مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٦

(تهذيب الأصول). ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين ، وسيأتي في البحث الفقهي ما يرتبط بذلك.

والفاء في قوله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) للتفريع على الإحصار. كما أنّ الباء للسببية.

أي : تمتع بسبب العمرة بأن ختمها وأحل منها ، فإنّه يتمتع بما كان محرما عليه حال الإحرام حتى يهلّ بالحج.

والمعنى : فإذا أمنتم بارتفاع المانع من عدوّ ، ومرض ونحوهما فمن كان متمتعا بالعمرة بأن أحلّ منها إلى وقت الإهلال بالحج فعليه ما استيسر من الهدي.

قوله تعالى : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ).

أي : عليه ما استيسر من الهدي يذبحه في منى كلّ بحسب حاله من إبل أو بقر أو شاة.

والظاهر من الآية المباركة أنّه دم نسك لا جبران لما فات منه من الإهلال بالحج من الميقات ، كما قال به الشافعي.

قوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ).

أي : فمن لم يجد الهدي لعدم التمكن من المال لشرائه أو لعدم وجدانه ، فعليه صيام ثلاثة أيام من الأيام التي من شأنها أن يقع فيها الإحرام بالحج.

وفي جعل الحج ظرفا للصيام باعتبار اتحاد زمانهما ، وذلك لأنّ الزمان الذي يعدّ عرفا من الحج هو من زمان الإحرام إلى الحج إلى الانتهاء عنه ، فتكون أيام الصيام هي يوم التروية وما قبله وما بعده ومن فاته في ذلك فعليه الصيام بعد أيام التشريق ، ولا يصح الصيام فيها ، وفي ذلك وردت روايات كثيرة من السنة المقدّسة ، وعليه الإجماع ، وسيأتي في البحث الروائي ما يدل على ذلك.

١٦١

قوله تعالى : (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ).

التفات من الغيبة إلى الحضور لبيان أنّ السبعة بعد الرجوع لا حينه.

أي : وسبعة بعد الرجوع إلى أهله ووطنه ، فلا يكفي إرادة الرجوع ، أو حينه.

قوله تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ).

إجمال بعد تفصيل أي : أنّ تلك الأيام الثلاثة في أيام الحج ، والسبعة بعد الرجوع إلى الأهل عشرة كاملة في النسك.

ويستفاد من هذه الآية أمور :

منها : أنّ تلك الأيام العشرة تعد نسكا واحدا عند الله تعالى لا يضرّ الفصل فيها وإن بلغ ما بلغ.

ومنها : أنّه لا يضر إتيان السبعة في غير أيام الحج ، بل في غير أشهره.

ومنها : أنّه لا يفسدها الصوم في السفر.

ومنها : أنّ كلّ واحدة من الثلاثة أو السبعة عمل خاص وتام في حدّ نفسه ، وله حكمه وإنّما الأخيرة مكملة للأولى.

ومنها : دفع توهم الإباحة والاستغناء بإحديهما.

ومنها : الاهتمام بالعشرة والتأكيد على إتيانها كاملة من دون نقص ولا إغفالها بوجه.

ومنها : إفادة أنّ البدل يقع مقام المبدل منه كاملا وأنّه كامل ككمال الهدي والاضحية.

قوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

ذلك : إشارة إلى التمتع بالعمرة إلى الحج ، والأهل يقال : لمن يختص بشيء ، سواء كان ذلك الشيء إنسانا أم غيره. يقال : أهل الرجل ، وأهل الدار ، وأهل الذكر. والآل لا يقال إلا فيما إذا كان للمختص به شرف ، سواء كان دنيويا ، كقوله تعالى : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر ـ ٤٦] ، أم

١٦٢

معنويّا كآل موسى وهارون. أم هما معا كآل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وحاضري من الحضر ـ بفتحتين ـ والحضور خلاف البعد ، والغيبة ، والبدو. والمراد به : المقيم عند المسجد الحرام ، وليس المراد منه مقابل السفر.

والمستفاد من الآية : أنّ المدار صدق الحضور عليه مقابل النائي فيدخل فيه من كان مقيما في الحرم ، وقد حدّدته السنة الشريفة بما إذا كان بينه وبين المسجد الحرام بما يعادل أقل من ثمانية وثمانين كيلو مترا والنائي من يكون أكثر من ذلك.

وحج التمتع وظيفة الآفاقي الذي يأتي من آفاق الأرض ، ولم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فقد أمر بالإهلال من المسجد الحرام أو غيره بعد الإحلال من إحرام العمرة وجواز التمتع بما كان محرما عليه بسبب الإحرام ، ذلك تخفيف من ربّه عليه لتحمّله مشقة السفر ومقاساته لعنائه ، وفي العبارة من اللطف والعناية ما لا يخفى.

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ).

أي : اتقوا الله بطاعته وامتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه ، ويستفاد منه أنّ الحكمة في جعل الأحكام الإلهيّة إنّما هي التقوى ، كما في قوله تعالى : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) [الحج ـ ٣٧].

كما يستفاد من الأمر بالتقوى في المقام أنّ هناك مخالفة تصدر وعصيان على هذا الحكم ، فأمرهم بملازمة التقوى ، وإتيان الأحكام الشرعية على وجهها المطلوب من دون تعيير وتبديل.

قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

حذرهم من المخالفة وهتك الحرمات ، وأوعد عليها لما يعلمه تعالى من عبث الأهواء في هذا الأمر ، فإنّ الحج من الأمور التي كانت سائدة عند العرب من عصر إبراهيم (عليه‌السلام) وقد دخلته عادات وتقاليد لم يمضها الإسلام ، فلم يكن التغيير أمرا سهلا على نفوس اعتادت بعض الأمور ، ولذا

١٦٣

فقد قابلوا الوضع الجديد بالإنكار والمخالفة فكان ذلك هو الموجب لهذا التشديد والتوعيد على المخالفة ، ولذلك كلّه تعهّد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) هذا التشريع الجديد بوجوه من الكلام في خطبته المباركة تضمّنت كثيرا من أحكام الحج. وأكّد عليه بأنحاء التأكيدات ، فأمر (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بأنّه حكم أبدي لا يدخله أي تغيير وعام لا يستثنى منه أحد.

١٩٧ ـ قوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ).

أي : إنّ زمان الحج أشهر معلومات معيّنات ، ومعروفات عند الناس ، وهي : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، كما تدل عليه السنة المقدسة ، فلا يقع شيء منه في غيرها وإن كان ذلك الإحرام لأنّه من أجزاء الحج ، وكذلك عمرة التمتع لأنها من الحج ، ويدل عليه الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».

فما ذكره بعض الفقهاء من أنّه يجوز تقديم الإحرام في غيرها لأنّه شرط للحج ، كالطّهارة للصلاة فيجوز التقديم على وقت الأداء. غير صحيح كبرى وصغرى كما هو مذكور في كتب الفقه.

والمراد من الآية : أنّ مجموع الوقت من الأشهر الثلاثة وقت للمجموع من أفعال الحج فلا ينافي كون بعض الشهر هو زمان الحج فقط ، كما لا ينافي اختصاص بعض أفعال الحج ببعض الأيام ، لجريان العرف على عدّ جزء من الزّمان منزلة الكلّ ، وعدّ جزء من العمل منزلة تمامه ، يقال رأيته يوم الجمعة وإنّما رآه في بعضه دون الجميع وكذا اجتمعت معه سنة كذا ، وغير ذلك.

ويستفاد من قوله تعالى : (مَعْلُوماتٌ) أنّه لا يجوز تأخيرها وإنساؤها إلى شهر آخر ، كما كان المشركون يفعلونه.

قوله تعالى : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ).

مادة (فرض) تأتي بمعنى قطع الشيء الصّلب ، والتأثير فيه ، قال تعالى حكاية عن الشيطان : (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) [النساء ـ ٧] ،

١٦٤

أي : مقطوعا معلوما ، وتستعمل في فرائض الله تعالى لأنّها تقطع الأوهام والشكوك والمحتملات بالنسبة إلى موردها.

ويطلق في اصطلاح الفقهاء على المواريث أيضا لأنّها تقطع وتقسم من مال الميت ، ونسب إلى نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «تعلموا الفرائض فإنّها نصف العلم». وفي الحديث عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أيضا : «إنّما العلم ثلاثة : آية محكمة ، أو فريضة عادلة ، أو سنة قائمة».

وفرائض الله تعالى هي : الأحكام التي أوجبها على العباد ، والفرق بين الفرض والوجوب من وجوه :

الأول : أنّ الفرض يختص بالنسبة إلى ما فرضه الله تعالى فقط بخلاف الوجوب فإنّه أعم ، يقال : وجوب عقلي ، ولا يقال : فريضة عقلية.

الثاني : الوجوب يطلق ولو على مرتبة الإنشاء ، والفرض لا يطلق إلا على مقام العمل.

الثالث : يطلق الفرض في الشريعة على ما ألزمه الله تعالى ، بخلاف الوجوب فإنّه أعمّ من السنة وما فرض الله جلّ شأنه.

والمعنى : فمن أوجب على نفسه الحج فيهنّ وذلك بالشروع فيه بعقد الإحرام إمّا بالتلبية أو الإشعار بالهدي أو التقليد.

قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ).

نفي لجنس هذه الأمور الثلاثة مبالغة وهو يتضمن النّهي عنها ، وهذا أبلغ.

أي : إنّ الحج بطبعه والحكمة في تشريعه يأبى هذه الأمور كما يستفاد من تكرار لفظ «الحج» أيضا.

وتقدم الكلام في الرّفث في آية ١٨٧ من هذه السورة ، ويراد به كلّ ما يستقبح ذكره من الجماع ودواعيه ، وقد يكنّى به عن نفس الجماع ، فالرّفث

١٦٥

بالفرج الجماع ، وباللسان المواعدة عليه ، وبالعين الغمز له.

ومادة (فسق) تأتي بمعنى الخروج ، يقال : فسق الرطب إذا خرج عن قشره ، ويستفاد من موارد استعمالاتها أنّ الفسق خروج الشيء من الشيء على وجه الفساد ، ومنه الفسق في الشرع وهو الخروج عن الطاعة ، وهو أعم من الكفر ، والعصيان أعم منهما ، وقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة فيما يقرب من أربعين موردا كلّها تشعر بالذّم ، وفي المتعارف يستعمل فيمن عرف بذلك. ويقال للفأرة : الفويسقة ، لأنّها تخرج من بيتها مرة بعد أخرى ، وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «اقتلوا الفويسقة فإنّها توهي السقاء وتضرم البيت على أهله» ، وعنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أيضا : «خمس فواسق تقتل في الحل والحرم : الغراب ، والحداءة ، والكلب ، والحية ، والفأرة» وشرح هذا الحديث يطلب من كتب الفقه في مسائل تروك الإحرام.

