مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٦

وبالمراجعة إلى كتب التاريخ والفلك نرى أنّ أقدم الطرق في معرفة الوقت وتحديد السنة والشهر هو القمر ، فقد كانت الأمم السابقة تستند استنادا أساسيا إلى التقويم القمري ، وإن كان في عرض ذلك بعض التقاويم الأخرى كالتوقيت بطلوع نجم ، أو موت إنسان عظيم ، أو حادثة ونحو ذلك ، ولكنّهم أساسا لم يحيدوا عن التقويم القمري ، بل كان يساير سائر التقاويم حتى عصرنا الحاضر.

فالمصريون القدماء كانوا يحسبون الزمن بواسطة القمر قبل أن ينتقلوا إلى التقويم الشمسي وقد قسّموا السنة إلى اثني عشر شهرا ، وكلّ شهر إلى ثلاث وحدات متساوية ، وكانت السنة تبتدئ عندهم في أول يوم من شهر (توت) وهذا هو اليوم السادس عشر من شهر يوليه ، ومجموع السنة عندهم ٣٦٥ يوما.

وكذلك البابليون فقد كان تقويمهم الخاص هو التقويم القمري واعتمدوا عليه أشد من غيرهم ، وكان كلّ شهر عندهم مكوّنا من (٢٩) يوما ، والشهور تعقب بعضها بعضا. ومعدّل السنة عندهم ٣٥٤ يوما قصيرا ، ولكنّهم أضافوا شهرا ثالث عشر عند كلّ ثمان سنوات لاعتبارات ، وقسموا الشهر إلى أسابيع وأيام ، ولكن أسابيعهم لم تكن مثل أسابيعنا ، بل كان يحتم عليه أن يكون اليوم الأول من كل شهر هو اليوم الأول من الأسبوع ، ويعزى إليهم أنّهم قسموا اليوم إلى ساعات متساوية لكلّ من الليل والنهار ، وإن كانت الصورة الكاملة لهذه الوحدات حدثت في عصر متأخر عنهم ولكن لهم الشأن الكبير في علم الفلك فقد وصفوا حركات الكواكب وصفا دقيقا وشرحوا ذلك في جداول حسابية.

وأما السومريون فقد تبعوا غيرهم في التقويم القمري إلا أنّهم اعتبروا السنة مكوّنة من (٣٦٠) يوما ، وقسّموا اليوم الكامل إلى ست ساعات أي : ثلاث ساعات لليوم ، وثلاث أخرى للّيل مع اختلاف طول كلّ ساعة عن الأخرى ، ولكنّهم أعرضوا عن ذلك لدركهم بعدم صلاحية الساعات غير المتساوية.

وأما اليونانيون القدماء فكان تقويمهم تقويما قمريا صرفا مع شيء من التغيير في فصول السنة.

١٢١

وأما الرومانيون فإنّ أقدم تقويم عندهم كان تقويما قمريا ، ولهم في ذلك بعض المراسيم التي كانت تحت سلطنة الكهنة.

وأما العبريون فهم يتبعون التقويم القمري حتى عصرنا الحاضر ، وإنّ أحد المهام الملقاة على عاتق الكهنة هو تعيين غرة الهلال ، ووضع الأسماء للشهور.

ومن هذه النبذة التاريخية يعلم بأنّ التقويم القمري هو الأصل في جميع الأدوار التاريخية التي مرت بها التقاويم الموضوعة لمعرفة قياس الزمن.

ولكن التقويم القمري مع ما فيه من المحاسن لا يخلو من مشاكل ومتاعب ، ولذلك عدل بعض الأقوام إلى تعيين السنة الشمسية وهذا التقويم الشمسي مر بأدوار مختلفة ولم يصل إلى ما وصل إليه الآن إلا بفضل جهود ومتاعب ، فقد كانت مشكلات التقويم في البلاد القديمة كثيرة خصوصا إذا أريد التوفيق بين تواريخ الأمم المختلفة فكان زمن التحويل من نظام إلى نظام آخر أمرا عسيرا.

فقد أخذ بعض الأقوام التقويم المختلط من التقويم القمري والتقويم الشمسي ثم عدلوا عن ذلك واثروا استخدام التقويم الشمسي ، وبقي هذا التقويم مع ما عليه من الاختلاط بين الأمم معمولا به إلى أن اقتضت الضرورة إلى إصلاح التقاويم ووضع التقويم اليوليوسي بأمر من يوليوس قيصر وتحت إشرافه في أول مارس ، ثم عدل إلى أول يناير عام ١٥٣ قبل الميلاد ، وابتدأ العمل به عام ٤٥ ، وسمي هذا التقويم باسم التقويم الميلادي وأصبحت السنة ٣٦٥ وربع يوما تكبس كل أربع سنوات بيوم واحد بعد ٢٣ شباط [فبراير] ووضع أسماء خاصة لشهور هذه السنة وطرحت بقية التقاويم.

إلا أنّ هذا التقويم قد بان فيه الاختلاف فجرى إصلاحه على يد البابا جريجوري الثالث عشر في ٤ أكتوبر عام ١٥٨٢ وهو المعمول به في أغلب البلدان ، ويسمى بالتقويم الجريجوري.

