنّ العمرة التمتعية واجبة ويكفي في صدق الفرض ذات الطبيعة ولو في الجملة.

وفي العلل عن الصادق (عليه‌السلام) : «العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحج على من استطاع ، لأنّ الله يقول : وأتمّوا الحج والعمرة لله. قيل : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج أيجزي ذلك عنه؟ قال (عليه‌السلام) : نعم».

أقول : تقدم بيانه ولا وجه للإعادة مرّة أخرى.

وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «العمرة واجبة بمنزلة الحج لأنّ الله يقول : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) هي واجبة مثل الحج ، ومن تمتّع أجزأته ، والعمرة في أشهر الحج متعة».

أقول : صدر الرواية مرّ بيانه. وأما ذيلها فلأنّ الإحلال بعد الإحرام متعة

١٨٦

يتمتع بها المحلّ بما حرّم عليه بالإحرام.

في تفسير العياشي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما‌السلام) في قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) قالا : «فإنّ تمام الحج أن لا يرفث ، ولا يفسق ، ولا يجادل».

أقول : هذا بيان لأهم تروك الإحرام ، وأنّ ذلك من باب ذكر بعض أفراد التروك لا الحصر ، وقريب منه ما في الكافي والخصال والعيون.

وفي الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) قال (عليه‌السلام) : «يعني بتمامهما أداؤهما واتقاء ما يتقي المحرم فيهما».

في الكافي أيضا عنه (عليه‌السلام) قال : «إذا أحرمت فعليك بتقوى الله ، وذكر الله كثيرا وقلّة الكلام إلا بخير ، فإنّ من تمام الحج والعمرة أن يحفظ المرء لسانه إلا من خير ، كما قال تعالى : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ).

أقول : هذا يبيّن ما قلناه في معنى الإتمام.

وفي المجمع عن أمير المؤمنين والسجاد (عليهما‌السلام) : «يعني أقيموهما إلى آخر ما فيهما».

أقول : هذه الرواية تبيّن ما سبق من الروايات ، وتقدّم ما يدل على ذلك.

في الكافي والتهذيب عن معاوية بن عمار عن الصادق (عليه‌السلام) «المحصور غير المصدود ، وقال (عليه‌السلام) : المحصور هو المريض ، والمصدود هو الذي يرده المشركون ، كما ردوا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأنّه ليس من مرض ، والمصدود يحلّ له النساء والمحصور لا يحل له النساء».

أقول : نسب ذلك إلى المشهور بين الفقهاء أيضا.

١٨٧

وفي تفسير العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) قال : «يجزيه شاة والبدنة ، والبقرة أفضل».

أقول : يكون المراد بالاستيسار الاستيسار بالنسبة إلى النّوع.

وفي العيون عن الرضا (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) قال (عليه‌السلام) : «يعني شاة وضع على أدنى القوم قوة ليسع القويّ والضعيف».

أقول : هذا بيان لبعض حكم التشريع.

في التهذيب عنه (عليه‌السلام) : «في رجل أحصر في الحج قال (عليه‌السلام) : فليبعث بهديه إذا كان مع أصحابه ومحلّه أن يبلغ الهدي محلّه ومحلّه منى يوم النحر إذا كان في الحج ، وإن كان في عمرة نحر بمكة ، وإنّما عليه أن يعدهم لذلك يوما فإذا كان ذلك اليوم فقد وفى ، وإن اختلفوا في الميعاد لم يضرّه إن شاء الله تعالى».

أقول : المسألة مذكورة في الفقه ومن شاء فليراجع كتاب الحج من (مهذب الأحكام).

وفي الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) : «إذا أحصر الرجل بعث بهديه فإن أذاه رأسه قبل أن ينحر هديه فإنّه يذبح شاة في المكان الذي أحصر فيه ، أو يصوم ، أو يتصدّق ، والصّوم ثلاثة أيام ، والصّدقة على ستة مساكين نصف صاع لكلّ مسكين».

