موسوعة أخلاق القرآن - ج ٤

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٤

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٣٥

أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ»(١).

فالله تعالى يخبر عن الشهداء بأنهم ـ وان قتلوا في هذه الدار ـ فان أرواحهم حية مرزوقة في دار القرار.

وقد كان أحدهم يجاهد في سبيل الله ، ليبلّغ دعوة الله ، فيضرب بالرمح في جنبه حتى يخرج من الشق الآخر فيفرح بفضل الله عليه ويقول الله أكبر فزت وربّ الكعبة!. وفي السنة أن الشهداء ، عند ربهم حينما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا : يا ليت اخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد ، ولا ينكلوا عن الحرب. فقال الله تعالى : أنا أبلغهم عنكم ، فأنزل الله تعالى الآيات : «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً ...». وهم فرحون بما هم فيه من الفضل والنعمة والغبطة ، ويستبشرون باخوانهم الذين يقتلون بعدهم في سبيل الله ، لأنهم يقدمون عليهم ، ولا يخافون مما أمامهم ، ولا يحزنون على ما تركوا وراءهم.

ويقول أحد البصراء من المفسرين في تحليل هذا النص الكريم : «فهؤلاء ناس منا يقتلون ، وتفارقهم الحياة التي نعرف ظواهرها ، ويفارقون الحياة كما تبدو لنا من ظاهرها ، ولكن لأنهم قتلوا في سبيل الله ، وتجردوا له من كل الاعراض والاغراض الجزئية الصغيرة ، واتصلت أرواحهم بالله ، فجادوا بأرواحهم في سبيله ، لأنهم قتلوا كذلك ، فان الله ـ سبحانه ـ يخبرنا في الخبر الصادق أنهم ليسوا أمواتا ، وينهانا أن نحسبهم كذلك ، ويؤكد لنا أنهم أحياء عنده ، وانهم يرزقون فيتلقون رزقه لهم استقبال الاحياء ، ويخبرنا كذلك بما لهم من خصائص الحياة الاخرى : «فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ».

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٦٩ ـ ١٧٠.

٨١

فهم يستقبلون رزق الله بالفرح ، لأنهم يدركون أنه من فضله عليهم ، فهو دليل رضاه ، وهم قد قتلوا في سبيل الله ، فأي شيء يفرحهم اذن أكثر من رزقه الذي يتمثل فيه رضاه؟.

ثم هم مشغولون بمن وراءهم من اخوانهم ، وهم مستبشرون لهم لما علموه من رضا الله عن المؤمنين المجاهدين : «وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ ، وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ». انهم لم ينفصلوا من اخوانهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ، ولم تنقطع بهم صلاتهم. انهم أحياء كذلك معهم ، مستبشرون بما لهم في الدنيا والآخرة. موضع استبشارهم لهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وقد عرفوا هذا واستيقنوه من حياتهم عند ربهم ، ومن تلقيهم لما يفيضه عليهم من نعمة وفضل ، ومن يقينهم بأن هذا شأن الله مع المؤمنين الصادقين ، وأنه لا يضيع أجر المؤمنين».

* * *

ويقول الله عز من قائل في سورة الرعد :

«وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ، وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ ، إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ»(١).

أي ان الذين آتيناهم الكتاب ، وهم قائمون بمقتضاه بلا تغيير ، يفرحون بما أنزل اليك من القرآن المجيد ، لما في كتبهم من الشواهد على

__________________

(١) سورة الرعد ، الآية ٣٦.

٨٢

صدقه والبشارة به ، فالقرآن هو فضل الله الاكبر الذي يستحق أن يفرح به المؤمن.

ويقول الحق جل جلاله في أول سورة الروم :

«الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ»(١).

ذكر أهل التفسير أن المشركين كانوا يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أصحاب أوثان ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب ، وقد تحقق ما ذكرته الآيات ، وهو انتصار الروم بعد هزيمتهم ، ففرح المؤمنون حينئذ بتحقق وعد الله تعالى ، لأن النصر لا يكون الا من عند الله.

