مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٦

والآية تشير إلى أمر غريزي واضح غير خفي وإن التبس الأمر في موارد ، ولكنّه واضح عند العقل وللإحسان مراتب بل إنّه من الأمور الإضافية.

والمعنى : اطلبوا الحسن في أفعالكم وأعمالكم إنّ الله يحب كلّ محسن كذلك.

ويستفاد من قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أنّ الغرض من إحسان المحسن هو ابتغاء محبّة الله تعالى التي هي المقصد الأسنى من سعي كلّ مؤمن من وراء عمله بأحكام الدّين ، قال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل عمران ـ ٣١].

ومن تعقيب قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) بقوله جلّ شأنه : (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) يشعر بأنّه لا بد من إحراز مراعاة الحسن والإحسان في كلّ إقدام على عمل ، والتجنب عن مشكوك التهلكة فضلا عن مقطوعها ومظنونها ، وأنّ الإحسان هو الطريق الوسط دون طرفيه من الإفراط والتفريط.

وإطلاق قوله تعالى : (وَأَحْسِنُوا) يشمل كل إحسان في الاعتقاد والأعمال بل ويشمل حسن الظنّ بالله تعالى الذي أمرنا به ، والترك والكفّ عما نهينا عنه.

ومن تعقيب آيات القتال بهذه الجملة المباركة يستفاد أنّه لا بد من الاهتمام بابتغاء الإحسان في مثل هذا المقام الذي تسيطر على النفس القوة الغضبية ، وحسن كلّ مورد بحسبه في القتال والعفو ، والكف والأسر ونحو ذلك.

١٤١

بحوث المقام

بحث أدبي

لفظ «حيث» لا يستعمل إلا مضافا ، وهو مبنيّ على الضم تشبيها له بالغايات مثل قبل ، وبعد ونحوهما ، لأنّها لا تستعمل إلا مضافا إلى جملة.

ولا يختص استعماله بالماديات المحضة فقط ، بل يستعمل في غيرها أيضا ، قال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام ـ ١٢٤] ومقتضى القاعدة استعماله في النشأة الآخرة أيضا ، لأنّ فيها زمانا ومكانا ، كما يصح استعمال (حين) فيها.

ويصح استعمال (حيث) في مطلق التحيّز ولو لم يكن من المكان بناء على أنّ الحيّز أعم من المكان.

ثم إنّ المعروف بين الأدباء أنّ فعولا وفعالا من أوزان المبالغة وقد ورد لفظ (غفور) في القرآن الكريم في ما يزيد على سبعين موردا غالبها مقرون بالرحيم ، ولفظ (غفار) في موارد غالبها مقرونة بالعزيز قال تعالى : (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) [الزمر ـ ٥] كما ورد على وزن فعّال في القرآن أيضا ، قال تعالى : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [البروج ـ ١٦] ، وقال تعالى : (وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [التوبة ـ ٧٨] ، كما ورد كثيرا لفظ «وهاب».

١٤٢

والمبالغة بالنسبة إلى الذات الأقدس الربوبي ـ الذي هو فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى بالنسبة إلى الفوقية ـ لا يمكن تصورها وكذا جميع صفاته الجلالية والجمالية لا سيما بالنسبة إلى العلم الذي هو عين الذات الأقدس ، وكيف تتعقل المبالغة في ذاته المتعال ، فلا بد من حمل المبالغة بالنسبة إليه عزوجل على أمور :

إما على غاية الكمال الذي لا حدّ له فإنّ المبالغة في المحاورات تكشف عن كمال الشخص فيما بولغ فيه ، فكما أنّ معنى السمع فيه عزوجل عبارة عن أنّه لا تخفى عليه المسموعات ـ كما عن أئمة الهدى (عليهم‌السلام) ـ تكون المبالغة فيه أنّه لا حدّ لكماله ، فتكون أوزان المبالغة فيه عزوجل عبارة عن أنّه لا حدّ لموردها ، ولا يمكن للعقول أن تتصوّر لها حدّا.