أقول : يصير مدّين أي : كيلو ونصف تقريبا من الطعام أو من كلّ ما يؤكل.

في التهذيب وتفسير العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «مرّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على كعب بن عجرة والقمل يتناثر من رأسه ، وهو محرم فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) له : أيؤذيك هوامك؟ فقال : نعم ، فأنزلت الآية : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) فأمره رسول الله

١٨٨

(صلى‌الله‌عليه‌وآله) أن يحلق رأسه ، وجعل الصيام ثلاثة أيام والصدقة على ستة مساكين ، مدّين لكلّ مسكين. والنسك : شاة. قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) وكلّ شيء في القرآن (أَوْ) فصاحبه بالخيار يختار ما شاء ، وكلّ شيء في القرآن (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) كذا ، فعليه كذا. فالأول بالخيار.

أقول : قوله (عليه‌السلام) مطابق للمحاورات العرفية ، كما ذكرنا في علم الأصول.

وفي صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : «كعب بن عجرة فيّ أنزلت هذه الآية قال أتيته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقال : أدنه فدنوت مرّتين أو ثلاثا. فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : أيؤذيك هوامك؟ ـ قال ابن عود وأظنه ـ قال نعم ، فأمرني بفدية من صيام أو صدقة أو نسك ما تيسّر».

أقول : المراد بالتيسر أي كلّ ما أمكن.

أحاديث حج التمتع :

في الكافي عن الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) قال : إنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حين حج حجة الإسلام خرج في أربع بقين من ذي القعدة حتّى أتى الشجرة فصلّى بها ، ثم قاد راحلته حتّى أتى البيداء فأحرم منها وأهلّ بالحج وساق مائة بدنة وأحرم الناس كلّهم بالحج لا ينوون عمرة ولا يدرون ما المتعة ، حتى إذا قدم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مكة طاف بالبيت وطاف الناس معه ثم صلّى ركعتين عند المقام واستلم الحجر ، ثم قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : أبدأ بما بدأ الله عزوجل به.

فأتى الصفا فبدأ بها ، ثم طاف بين الصفا والمروة سبعا فلما قضى طوافه عند المروة قام خطيبا وأمرهم أن يحلّوا ويجعلوها عمرة وهو شيء أمر الله عزوجل به فأحلّ الناس وقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم ، ولم يكن يستطيع أن يحلّ من أجل الهدي الذي كان معه إنّ الله عزوجل يقول : (لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ).

١٨٩

فقال سراقة بن جشعم الكناني : يا رسول الله علّمنا ديننا كأنّا خلقنا اليوم. أرأيت هذا الذي أمرتنا به لعامنا أو لكلّ عام؟ فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : لا بل للأبد ، وإنّ رجلا قام فقال : يا رسول الله نخرج حجاجا ورؤوسنا تقطر!! فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : إنّك لن تؤمن بهذا أبدا قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : وأقبل عليّ (عليه‌السلام) من اليمن حتى وافى الحج فوجد فاطمة قد أحلّت ، ووجد ريح الطيب فانطلق إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مستفتيا ، فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : يا علي بأيّ شيء أهللت؟ فقال (عليه‌السلام) أهللت بما أهلّ به النبيّ. فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : لا تحلّ أنت فأشركه في الهدي وجعل له سبعا وثلاثين ، ونحر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ثلاثا وستين فنحرها بيده. ثم أخذ من كلّ بدنة بضعة فجعلها في قدر واحد ، ثم أمر به فطبخ فأكل منه وحسا من المرق ، وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : قد أكلنا منها الآن جميعا ، والمتعة خير من القارن السائق ، وخير من الحاج المفرد. قال : وسألته (عليه‌السلام) أليلا أحرم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أم نهارا؟ فقال (عليه‌السلام) : نهارا فقلت : أي ساعة؟ قال (عليه‌السلام) : صلاة الظهر».

أقول : روي قريب من هذا المعنى في عدة روايات.