* * *

هذا ولقد جعل أبو حامد الغزالي الفرح بفضل الله ونعمته أحد أصول ثلاثة يتحقق بها شكر الله تعالى على النعمة ، وبعد أن تحدث الغزالي عن الاصل الاول وهو «العلم بالنعمة» تكلم عن الاصل الثاني وهو «الفرح بالله الذي أنعم بالنعمة» فقال على طريقته ما يلي :

«الاصل الثاني : الحال المستمدة من أصل المعرفة ، وهو الفرح بالمنعم مع هيئة الخضوع والتواضع ، وهو أيضا في نفسه شكر على تجرده ، كما أن المعرفة شكر ، ولكن انما يكون شكرا اذا كان حاويا شرطه ، وشرطه

__________________

(١) سورة الروم ، الآية ٤.

٨٣

أن يكون فرحك بالمنعم لا بالنعمة ولا بالانعام ، ولعل هذا مما يتعذر عليك فهمه ، فنضرب لك مثلا فنقول :

الملك الذي يريد الخروج الى سفر ، فأنعم بفرس على انسان ، يتصور أن يفرح المنعم عليه بالفرس من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يفرح بالفرس من حيث انه فرس ، وأنه مال ينتفع به ، ومركوب يوافق غرضه ، وأنه جواد نفيس. وهذا فرح من لاحظ له في الملك ، بل غرضه الفرس فقط ، ولو وجده في صحراء فأخذه لكان فرحه مثل ذلك الفرح.

الوجه الثاني : أن يفرح به لا من حيث انه فرس ، بل من حيث يستدل به على عناية الملك به وشفقته عليه ، واهتمامه بجانبه ، حتى لو وجد هذا الفرس في صحراء ، أو أعطاه غير الملك ، لكان لا يفرح به أصلا ، لاستغنائه عن الفرس أصلا ، أو لاستحقاره له بالاضافة الى مطلوبه من نيل المحل في قلب الملك.

الوجه الثالث : أن يفرح به ليركبه ليخرج في خدمة الملك ، ويتحمل مشقة السفر لينال بخدمته رتبة القرب منه. وربما يرتقي الى درجة الوزارة ، من حيث انه ليس يقنع بأن يكون محله في قلب الملك أن يعطيه فرسا ، ويعتني به هذا القدر من العناية ، بل هو طالب لأن لا ينعم الملك بشيء من ماله على أحد الا بواسطته ، ثم انه ليس يريد من الوزارة الوزارة أيضا ، بل يريد مشاهدة الملك والقرب منه ، حتى لو خيّر بين القرب منه دون الوزارة ، وبين الوزارة دون القرب ، لاختار القرب.

فهذه ثلاث درجات : فالاولى لا يدخل فيها معنى الشكر أصلا ، لأن نظر صاحبها مقصور على الفرس ، ففرحه بالفرس لا بالمعطي ، وهذا حال كل من فرح بنعمة من حيث انها لذيذة وموافقة لغرضه ، فهو بعيد عن معنى

٨٤

الشكر. والثانية داخلة في معنى الشكر ، من حيث انه فرح بالمنعم ، ولكن لا من حيث ذاته ، بل من حيث معرفته عنايته التي تستحثه على الانعام في المستقبل ، وهذا حال الصالحين الذين يعبدون الله ويشكرونه ، خوفا من عقابه ورجاء ثوابه. وانما الشكر التام في الفرح الثالث ، وهو أن يكون فرح العبد بنعمة الله تعالى ، من حيث انه يقدر بها على التوصل الى القرب منه تعالى ، والنزول في جواره ، والنظر الى وجهه على الدوام ، فهذا هو الرتبة العليا ، وأمارته ألا يفرح من الدنيا الا بما هو مزرعة للآخرة ، ويعينه عليها ، ويحزن بكل نعمة تلهيه عن ذكر الله تعالى. وتصده عن سبيله ، لأنه ليس يريد النعمة لأنها لذيذة ، كما لم يرد صاحب الفرس الفرس لأنه جواد ومهملج ، بل من حيث انه يحمله في صحبة الملك ، حتى تدوم مشاهدته له ، وقربه منه ، ولذلك قال الشبلي رحمه‌الله : الشكر رؤية المنعم لا رؤية النعمة. وقال الخواص رحمه‌الله : شكر العامة على المطعم والملبس والمشرب ، وشكر الخاصة على واردات القلوب. وهذه رتبة لا يدركها كل من انحصرت عنده اللذات في البطن والفرج ، ومدركات الحواس من الالوان والاصوات ، وخلا عن لذة القلب ، فان القلب لا يلتذ في حالة الصحة الا بذكر الله ومعرفته ولقائه».