أو تكون بمعنى الفاعل كما قال ابن مالك في منظومته النحوية :

فعال أو مفعال أو فعول

في كثرة عن فاعل بديل

أو تكون باعتبار حال المخاطبين ، ومراعاة كيفية المخاطبة معهم لقاعدة أنّ العاقل الحكيم لا بد وأن يلاحظ حال المخاطبين في خطاباته.

وغالب ورود أوزان المبالغة إنّما يكون في رحمته وغفرانه ، ولم أظفر على ما يكون بالنسبة إلى غضبه تعالى وسخطه لا في القرآن الكريم ولا في الأسماء الحسنى ، ولا في غيرها. نعم ورد لفظ «شديد العقاب» و «شديد العذاب» و «عذاب شديد» و «قهار» في عدة مواضع من القرآن الكريم والدعوات المأثورة ولكن ذلك بيان لكيفية العذاب والعقاب ولا يفيد المبالغة فيه ، وإنّ القهار أعم من أن يكون في غضبه وعذابه.

ثم إنّ المعروف بين علماء الأدب أنّ من محسّنات الفصاحة والبلاغة الازدواج والمزاوجة في الكلام ، وهي إتيان لفظين متحدي المعنى في الجملة مع اتصاف أحدهما بالحسن والآخر بالقبح في الواقع كما مرّ في قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) فإنّ الاعتداء الأول قبيح والثاني حسن لأنّه من دفع الظلم والعدوان وقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ

١٤٣

مِثْلُها) [الشورى ـ ٤٠] ، فإنّ الثانية ليست من السيئة في الواقع بل هي دفع السيئة وقوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) [النحل ـ ١٢٦] ، وتقدم قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، ولذلك في كلمات الفصحاء والبلغاء أمثال ونظائر وهي من شؤون الفصاحة والبلاغة في الكلام.

وأما لفظ «مع» الوارد في الآية المباركة (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) فإنّه يدلّ على المصاحبة في الجملة وتختلف استفادة أنحاء المصاحبة بحسب القرائن الداخلية أو الخارجية ، فتارة : تكون زمانية. وأخرى : مكانية. وثالثة : رتبية. ورابعة : في سائر الإضافات والجهات.

وقالوا : إنّه اسم بدليل حركة آخره ودخول التنوين عليه يقال : خرجنا من الدار معا. ودخلنا السوق معا ، ومعية الله تعالى مع خلقه معية قيومية ربوبية إحاطية فوق ما نتعقل من معنى المعية والإحاطة ومع المؤمنين أو المتقين أو الصابرين ، أو المحسنين عبارة عن النصرة ، والغلبة ، إذ لا يعقل مغلوبية من كان الله معه ولو فرض ذلك برهة من الزمن فهي عنوان الشرف ووسام الغلبة الأبدية والمغلوبية مع التقوى في الدنيا عين الغلبة الحقيقية في الآخرة كما هو المشاهد والمحسوس ، وقد تقدم في قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ) [البقرة ـ ١٥٤] ، بعض الكلام فراجع.

١٤٤

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة المتقدمة على أمور :

الأول : أنّ قوله تعالى : (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) يدل على أنّ الاعتداء من السيئات المبغوضة عند الله تعالى وإطلاقه يشمل الاعتداء بابتداء القتال ، والاعتداء في القتل بأن يقتلوا من يحرم قتله ، والاعتداء في كيفية القتل كالمثلة بالمقتول وأنواع التعذيب والاعتداء بغير ذلك كالتخريب وقطع الأشجار ، ومنع الماء ، وإلقاء السم فيه واستعماله ونحو ذلك ، كلّ ذلك لعموم الفعل المنفي.

الثاني : أنّ قوله تعالى : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) يدل على أنّ الفتنة والافتتان في الدّين من أشد الأمور التي لا بد من علاجها فإنّ في الفتنة وهن القوى وانهيار المجتمع وإنّ فيها إشاعة الفساد والبقاء على الشرك فهي بؤرة الفساد ، وإنّ فيها إذلال النفس وانحطاطها إلى أسفل السافلين بحيث لا تنفعه موعظة الواعظين ، وفي محوها إزالة مناشئ الشرك والكفر بعد الجحود والإصرار وفي إزالتها قمع مصادر الشرّ والفساد ، ولذا كانت الفتنة أشد قبحا من القتل الذي هو أعظم من كلّ قبيح ، وإنّها أكبر من كلّ جرأة.