وفي التهذيب عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ، لأنّ الله يقول : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) فليس لأحد إلا أن يتمتع ، لأنّ الله أنزل ذلك في كتابه ، وجرت به السنة من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

أقول : تقدّم ما يدل في الروايات السابقة.

وفي الدر المنثور عن البخاري ومسلم عن ابن عمر قال : «تمتع رسول الله في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى ، فساق معه الهدي من ذي الحليفة ، وبدأ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فأهلّ بالعمرة ، ثم أهلّ بالحج فتمتع الناس مع النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ، ومنهم من لم يهد ، فلما قدم النبيّ (صلّى الله عليه

١٩٠

وآله) مكة قال للناس : من كان منكم أهدى فليطف بالبيت ، وبالصّفا والمروة ، وليقصّر وليحلّ ، ثم ليهلّ بالحج فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله».

أقول : قد كثرت الرّوايات في ذلك عن العامة بعدة طرق.

وفي صحيح البخاري ومسلم والنسائي عن أبي موسى قال : «قدمت على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهو بالبطحاء ـ فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أهللت؟ قلت : أهللت بإهلال النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) هل سقت من هدي؟ قلت : لا. قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : طف بالبيت وبالصفا والمروة ، ثم حلّ ، فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ، ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني رأسي وغسلت رأسي ، فكنت أفتي الناس في إمارة أبي بكر وإمارة عمر ، فإنّي لقائم بالموسم ، إذ جاءني رجل ، فقال : إنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك. فقلت : أيّها الناس من كنا أفتيناه بشيء فليبتد ، فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فيه فأتموا فلما قدم ، قلت : ماذا الذي أحدثت في شأن النسك؟ قال : أن نأخذ بكتاب الله فإنّ الله قال : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وأن نأخذ بسنّة نبيّنا (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لم يحل حتى نحر الهدي».

وفي مسند أحمد عن أبي موسى أنّ عمر قال : «هي سنة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ـ يعني المتعة ـ ولكن أخشى أن يعرّسوا بهنّ تحت الأراك ثم يروحوا بهنّ حجاجا.

وفي صحيح الترمذي وزاد المعاد : «سئل عبد الله بن عمر عن متعة الحج قال : هي حلال ، فقال له السائل : إنّ أباك قد نهى عنها ، فقال : أرأيت إن كان أبي نهى وصنعها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أأمر أبي تتبع ، أم أمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)؟!! فقال الرجل : بل أمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقال : لقد صنعها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وفي سنن البيهقي عن مسلم عن أبي نضرة عن جابر قال : «قلت : إنّ

١٩١

ابن الزبير ينهى عن المتعة وابن عباس يأمر بها قال : على يدي جرى الحديث تمتعنا مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومع أبي بكر ، فلما ولي عمر خطب الناس ، فقال : إنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) هذا الرسول ، والقرآن ، هذا القرآن وإنّهما كانتا متعتين على عهد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما ، إحداهما متعة النساء ، ولا أقدر على رجل تزوج امرأة إلى أجل الا غيبته بالحجارة ، والأخرى متعة الحج».

أقول : الروايات في مضامين هذه الأخبار كثيرة مروية في صحاحهم تدلّ جميعها على تشريع المتعتين عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وعمل الصحابة بهما ، فإن كان نهي الخليفة في مقابل النبي الأعظم وردا له (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فإنّ أحدا من المسلمين لا يرتضي بذلك ، ولذا اعترض بعض الصحابة في عصره عليه ، وإن كان لأجل مصلحة الوقت التي رآها الخليفة باجتهاده فهو إنّما ينفع للوقت الخاص وللأشخاص المخصوصين كما أثبتوا ذلك في أصولهم ولا ينفع ذلك للحكم الأبدي.

مع أنّ الاستدلال عليه بأنّه يوجب التمتع بالنساء والرّواح تحت الأراك والتعريس بهنّ فهو مجمل لا يمكن أن يكون سببا للتحريم بعد حلية النبي الأعظم له ، واجتهاد في مقابل النص الذي اتفق المسلمون على بطلانه.