* * *

هذا وينبغي للمؤمن حين يفرح بفضل الله ورحمته أن يحذر مكر الله سبحانه ، لأن الفرح قد يجعل صاحبه ينسى المنعم وهو الله ، فيكون ذلك سببا لسلب النعمة ، ولو بلغ العبد من الطاعة ما بلغ لا ينبغي له أن يفارقه الحذر ، فالفرح متى كان بالله ، وبما من الله به ، مقارنا للخوف والحذر ، لم يضر صاحبه ، ومتى خلا من الحذر ضر وأفسد.

وها هو ذا كتاب الله جل جلاله يشير الى ألوان من الفرح المنحرف الضار ، فيقول مثلا في سورة الانعام :

٨٥

«فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ»(١).

أي ان أهل الشرك والعناد والمعصية نسوا أوامر الله فأعرضوا عنها ، وجعلوها وراء ظهورهم ، ففتح الله عليهم أبواب الاستدراج والاملاء والامهال ، فأعطاهم من متاع الحياة ما يريدون ، حتى اذا فرحوا بالاموال والشهوات أخذهم الله على غفلة ، فاذا هم يائسون محرومون من كل خير.

قال الحسن البصري : «من وسّع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له ، ومن قتّر عليه فلم ير أنه ينظر اليه فلا رأي له» ثم قرأ الآية السابقة.

وروى : «ما أخذ الله قوما قط الا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم ، فلا تغتروا بالله ، فانه لا يغتر بالله الا القوم الفاسقون». وفي الحديث : «اذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فانما هو استدراج».

ويقول الله تعالى في سورة الرعد :

«اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ، وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ»(٢).

فالله سبحانه هو الذي يوسع الرزق على من يشاء ، ويقتره على من

__________________

(١) سورة الانعام ، الآية ٤٤.

(٢) سورة الرعد ، الآية ٢٦.

٨٦

يشاء ، بعلم وحكمة ، وليس متاع الدنيا هو كل شيء ، وليس هو الشيء المهم الذي يفرح به عباد الله ، ولقد فرح الكفار بما أوتوا من متاع الحياة الدنيا على سبيل الاستدراج والامهال ، وهذا فرح في غير موضعه ، لأن الحياة الدنيا بالنسبة الى الدار الآخرة قليلة حقيرة ، والحديث يقول : «ما الدنيا في الآخرة الا كما يجعل أحدكم اصبعه هذه في اليم ، فلينظر بم ترجع».

وجاء في سورة النمل قوله سبحانه :

«فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ ، فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ ، بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ»(١).

فقد أرسلت «بلقيس» بهدايا من ذهب الى سليمان ، لأنها تعلم أن الهدية تقع موقعها من الناس ، فلم يلق سليمان بالا الى الهدية. ولم يفرح بها ، بل أعرض عنها. وقال منكرا : أتصانعونني بالمال لأترككم على شرككم؟ فأنا لا أفرح بمثل هذا ، والله سبحانه قد أعطاني خيرا مما أعطاكم.

وجاء في سورة القصص :

«إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ»(٢).

ان قارون طغى على قومه وبغى بسبب كثرة المال : «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ

__________________

(١) سورة النمل ، الآية ٣٦.

(٢) سورة القصص ، الآية ٤٦.

٨٧

لَيَطْغى ، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى» وكانت أمواله كثيرة ، ترهق في حملها مجموعة من الناس الاقوياء لكثرتها ، فلما رأى العقلاء من قومه ما بدا من طغيانه وبغيه قالوا له واعظين ناصحين : لا تفرح بما أنت فيه من مال فرح البطر والأشر ، لأن الله لا يحب هؤلاء الفرحين الاشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما آتاهم وأعطاهم.

وجاء في سورة غافر :

«ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ»(١).

