موسوعة أخلاق القرآن - ج ٤

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٤

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٣٥

هذا القرآن رفع حين ردته أوائل هذه الامة لهلكوا ، ولكن الله تعالى عاد بعائدته ورحمته ، فكرره عليهم ودعاهم اليه عشرين سنة ، أو ما شاء الله من ذلك».

ويعلق ابن كثير على فهم قتادة بقوله : «وقول قتادة لطيف جدا ، وحاصله أنه يقول في معناه : انه تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم الى الخير والى الذكر الحكيم وهو القرآن ، وان كانوا مسرفين معرضين عنه ، بل أمر به ليهتدي به من قدّر هدايته ، وتقوم الحجة على من كتب شقاوته».

وكأن المعنى : انا لا نترككم مع سوء اختياركم ، بل نذكركم ونعظكم الى أن ترجعوا الى طريق الحق.

* * *

وننتقل الى روضة السنة المطهرة.

وفيها نجد وصف الرسول صلوات الله وسلامه عليه بأنه يعفو ويصفح ، ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن هذه الآية التي في القرآن : «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً» قال : في التوراة : «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً» ، وحرزا للاميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالاسواق ، ولا يدفع السيئة بالسيئة ، ولكن يعفو ويصفح ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا لا اله الا الله ، فيفتح بها أعينا عميا ، وآذانا صما ، وقلوبا غلفا».

وجاء في السنة من صفة النبي : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حليما رحيما ، رؤوفا عطوفا ، يهب ويسمح ، ويعفو ويصفح».

* * *

٦١

ولقد وصفت السيدة عائشة أباها أبا بكر بأنه «صفوح عن الجاهلين» أي كثير الصفح والتجاوز عنهم.

وكذلك روي أن معاوية قال لابنه : «عليك بالحلم والاحتمال ، حتى تمكنك الفرصة ، فاذا أمكنتك فعليك بالصفح ، فانه يدفع عنك مضلات الامور ، ويوقيك مصارع المحذور».

وقال المأمون : «وجدت المسيء اليّ عبد الله ، ولو أساء اليّ عبد لأخ لصفحت عنه اكراما له ، فكيف لا أصفح عن عبد مسيء هو عبد لله»؟.

وهكذا توالت الكلمات المشرقة المضيئة على ألسنة الأعلام الحكماء ، تمجد الصفح وتنوه بشأنه ، ولم يقتصر هذا على النثر ، بل زان روضة الشعر ، ففي الشعر العربي نماذج كثيرة قيلت في الصفح والتمدح به والدعوة اليه ، فهذا أحد الشعراء يقول في انسان يمدحه :

صفوح عن الاجرام ، حتى كأنه

من العفو لم يعرف من الناس مجرما

وليس يبالي أن يكون به الأذى

اذا ما الأذى لم يغش بالكره مسلما

وهذا ثان يحبب في الصفح ، فيقول :

أتيت ذنبا عظيما

وأنت أعظم منه

فخذ بحقك ، أو لا

فامنن بصفحك عنه

وهذا ثالث يتغنى بمدح من تعود الصفح فيقول :

فدهره يصفح عن قدرة

ويغفر الذنب على علمه

كأنه يأنف من أن يرى

ذنب امرىء أعظم من حلمه

وهذا رابع يقول في صفوح آخر :

يعفو عن الذنب العظيم

وليس يعجزه انتصاره

٦٢

صفحا عن الباغي عليه

وقد أحاط به اعتذاره

وهذا شاعر يعاهد نفسه أن يصفح دائما فيقول :

سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب

وان عظمت منه عليّ الجرائم

فما الناس الا واحد من ثلاثة

شريف ، ومشروف ، ومثلي مقاوم

فأما الذي فوقي فاعرف فضله

وأتبع فيه الحق ، والحق لازم

وأما الذي دوني فان قال منكرا

صفحت له عنه وان لام لائم

وأما الذي مثلي فان زل أو هفا

تفضلت ، ان الفضل بالحلم حاكم

وهذا شاعر يصور العفو والصفح تصويرا حلوا جذابا فيقول :

العفو يعقب راحة ومحبة

والصفح عن ذنب المسيء جميل

ليتنا نتذكر قول ربنا جل جلاله :

«وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ، وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ».