مع أنّه يجري في من حج التمتع ابتداء الذي اتفق جميع الفقهاء على صحته ، فيكون هذا القول مخالفا للنص وإجماع الفقهاء.

وفي الدر المنثور أخرج مسلم عن عبد الله بن شفيق قال : «كان عثمان ينهى عن المتعة وكان عليّ يأمر بها ، فقال : عثمان لعليّ كلمة. فقال عليّ (عليه‌السلام) : لقد علمت أنّا تمتعنا مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : أجل ولكنّا كنّا خائفين».

أقول : هذا أحد الإشكالات التي أوردوها على حج التمتع.

وفيه مضافا إلى قصور السند قصور الدلالة فإنّه كيف يمكن أن يكونوا خائفين مع كونهم مع النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وفي منعة وقوة

١٩٢

عظيمة إذ أنّ تشريع حج التمتع إنّما كان في حجة الوداع والمسلمون في منعة وشوكة.

وإن أراد بذلك قوله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) فهو مردود لأنّ الآية تبيّن كليّ الحكم لا أنّ أصحاب الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في خوف في حجة الوداع ، أو أنّه شرط في هذا الحكم.

وفي الدر المنثور أخرج مسلم عن أبي ذر قال : «لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة يعني : متعة النساء ومتعة الحج».

أقول : هذا هو الإشكال الثاني.

وفيه أيضا أخرج ابن أبي شيبة ومسلم عن أبي ذر : «كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) خاصة».

أقول : هذا مخالف للروايات الصحيحة الدالة على أنّهما مشروعان إلى الأبد ، ولعلّ مراده «لنا خاصة» أي لمن يعلم خصوصيات الموردين فيعمّ كلّ مسلم عالم بالحكم وشرائطه.

ويأتي في البحث الفقهي ما يرتبط بحج التمتع أيضا.

في الكافي والتهذيب في قوله تعالى : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) عن الصادق (عليه‌السلام) : «شاة».

أقول : إنّه محمول على أقلّ ما يجزي بقرينة التفصيل التي تقدّمت في الروايات السابقة.

في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) أيضا : «في المتمتع لا يجد الهدي؟ قال : يصوم قبل يوم التروية بيوم ، ويوم التروية ، ويوم عرفة. قلت : فإنّه قدم يوم التروية قال (عليه‌السلام) : يصوم ثلاثة أيام بعد التشريق قلت : لم يقم عليه جماله؟ قال (عليه‌السلام) يصوم الحصبة وبعده يومين قلت وما الحصبة؟ قال (عليه‌السلام) : يوم نفره ، قلت : يصوم وهو مسافر؟ قال (عليه‌السلام) : نعم ، أليس هو يوم عرفة مسافر إنا أهل بيت نقول ذلك لقول الله عز

١٩٣

وجل (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) نقول في ذي الحجة».

أقول : هذا تخصيص لما دلّ على عدم جواز الصوم للمسافر.

وفي التهذيب عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : «كنت قائما أصلّي وأبو الحسن موسى بن جعفر (عليه‌السلام) قاعد قدامي ، وأنا لا أعلم به فجاءه عباد البصري فسلّم عليه وجلس فقال له : يا أبا الحسن ما تقول في رجل تمتع ولم يكن له هدي؟ قال (عليه‌السلام) : يصوم الأيام التي قال الله.

قال : فجعلت اصغي إليهما ، فقال له عباد : وأيّ أيام هي؟ قال (عليه‌السلام) : قبل التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة ، قال : فإن فاته ذلك؟ قال (عليه‌السلام) : يصوم صبيحة الحصبة ويومين بعده. قال : أفلا تقول كما قال عبد الله بن الحسن؟ قال (عليه‌السلام) : وأيّ شيء قال؟ قال : يصوم أيام التشريق. قال (عليه‌السلام) : إنّ جعفرا (عليه‌السلام) كان يقول : إنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أمر بلالا ينادي أنّ هذه أيام أكل وشرب فلا يصومنّ أحد. فقال : يا أبا الحسن إنّ الله قال : (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ). قال (عليه‌السلام) : كان جعفر (عليه‌السلام) يقول : ذو الحجة كلّه من أشهر الحج».