والمراد بالفسوق هنا : مطلق ارتكاب المناهي ، وما يوجب الخروج عن طاعة الله عزوجل ، وهو وإن كان حراما في غير الحج أيضا ولكن تكون حرمته في الحج أشدّ وآكد ، فإنّ قصد الحاج السّفر إلى الله تعالى والإقبال عليه عزوجل ، ومع تلبسه بالفسوق يكون خارجا منه وبعيدا عنه تعالى ، ولأنّ في الحج تكون حالة الارتباط والاتصال بساحة ذي الجلال فما أقبح القطع والانفصال في مثل هذا الحال.

والجدال : المفاوضة على نحو المنازعة والمغالبة ، والمراء بالكلام ، وهو داخل في المصارعة لأنّها إمّا بالآلات الخارجية أو باليد ، أو باللسان. والأخير يسمى جدالا ، وما كان منه لغير الله فهو قبيح ، وما كان لإظهار الحقّ فهو حسن ، وما كان لتثبيته وإيضاحه فهو أحسن.

وقد فسّر الجدال في الآية المباركة في السنة بقول : «لا والله ، وبلى والله».

والظاهر أنّ الآية المباركة تنهى عن أمور كانت متبعة عند العرب في

١٦٦

زيارتهم لبيت الله الحرام وحجهم له ، فقد كانت الأسواق في الموسم تعقد للمفاخرة بين القبائل وكان يجري فيها ، التنابز بالألقاب والخصام والمراء ، وغير ذلك من المناهي المتعلقة باللسان فناسب ذلك النهي عن هذه الأمور في الحج وإلا فهي محرّمة في جميع الأحوال ، ولبيان أنّ الحج بطبعه لا يقبل هذه الأمور فإنّه السّفر إلى الله والإقبال عليه لغرض أسمى ، ولا تناسب بين ما كان كذلك وبين ما هو من شأنه البعد والفرقة والانفصال.

قوله تعالى : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ).

التفات من الغيبة إلى الخطاب والتكلّم لبيان كمال العطف والاهتمام والاقتراب إلى المتعبدين ، وفيه من الترغيب إلى فعل الخير ، كما أنّ في الآية من التذكير بأنّ أعمال العباد لا تغيب عنه عزوجل ، فإنّ ما يفعله الإنسان من الخير سواء في الحج أو في غيره يعلمه الله ويجازي عليه ، وهو الذي لا يضيع أجر المحسنين ولا يهمله عزوجل.

وذكر الخير بالخصوص مع أنّه تعالى عالم بالخير والشر ، ظاهرهما وباطنهما كما في قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) [البقرة ـ ٢٨٤] ، وقوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) [النور ـ ٢٩] ، إنّما هو للترغيب إلى الخير وحث الناس عليه ، فتكون إرشادا إلى مطلوبيته له تعالى ، مع أنّ ظاهر الحال والمكان يقتضي ذكر الخير ولو فرض وجود شرّ من المعاصي في البين فهو مضمحل في جنب ذلك الخير العظيم لغلبته عليه في تلك المشاعر العظام.

والتصريح باسم الجلالة ليكون إثبات الشيء ببرهان.

وفيه من التنبيه إلى أنّ الإنسان لا بد أن لا يفقد روح العمل ، وهي الحضور لديه عزوجل في جميع أفعاله ، وأنّه لا بد من التطابق بين العلم والعمل فإنّ أحدهما بدون الآخر لا أثر له في نظر القرآن.

قوله تعالى : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى).

١٦٧

الزاد : ما يتهيّأ للسفر ، وهو يختلف كمية وكيفية باختلاف حالات السفر ، والسفر على قسمين : سفر في الدنيا ، وسفر من الدنيا. وفي كلّ منهما لا بد من الزاد وزاد الأول هو : الطعام والشراب والمركب ونحوه ، وزاد الثاني : هو معرفة الله تعالى والطاعة ، والاستعداد للآخرة.

وقد بيّن سبحانه أنّ خير الزاد لهذا السفر هو التقوى ، أي فعل الطاعات وترك المعاصي ، وترك ما يوجب سخط الله تعالى ، والتقوى هي الصراط المستقيم إلى الإنسانية الكاملة والجنان العالية ، وهي الارتباط الوثيق مع مالك الدنيا والآخرة.

وذكرها في المقام لبيان أنّ الحاج إذا كان في سفره القصير لا بد له من الزاد وإلا هلك ، فكيف بالسفر الطويل البعيد المحفوف بالمخاطر العظام ، فيكون احتياجه إلى الزاد أهم وأعظم.

ومن تعريف الخبر (التقوى) يستفاد أنّ الأمر مقطوع به ، ولا يدخله الشك ، وأنّ الحكم على التحقيق كذلك.

والآية تنحل إلى برهان قويم ، وترجع إلى قول : تزودوا بخير الزاد ، وخير الزاد التقوى ، فتزودوا بالتقوى ، والكبرى معلومة بالأدلة الأربعة.

ثم إنّ ظاهر الآية المباركة العموم بالنسبة إلى تمام الحالات والأزمنة والأمكنة وإنّما ذكر في المقام بالخصوص لاقتضاء الحالة بتزود التقوى لأنّه السفر إلى الله تعالى.