الثالث : أنّ الآيات الواردة في جهاد المشركين وقتالهم والإذن في مقابلة ما فعلوه تدل على الإذن في قلع مناشئ الشرك واستئصالهم وقد نسب إلى نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لا يجتمع في جزيرة العرب دينان» والحكم

١٤٥

موافق للعقل فإنّ جحود المنعم الحقيقي من أقبح القبائح العقلية التي يوجب سلب الاحترام عنه ، ومن كان كذلك فقد ألقى احترام نفسه وأقدم على هتكها وإزالة حرمتها وبذلك قد أسقط جميع حرماته بنفسه عند نفسه قال تعالى : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [النحل ـ ١١٨] ، وبذلك صحت القاعدة التي ذكروها : «إنّ كلّ ما ينبعث عن الذات يرجع أثره إليه» ولها شواهد كثيرة من الكتاب والسنة والعقل يأتي التعرض لها في محلّه إن شاء الله تعالى.

الرابع : يستفاد من قوله تعالى : (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أنّ الانتهاء عن المعصية يكفي في التوبة ويدل عليه قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «كفى بالندم توبة» وإطلاقه يشمل قبول التوبة عن الشرك والكفر والقتال ونحو ذلك. وحينئذ لا بد من حمل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء ـ ٤٨] ، على ما إذا أسلم ثم كفر وأشرك بالله العظيم أي : لا يسقط الحكم المترتب على شركه ظاهرا بالتوبة. وأما بينه وبين الله تعالى فإنّ الحق ـ كما ذهب إليه المحقّقون ـ هو القبول والبحث محرّر في الفقه.

الخامس : إنّما لم يذكر الإضافة إلى الفاعل في قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تجليلا وتعظيما للغفران والرحمة ، وللإعلام بأنّهما عامّان لا يختصان بمورد دون آخر ، وبشخص غير شخص بل هما من أوسع الصفات وأعمهما ، وإنّما اسندا إلى الله تعالى لبيان عدم تناهيهما كعدم تناهي الذات.

السادس : إنّما كرر سبحانه وتعالى (فَإِنِ انْتَهَوْا) للترغيب إلى الكف عن القتال وأنّ الانتهاء يرفع القتل عمن ينتهي ويدخله في غفرانه ورحمته في المآل ويوجب محو ما سلف عنه.

السابع : إنّ قوله تعالى : (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) بيان لعلة الاعتداء عليهم أي : أنّهم إذا انتهوا عن عدوانهم فلا تعتدوا عليهم لأنّه يختص بالظالمين والمفروض انتهاؤهم عن الظلم.

الثامن : إنّ قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) من القواعد العقلية الجارية في جميع شؤون الحياة وفي كلّ الحالات وهي من أهمّ القواعد

١٤٦

النظامية التي لا بد من النظر فيها والاستفادة منها ويتفرّع عليها فروع كثيرة.

ولا تختص التهلكة بالدنيوية منها بل تشمل الأخروية ، وهي تدل على ترك الإقدام على كلّ تكليف يخاف منه على النفس أو العرض أو المال. ويشمل كلّ ما يوجب الهلاك من إفراط وتفريط دون ما يكون فيه الحسن والإحسان الذي هو الطريق الوسط.

التاسع : إنّ في اختتام الآيات بالأمر بالإحسان وبيان أنّ الله يحبّ المحسنين ، وقد بدأت بالنّهي عن الاعتداء فيه من روعة الأسلوب وحلاوة الكلام ما لا يخفى.

١٤٧

بحث فقهي

القتل والقتال من دون أي مجوّز إلهيّ من القبائح العقلية ، فإنّ من الأصول المسلمة لدى جميع الأمم هي أصالة احترام النفس والعرض والمال وعليها تدور جملة كثيرة من القوانين الوضعية ، وقد قرّرتها الشريعة المقدسة الإلهية ورتب عليها أحكاما كثيرة.