وأما عند المسلمين فهم يتبعون التقويم القمري المتكوّن من اثني عشر

١٢٢

شهرا لكلّ شهر اسم خاص به كان مشهورا عند العرب قبل الإسلام ، وابتداء السنة الجديدة من أول محرّم الحرام ويسمى بالسنة الهجرية تخليدا للحدث العظيم ، وهو الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة ، والهجرة وإن كانت في شهر ربيع الأول ، لكنّهم آثروا أن يكون ابتداء السنة من أول محرّم الحرام.

وقد وضع هذا التقويم في زمن الخليفة الثاني بمشورة من عليّ (عليه‌السلام) وذلك في سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة ووقع اختيارهم على أن يكون أول السنة شهر محرم منصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام.

ولكن يستفاد من بعض الروايات أنّ جعل أصل التاريخ الهجري كان بوحي من السماء فقد ورد في سند الصحيفة الملكوتية للسجاد (عليه‌السلام) عن عليّ (عليه‌السلام) : «أتى جبريل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بهذه الآية : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) [الإسراء ـ ٦٠] قال : يا جبريل على عهدي يكونون وفي زمني؟! قال : لا ولكن تدور رحى الإسلام من مهاجرك فتلبث بذلك عشرا ثم تدور رحى الإسلام على رأس خمس وثلاثين من مهاجرك».

ومع ذلك فقد كانوا يعملون بالسنة الشمسية في كثير من الأمور المدنية وقد تصدّى بعض العلماء للتوفيق بين السنة الهجرية والسنة الشمسية فوضع تقويما هجريا شمسيا.

ولم يكن للعرب تاريخ يجمعهم بل كان كلّ طائفة منهم تؤرخ بما وقع من الحوادث المشهورة بينهم إلا أنّ قريشا كانت تؤرخ من عام الفيل وكان عليه العمل حتى أرخ بالهجرة.

وهناك تقاويم أخرى عفا عليها الزمن وأصبحت مهجورة ، أو انحصر العمل بها عند أقوام معينين لا يتعداهم إلى غيرهم.

ثم إنّه تقدم أنّ الزمان عبارة من مجموع الشهر والأسابيع وساعات الليل

١٢٣

والنهار ، والسنة وحدة كبيرة مؤلفة منها ، وهي وحدات فلكية لقياس الزمن ولكن هذه الوحدات متدرجة في الكبر فالسنة وحدة كبيرة جدا ثم الشهر ثم الأسبوع ثم الساعات.

وقد دعت الحاجة إلى قياس الزمان بوحدات صغيرة فوقع اختيارهم على الأسبوع ، وتقدم أنّ سير القمر في منازله وأوجهه الأربعة كان لها التأثير الكبير في تقسيم الشهر إلى أربعة أسابيع ، وقد مرت أدوار كثيرة على هذه الوحدة الزمنية حتى صارت مثل ما عليها اليوم من الثبات وربما يكون السبب الديني هو المهم في اختيار عامة الأقوام القديمة الأيام السبعة وإن كان وراء ذلك أسباب طبيعية واعتبارية ثانوية اخرى ، ويظهر ذلك جليّا بوجود يوم مقدّس عند الأديان الإلهية في الأسبوع وإن كانت أسماء الأيام ترجع إلى أصل طبيعي فلكي كما ستعرف.

ويذكر التاريخ أنّ من الشعوب القديمة كان البابليون ومن بعدهم اليهود أول من فكر باسبوع يتألف من سبعة ايام.

فقد نشأت فكرة الأسبوع عن البابليين من الكواكب السبعة السيارة التي تشمل الشمس والقمر عندهم ، ولذا خصص كلّ يوم من أيام الأسبوع لأحد الكواكب السبعة.

وأما عند اليهود فيرجع اختيارهم الأسبوع إلى الوحي ، وقد ورد في سفر التكوين الإصحاح الأول وسفر الخروج الإصحاح الثاني عشر ذكر الأيام ويبتدئ الأسبوع من يوم الأحد وآخره يوم الراحة أو الشبات [أي السبت] بخلاف ما عليه النصارى فإنّ آخر يوم الأسبوع عندهم يوم الأحد.

ولم يكن عند المصريين الأسبوع بل كان الشهر عندهم مقسما إلى ثلاثة وحدات زمنية تسمى (بالديكاد).

وأما عند الرّومانيين فقد كان الأسبوع عندهم مؤلفا من ثمانية أيام وكان السبب في ذلك أنّهم اعتبروا الخير لهم أن يقسموا كذلك من دون أن يكون سببا دينيا أو فلكيا وراء ذلك.

فجعلوا : اسم الشمس على الأحد ، والقمر على الاثنين ، والمريخ على

١٢٤

الثلاثاء ، وعطارد على الأربعاء ، والمشتري على الخميس ، والزهرة على الجمعة ، وزحل على السبت. وقد أقرت الكنائس المسيحية هذه الأسامي مع شيء من الحذر.

ولكن يبقى شيء هو أنّ ترتيب الكواكب السبعة غير ما هو عليه في التقويم ولم يعلم السبب لذلك.

وتستمر أيام الأسابيع طوال الشهر والسنة دون انقطاع ومع الاستمرار تامة.