وأما ما عن ابن عباس أنّه قال : «كان أهل اليمن يحجون ولا يتزوّدون ويقولون نحن متوكلون ثم يقدمون فيسألون الناس فنزلت الآية المباركة» فهو من باب ذكر المصداق لا الحصر الحقيقي ، ويمكن تعميم الأمر بالتزود في خصوص الحرم الإلهي حتى بالنسبة إلى ما تعارف بين الحجيج من حمل الهدايا معهم إلى بلادهم.

قوله تعالى : (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ).

١٦٨

اللب : هو العقل الخالص عن شوائب الأوهام ، خصّهم بالذكر لأنّهم المؤهّلون لذلك ، فإنّهم يعرفون حاجتهم إلى التزوّد بالتقوى ، وما للتقوى من فضل عظيم خطير ، وأنّ بالعقل يخشى الله وتتقى المعاصي.

ومن حذف المتعلّق يستفاد أنّه تعالى هو المقصود من التقوى ، وما للتقوى من فضل عظيم خطير ، وأنّ بالعقل يخشى الله وتتقى المعاصي.

ومن حذف المتعلّق يستفاد أنّه تعالى هو المقصود من التقوى ، وأنّه لا بد من قطع النظر عن كلّ شيء سواه ، وهذا هو الذي يستشعره ذو اللب الخالص والعقل السليم.

وهذا الخطاب جذب لأولياء الله تعالى إلى عالم لا نهاية لعظمته وكبريائه ولا غاية لكماله وتقريب لهم إلى صور لا حدّ لجمالها ودلالها كيف فإنّ التقوى مفتاح بركات السماء والأرض ، قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف ـ ٩٦] ، وهي أساس الفلاح ، قال تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة ـ ١٠٠] ، وهي الوسيلة لجلب السعادة للإنسان.

وهذه الآيات تدل على الترغيب إلى اكتساب الفضائل والتجنب عن الرذائل ، والتشبّه بربّ الأرباب جلّ شأنه ، واستكمال الإنسان بجميع ما أعد له من الكمال ، فيترتب عليه جميع ما أعد له من الجزاء الموعود في القرآن والكتب السماوية ترتب المعلول على العلّة التامة المنحصرة.

١٩٨ ـ قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ).

مادة (ج ن ح) تستعمل في الإثم المائل عن الحق ، ويسمّى كلّ إثم جناحا ، وقد ورد لفظ جناح في القرآن الكريم في أكثر من عشرين موردا منفيّا بليس ، أو لا ، ولكن لم يرد مثبتا فيه وإن ورد بهيئاته الأخرى ، مثل قوله تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) [الأنفال ـ ٦١].

والمراد به في المقام : نفي الحرج والإثم ، أي : لا بأس في ابتغاء الفضل من ربّكم ، والمراد من ابتغاء الفضل هو طلب الرزق بالكسب والتجارة ، نظير قوله تعالى : (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) [المزمل ـ ٤٠] ، وقوله تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة

١٦٩

ـ ١٠]. وقد ورد في السنة الشريفة أنّ الابتغاء من الفضل هو الرزق ، فالآية المباركة تدل على إباحة البيع وزيادة الرزق بالتجارة.

وعليه فتكون الآية المباركة في مقام الاستدراك عما يتوهّم وينسبق إلى الفهم من الأمر بالتزود من التقوى ، ومن مخاطبة أولي الألباب بالأمر بالتقوى خلاف ما كان الأمر عليه في الجاهلية من الكسب والتجارة وعقد الأسواق في الموسم لها ، ولأجل ذلك كان بعض المسلمين في أول الإسلام يتأثّمون من ذلك فأزال تعالى هذا الوهم ، وأعلمنا بأنّه لا بأس بالكسب والتجارة وأنّ ذلك من فضل الله تعالى بل يستفاد من قوله تعالى : (مِنْ رَبِّكُمْ) أنّه داخل في العبادة ، وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «الكاسب حبيب الله». فتكون الآية المباركة صريحة في عدم المنافاة بين الحج وطلب المال.

ولكن يمكن أن نقول : إنّ المراد من الابتغاء بالفضل هو الأعم من طلب الرزق بالتجارة ومن طلب المغفرة كما ورد في بعض الروايات فإنّها المطلوب الأهم للإنسان ، فتكون ترغيبا إلى ازدياد الخير بعد الترغيب بالتقوى ، والحث عليها ، وإشارة إلى عدم الاعتماد على مجرد التقوى بل الاعتماد كلّه على فضل الله تعالى.

قوله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ).

مادة (فيض) تأتي بمعنى سيلان الماء مع الكثرة ، وتستعمل في كلّ دفع مع كثرة كما في المقام ، والاستفاضة هي الشيوع والكثرة والانتشار.

وعرفة هي بمعنى الإصابة يقال : عرفه أي أصاب عرفه ـ أي رائحته ـ أو خدّه. وعرفات علم للمكان المخصوص المعروف ، وهي في معنى الجمع وليس بجمع شيء ، وما في بعض الأخبار : «الحج عرفة»

إنّما هو باعتبار الزمان لا باعتبار كون عرفة مفرد عرفات ، وتنوينه تنوين المقابلة لا تنوين التمكن.