كما أنّ (قاعدة تقديم الأهم على المهم) من أمتن القواعد العقلية التي أمضاها الإسلام وجعلها محور فروع كثيرة. ولكن إحراز الأهم لا بد أن يكون عن طريق الوحي المبين أو بفطرة من العقل الكامل السليم.

وهذه الآيات ونظائرها الواردة في الجهاد مع المشركين تدور على هاتين القاعدتين العقليتين ، وقد ذكر سبحانه في هذه الآيات جملة كثيرة من الأحكام أهمها :

الأول : الإذن في قتال المشركين وأنّه عام لا يختص بعصر دون آخر وحكمها باق إلى أن يظهر دين الله عزوجل ويكون الدّين كلّه لله تعالى وتصير كلمته هي العليا ، ولا بد أن يكون ذلك بمحضر من النبيّ الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومن يتلو تلوه في العلم والعمل والتدبير والتقوى وهم أئمة الدّين (عليهم‌السلام) أو من يحذو حذوهم من العلماء الجامعين للصفات القائمين مقامهم. هذا إذا كانت الفتنة الكفر والشرك.

١٤٨

وأما إذا كانت غيرها مما يخاف على معتقدات الناس الحقة وهتك النفوس والأعراض والأموال المحترمة فلها حكم آخر فصّلناه في الفقه.

الثاني : إنّ إطلاق النّهي عن الاعتداء يشمل جميع أنحاء الاعتداء سواء كان على النفس أو في العرض أو في المال ، ولكلّ واحد من هذه الأمور الثلاثة أحكام خاصة مذكورة في كتب الفقه.

وذكرنا في كتاب الغصب من (مهذب الأحكام) أنّ الاعتداء في المال إن كانت العين موجودة عند المعتدي يجب عليه ردها إلى مالكها كما يجب رد قيمة المنافع المستوفاة منها بل وغير المستوفاة ويقتضيه ما نسب إلى نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «على اليد ما أخذت حتى تؤدي».

وأما إذا كانت تالفة فإن كانت من المثليات بحسب المتعارف وجب عليه رد المثل ، وإن كانت من القيميات كذلك وجب عليه رد القيمة ، وإن كانت مرددة بينهما لا بد من التراضي مع صاحب المال.

ومقتضى ظواهر الأدلة الشرعية اعتبار المماثلة في كيفية الاعتداء وكميته وسائر الجهات ، وقد ورد في الحدود : «إنّ الله جعل لكلّ شيء حدّا وجعل لكلّ من تعدّى ذلك الحدّ حدّا» فلا بد من مراعاة إذن الشارع في جميع ذلك.

وما قيل : من أنّ «الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال» فهو مردود لم يقم على إطلاقه دليل لا من العقل ولا من النقل هذا صفوة القول ومن أراد التفصيل فليراجع كتابنا (مهذب الأحكام).

الثالث : قد استدل الفقهاء بقوله تعالى : (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) ونظائره من الآيات الدالة على لزوم المماثلة في الاعتداء بلزومها أيضا في الجنايات والضمانات.

الرابع : إنّ قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) يدل على حرمة الإقدام على ما يخاف الإنسان على نفسه أو عرضه أو ماله. وأما المجاهدة مع أعداء الدّين فهي ليست من الإلقاء في التهلكة لما فيها من المصالح الواقعية

١٤٩

الكثيرة الراجعة إلى الإنسان ، ولذا لو لم تكن في مقاتلة الأعداء مصلحة إما لأجل الخوف من غلبتهم على المسلمين ، أو عدم القدرة لهم على المقاتلة ونحو ذلك يجب الصلح وإلا كان من إلقاء النفس في التهلكة ومن ذلك صلح نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مع المشركين في عام الحديبية ، وصلح عليّ (عليه‌السلام) في صفين ، وصلح الحسن (عليه‌السلام) مع معاوية.