وأما عند المسلمين فلم تختلف الحال عندهم عن غيرهم فالأسبوع عندهم مكوّن من سبعة أيام يبتدئ من يوم السبت ويكون اليوم الآخر هو يوم الجمعة.

وأما تقسيم اليوم إلى الساعات فهو أيضا قديم فقد قسم المصريون النهار إلى ١٢ ساعة وقسموا الليل كذلك لكن إن تزايد النهار تزايدت ساعاته أيضا وإن تناقص تناقصت ، وقسم السومريون أولا الليل والنهار إلى ثلاث نوايات للنهار وثلاثة أخرى للّيل كذلك وأخذ اليهود ذلك منهم كما ورد في سفر الخروج ١٤ و ٢٤.

ولكنّهم بعد ذلك أعرضوا عن حساب الساعات غير المتساوية فقسموا اليوم بكامله إلى ساعات متساوية عددها اثنى عشر ساعة وكل ساعة إلى ثلاثين (جشا) وهكذا يتألف اليوم من ٣٦٠ جشا ، كما تألفت السنة عندهم من ٣٦٠ يوما.

وبذلك فقد ورثنا تقسيم اليوم إلى أربع وعشرين ساعة من المصريين وفكرة الساعات المتساوية وتقسيم الساعة من السومريين.

ثم بعد ذلك قسم هيبارطوس النهار والليل إلى أربع وعشرين ساعة اعتدالية وأما عند عامة الناس فقد قسم اليوم إلى ساعة موسمية غير متساوية. وهكذا الأمر عند الرومان مع شيء من التعديل.

هذا ما أردنا ذكره من التقويم بإيجاز في هذا البحث وإن كان مثل هذه الدراسة معقدة جدا لاختلاط الموضوع بالخرافات والعادات والتقاليد السائدة قد كان للعلماء شأن كبير في تهذيبه.

١٢٥

سورة البقرة

الآية ١٩٠ ـ ١٩٥

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥))

الآيات الشريفة تتضمن حكما آخر من الأحكام الإلهية ، وهو تشريع القتال مع المشركين ، ولأهمية الحكم في نشر الحق ، وإبطال الباطل ، ولاستلزامه اعتراض المعترضين من المخالفين ، فقد بيّن سبحانه جميع ما يتعلق به من حيث الحدود والشروط ، والمتعلق ، والزمان ، والمكان ، والغرض وسائر اللوازم.

وهي تتضمن من القواعد التي يحكم بها العقل في النظام الأحسن : قتل المقاتل ، وكونه بإذن الله وفي سبيله ، وترك الاعتداء. ولذلك اعتبر أنّ القتال مع المشركين دفاع عن النفس ، ومقابلة بالمثل.

١٢٦

وسياقها يدل على أنّها نازلة دفعة واحدة ، لارتباط بعضها مع بعض في بيان غرض واحد ، واتفاقها في الأسلوب.

ويستفاد من مجموعها أنّها نزلت لبيان حكم جديد في هذا الموضوع ، وتشريع للقتال لأول مرة مع مشركي مكة ، فإنّها نزلت بعد الهجرة والإخراج عن مكة ، ولم يشرع القتال قبلها.

وبذلك يكون الفرق بين هذه الآيات وبين آية الإذن في القتال : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) [الحج ـ ٤٠] ، فإنّ الثانية إذن عام من غير شرط ، بخلاف الأولى ، فإنّها محدودة ومشروطة.

ومن ذلك كلّه يتبيّن عدم نسخ شيء من هذه الآية.

١٢٧

التفسير

١٩٠ ـ قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ).

القتال معروف ، وهو محاولة قتل القاتل. والمعروف بين الأدباء وتبعهم المفسرون أنّ المفاعلة تتقوّم بطرفين في جميع استعمالاتها ولكن ذكرنا سابقا أنّ ذلك مخالف لجملة كثيرة من موارد استعمالها في القرآن الكريم ، قال تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ) [البقرة ـ ٩] ، وقال تعالى : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ) [النساء ـ ١٠٠] ، وقال تعالى : (شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأنفال ـ ١٣] ، إلى غير ذلك من الآيات ، فاضطروا إلى التكلف في مثل هذه الآيات والاستعمالات الفصيحة.

وفي المقام لو التزمنا بمقالتهم يلزم التكرار ، لكفاية قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) عن قوله تعالى : (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ).

والحق أن يقال : إنّ المفاعلة إنّما يؤتى بها لإنهاء المادة إلى الغير ، سواء كان الغير متلبسا بها أم لا ، وحينئذ لا بد في تلبس الغير من ملاحظة القرائن ويكفي في التلبس الشأنية القريبة مع وجود أمارات معتبرة تدل عليها ، كما فصّل الفقهاء ذلك في المحارب ، والمهاجم على النفس والعرض والمال ، وتعرضنا له في كتابنا (مهذب الأحكام).