أي تقول الملائكة يوم القيامة للمجرمين الكافرين من أهل النار : هذا العقاب الذي تلاقونه ، انما هو جزاء على فرحكم في الدنيا بغير الحق ، لأنه فرح بغير فضل الله ونعمته.

وجاء في سورة المؤمنون :

«كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»(٢).

أي يفرحون بما هم فيه من الضلال ، وما أكثر أودية الضلال ، كل منهم في واد يهيمون ، لأنهم يحسبون انهم مهتدون ، وهم في الضلال غارقون ، ولذلك تهددهم الله بقوله عقب ذلك :

«فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ، أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ

__________________

(١) سورة غافر ، الآية ٧٥.

(٢) سورة المؤمنون ، الآية ٥٣.

٨٨

لا يَشْعُرُونَ»(١).

الا ان الفرح بكل متاع زائل فرح ناقص مبتور ، وقد ينقلب وبالا على صاحبه في العاجل أو الآجل ، وأما الفرح بالله وفضله ورحمته فهو الفرح الحقيقي الباقي :

«قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ، هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ»(٢).

اللهم هبنا الفرح بك ، واصرفنا عن الفرح بسواك ، فنعم الهدى هداك.

__________________

(١) سورة المؤمنون ، الآية ٥٤ ـ ٥٦.

(٢) سورة يونس ، الآية ٥٨.

٨٩

سلامة القلب

لغة العرب ـ وهي لغة القرآن ـ تقول : سلم فلان يسلم سلاما وسلامة : خلص ونجا وخلا من العوارض والموانع. وفي القرآن :

«وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ»(١).

أي أصحاء خالون من العوارض والموانع. وتقول هذه اللغة : أسلم فلان ، أي انقاد ، أو أخلص ، وفي القرآن :

«يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا»(٢).

أي أخلصوا ، ووصف الانبياء هنا بالاسلام هو تعظيم للصفة في نفسها وتنويه بها.

وفيه أيضا :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً»(٣)

__________________

(١) سورة القلم ، الآية ٤٣.

(٢) سورة المائدة ، الآية ٤٤.

(٣) سورة البقرة ، الآية ٢٠٨.

٩٠

أي في طريق الامان والنجاة.

ويقرر العلماء أن السلامة الحقيقية الباقية انما تكون في الجنة ، وفيها بقاء بلا فناء ، وغنى بلا فقر ، وعز بلا ذل ، وصحة بلا سقم ، ولذلك قال الحق عز شأنه :

«لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ»(١).

أي دار السلامة.

و «سلامة القلب» فضيلة من فضائل الاسلام ، وخلق من أخلاق القرآن وجزء من هدى الرسول عليه الصلاة والسلام ، وسلامة القلب هي صفاؤه ونقاؤه ، وصحته وقوته ، وطهارته وبراءته ، والمؤمن الحق من شأنه أن يكون صاحب «قلب سليم». وكثرت عبارات السلف في المراد بالقلب السليم ، فقيل : هو الخالص من دغل الشرك والذنوب. وقال ابن عباس : القلب السليم هو الذي يشهد ان لا اله الا الله ، أي العامر بقصيدة التوحيد. وقال مجاهد : قلب سليم يعني سلم من الشرك. وقال سعيد بن المسيب : القلب السليم هو القلب الصحيح ، وهو قلب المؤمن ، لأن قلب الكافر أو المنافق مريض ، قال تعالى :

«فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ»(٢).

وقال أبو عثمان النيسابوري : «القلب السليم هو القلب السالم من البدعة المطمئن الى السنة». وقال ابن سيرين : القلب السليم أن يعلم أن الله حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها. وأن الله يبعث من في القبور.

__________________

(١) سورة الانعام ، الآية ١٢٧.

(٢) سورة البقرة ، الآية ١٠.

٩١

ومن هذه الاقوال نفهم أن سلامة القلب في عرف المفهوم الاخلاقي القرآني تعطي معاني الطهر والصفاء ، والايمان بالله جل جلاله ، والاعتقاد فيما شرع الله ، والتحرز من الرذائل والعيوب.