وأما نهضة الحسين (عليه‌السلام) مع علمه من قرائن الأحوال أنّه مقتول ومهتوك ظاهرا لا محالة ، فاختار الشهادة تقديما للأهم على المهم. ومن ذلك ما جاء في الكافي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) «لو أنّ رجلا أنفق ما في يديه في سبيل الله ما كان أحسن ولا وفق أليس الله يقول : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي المقتصدين؟!!» فإنّ تفسيره (عليه‌السلام) المحسنين بالمقتصدين يوضح معنى التهلكة في بذل المال ، وهو يدل على ما ذكرناه أيضا كما مر.

١٥٠

بحث روائي

في المجمع عن ربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في الآية المباركة (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) : «هذه أول آية نزلت في القتال ، فلما نزلت كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يقاتل من قاتله ويكفّ عمن كفّ عنه حتى نزلت (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) فنسخت هذه الآية».

أقول : تقدم عدم النسخ في مثل هذه الآيات بل سياق الجميع بعد رد بعضها إلى بعض ليس إلا من سنخ العام والخاص إلا أن يراد من النسخ ذلك كما هو كثير في كلماتهم.

في المجمع أيضا عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ). الآية : «نزلت هذه الآية في صلح الحديبية وذلك أنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لما خرج هو وأصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة وكانوا ألفا وأربعمائة فساروا حتى نزلوا الحديبية فصدّهم المشركون عن البيت الحرام فنحروا الهدي بالحديبية ثم صالحهم المشركون على أن يرجع من عامه ويعود العام القابل وتخلى له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء ، فرجع إلى المدينة من فوره فلما كان العام المقبل تجهز النبي وأصحابه لعمرة القضاء ، وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك وأن يصدّوهم عن البيت الحرام ويقاتلوهم ،

١٥١

وكره رسول الله قتالهم في الشهر الحرام فأنزل الله هذه الآية.

أقول : روي قريب منه في الدر المنثور عن ابن عباس وغيره وما ورد في هذه الروايات يكون من ذكر مناشئ النزول ويصح أن تكون لآية واحدة مناشئ له.

وفي المجمع في قوله تعالى : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) ـ الآية ـ «نزلت في رجل من الصحابة قتل رجلا من الكفار في الشهر الحرام فعابوا المؤمنين بذلك فبيّن الله سبحانه أنّ الفتنة في الدّين ـ وهو الشرك ـ أعظم من قتل المشركين في الشهر الحرام وإن كان غير جائز».

أقول : تقدم الوجه في ذلك.

وفي المجمع أيضا في قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ـ الآية ـ قال : «أي الشرك» قال : وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام).

أقول : الوجه في أنّ الشرك أعظم من القتل في المسجد الحرام معلوم لأنّ الأول بالنسبة إلى أصول الدّين والثاني بالنسبة إلى فروعه وتقدم ما يرتبط بذلك.

العياشي في تفسيره في قوله تعالى : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) عن العلاء بن الفضيل قال : «سألته عن المشركين أيبتدئ بهم المسلمون بالقتال في الشهر الحرام؟ قال (عليه‌السلام) : إذا كان المشركون ابتدءوهم باستحلالهم ، ورأى المسلمون أنّهم يظهرون عليهم فيه وذلك قوله تعالى : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ).

وفي الدر المنثور عن جابر بن عبد الله قال : «لم يكن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يغزو في الشهر الحرام حتى يغزى ، ويغزو فإذا حضر أقام حتى ينسلخ».

في الدر المنثور في قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ـ الآية ـ عن قتادة قال : «وقاتلوا حتى لا تكون فتنة أي شرك ويكون الدّين لله قال حتى يقال : لا إله إلا الله ، عليها قاتل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وإليها دعا ،

١٥٢

وذكر لنا أنّ النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يقول : إنّ الله أمرني أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين قال : وإنّ الظالم من أبى أن يقول لا إله إلا الله يقاتل حتى يقول ، لا إله إلا الله».

أقول : ذيل الآية المباركة يدل على أنّ المراد بالفتنة الشرك والحديث مأخوذ من نفس الآية الشريفة.