والمراد من سبيل الله مرضاته ودينه الحق ، وذكره في المقام لبيان أنّه

١٢٨

الغاية ، بل غاية الغايات وأقصى الأغراض ، فإنّ الإسلام إنّما جاء لحفظ إنسانية الإنسان والدفاع عن الأنفس والأموال والأعراض ، ولا بد في ذلك من ملاحظة سبيل الله تعالى والإخلاص فيه وعدم التعدي عما حدّده الله تعالى ، وأعظم ما يمكن نقله في المقام تأييدا لما ذكرناه ما نقل عن عليّ (عليه‌السلام) في بعض الغزوات أنّه ظفر على عدوّ له فلما أراد قتله أهان العدوّ في وجهه الكريم (بصق) فألقى عليّ (عليه‌السلام) سيفه من يده هنيئة ثم أخذه وقتله ، ولما سئل عن السبب قال : «لو قتلته في تلك الحالة لما كان خالصا لوجه الله تعالى». وهذا مثل إسلامي يدل على عظمة ما جاء به الإسلام ، وسموه عن العواطف الشخصية ، والحزازات القبلية.

ويستفاد من قوله تعالى : (فِي سَبِيلِ اللهِ) أنّ الجهاد عبادة لا بد وأن يقصد به وجه الله تعالى ، وفيه إشارة إلى قطع جميع الإضافات ، والقلع عن جميع الشهوات ، وإبطال ما كان عليه أهل الجاهلية والهمجية من قتل الناس ، والاستيلاء على أموالهم ، وهتك أعراضهم من غير سبب ولا غرض عقلائي ، فضلا عن أن يكون في سبيل الله تعالى.

والمعنى : قاتلوا أيّها المؤمنون في سبيل الله ووجهه الكريم ونصرة دين الحق الذين يقاتلونكم وينكثون عهدكم ، ويريدون سفك دمائكم.

قوله تعالى : (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).

الاعتداء والعدوان : المجاوزة عن الحد ، سواء كان في القول أم الفعل أم المال أم غيره. وهو من أقبح الصفات المذمومة ، وهي مكروهة عند الله تعالى ، وقد استعمل عبارة (لا يُحِبُ) بالنسبة إلى الله عزوجل في أكثر من عشرين موردا ، قال تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة ـ ٢٠٥] ، وقال تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) [الحديد ـ ٢٣] ، وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) [الأنفال ـ ٢٨] ، وقال تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران ـ ٥٧] ، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.

وهي من الكنايات البليغة اللطيفة فإن أدب القرآن هو التعبير عن الملزوم

١٢٩

باللازم لمصالح في ذلك.

ويكون المراد من عدم محبته تعالى ـ الذي هو من أشد الخسران ـ الكراهة والسخط ، وهما والحب من صفات فعله عزوجل.

والآية تأكيد لما سبق فإنّ قوله تعالى : (فِي سَبِيلِ اللهِ) يدل على عدم مشروعية التجاوز والاعتداء في الدفاع والقتال بالملازمة. وإنّما كرره صريحا لأهمية الموضوع ، ولبيان علة النهي في قوله تعالى : (لا تَعْتَدُوا) ، كما علّل الإذن بالقتال بأنّه دفاع في سبيل الله تعالى.

وإطلاق الآية الشريفة يقتضي النّهي عن كلّ اعتداء صغيرا كان أو كبيرا ، وسواء كان في الابتداء بالقتال أم في التجاوز في القتل أم في المكان ، وسواء كان في النفس أم في المال أم في العرض أم في الأدب في الكلام أم في الفعل وغير ذلك مما ورد في السنة الشريفة.

ويختلف قبح الاعتداء باختلاف المعتدين ، فمن كان في طريق الإرشاد والدعوة إلى الله عزوجل يكون اعتداؤه أقبح وأبغض.

١٩١ ـ قوله تعالى : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ).

تستعمل «حيث» في المكان المبهم ، كحين في الزمان المبهم ويرتفع الإبهام مما بعدهما في سياق الكلام ، فيكون التعريف والتعيين من باب الوصف بحال المتعلق.

ويختص استعماله بالممكنات ، ولا تستعمل فيه تبارك وتعالى ، وفي الحديث : «هو الذي حيّث الحيث فلا حيث له وأيّن الأين فلا أين له». وهذا مبنيّ على قاعدة فلسفية أسسها الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) وهي : «أنّ كل ما يوجد في المخلوق لا يوجد في الخالق» ، وعن عليّ (عليه‌السلام) : «كيف أصفه بحيث وهو الذي حيّث الحيث حتى صار حيثا».

وهناك قاعدة أخرى ذكرها عليّ (عليه‌السلام) في بعض خطبه المباركة :

١٣٠

«بائن عن خلقه بينونة صفة لا بينونة عزلة». والقاعدتان موافقتان للأدلة العقلية ، والذوق العرفاني الذي لا ينال إلا بالانقطاع عن العلائق والتوجه التام إلى ربّ الخلائق.

وأصل مادة (ثقف) تدل على الحذق في إدراك الشيء وفعله أي سريع التعلم ، ثم استعملت في مطلق إدراك الشيء. وفي حديث الهجرة عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «غلام شاب لقن ثقف» أي : ذو فطنة وذكاء ، ثابت المعرفة.

والمعنى : واقتلوهم حيث أدركتموهم ووجدتموهم كما في آية أخرى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة ـ ٦] ، إلا أنّ الفرق بينهما أنّ الثقف هو الوجود على وجه الغلبة ، والوجدان أعم من ذلك ، والتعميم بلحاظ الحل والحرام.

قوله تعالى : (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ).