وقد أغرب بعضهم في التفسير فقال ان كلمة «السليم» معناها : اللديغ من خشية ، ولذلك قال جار الله الزمخشري : «هذا من بدع التفاسير».

وقد أشار القرآن المجيد الى فضيلة سلامة القلب ، فقال في سورة الشعراء :

«يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»(١).

أي لا يقي المرء من عذاب الله ماله ولو كثر ، ولا بنوه وان كثروا ، فلا ينفعه الافتداء بملء الارض ذهبا ، ولا ينفعه الافتداء بمن على الارض جميعا ، ولا ينفع يومئذ الا الايمان بالله ، واخلاص الدين له ، والتبري من الشرك وأهله ، وانما يفوز يومئذ من أتى الله بقلب سليم ، خالص من الشرك ، بعيد عن الدنس.

ان يوم القيامة تختلف موازينه عن موازين الدنيا ، فلا ينفع المال ولا البنون أحدا ، ولكن من أقبل على الله بنفس منزهة عن الشرك والنفاق ، وقلب صاف طهور لا اثم فيه ولا دغل ـ وهو قلب المؤمن ، فهو الفائز بفضل الله وثوابه ، وكذلك يفوز من انفق ماله في الخير ، ومن كان ولده صالحا ، ولذلك جاء في الحديث : «اذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له».

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآية ٨٨ ـ ٨٩.

٩٢

ويعلق الزمخشري على الآيتين السابقتين ، بما يلقي ضوءا على معناهما ومفهومهما فيقول على طريقته :

«وبيانه أن يقال : هل لزيد مال وبنون؟. فتقول : ماله وبنوه سلامة قلبه. تريد نفي المال والبنين عنه ، واثبات سلامة القلب له ، بدلا عن ذلك.

وان شئت حملت الكلام على المعنى ، وجعلت المال والبنين في معنى الغنى ، كأنه قيل : يوم لا ينفع غنى الا غنى من أتى الله بقلب سليم ، لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه ، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه.

ولك أن تجعل الاستثناء منقطعا ، ولا بد لك مع ذلك من تقدير المضاف وهو الحال ، والمراد بها سلامة القلب ، وليست هي من جنس المال والبنين ، حتى يؤول المعنى الى أن المال والبنين لا ينفعان ، وانما ينفع سلامة القلب ، ولو لم يقدر المضاف لم يتحصل للاستثناء معنى ، وقد جعل «من» مفعولا لينفع ، أي لا ينفع مال ولا بنون الا رجلا سلم قلبه مع ماله ، حيث أنفقه في طاعة الله ، ومع بنيه حيث أرشدهم الى الدين وعلمهم الشرائع.

ويجوز على هذا : الا من أتى الله بقلب سليم من فتنة المال والبنين ، ومعنى سلامة القلب سلامته من آفات الكفر والمعاصي».

* * *

ويقول القرآن الكريم في سورة الصافات متحدثا عن نوح وابراهيم :

«وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»(١).

أي ان من شيعة نوح وأهل دينه ابراهيم عليه‌السلام الذي أقبل على ربه بقلب سليم عامر بالتوحيد والخير ، نقي من الشرك والاثم ، خالص من

__________________

(١) سورة الصافات ، الآية ٨٣ ـ ٨٤.

٩٣

آفات القلوب وعيوبها ، ومجرد وصف ابراهيم بهذا الوصف وهو «سلامة القلب» فيه تشريف لهذه الفضيلة ، وتنوه بشأنها أي تنوه ، لأن ابراهيم هو خليل الرحمن وأبو الانبياء عليهم الصلاة والسلام.

ونحن نجد وصف «سلامة القلب» منسوبا الى ابراهيم في القرآن مرتين ، هذه المرة في سورة الصافات ، وتلك المرة السابقة عليها في سورة الشعراء ، وفي الشعراء يمضي النص هكذا على لسان ابراهيم :

«وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»(١).

ويحسن بنا أن نردد هنا ما ذهب اليه بعض بصراء المفسرين من اننا نستشف من قولة ابراهيم عليه‌السلام : «وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ» مدى شعوره بهول اليوم الآخر ، ومدى حيائه من ربه ، وخشيته من الخزي أمامه ، وخوفه من تقصيره ، وهو النبي الكريم.