في الكافي عن معاوية بن عمار قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل قتل رجلا في الحلّ ثم دخل الحرم فقال (عليه‌السلام) : لا يقتل ، ولا يطعم ، ولا يسقى ، ولا يبايع ولا يؤوى ، حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد. قلت : فما تقول : في رجل قتل في الحرم أو سرق؟ قال (عليه‌السلام) : يقام عليه الحد في الحرم صاغرا لأنّه لم ير للحرم حرمة ، وقد قال الله عزوجل : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) فقال (عليه‌السلام) : هذا هو في الحرم فقال : لا عدوان إلا على الظالمين».

أقول : يستفاد من تمسكه (عليه‌السلام) بالآية الكريمة أنّ المراد هو المثلية المكانية إذا كان للمكان حرمة واحترام.

روى الصدوق عن ثابت بن أنس قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «طاعة السلطان واجبة ومن ترك طاعة السلطان فقد ترك طاعة الله عزوجل ودخل في نهيه إنّ الله عزوجل يقول : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة».

أقول : إن كان المراد بالسلطان سلطان العدل فوجوب إطاعته معلوم لأنّه من إطاعة الله تبارك وتعالى وإن كان من غيره فهو تابع للعناوين الثانوية.

١٥٣

سورة البقرة

الآية ١٩٦ ـ ٢٠٣

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣))

١٥٤

بعد أن ذكر سبحانه أنّ الأهلة هي لمعرفة الأوقات والحج فكان ذلك تمهيدا لما يأتي من أحكام الحج فذكر هنا بعضا منها فبيّن أولا وجوب إتمام الحج والعمرة لله ، ثم ذكر أحكام المحصور وعدم جواز الحلق حتى يبلغ الهدي محلّه إلا من كان معذورا في ذلك يفدي فيحلق وإذا أمن الحاج وزال الخوف ، فإنّه يجب على المتمتع بالعمرة إلى الحج أن يذبح ما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة عند الرجوع إلى الأهل.

ثم بيّن أنّ زمان الحج هو أشهر خاصة ، فمن أوجب على نفسه الحج فيها يجب عليه ترك الرّفث والفسوق والجدال.

وقد ذكر أنّ خير الزاد الذي يتزود ليوم المعاد هو التقوى وأنّ الإنسان لا بد أن يتوخاها بما أوجبه الله تعالى عليه.

وبيّن أنّه يجب على الحجيج أن يفيضوا من عرفات إلى المشعر الحرام ويذكروا الله فيه كما هداهم وأمرهم بعد ذلك أن يفيضوا منه كما يفيض الناس.

كما أمرهم بملازمة ذكره تعالى في جميع حالاتهم وأنّ الأولى لهم أن يطلبوا من الله تعالى ما يرجع إليهم نفعه في الدنيا والآخرة.

وقد أمرهم بالبقاء في منى في أيام معدودات ، وأشار سبحانه وتعالى إلى أنّ جميع أعمال الحج إنّما هي صورة مصغّرة من الحشر إليه تعالى.

وهذه الآيات نزلت في حجة الوداع آخر حجة حجها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وفيها تشريع حج التمتع.

١٥٥

التفسير

١٩٦ ـ قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ).

مادة (ت م م) تدل على انتهاء الشيء إلى حد لا يحتاج إلى شيء خارج عنه بخلاف النقص والناقص.

ويطلق التمام على الجواهر والأعراض والأمور المعنوية ، ويطلق التمام على الكمال مع إمكان التفرقة بينهما في الجملة ، كما يأتي.

والحج هو شعيرة من شعائر الإسلام بل هو أحد أركان الإسلام الخمسة ، وقد شرعه إبراهيم الخليل (عليه‌السلام) وكان عليه العرب في الجاهلية وأقره الإسلام إلى يوم القيامة.

وهو على ثلاثة أقسام :

حج التمتع ـ وهو أفضل الأقسام.

وحج القرآن.

وحج الإفراد.

وواجباته : هي الإحرام ، والوقوف بعرفات ، والوقوف بالمشعر الحرام ، ثم إتيان منى ورمي العقبة والتضحية بها ، ورمي الجمرات الثلاث ، وطواف الحج ، وصلاته ، والسعي بين الصفا والمروة ، وطواف النساء وصلاته.

١٥٦

والعمرة عبادة معروفة أيضا ، وهي على قسمين :

عمرة مفردة.