وسمي الزمان والمكان بها لتحقق تعرف في البين إما لأجل أنّ خليل الرحمن (عليه‌السلام) عرف صدق رؤياه ، أو لأجل أنّ جبرائيل عرفه مشاعر

١٧٠

الحرام في هذا المكان ، أو لأنّ الله عزوجل يتجلّى لأهل عرفات ، أو لأجل أنّ في هذا المكان يعرف العباد أنفسهم إلى الله تعالى بالدعاء والثناء ، أو لأجل أنّ الناس في هذا المكان يعرف بعضهم بعضا ، أو لأجل ارتفاع المحلّ ارتفاعا ظاهريا أو معنويا من عرف الدّيك.

والآية تدل على الوقوف في عرفات بالملازمة فإنّ الإفاضة من محلّ يستلزم الكون فيه لا محالة. مع أنّ الكون فيها كان معهودا في الجاهلية وقرره الإسلام ، وإنّما يراد بيان بقية أعمال الحج ، فالموضوع مفروض الوجود عند بيان اللواحق والأحكام.

قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ).

وهو المزدلفة ، وجمع. وسمي مشعرا لأنّه معلم لشعائر الله تعالى وعبادته ، وهو المكان المعروف. والمراد بالذّكر هو الصلاة ، والتهليل ، والتسبيح ، والدّعاء ، وهو ما يعلم الواجب والمستحب.

والآية المباركة تدل على وجوب الوقوف بالمشعر الحرام ولو بالمسمّى الذي هو الكون لدلالة الذّكر عليه وإن كان بالملازمة.

قوله تعالى : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ).

تأكيد للجملة السابقة وترغيب إلى ذكره تعالى والحث على الإقبال إليه وإرشاد للإنسان إلى أنّه ينبغي أن يكون على ذكره تعالى دائما أي : واذكروه بالثناء والشكر على هدايته إيّاكم وأنّكم كنتم من قبل الهدى لمن الضالين.

وال (واو) للحال و (ان) مخففة من الثقيلة لدلالة اللام عليه ، وهي تفيد التأكيد.

والمستفاد من الآية الشريفة : أنّ ذكر المنعم وشكره لا بد أن يكون لأجل نعمته ، ولا نعمة أولى وأحسن وأتم وأكمل من الهداية إلى الإيمان وترك الكفر والضلال.

١٩٩ ـ قوله تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ).

١٧١

حيث للمكان المبهم يفسره ما بعده ، ويمكن أن يطلق على المكان المبهم باعتبار حالة من يحلّ فيه من الوقار والسكينة والذكر ونحو ذلك.

والمراد من الناس من يصلح للاقتداء والايتمام به والعالمين بحدود الحج وأحكامه العاملين بها ، وهم منحصرون في خليل الرحمن وذريته القائمين مقامه العاملين بشريعته ، فهو (عليه‌السلام) أول هذه السلسلة وأئمة الحق من ذريته آخرها ، والعلماء العاملون الذين يتلونهم علما وعملا حفظة هذه التشريعات.

وإنّما ذكر لفظ الناس ليشمل جميع من له دخل في تشريع هذه المشاعر حدوثا وبقاء وحفظا وإبقاء.

ومعنى (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) أي على الحالة التي أفاض الناس المعهودون في هذا المكان. ويستفاد من قوله تعالى أمرهم بالإفاضة التي يريدها الله جلّ شأنه ونبذ الحركة الهمجية في هذه الحالة التي ينبغي فيها ملاحظة الخضوع والخشوع لله تعالى.

وظاهر الآية الشريفة : أنّه إيجاب للإفاضة المعهودة بين الناس ، وبعد ذكر الإفاضة من عرفات يستفاد أنّه إفاضة إلى منى بعد الوقوف في المزدلفة. فيكون قد ذكر سبحانه الوقوفين أحدهما بالصراحة وهو الوقوف بعرفات والإفاضة إلى المزدلفة بقوله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) والآخر بالملازمة وهو الوقوف في المشعر الحرام والإفاضة منه إلى منى فتكون (ثم) على الحقيقة لوجود التراخي الزماني بين الإفاضتين.

وفي ذلك خلاف ما كانت عليه قريش وحلفاؤها الذين هم (الحمس) فإنّهم كانوا لا يقفون بعرفات ترفعا بل بالمزدلفة ، وكانوا يقولون نحن أهل حرم الله لا نفارق الحرم وكانوا يمنعون الناس من أن يفيضوا معهم من المزدلفة ، فأثبت سبحانه إفاضتين ووقوفين لأنّ الإفاضة لا تكون إلا بعد وقوف ولو بمقدار الذكر ، ويدل على ما ذكرنا بعض الأخبار كما يأتي في البحث الروائي.

وقيل ـ وعليه أكثر المفسرين ـ أنّ المراد الإفاضة من عرفات كما كان

١٧٢

عليه دأب الناس فأمر الله تعالى أولئك العرب الّذين كانوا لا يقفون مع غيرهم في عرفات. وبذلك يكون تشريعا للوقوف بعرفات وأنّ الكلام بمنزلة الاستدراك بعد قوله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) وتكون (ثم) دالة على التراخي الرتبي والخطاب مع قريش فقط.

ولكن فيه نظر فإنّه بناء على ذلك تكون الجملة تكرارا لمفاد الجملة الاولى وهو لا يليق بكلامه تعالى ، فلا بد من حمل الإفاضة إمّا على الإفاضة من المشعر إلى منى كما ذكرنا أو حملها على كيفية الإفاضة في الإفاضتين بأن يكون المفيض على هدوء ووقار بلا تهجم ، وللإعلام بأنّ الإفاضة المطلوبة هي الإفاضة المشروعة فإنّها هي من رحمة الله تعالى.

قوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

تحريض على طلب المغفرة ودعوة منه تعالى إلى الجنة لأجل أنّ الزمان والمكان من مبشرات ذلك فهما من أفضلهما ، فكما أنّ الوقوف بعرفات والمشعر وأيام منى يوجب تخفيف الذنوب والتقرّب إلى المحبوب وأنّه تعالى يتجلّى لعباده في تلك المشاعر ليتجاوز عن المسيئين ويرفع درجات المخلصين ، أمر تعالى بطلب الغفران لينطبق الحال مع المقال ويصير اللسان والمكان جميعا فيضان الرحمة وإفاضة النعمة ، فكأنّه تعالى يريد أن يطهّر ضيوفه الواردين إليه عن دنس المآثم ويزيل عنهم شرّ الوسواس الخنّاس ثم يأذن لهم في الخروج عن حرمه وهذا هو أعظم أنواع الهدايا وأشرف أنحاء العطايا منه للعباد.

وفي الآية إشارة إلى أنّ ذكر الآباء بمعزل عن هذه الهدية ولا أثر له في هذه العطية ولا ينافي ذلك استفادة العموم من جملة (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) لجميع الناس وفي جميع الأمكنة كما تدل عليه العلة التامة الشاملة بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي كثير الغفران ووسيع الرحمة.

وقد ذكر لفظ «الغفور» في عدة آيات كثيرة كلّها مقرونة بالتأكيد والتثبيت مثل لفظ «انّ» و «كان» ومقرون بالرّحيم والحليم.

١٧٣

وفي حال التلبس بأفعال الحج يشملهم استغفار الملائكة أيضا والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لعظمة الموقف.

وقد كررت هذه الآية في [سورة المزمل ـ ٢٠] ، وقد رغّبت السنة المقدسة في التوبة والاستغفار مما لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها ولعلّ هذا بعض معاني ما نسب إلى نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «عجبت من أقوام يجرّون إلى الجنّة بالسلاسل».

٢٠٠ ـ قوله تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ).

مادة (قضى) من المواد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بالنسبة إلى الخالق ، والخلق ، والقول ، والفعل ، والدنيا والآخرة وإنّها بمعنى فصل الأمر قولا كان أو فعلا ، ويلزمه الإتمام والفراغ.

والمناسك جمع منسك مصدر نسك وهو : العبادة ، والناسك : العابد ، واختص بأعمال الحج. وتأتي اسم مكان وهي : مواقيت النسك وأعمالها ، والنسيكة مختصة بالذبيحة المتقرب بها إلى الله تعالى.

والمعنى : إذا فرغتم من أفعال الحج.

قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً).

تحريض إلى ذكر الله تعالى والإكثار منه والمبالغة فيه وعدم الغفلة عنه كما لا يغفل أحد عن ذكر آبائه لا كما اعتادوا عليه من ذكر الآباء والاكتفاء بهم. و (أو) للإضراب. و (أشد) غير منصرف لوزن الفعل والوصفية ، والشدة تأتي بمعنى الكثرة في الكيفية والكثرة في الكمية. أي إنّ ذكركم لله تعالى إمّا أن يكون كذكر آبائكم أو أشد وأكثر وأعلى.

والذكر : هو حضور المذكور في القلب واللسان. وتقدم ما يتعلق به في قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة ـ ١٥٢] ، والمراد به في المقام مطلق الذكر في تلك المواطن.

وفي الخطاب كمال العناية واللطف والتآلف حيث أمرهم بالذكر

١٧٤

كذكرهم لآبائهم لئلا ينزجروا عن طريقتهم التي كانوا عليها ثم قال : (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) لتقريب أنّ نعم الله عليهم وعلىءابائهم أكثر وأجل وأعلى من كل نعمة فلا بد وأن يكون الذّكر بما يناسب جلال الله ونعمائه.

قوله تعالى : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا).

تفريع على ما تقدّم. وهو بيان لبعض أحوال الناس المختلفة ، فإنّهم بالنسبة إلى السؤال من الله تعالى على أقسام :

فمنهم : من يطلب منه تعالى الدنيا فقط مع الغفلة عن الآخرة.

ومنهم : من يطلب الدنيا من حيث كونها طريقا لتحصيل الآخرة.

ومنهم : من يطلبهما معا.

ومنهم : من يطلب الآخرة فقط. والثاني يرجع إلى الثالث في الواقع. كما أنّ الأخير يرجع إليه أيضا لأنّ طلب الدنيا إذا كان للظفر بالآخرة يكون من طلب الآخرة وبقي قسمان قسم يدعو لدنياه فقط وهو الذي ذكره تعالى بأنّه ليس له في الآخرة من خلاق وقسم يدعو لدنياه وآخرته وهو الذي مدحه تعالى ، وهذا التقسيم حقيقي واقعي.

والمراد من الناس : مطلق أفراد الإنسان الأعم من المؤمن وغيره فإنّه من يطلب الدنيا ولا يبغيها إلا لأجل المفاخرة.

كما أنّ المراد من القول الأعم من السؤال بالمقال والطلب بلسان الحال.