أقول : في سياقه وردت روايات كثيرة من الخاصة والعامة.

في الكافي عنهم (عليهم‌السلام) في قوله تعالى : (إِذا رَجَعْتُمْ) : «إن بدا له الإقامة بمكة نظر مقدم أهل بلاده فإذا ظنّ أنّهم قد دخلوا فليصم السبعة».

أقول : استفاد (عليه‌السلام) ذلك من قوله تعالى : (إِذا رَجَعْتُمْ) وقد مرّ في التفسير فراجع.

وفي تفسير العياشي عن موسى بن جعفر (عليه‌السلام) : «سألته عن صوم ثلاثة أيام في الحج والسبعة أيصومها متوالية أم يفرّق بينها؟ قال (عليه‌السلام) : يصوم الثلاثة والسبعة لا يفرّق بينها ، ولا يجمع الثلاثة والسبعة جميعا».

١٩٤

أقول : يستفاد ذلك من ظاهر الآية المباركة.

وفي التهذيب في قوله تعالى : (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) قال الصادق (عليه‌السلام) : «كمالها كمال الاضحية سواء أتيت بها أو أتيت بالأضحية تمامها كمال الأضحية».

أقول : تقدم أنّه يستفاد من الآية ذلك.

في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) قال : «من كان منزله على ثمانية عشر ميلا من بين يديها ، وثمانية عشر ميلا من خلفها ، وثمانية عشر ميلا عن يمينها ، وثمانية عشر ميلا عن يسارها فلا متعة له مثل (مر) وأشباهها».

أقول : الروايات في التحديد مختلفة تجمعها هذه الرواية وأمثالها.

ومر : موضع بقرب مكة من جهة الشام على قدر مرحلة.

وفي التهذيب عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قول الله تعالى قال : «يعني أهل مكة ليس عليهم متعة كلّ من كان أهله دون ثمانية وأربعين مثلا ذات عرق ، وعسفان يدور حول مكة فهو ممن دخل في هذه الآية : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وكلّ من كان أهله وراء ذلك فعليهم المتعة».

وفي التهذيب أيضا عن الصادق (عليه‌السلام) : «ما دون المواقيت إلى مكة فهو حاضري المسجد الحرام وليس لهم متعة».

أقول : لا بد وأن تحمل هذه الرواية على ما مرّ بعد رد بعضها إلى بعض.

وفي الكافي عن الباقر (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) قال : «شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ليس لأحد أن يحج فيما سواهن».

أقول : قد ورد في ذلك عدة روايات وفي بعضها «ومن أحرم بالحج في

١٩٥

غير أشهر الحج فلا حج له».

وفي الكافي وتفسير العياشي في قوله تعالى : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) قال الصادق (عليه‌السلام) : «والفرض التلبية والإشعار والتقليد فأيّ ذلك فعل فقد فرض فيهنّ الحج».

وفي الكافي في قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ) قال الصادق (عليه‌السلام) : «إذا أحرمت فعليك بتقوى الله وذكر الله كثيرا ، وقلّة الكلام إلا بخير ، فإنّ من تمام الحج والعمرة أن يحفظ المرء لسانه إلا من خير ، كما قال الله عزوجل : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) والرّفث : الجماع ، والفسوق : الكذب والسباب ، والجدال : قول الرجل : لا والله وبلى والله ـ الحديث ـ».

أقول : يأتي ما يتعلق بهذه الرواية في البحث الفقهي إن شاء الله تعالى.

وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) قال الصادق (عليه‌السلام) : «يعني الرّزق فإذا أحلّ الرجل من إحرامه ، وقضى نسكه فليشتر وليبع في الموسم».

أقول : تدلّ عليه العمومات والإطلاقات وأنّ الآية المباركة نزلت لرفع توهم الحظر كما يدل عليه الحديث الآتي.