وعمرة التمتع.

وواجباتها : هي الإحرام ، والطواف وصلاته ، والسعي بين الصفا والمروة.

ولكلّ واحد منهما أجزاء وشروط وآداب وردت في السنة الشريفة ، وقد شرح أبو عبد الله جعفر الصادق (عليه‌السلام) خصوصيات هذين العملين بما لا مزيد عليه حتى نسب إلى أبي حنيفة أنّه قال : «لو لا جعفر بن محمد ما عرف الناس مناسك حجهم». وتضمنتها كتب الأحاديث والفقه ، وفي الحج والعمرة اجتمعت أنحاء العبادات الروحية والبدنية والمالية ، الفردية والاجتماعية.

والمراد بإتمام الحج والعمرة : إتيانهما تامّين بأجزائهما وشرائطهما بحسب ما شرعه الله عزوجل ، وشرحته السنة الشريفة.

ويستفاد من قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) أنّهما عبادتان يعتبر فيهما قصد التقرب لله تعالى ، فلا يتمّان إلا لوجه الله عزوجل.

وذكر بعض المفسرين أنّ المراد من قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) أي ائتوا بهما تامّين فيكون محض أمر بالإتمام بعد الشروع فيهما ، ثم ذكر أنّ العمرة غير واجبة فيكون الأمر بالإتمام للوجوب والندب ، كما تقول : صم رمضان وستة من شوال.

ويرد عليه أولا : أنّ العمرة واجبة بمقتضى الآية والروايات ، وسيأتي في البحث الروائي ما يدل عليه.

وثانيا : أنّ حمل الأمر على الوجوب والندب باطل إلا بالعناية ، وقد نبّه عليه هو في تفسير آية الوضوء أيضا ، فقال بأنّ تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الألغاز والتعمية.

قوله تعالى : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ).

١٥٧

مادة (حصر) تأتي بمعنى الضّيق والحبس يقال : حصره العدو في منزله حبسه ، وأحصره المرض منعه من السفر.

ولها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة تناسب هذا المعنى ، وفي الحديث «هلك المحاصير» أي المستعجلون ، لأنّ الاستعجال في الشيء نحو تضييق في الجملة.

وقيل : إنّ الإحصار في المنع الظاهر عن الوصول إلى بيت الله تعالى ، كالعدوّ ، والحصر ، يقال في المنع الداخل كالمرض.

ولكن عن جمع من أهل اللغة أنّه لا فرق بين الإحصار والحصر فإنّ كليهما يستعملان في الممنوعية عن الإتمام ، سواء كان بسبب عدوّ أو مرض ، إلا أنّه ورد في الأخبار المعتبرة عن الفريقين أنّ المحصور غير المصدود ، فإنّ الأول هو المريض ، والثاني هو الذي يرده العدو.

والاستيسار من اليسر يقال : يسر الأمر واستيسر ، كما يقال صعب واستصعب ، وهو السهولة أي : ما تيسّر كلّ فرد بحسب حاله.

والهدي يصح أن يكون من الهدية والتحفة ، ومن السوق إلى الرشاد ، وهو يرجع إلى الأول ، لأنّ الهدية إلى الله عزوجل نحو سوق لفاعليها إلى الرشاد كلّ بحسبه ، فهدايا العباد إلى الله جلّ جلاله سياق لهم إلى الرشاد لا سيّما إذا تشرّفت بالقبول.

والمراد به : ما يسوقه الناسك من النّعم للتضحية به في مكة أو في منى.

والمعنى : إن منعتم عن الإتمام بسبب مرض أو غيره فليرسل كلّ ناسك ما تيسّر له من الهدي كلّ بحسب حاله من الإبل والبقر والغنم ، ومن موارد ما استيسر من ساق الهدي ثم أحصر فإنّه يكفيه ذلك كما هو المشهور عند الإمامية.

قوله تعالى : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ).