وإنّما أجمل سبحانه وتعالى المتعلّق في قوله تعالى : (آتِنا فِي الدُّنْيا) لاختلاف مراد الناس ولأنّه كالمعلوم ولبيان أنّ الدنيا أكبر همه وهو يريدها بأي وجه كان.

والمعنى : إنّ من الناس من يطلب من الله تعالى الدنيا مع الغفلة عن الآخرة.

١٧٥

قوله تعالى : (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ).

مادة (خلق) تأتي بمعنى التقدير المستقيم سواء كان من شيء كقوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) [النحل ـ ٤] ، وقوله تعالى : (خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) [الرحمن ـ ١٥] ، أو من غير شيء ولا مادة بل إبداعا كقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [إبراهيم ـ ٣٢] ، بانضمام قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة ـ ١١٧] والثاني مختص به تعالى ، بل الأول أيضا إذ لم يطلق في القرآن إلا بالنسبة إلى عيسى (عليه‌السلام) قال تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) [المائدة ـ ١١٠] ، ولكنّه مقيّد في جميع ذلك بكونه من إذنه تعالى.

وهذه المادة كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات شتّى بالنسبة إلى الجواهر والأعراض ، والنبات والحيوان والإنسان والدنيا والآخرة.

وهيئة (خلاق) لم تستعمل في القرآن إلا في موارد ثلاثة كلّها مضافة إلى الآخرة أحدها المقام ، والثاني قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) [البقرة ـ ١٠٢] ، والثالث قوله تعالى : (أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) [آل عمران ـ ٧٧] ، وهو بمعنى النصيب وتقدير الخير ، ويأتي بيان ما يتعلق بسائر هيئات هذه المادة في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

والمعنى : إنّه ليس لهذه الطائفة الذين يطلبون من الله تعالى الدنيا فقط نصيب في الآخرة ، لأنّهم أعرضوا عن الآخرة ولم يعملوا لها فقد استولى على قلوبهم حبّ الدنيا ولم يعملوا إلا لأجلها وحليت الدنيا في أعينهم فكانت هي الحسنة عندهم فقط دون غيرها فلم يرجوا غيرها ولم يدعوا الله تعالى إلا إيتاءها ولم يؤمنوا بالآخرة فلم يعملوا لها.

وفي الخطاب كمال المعاتبة والتوبيخ في أنّهم سألوا ما هو المتفاني والزائل وطلبوا أدون المطالب وأعرضوا عن الحياة الباقية والنعيم الدائم

١٧٦

والعيش الهنيء.

٢٠١ ـ قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً).

أي : ومن الذاكرين من يطلب خير الدنيا والآخرة جميعا. والمراد من الحسنة أنواعها وليس المراد جنسها ، إذ الجنس لا تحقق له بدون الأنواع ، وحيث إنّها مختلفة بحسب اختلاف الدواعي والأغراض في الدنيا والآخرة ، إذ الحسنات المطلوبة لأهل المعرفة الذين أفنوا جميع شؤونهم في الله تعالى فحازوا مرتبتي الفناء في الله تعالى والبقاء به جلّت عظمته غير الحسنات المطلوبة لغيرهم ولذلك أتى باللفظ مجملا ليشمل الجميع.

وإنّما أورد لفظ الحسنة في هذه الطائفة دون الطائفة الأولى ، لأنّهم آمنوا بأنّ في الدنيا حسنة وسيئة وفي الآخرة كذلك ولم يسألوا من الله تعالى إلا الحسنة.

قوله تعالى : (وَقِنا عَذابَ النَّارِ).

بالعفو والمغفرة واحفظنا مما يؤدّي إليها من الذنوب والمعاصي.

٢٠٢ ـ قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا).

النصيب : الحظ المنصوب ، أي المعنّى وقد ذكرت المادة في موارد من القرآن الكريم قال تعالى : (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) [هود ـ ١٠٩] ، وقال تعالى : (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) [القصص ـ ٧٧].

ومادة (كسب) تستعمل فيما يجلب به نفع أو يدفع به مضرّة وما يناله الإنسان من عمله وتستعمل في الأعم من الصالحات والسيئات فمن الأولى قوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) [الأنعام ـ ١٥٨] ، والمقام ، ومن الثانية قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) [الأنعام ـ ١٢٠] ، وقوله تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها

١٧٧

مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [فاطر ـ ٤٥] ، ويقال : فيما أخذه لنفسه أو لغيره ، ولهذا قد يتعدى إلى مفعولين يقال : كسبت فلانا كذا.

والاكتساب يختص بما أخذه لنفسه فكلّ اكتساب كسب ولا عكس ، ويستفاد من قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنّ الكسب يستعمل في الأمور التكوينية إذا كان بعض مباديها اختياريا قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «أطيب ما يأكله الرجل من كسبه وإنّ ولده من كسبه».

والمعنى : إنّ أولئك الذين يطلبون حسنة الدّارين لهم ما يريدون ويعطون ما يدعون. وسمي الدعاء كسبا لأنّه من الأعمال.

ويستفاد من هذه الآية مع مقابلتها للآية السابقة أنّ أعمال الطائفة الأولى باطلة لا وزن لها عند الله تعالى ، قال عزوجل : (يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) [الأحقاف ـ ٢٠] ، ونظير هذه الآيات المباركة قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) [الشورى ـ ٢٠].

قوله تعالى : (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ).