كما نستشف من قوله : «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» مدى ادراكه لحقيقة ذلك اليوم ، وادراكه كذلك لحقيقة القيم ، فلا يوجد في يوم الحساب من قيمة الا قيمة الاخلاص الذي يجعل القلب كله لله ، ويجعله متحررا من كل شائبة وغرض ومرض ، صافيا من الشهوات والانحرافات ، خاليا من التعلق بغير الله ، فهذه هي سلامته التي تجعل له وزنا وقيمة «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» ولا ينفع شيء من هذه القيم الزائفة الباطلة ، التي يتكالب عليها المتكالبون في الارض ، وهي لا تزن شيئا في ميزان الله العادل.

وحين نقف أمام قول الله تعالى في الصافات : «وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآية ٨٧ ـ ٨٩.

٩٤

لَإِبْراهِيمَ ، إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» نجد أحد البصراء بالتفسير يعلق على الآية الاخيرة من هاتين الآيتين بقوله :

«يبرز من صفة ابراهيم سلامة القلب وصحة العقيدة وخلوص الضمير : «اذا جاء ربه بقلب سليم» وهي صورة الاستسلام الخالص ، تتمثل في مجيئه لربه ، وصورة النقاء والطهارة والبراءة والاستقامة تتمثل في سلامة قلبه ، والتعبير بالسلامة تعبير موح مصور لمدلوله ، وهو في الوقت ذاته بسيط قريب المعنى واضح المفهوم ، ومع أنه يتضمن صفات كثيرة من البراءة والنقاوة ، والاخلاص والاستقامة ، الا أنه يبدو بسيطا غير معقد ، ويؤدي معناه بأوسع مما تؤديه هذه الصفات كلها مجتمعات ، وتلك احدى بدائع التعبير القرآني الفريد.

وبهذا القلب السليم ، استنكر ما عليه قومه واستبشعه ، استنكار الحس السليم لكل ما تنبو عنه الفطرة الصادقة من تصور ومن سلوك».

* * *

والحديث عن «سلامة القلب» يدعونا الى الحديث عن «القلب».

ان القلب في عرف رجال التربية والاخلاق لطيفة ربانية روحية ، هي حقيقة الانسان ، ولها علاقة بالقلب الحسي المودع في الجانب الايسر من الصدر ، والقلب ـ كما يقول أبو حامد الغزالي ـ هو العالم بالله ، المتقرب الى الله ، العامل لله ، الساعي الى الله ، المكاشف بما عند الله ، والجوارح أتباع وخدم ، وآلات يستخدمها القلب ، ويستعملها استعمال المالك للمملوك ، أو الراعي للرعية.

والقلب هو المقبول عند الله اذا سلم لله ، ولم يكن محجوبا عن الله ، وهو الذي يسعد بالقرب من الله فيفلح اذا زكاه صاحبه ، وهو الذي يخيب ويشقى اذا دنسه ودساه ، وهو المطيع لله في الحقيقة ، والذي

٩٥

ينتشر على الجوارح من العبادة أنواره ، وهو الذي اذا عرفه الانسان عرف نفسه ، واذا عرف نفسه عرف ربه سبحانه وتعالى.

واذا سيطر الشيطان على هذا القلب أفسده وأضله ، وأفقده سلامته وطهارته ، وللشيطان مداخله الكثيرة الى هذا القلب لافساده ، وقد توسع أبو حامد كثيرا في بيان مداخل الشيطان على قلب الانسان ، والآفات التي تفقده سلامته ، ومنها الغضب والشهوة ، والحسد والحرص ، والاسراف في الطعام ، وحب التزين ، والعجلة وترك التثبت في الامور ، والمال واغراؤه ، والبخل وخوف الفقر ، والتعصب للمذاهب والآراء ، وسوء الظن بالمسلمين ، والمعاصي والآثام التي تسبب كدورة على وجه القلب تمنع صفاءه وجلاءه ...