وروى في المجمع عن جابر عن الباقر (عليه‌السلام) : «ليس عليكم جناح أن تطلبوا المغفرة من ربكم».

أقول : لا منافاة بين هذه الرواية وما تقدّم من الروايات لأنّ الرزق أعم من المعنوي والظاهري.

وفي الدر المنثور : «كان ذو المجاز وعكاظ متجرا للناس في الجاهلية فلما جاء الإسلام كأنّهم كرهوا ذلك حتى نزلت هذه الآية».

وفي الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) في حج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ثم غدا والناس معه ـ إلى أن قال ـ وكانت قريش تفيض من المزدلفة

١٩٦

ـ وهي جمع ـ ويمنعون الناس أن يفيضوا فأنزل الله عزوجل عليه (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) يعني إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق في إفاضتهم منها ومن كان بعدهم».

أقول : يستفاد من الحديث أنّ المراد بالناس خصوص من كان ملتفتا إلى أحكام الإفاضة ، كما يدلّ عليه الحديث الآتي.

وفي تفسير العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) قال : «يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ومن بعدهم من أفاض من عرفات».

وفي رواية عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «إنّ قريشا كانت تفيض من جمع ، ومضر ، وربيعة من عرفات».

أقول : إنّ الآية المباركة نزلت في رفع هذه العادة السيئة.

وفي المجمع عن الباقر (عليه‌السلام) : «كانت قريش وحلفاؤهم من الحمس لا يقفون مع الناس بعرفات ، ولا يفيضون منها ، ويقولون : نحن أهل حرم الله تعالى فلا نخرج من الحرم ، فيقفون بالمشعر ويفيضون منه فأمرهم الله تعالى أن يقفوا بعرفات ويفيضوا منه».

أقول : قد روي قريب منه في الدر المنثور ، وتقدم الكلام عن الحمس في البحث الروائي من آية ١٨٩.

في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) قال : «رضوان الله والجنة في الآخرة ، والمعاش ، وحسن الخلق في الدنيا».

وفي رواية أخرى عنه (عليه‌السلام) أيضا : «رضوان الله والتوسعة في المعيشة ، وحسن الصحبة ، وفي الآخرة الجنة».

وعن عليّ (عليه‌السلام) : «في الدنيا المرأة الصالحة ، وفي الآخرة الحوراء ، وعذاب النار المرأة السوء».

١٩٧

أقول : لا منافاة بينها لأنّ ذلك من بيان بعض المصاديق.

وفي المجمع عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) قال : «إنّه يحاسب الخلق دفعة كما يرزقهم دفعة».

في تفسير العياشي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قوله الله عزوجل : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) قال : «قال عليّ (عليه‌السلام) : التكبير في أيام التشريق في دبر الصلوات».

وفي الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) في قول الله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) قال : «التكبير في أيام التشريق من صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثالث ، وفي الأمصار يكبّر عقيب عشر صلوات».

أقول : يأتي ما يتعلّق بذلك في البحث الفقهي.

في الفقيه في قوله تعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : «ليس هو على أنّ ذلك واسع إن شاء صنع ذا ، لكنّه يرجع مغفورا له لا ذنب له».

أقول : قريب منه في تفسير العياشي والمراد منه أنّه ليس على التخيير مطلقا.

وفي الفقيه أيضا في قوله تعالى : (لِمَنِ اتَّقى) قال الصادق (عليه‌السلام) : «يتقي الصيد حتى ينفر أهل منى».

وفي تفسير العياشي عن الباقر (عليه‌السلام) : «لمن اتقى منهم الصيد ، واتقى الرّفث ، والفسوق ، والجدال ، وما حرّم الله عليه في إحرامه».

وعن الصادق (عليه‌السلام) : «لمن اتقى الكبائر».

وعن أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) : «لمن اتقى الله عزوجل».

أقول : كلّ ذلك صحيح ولكنّ الظاهر المنساق من الآية اتقاء ما حرّم في الإحرام.