الحلق : استيصال الشعر ، وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) :

١٥٨

«اللهم اغفر للمحلّقين ـ قالها ثلاثا ـ». والمراد بهم في الحج والعمرة ، وإنّما قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ذلك لأنّ أكثر من حج معه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لم يكن معهم هدي فلما حلق من كان معه هدي ، وأمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من لم يكن معه هدي أن يحلق. ولكنّهم اثروا البقاء على إحرامهم ، فتدارك النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ذلك منهم بالدعاء لهم.

والرأس : معروف ويكنّى به عن أعلى كلّ شيء ، وعن الرئيس أيضا.

والمعنى : ولا تحلّوا بالحلق فإنّ الشارع جعل الحلق أول الإحلال حتى يبلغ الهدي محلّه المقرّر شرعا ، وقد حددته السنة الشريفة بأنّه منى إن كان حاجا ، وإن كان معتمرا فمحلّه مكة وفناء الكعبة أو حزورة.

ويستفاد من الآية المباركة : أنّ للهدي محلا معينا لا يصح أن يذبح في غيره ، إلا أنّ السنة حدّدته بمنى أو مكة ، كما عرفت.

قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ).

الأذى : ما يصل إلى الإنسان من المكروه في نفسه أو جسمه أو تبعاته. وكذا بالنسبة إلى مطلق الحيوان.

ولهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم ، فقد ورد استعمالها بالنسبة إلى الله عزوجل ورسوله أيضا ، قال تعالى : (يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأحزاب ـ ٥٣] ، وقال تعالى : (لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ) [الأحزاب ـ ٦٩].

والفاء للتفريع على الحكم السابق الدّال على النهي عن حلق الرأس فيكون المراد بالمرض خصوص المرض في الرّأس الناشئ من ترك الشّعر وعدم الحلق ، ومن مقابلته للأذى يستفاد أنّ الأخير حاصل من غير المرض ، كالهوام وغيره ، ففي الحديث : «إنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله). مر على كعب بن عجرة الأنصاري والقمل يتناثر من رأسه ، فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أيؤذيك هوامك؟ قال : نعم ـ الحديث ـ».

١٥٩

والمعنى : فمن كان منكم في حال الإحرام مريضا يضرّه توفير الشّعر ، أو بالرّأس ما يؤذيه كالقمل ونحوه من الهوام ، فإنّه يجوز الحلق مع الفدية.

قوله تعالى : (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ).

الصدقة : ما يتطوّع به في سبيل الله واجبا كان أم غيره. ومادة «نسك» تأتي بمعنى العبادة ، والناسك العابد ، واختصت بأعمال الحج ، كما أنّ النّسيكة تختص بالذبيحة.

أي : إنّ المحرم الذي جاز له الحلق حال الإحرام يفدى بواحدة من هذه الخصال الثلاث : إما الصيام ، أو الصدقة ، أو النسك. ولم تبيّن الآية حدود كلّ واحدة من هذه الخصال إلا أنّه ورد في السنة المقدّسة ما يبيّن ذلك ، فالصيام بثلاثة أيام ، والصدقة إطعام ستة مساكين ، والنسك ذبح شاة.

قوله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ).

الأمن : طمأنينة النفس ، وزوال الخوف. والأمن والأمان ، والأمانة تستعمل مصدرا تارة ، واسما أخرى ويفرق بالقرائن.

ومادة (متع) تأتي بمعنى الارتفاع والانتفاع ، يقال : متع النهار ومتع النبات إذا ارتفع. قال تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) [البقرة ـ ٣٦] ، أي : انتفاع. ولهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بالنسبة إلى الدنيا والآخرة ، وغالب استعمالاتها تشعر بالقلّة والزوال والتحديد ، وهو كذلك إذ لا نسبة بين المتناهي من كلّ جهة وغير المتناهي كذلك ، وفي الحديث : «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء».

وسمي حج التمتع تمتعا ، لأنّ المحرم يحلّ من إحرامه بعد تمام العمرة ، فينتفع بما حرّم عليه لأجل الإحرام حتى يهلّ للحج ، فهو إحلال بين إحرامين.

وهذه الآية صريحة في تشريع حج التمتع لأنّ الجملة الخبرية أصرح في التشريع من الإنشائيات ، وقد أثبتوا ذلك في الأصول ومن شاء فليراجع كتابنا

١٦٠