أي : وأخرجوهم من ديارهم كما أخرجوكم ، وهي مكة المكرمة ، فإنّهم عدوا على المسلمين يقاتلونهم ، لأنّهم أسلموا ، وأخرجوهم من ديارهم ، ولا يزالون يجهدون في الفتنة.

قوله تعالى : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ).

أصل مادة (فتن) تأتي بمعنى إدخال الذهب في النار ليعلم جودته من ردائته ، ثم استعملت في عدة معان تلازم ذلك بالعناية كمطلق الاختبار ، والعذاب ، والهلاك ، والابتلاء ، والخلوص وغير ذلك مما يأتي في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

وفي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «المسلم أخو المسلم يتعاونان على الفتّان» أي يعاون المسلم أخاه على الذين يضلون الناس عن الحق أو الشريعة الإلهية كالشيطان لخلاصه منهم.

والافتتان تارة : من الله تعالى بالنسبة إلى عباده. وأخرى : من عباده بعضهم لبعض.

١٣١

والأول : موافق للمصالح الواقعية المترتبة عليه كإتمام الحجة ، أو إظهار مقام العبد ودرجته عند غيره في الدنيا والآخرة ، أو اعتبار غيره به ، أو تعويضه عن ذلك بعوض أحسن وأفضل في الدنيا أو الآخرة أو هما معا إلى غير ذلك من المصالح التي لا تبلغها العقول ، وفي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «المؤمن خلق مفتنا»

أي ممتحنا يمتحنه الله تعالى بما يشاء له.

والثاني : إنّما هو لإزالة الجهل وتحصيل العلم غالبا. وربما يكون ممدوحا كما أنّه ربما يكون مذموما ، ويختلف بحسب الجهات والخصوصيات.

والمراد به هنا الشرك وصرف المسلمين عن دينهم بكلّ سبيل قتلا وتعذيبا وإغراء.

وهذه الآية قضية عقلية من مداليل الفحوى والأولوية ، يعني : إذا أرادوا قتلكم فاقتلوهم ، كما أنّهم إذا كانوا في معرض الافتتان بالكفر والشرك فاقتلوهم بالأولى ، لأنّ في القتل انقطاع الحياة الدنيا ، وفي الفتنة انقطاع حياة الدنيا والآخرة ، وأنّ الضال المضل منشأ الفساد والإفساد ، فيوهن قوى المجتمع ، ولذا أوعد الله تعالى عليه أشد العذاب فقال جل شأنه : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) [البروج ـ ١٠].

كما أنّ في قتلهم إياكم إزالة حياة نفر منكم في الظاهر مع بقاء الحياة الأبدية ، وأما الافتتان بالشرك والكفر إزالة للحياة الأبدية الدائمة ، فيكون أشد لا محالة. ولذلك نظائر كثيرة في المحاورات الفصيحة ، مثل قول الشاعر :

جراحات السّنان لها التيام

ولا يلتام ما جرح اللسان

وقولهم :

قتل بحدّ السيف أهون موقعا

على النفس من قتل بحدّ فراق

والآية بمجموعها تبيّن حكما من الأحكام النظامية الاجتماعية ، فإنّ فيها قمع مادة الشرك وإزالة مناشئ الشرك والكفر بعد الجحود والإصرار عليهما.

وفيها أحكام ثلاثة : قتل المشركين ، والإخراج من ديارهم كما أخرجوا

١٣٢

المسلمين ، وأنّ البقاء على الشرك أشدّ وأعظم من القتال مع المسلمين.

قوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ).

استثناء عن الأمر بالقتال في كلّ مكان ، فنهى عنه عند المسجد الحرام ، للزوم احترامه وتعظيمه إلا أن يقاتلوكم فيه ويهتكوا حرمته فلا حرمة لهم ولا أمان حينئذ.

وإنّما عبّر سبحانه بلفظ (عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ليشمل المسجد والحرم الأقدس الإلهيّ المحيط به ، فإنّه حرم منذ أن خلق الله تعالى الأرض وإلى أن يرثها ومن عليها فتظهر وحدة المبدأ والمرجع ، وتظهر حقيقة (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [الأعراف ـ ٢٩].

والضمير في «فيه» يرجع إلى الحرم والمكان المدلول عليه بقوله تعالى : (عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

قوله تعالى : (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ).

تأكيد للحكم السابق وتحذير لهم بأن لا يقدموا على قتلهم من غير ابتداء قتال منهم ، ولا يهتكوا حرمة المسجد الحرام من غير سابق هتك منهم ، فإذا قاتلوكم عند المسجد الحرام فاقتلوهم فإنّهم هتكوا حرمته ولا يمكن أن يكون الحرم حينئذ أمنا لهم فلا بد من عقابهم بعقوبة مماثلة.

ويمكن أن يكون التكرار لأجل بيان شناعة الذنب فلا بد من الشدّة في العقوبة.

قوله تعالى : (كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ).

أي : أنّ جميع ما مر من القتل ، والإخراج ، والقتل في المسجد الحرام عند هتكهم له جزاء الكافرين ، وقد جرت سنته تعالى أن يجازي الكافرين بمثل هذا الجزاء ، لأنّهم هتكوا حرمات الله تعالى وبدءوا بالعدوان ، وتعرّضوا لعذاب الله تعالى وسخطه. والآية المباركة تدل على قمع أصلهم واستئصال نسلهم.