١٩٨

بحث فقهي

تضمنت الآيات الشريفة كثيرا من أحكام الحج وشرحتها السنة المقدّسة شرحا وافيا وقد ذكرها الفقهاء في كتبهم الفقهية. ونحن نذكر المهمّ المستفاد من هذه الآيات في المقام وهي :

الأول : دلّت الآية الشريفة (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ). على أنّ الحج والعمرة من العبادات المتوقفة على قصد القربة ، كما تدلّ على وجوب إتيانهما تامّين جامعين للأجزاء والشرائط ، وعلى وجوب إتمامهما بعد الشروع فلا يجوز الإحلال إلا بعد تمام أفعال الحج والعمرة ، فمن أفسد حجه أو عمرته لجهة من الجهات لا يبطلان ويجب عليه المضي فيه والإتمام ثم الإحلال ، وحينئذ فإن كان فيه القضاء وجب وإلا فلا. وتفصيل ذلك يطلب من الفقه.

كما تدل على وجوب العمرة وأنّها بمنزلة الحج ، وتدلّ عليه روايات كثيرة مروية من الفريقين ذكرنا بعضها في البحث الروائي.

والآية المباركة لا تدل على أنّ الحج والعمرة واجبان فلا بد من إثبات الوجوب لهما من دليل آخر :

أما الحج : فقد دلّت الآية الشريفة (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران ـ ٩٧] والنصوص المتواترة بين الفريقين بل الضرورة الدّينيّة على وجوب حجة الإسلام مع استجماع الشرائط.

١٩٩

وأما العمرة : فقد دلّت على وجوبها السنة كما ذكرناها في الفقه ، وتكفي عمرة التمتع عن العمرة الواجبة ويكون كلّ منهما مندوبا بالذات ويجبان بالعارض من نذر ونحوه.

الثاني : أنّ قوله تعالى : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) يدل على أنّ مطلق المنع من إتمام الحج والوصول إلى بيت الله الحرام لأداء المناسك سواء كان السّبب عدوّا أم مرضا أم غير ذلك يوجب تبدل الحكم بالنسبة إلى المحصور مطلقا وأنّ قوله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) لا تكون قرينة على أنّ المراد هو الحصر من العدوّ بل هو عام يشمل الأمن من رفع المانع ، ولكن تكرّر في الروايات أنّ المحصور غير المصدود فالأول هو المريض والثاني هو الذي يرده المشركون كما صدوا النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن الحج عام الحديبية.

والظاهر : أنّ الحصر متعلّق بالحج والعمرة كليهما فلا اختصاص له بالأول فقط لأنّه ذكر عقيبهما فيرجع إليهما معا.

الثالث : يدل قوله تعالى : (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) أنّ للهدي محلّا معيّنا لا يجوز ذبحه في غيره ، ولكنّه تعالى أجمل ذلك وقد حدّدته السنة المقدّسة بمكة المكرمة أو منى ، ونظيره قوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح ـ ٢٥].

ويستفاد من الآية الشريفة : أنّه لا يجوز الحلق والتحلّل من الإحرام (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) سواء ذبح أم لا ويدلّ عليه صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «سألته عن رجل أحصر فبعث الهدي قال : يواعد أصحابه ميعادا إن كان في الحج فمحلّ الهدي يوم النّحر فإذا كان يوم النحر فليقص من رأسه ولا يجب عليه الحلق حتى تنقضي مناسكه وإن كان في عمرة فلينتظر مقدار دخول أصحابه مكة والساعة التي يعدهم فيها ، فإذا كان تلك الساعة قصّر وأحلّ» وعليه فلو ظهر خلاف المواعدة وأنّ أصحابه لم يكونوا قد ذبحوا عنه أصلا أو ذبحوه بعد تحلّله فإنّه لا شيء عليه ، ويدلّ على ذلك صحيحة معاوية بن عمار أيضا عن الصادق (عليه‌السلام) : «فإن

٢٠٠