ومعنى هذا أن القلوب معرضة لخواطر الخير ووساوس الشر ، ولذلك جاء في «الاحياء» :

«وأخص الآثار الحاصلة في القلب هو الخواطر ، وأعني بالخواطر ما يحصل فيه من الافكار والاذكار ، وأعني به ادراكاته علوما اما على سبيل التجدد ، واما على سبيل التذكر ، فانها تسمى خواطر ، من حيث انها تخطر بعد أن كان القلب غافلا عنها. والخواطر هي المحركات للارادة ، فان النية والعزم والارادة ، انما تكون بعد خطور المنوي بالبال لا محالة ، فمبدأ الافعال الخواطر ، ثم الخاطر يحرك الرغبة ، والرغبة تحرك العزم ، والعزم يحرك النية ، والنية تحرك الاعضاء.

والخواطر المحركة للرغبة تنقسم الى ما يدعو الى الشر ، أعني الى ما يضر في العاقبة ، والى ما يدعو الى الخير ، أي الى ما ينفع في الدار الآخرة ، فهما خاطران مختلفان ، فافتقرا الى اسمين مختلفين ، فالخاطر المحمود يسمى الهاما ، والخاطر المذموم ـ أعني الداعي الى الشر ـ يسمى وسواسا.

٩٦

ثم انك تعلم أن هذه الخواطر حادثة ، ثم ان كل حادث لا بد له من محدث ، ومهما اختلفت الحوادث دل ذلك على اختلاف الاسباب».

ويرى الامام أن القلوب في الثبات على الخير والشر ، والتردد بينهما ثلاثة أقسام :

قلب عمر بالتقوى ، وزكا بالرياضة ، وطهر عن خبائث الاخلاق ، تتحرك فيه خواطر الخير من خزائن الغيب وفضل الرب ، فينصرف عقل الانسان الى التفكير فيما خطر له ، فيعرف دقائق الخير ، ويطلع على أسرار فوائده ، فيدرك أنه لا بد من فعله ، فيستحثه عليه ، ويدعوه الى العمل به.

فعند ذلك يكون المدد من جنود لا ترى ، ويهديه الى خيرات أخرى ، ولا يتناهى امداده بالترغيب في الخير ، وتيسير الامر عليه ، ويشير الى ذلك قول القرآن في سورة الليل :

«فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى»(١).

ومثل هذا القلب لا يروج عنده شيء من مكائد الشيطان ، بل يعرض عن الشيطان كلما حاول التغرير به ، ويصبح القلب عامرا بالفضائل ، وهو القلب المطمئن المراد في قوله تعالى :

«الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ ، أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»(٢).

والقلب الثاني قلب مشحون بالهوى ، المدنس بالاخلاق المذمومة ،

__________________

(١) سورة الليل ، الآيات ٥ ـ ٧.

(٢) سورة الرعد ، الآية ٢٨.

٩٧

الذي انفتحت فيه أبواب الشياطين ، وحيل بينه وبين أبواب الملائكة ، فثارت فيه خواطر الهوى ، فاستجاب الصدر لهذه الخواطر ، فيقوى سلطان الشيطان ، ويقبل الانسان على متابعته ، فيضعف سلطان الايمان ، ويخبو نور اليقين ، اذ يتصاعد عن الهوى دخان مظلم يملأ جوانب القلب ، حتى تنطفىء أنواره ، وهكذا تفعل غلبة الشهوة بالقلب ، والى هذا يشير القرآن بقوله في سورة الفرقان :

«أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ، أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ، إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً»(١).

والقلب الثالث قلب تبدو فيه خواطر الهوى فتدعوه الى الشر ، فيدركه خاطر الايمان فيدعوه الى الخير ، فتنبعث النفس بشهوتها الى نصرة خاطر الشر ، فتقوى الشهوة ، فينبعث العقل الى خاطر الخير ، ويقاوم الشهوة ، فتميل النفس الى نصح العقل ، فيحمل الشيطان حملة على العقل ، فيقوى داعي الهوى ، ويزيّن للانسان الاثم ، فتميل النفس الى الشيطان ، فيحمل الملك حملة على الشيطان ، فتميل النفس الى جانب الخير ، فلا يزال الانسان يتردد بين الجانبين ، الى أن يغلب على القلب ما هو أولى به.