١٣٣

١٩٢ ـ قوله تعالى : (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

الانتهاء : الامتناع أي : إذا امتنعوا عن القتال ، وكفّوا عنه عند المسجد الحرام فإنّ الله غفور رحيم أو فاقبلوا منهم توبتهم (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) كما في قوله تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) [الأنفال ـ ٦١].

والظاهر أنّ هذه الآية بالنسبة إلى انتهائهم عن قتال المسلمين ، والآية التالية في إغرائهم عن الشرك الذي هو أشد من الأولى فلا تكرار.

١٩٣ ـ قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ).

بيان لغاية القتال وأمده ، كما أنّ الجملة الاولى بيان لمبدئه أي : قاتلوا المشركين حتى لا تكون فتنة وضلال في البين.

والمراد بالفتنة هنا : الشرك فإنّه يسبب الضلال والصرف عن الحق ويأتي في البحث الروائي ما يدل عليه.

قوله تعالى : (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ).

أي : يكون الدّين هو الدّين الحق المستقر على التوحيد الذي لا شرك فيه ولا ضلال. ونظير هذه الآية قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الأنفال ـ ٣٩] إلا أنّ الفرق بينهما أنّ الثانية إعلان للقتال مع جميع المشركين ولذا قيّد الدّين بقوله جل شأنه (كُلُّهُ) بخلاف الاولى فإنّها أمر بقتال مشركي مكة.

والمراد من الدّين هنا : معتقدات الناس ، وفي الحديث أنّه (عليه الصلاة والسلام) : «كان على دين قومه» أي : دين إبراهيم (عليه‌السلام) ومعتقداته من الحج وسائر العبادات ، والنكاح ، والميراث وغيرها من أحكام الإيمان ، بل ومكارم الأخلاق.

والمراد بكونه لله. صيرورة جميع تلك المعتقدات المختلفة اعتقادا واحدا محبوبا لله تعالى ، وهو الدين الذي جاء به القرآن على لسان نبينا الأعظم (صلّى الله

١٣٤

عليه وآله) وبيّنه بأحسن بيان وأفضله ، وقال تعالى فيه : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [المائدة ـ ٣].

قوله تعالى : (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ).

أي : إذا كفوا عن القتال والفتنة وآمنوا فلا عدوان إلا على الظالمين المعتدين.

ومن جميع ذلك يعلم أنّ الآية الشريفة ليست منسوخة بشيء ، ولا هي ناسخة لبعض قيودها إذ أنّ كل قيد إنّما هو في موضعه.

والمعنى : فإن انتهوا عن عدوانهم فلا تعتدوا عليهم بالقتل والأسر ، لأنّه يختص بالظالمين ، وتسمية ذلك عدوانا مع أنّه حق من باب المجانسة الحسنة ، لأنّهم إنّما يكونون في مقام الاعتداء فسمى جزاء الاعتداء اعتداء أخذا عليهم وإلزاما لهم بفعلهم أي : إنّ أصل العدوان إنّما وقع عليهم بفعلهم.

١٩٤ ـ قوله تعالى : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ).

تقدم معنى الشهر عند قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ) وأشهر الحرم أربعة : ذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرّم ، ورجب ، سميت بذلك لحرمة القتال فيها حتى في الجاهلية فلو أنّ أحدا منهم لقي قاتل أبيه أو أخيه فيها لم يتعرّض له بسوء حتى ينقضي الشهر الحرام ولعل الأصل فيه شريعة إبراهيم (عليه‌السلام) واستمر العرب عليه وأمضاه الإسلام.

والمعنى : إنّ الشهر الحرام يقابل الشهر الحرام في الحرمة والهتك فإذا هتك الشهر الحرام بالقتال فيه فلا محذور في قتالهم فيه ومعاملتهم بالمثل ، وليس ذلك بهتك وإنّما هو إعلاء كلمة التوحيد ودفاع عن الدّين وقيمه.

وقد أذن سبحانه وتعالى للمسلمين بقتال المشركين في عمرة القضاء سنة سبع بعد أن صدهم المشركون من النسك عام الحديبية سنة ست وإن كرهوا قتالهم في الشهر الحرام ، فبين سبحانه أن ذلك ليس بعدوان بل هو معاملة بالمثل ولم يكن

١٣٥

هتكا للشهر الحرام.

قوله تعالى : (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ).

الحرمات : جمع حرمة كظلمة وظلمات وهي : ما يجب احترامه وتعظيمه ويحرم هتكه ، وفي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لا يسألوني خطّة يعظّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» أي : لا يسألوني عن أمر خطب ومشكل يعظمون فيه حرمات الله إلا أجبتهم.

والقصاص من المقاصة والمقابلة أي : إنّ كلّ هتك لحرمة ما يجب احترامه وتعظيمه يقابل بالمثل ، فلو هتكوا حرمة الشهر الحرام والبيت الحرام ، والحرم المقدّس الإلهي جاز للمؤمنين قتالهم فيه ولم تسقط الحرمات عن الحرمة بل هو نصرة الدّين الحق ونصرة التوحيد وسيد المرسلين.

وبذلك كسب المسلمون العزة والاحترام وكسب المشركون الخزي والعار بهتك الحرمات وقتال المسلمين فيها.