السرعة خلاف البطء ، وتستعمل في الأجسام والأفعال وفعل الله تعالى ، وترجع في فعله عزوجل إلى قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل ـ ٤٠] وفي السنة المقدّسة : «إنّ حساب جميع العباد عنده تعالى على قدر حلب شاة» وهذا من باب ضيق التعبير وإلا فهو أقلّ من ذلك فإنّ جميع الزمان والدّهر والسّرمد عنده تعالى أقلّ من آن ولمحة البصر وإنّ جميع الممكنات ـ بجواهرها وأعراضها وروحانيّاتها ومجرّداتها ـ أقلّ من ذرة ملقاة في فلاة لا حدّ لها فهو أسرع الحاسبين مع هذه الإحاطة والاقتدار والقهارية.

وسريع الحساب من أسماء الله الحسنى ، وهو من صفات فعله لرجوعه إلى إرادته التي هي من صفات فعله تعالى أيضا ، فيصح تصوير سريع

١٧٨

الحساب في مرتبتي القضاء والقدر أيضا لأنّهما من صفات الفعل أيضا ، وإن رجعا إلى العلم والحكمة فيكونان من صفات الذات لكون العلم والحكمة من صفات الذات ، ولا بأس بأن تكون بعض الصفات برزخا بينهما باعتبار منشأ انتزاعهما.

والأولى جعله من صفات الذات لكونه من أجلى مظاهر علمه التام الكامل جلّ شأنه ، ويدل عليه ما عن بعض الأعاظم من المحدّثين والفلاسفة بل نسب إلى الرواية أيضا : «من أنّ كلّ صفة لا يصح إطلاق خلافها عليه تكون من صفات الذات وما صح إطلاق خلافها عليه عزوجل في الجملة فهي من صفات الفعل» وعليه لا يصح إطلاق خلاف سريع الحساب عليه فهو صفة الذات.

وقد ذكر ذلك في جملة من الآيات الشريفة قال تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [آل عمران ـ ١٩] ، والمراد به جميع ما يتعلق بيوم القيامة من الجزاء ومقدماته وهو يرجع إلى قهاريته.

وإطلاقه يشمل سرعة مجازاة العباد على أعمالهم في الدنيا والعقبى فهو تعالى يسرع في الحساب ويجازي الصنفين من عباده ولا اختصاص لحسابه بخصوص جزاء أعمال عباده بطائفة دون أخرى أو بعالم دون آخر ، بل شؤون جميع الممكنات حدوثا وبقاء داخلة تحت تربيته العظمى الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء بل عمّت قهّاريّته من أول حدوث العالم إلى آخر ما يتصوّر من الخلود وهذا هو مقتضى الملازمة بين المبدأ والمعاد.

وإنّما عبّر عن الجزاء بالحساب لأنّ الجزاء كفاء العمل فهو حساب له. ولعلّ ذكره في المقام لأجل دفع ما يتوهّم من عدم إمكان الإحاطة بحوائج كلّ واحد من أهل هذا المجمع الذي هو الحشر الأصغر كما في بعض الروايات فأزال سبحانه وتعالى هذا الوهم بقوله جلّ شأنه إنّه (سَرِيعُ الْحِسابِ) يحيط بهم وبأعمالهم ويجازيهم على إيمانهم.

١٧٩

وفي الآية تحريض على الدّعاء وترغيب إليه ، وطلب الحوائج في المواطن الشريفة ، وترهيب عن المعاصي وأنّه تعالى يحاسب العباد في أسرع ما يمكن ويجازيهم على ما كسبوا ، وفي عالمنا هذا كلّما كانت أجهزة الضبط والحساب أدقّ كانت النتائج أسرع كما نراه وقد ثبت ذلك في العلم الحديث هذا بالنسبة إلى عالم الماديات فكيف بما إذا كان الحساب والجزاء بنفس الإرادة أي من إذا قال لشيء (كُنْ فَيَكُونُ) [يس ـ ٨٢].

٢٠٣ ـ قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ).

مادة (عدد) تأتي بمعنى ترتب الآحاد أو آحاد مركبة. وقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة في مواضع كثيرة يأتي التعرّض لها في محالّها.

ولفظ «معدودات» ورد في القرآن في موارد ثلاثة تقدم مورد منها في آية ١٨٤ البقرة وهذا هو الثاني. ويكنّى به عن القلّة ـ كما هو الشأن في الجمع بالألف والتاء غالبا ـ وهي في المقام أيام التشريق وهي اليوم الحادي عشر ، والثاني عشر ، والثالث عشر من ذي الحجة وتسمّى أيام النّحر أيضا وهو المستفاد من الآية الشريفة أيضا فإنّه تعالى بعد أن أمر بذكره جلّ شأنه في المشعر الحرام وأمر بذكره تعالى بعد تمام المناسك وأعمال الحج أمر بذكره جلّت عظمته بعد الفراغ من ذلك فيكون بعد العشرة الأولى من ذي الحجة في منى.

كما أنّ كونها ثلاثة يستفاد من قوله تعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) إذ التعجيل في يومين لا بد وأن يكون مع ثالث ينفر فيه وهي كانت معهودة في زمان الجاهلية. وعلى ذلك وردت روايات كثيرة من الفريقين.

والمراد بذكره تعالى : هو التكبير في أيام التشريق من بعد صلاة الظهر من النّحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثالث ، ويأتي صورته وعدده في البحث الروائي ، والأمر محمول على الاستحباب لدلالة السنة عليه كما يأتي.

١٨٠