* * *

ولأطباء الارواح والقلوب جولتهم وصولتهم في عالم الحديث عن سلامة القلب وصلاحه ، فهذا أبو الخير الأقطع يقول مثلا «لن يصفو قلبك الا بتصحيح النية لله تعالى ، ولن يصفو بدنك الا بخدمة أولياء الله تعالى». ويقول الجنيد : «ان الله تعالى يخلص الى القلوب من بره ، حسب ما

__________________

(١) سورة الفرقان ، الآية ٤٣ و ٤٤.

٩٨

خلصت القلوب به اليه من ذكره ، فانظر ما ذا خالط قلبك». ويقول ابن خبيق الانطاكي : «خلق الله القلوب مساكن للذكر ، فصارت مساكن للشهوات ، ولا يمحو الشهوات من القلب الا خوف مزعج أو شوق مقلق». ويقول محفوظ النيسابوري : «أكثر الناس خيرا أسلمهم صدرا للمسلمين». ويقول أبو تراب النخشبي : «أشرف القلوب قلب حي بنور الفهم عن الله تعالى».

وهذا بعض قليل مما فصلوه وشعبوه من ألوان الحديث عن القلب وسلامته من الآفات.

وفي روضة السنة النبوية المطهرة فيض عامر غامر من التنويه بشأن القلب وسلامته ، فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يرشدنا الى أن جوهرة القلب هي الاساس للانسان ، فيقول : «ألا وان في الجسد مضغة اذا صلحت صلح الجسد كله ، واذا فسدت فسد الجسد كله ، الا وهي القلب».

وقد روى الامام أحمد : «قد أفلح من أخلص قلبه للايمان وجعل قلبه سليما».

ويشير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الى أن الانسان مفطور على الخير والاستقامة والسلامة ، ولكن عوامل الانحراف والاعتساف هي التي تخرج به عن الصراط ذات اليمين أو ذات الشمال ، فيقول عليه الصلاة والسلام : «كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يمجسانه أو يهودانه أو ينصرانه».

وكان رسول الله عليه الصلاة والسلام يلفت الابصار والبصائر الى المرتبة العالية التي احتلتها فضيلة سلامة القلب ، فهو يتوجه الى ربه مصدر العطاء يسأله هذه السلامة ، فيقول : «وأسألك قلبا سليما ولسانا صادقا». ويقول : «اللهم نقّ قلبي من الخطايا كما ينقى الثوب الابيض من الدنس».

٩٩

ولعله كان يريد في هذه الدعوات الخير لأمته ، حيث يعلمها أن تلجأ الى بارئها تسأله من فضله أن يفيض عليها نعمة السلامة في القلب فانها كنز ثمين لصاحبها في هذه الحياة.

ولقد قيل للرسول : من خير الناس؟.

فأجاب : «كل مؤمن محموم القلب».

قيل : وما محموم القلب يا رسول الله؟.

قال : هو التقي النقي الذي لا غش فيه ، ولا بغي ، ولا غدر ، ولا غل ، ولا حسد»!.

وتقسم ألسنة القلوب الى أقسام ، لكل قسم صفته وسمته فتقول : «القلوب أربعة : قلب أجرد ، فيه سراج يزهر ، فذلك قلب المؤمن ، وقلب أسود منكوس ، فذلك قلب الكافر ، وقلب أغلف مربوط على غلافه ، فذلك قلب المنافق ، وقلب مصفح على الحق (أي ممال عليه ، كأنه قد جعل صفحه أي جانبه على الحق) ، فيه ايمان ونفاق ، فمثل الايمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد ، فأي المادتين غلبت عليه حكم له بها».

وتذكر لنا السنة أن سلامة القلب نعمة كبرى ، وأن المؤمن من واجبه أن يحذر من الشيطان الذي يحاول أن يفسد قلبه ، فتقول : «في القلب لمتان (خطرتان) لمة من الملك : وعد بالخير ، وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله سبحانه ، وليحمد الله ، ولمة من الشيطان : ايعاد بالشر ، وتكذيب بالحق ، ونهي عن الخير ، فمن وجد ذلك فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم».

ويقول رسول الله صلوات الله وسلامه عليه : «اذا أراد الله بعبد

١٠٠