وفي الكلام الكريم جمع بين اللطف والعتاب ، وأخذ الظالم بظلمه وفيه كمال العناية بحيث يجلب قلب الإنسان وخطاب مع الضمير ، ومثل هذا له التأثير الكبير في النفس.

قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ).

خطاب عام بعد خاص أمر بالاعتداء مع أنّه لا يحب المعتدين ، لأنّ المذموم منه ما كان ابتداء وأما إذا كان في مقابل اعتداء آخر فليس إلا دفع الاعتداء وقهر شوكة الظالم والتعالي عن الذل والهوان.

وإنّما عبّر سبحانه وتعالى بالاعتداء من باب المجانسة اللفظية والازدواج في الكلام وإلا فليس ذلك اعتداء ، نظير ذلك ما ورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «تكلفوا من العمل ما تطيقون فإنّ الله لا يمل حتى تملوا» أي : إنّ الله لا يملّ أبدا مللتم أو لم تملّوا ولا يقطع عنكم فضله حتى تملّوا فسمى فعله سبحانه وتعالى مللا على طريق الازدواج في الكلام كما هو عادة العرب في كلامهم.

١٣٦

وفيه إيماء إلى أنّ الاعتداء ما إذا كان صادرا عن ابتداء ، فأخذ عليهم وألزمهم بفعلهم ، أي أنّه وقع عليهم بفعلهم.

والمعنى : من اعتدى حدود الحق عليكم فاعتدوا عليه مجازاة ومعاملة بالمثل بمقداره دون الزيادة.

وهذا حكم عقلي يجري في جميع شؤون حياة الإنسان النظامية والاجتماعية.

وقد استدل فقهاء المسلمين بهذه الآية المباركة في مواضع متعددة في الفقه الإسلامي وأسسوا قاعدة المثلية في الضمانات طبقا لهذه الآية الشريفة ، وهي قاعدة فطرية إلا أنّ التحديدات الواردة عليها إنّما هي شرعية كما هو الشأن في كثير من القواعد الفطرية.

والمراد بالمثلية المتعارفة منها في الكم والكيف وسائر الجهات الفرعية المختلفة لأجلها الأغراض العقلائية ، ومن التحديد بالمثل يستفاد أنّ الزيادة عليه اعتداء لا بد وأن يقتص بها.

وليس المراد بالمثلية العقلية منها فإنّها غير ممكنة بل هي مستحيلة إذ كيف يمكن تحصيلها مع ما يعتبر فيها من تحقق جميع النسب والإضافات العامة كالزمان والمكان ونحو ذلك ، ولذا لم تعتبر في الإسلام المبني على التيسير والتسهيل.

وإنّما أفرد الضمير في «عليه» باعتبار لفظ «من».

ويستفاد من الآية الشريفة العدل الإسلامي الجاري في القليل والكثير والضعيف والقوي. والفقير والغني وكان ذلك معيارا للتمييز بين الحق والباطل.

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).

ترغيب إلى ملازمة الاحتياط مهما أمكن ، فإنّ المقام مقام الشدة والبأس ، واستيلاء القوة الغضبية الداعية إلى الانتقام والطغيان والانحراف عن الاعتدال أمرهم بملازمة التقوى والاستقامة في الدّين وتحذير لهم بأن لا يتعدّوا عما رخصه الله تعالى ، فاتقوا الله في جميع شؤونكم وفي جميع حالاتكم ، واعلموا أنّ الله مع المتقين وناصرهم ، وهم محتاجون إلى نصرته وولايته في مثل هذه الحالة.

١٣٧

وفي الخطاب كمال العطف والعناية ، وإعلام لهم بأنّ الله تعالى قادر على الانتقام من المعتدين ورد اعتدائهم عليهم وأنّ معية الله تعالى مع أهل التقوى في مثل هذه الحالة تزيل أثر الاعتداء.

قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ).

أمر بإنفاق المال في سبيل الله تعالى بعد الأمر بالجهاد ومقاتلة أعداء الله تعالى ، لأنّ الجهاد يتقوّم بالمال والنفس ، بل لا يكون الجهاد بالنفس إلا بالجهاد بالمال أيضا فهما متلازمان.

والإنفاق : إخراج المال عن الملك لغرض صحيح ، وهو إما أن يكون شرعيّا ـ واجبا كان أو مندوبا ، أو مباحا ـ أو يكون فيه غرض صحيح عقلائي ، وبدون ذلك يكون مذموما بل قد يكون حراما أو مكروها.

وسبيل الله كلّ ما يرجى فيه ثواب الله تعالى ، ومن أهم سبله تعالى الجهاد مع المشركين وإعلاء كلمة الدّين وإحقاق الحق وإبطال الباطل وقد تقدم الوجه في تقييد كون الإنفاق في سبيل الله.

قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

مادة (لقي) تأتي بمعنى مطلق الدرك في الجملة ، سواء كان حسيا للمحسوس ، كقوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) [البقرة ـ ٧٦] ، أو لغير المحسوس ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) [آل عمران ـ ١٤٣] ، وقوله تعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً) [طه ـ ٣٩] ، أو من عالم آخر غير عالم الدّنيا قال تعالى : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) [الإسراء ـ ١٣]. أو من المعنى للمعنى الذي هو فوق جميع الممكنات كالآيات المشتملة على لقاء الله تعالى الذي له مراتب كثيرة ولا بد من حملها على مراتب كبريائه وعظمته على ما يأتي التفصيل في محلّه.

ولهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة وتستعمل في المتعارف في كلّ طرح ، يقال : ألقيت إليك سلاما وكلاما ، ومودة ، قال

١٣٨

تعالى : (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ) [الشعراء ـ ٤٤] ، وقال تعالى : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) [ق ـ ٢٤] ، وقال تعالى : (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) [طه ـ ٣٩] ، وقال تعالى : (أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) [يوسف ـ ٩٦] ، وهو المراد منه في المقام.

وكلمة «يد» تستعمل في الجارحة الخاصة ، أصلها (يدي) بدليل جمعها على أيدي. وحيث إنّها أقوى الجوارح العاملة في الإنسان وأن أكثر أفعال النفس تظهر بها ، يصح أن يكنّى بها عن ذات النفس ، وعن كلّ ما يحصل منها بالاختيار. وفي مناجاة عليّ (عليه‌السلام) مع ربه : «إلهي هذه يداي وما جنيت على نفسي» ، وفي أخرى منه (عليه‌السلام) : «إلهي مددت إليك يدا بالذنوب مملوءة وعينا بالرجاء ممدودة» ، ونسب إلى نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» الشامل لجميع الضمانات الحاصلة ولو بغير اليد.

وتصح الكناية بها عن مطلق الاقتدار ، قال تعالى : (السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) [الذاريات ـ ٤٧] ، وهي تأتي لمعان كثيرة في الكتاب والسنة ، ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنّه قال في المسلمين : «هم يد واحدة على من سواهم». كما ورد عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ما من صلاة يحضر وقتها نادى ملك بين يدي الناس قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على ظهوركم فأطفؤها بصلاتكم».

وفي جملة من الدّعوات المأثورة : «اللهم لا تجعل لفاجر عليّ يدا ولا منّه». والباء في (بِأَيْدِيكُمْ) للتأكيد والتزيين ، والاهتمام بالموضوع فإنّ لفظ الإلقاء متعدّ بنفسه قال تعالى : (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ) [الشعراء ـ ٤٥].

والتهلكة : ما تصير عاقبته إلى الهلاك ، وهو الفساد والضياع ، وتطلق على تبدل الصور بأنحاء الاستحالات أيضا ، كما تطلق على الفناء المطلق أيضا ، قال تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص ـ ٨٨].

والنهي عام يشمل كلّ ما يوجب الإلقاء إلى التهلكة كالبخل والتقتير ،

١٣٩

والإسراف ، والتبذير في الإنفاق ، وبذل جميع المال وترك النفس والعيال عالة بحيث يؤدي إلى اضطراب الحال وانحطاط الحياة وبطلان المروة. فلا بد من الإحسان في كلّ شيء ، وهو الطريق الوسط الممدوح عقلا وشرعا. ولذا عقّب سبحانه هذه الآية بالإحسان للاعلام بأنّه لا بد من إحراز الحسن والإحسان وأن يتجنب عن مشكوك التهلكة فضلا عن مقطوعها ومظنونها.

ومما يوجب الهلاك والضياع هو الإحجام عن الإنفاق في سبيل الله بكلّ ما يستطاع عند القتال وغيره فإنّ ذلك يوجب ذهاب القدرة وهلاك الأنفس وظهور العدوّ فلا بد للمؤمنين من الاستعداد للجهاد وإلا فقد ألقوا أنفسهم في التهلكة وضيّعوا الدّين.

والآية تتضمن قاعدة عقلية قرّرها القرآن الكريم ، وهي من القواعد التي تمسك بها الفقهاء في مواضع متعددة من الفقه ، وهي تدل على أنّ كلّ تكليف يخاف منه على النفس ، أو العرض ، أو المال بحيث يصدق عليه الوقوع في الهلاك بحسب المتعارف يسقط أصل التكليف إن لم يكن له بدل وإلا فإلى البدل إن كان له أو إلى القضاء إن كان له قضاء.

قوله تعالى : (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

الإحسان معلوم عند كلّ أحد وفاعله محبوب عند الله تعالى ، وقد ذكرت هذه الجملة في عدة مواضع من القرآن الكريم ، وهي من أهم القواعد في تهذيب النفس وأعظم أنحاء التعليم الجامع للخير ، وأصل من أصول التربية العمليّة ، وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في حديث الإيمان حيث سئل عنه : «فما الإحسان؟ قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : أن تعبد الله كأنّك تراه» فأراد بالإحسان المراقبة وحسن الطاعة أي : الإخلاص. فإنّ من راقب الله أحسن عمله ، لأنّه «إن لم تكن تراه فإنّه يراك» ، وقد ورد أنّه «إذا أحسن المؤمن عمله ضاعف الله عمله بكلّ حسنة سبعمائة وذلك قول الله عزوجل : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) فأحسنوا أعمالكم التي تعملونها لثواب الله. فقيل : وما الإحسان؟ فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : إذا صلّيت فأحسن ركوعك وسجودك ، وإذا صمت فتوقّ كلّ ما فيه فساد صومك وكل عمل تعمله لله فليكن نقيا من الدنس».

١٤٠