وقول خالقنا عز شأنه :

«وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

٦٣

الاعتصام بالله

كلمة «الاعتصام» مأخوذة من «العصمة» بمعنى الحفظ والمنع ، وعصمه : منعه وصانه ووقاه ، واعتصم واستعصم : استمسك ، والاعتصام : الاستمساك والتحصن بما يعصم ويمنع من المحذور والمخوف.

والاعتصام بالله خلق من أخلاق القرآن الكريم ، وفضيلة من فضائل الاسلام العظيم ، وجانب من هدى الرسول عليه الصلاة والتسليم. وقد تحدث كتاب الله تعالى عن هذه الفضيلة في أكثر من موطن ، وجعلها طريق النجاة والسعادة ، وأمر بها أتباع دينه ، فنراه في سورة آل عمران يقول :

«وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ؟ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ، وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ، وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً ،

٦٤

وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ»»(١).

هنا يتحدث القرآن الكريم على طريقة التعجب والانكار ، فيقول لهم : كيف تنحرفون عن الايمان ، وأنتم تسمعون القرآن العظيم يتلى عليكم ، وفيكم رسول الله محمد ، ترونه وتشاهدونه.

ويدخل في هذا الخطاب من لم ير النبي ، لأن ما فيهم من سنته يقوم مقام رؤيته. ويجوز أن يكون الخطاب لصحابة النبي خاصة ، لأن رسول الله كان فيهم وكانوا يشاهدونه. وقيل : ان هاهنا أمرين جليلين : كتاب الله ونبي الله ، فأما النبي فقد مضى الى ربه ، واما كتاب الله فباق قائم : «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ». وقد أبقاه الله رحمة منه ونعمة ، فيه بيان الحلال والحرام ، والطاعة والمعصية.

ومن يعتصم بالله ، ويتمسك بدينه وطاعته ، فقد وفقه ربه ، وأرشده الى الصراط المستقيم ، ثم أمر الله المؤمنين بأن يتقوه حق تقواه ، بأن يطاع فلا يعصى ، وأن يذكر فلا ينسى ، وأن يشكر فلا يكفر ، وأن يجاهد المؤمن في سبيل ربه حق الجهاد ، ولا تأخذه في الله لومة لائم ، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وأبنائهم ، ويا لها من تقوى مثالية ، ولذلك تلطف الله بعباده ، فقال في مقام آخر : «فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ». وأمرهم كذلك أن يعتصموا جميعا بحبل الله ، وهو القرآن ، أو الدين ، أو الجماعة ، أو عهد الله ، أو طاعة الله ، وحذرهم التفرق والتمزق لأن الفرقة هلكة ، والجماعة نجاة ، وابن المبارك يقول :

ان الجماعة حبل الله فاعتصموا

منه بعروته الوثقى لمن دأبا

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٠١ ـ ١٠٣.

٦٥

واذا كانت آراء المفسرين قد تعددت في المراد بحبل الله هنا ، فان للاستاذ الامام محمد عبده عبارة يقرر فيها أن الأشبه بأسلوب القرآن الجليل أن تكون العبارة تمثيلا ، كأن الدين في سلطانه على النفوس ، واستيلائه على الارادات ، وما يترتب على ذلك من جريان الأعمال على حسب هديه ـ حبل متين يأخذ به الآخذ فيأمن السقوط ، كأن الآخذين به قوم على مكان مرتفع من الارض يخشى عليهم السقوط منه ، فأخذوا بحبل متين ، جمعوا به قوتهم فامتنعوا من السقوط.

ويقول السيد رشيد رضا : «ان المختار هو ما ورد في الحديث المرفوع من تفسير حبل الله بكتابه ، ومن اعتصم به كان آخذا بالاسلام ، ولا يظهر تفسيره بالجماعة والاجتماع ، وانما الاجتماع هو نفس الاعتصام ، فهو يوجب علينا أن نجعل اجتماعنا ووحدتنا بكتابه ، عليه نجتمع ، وبه نتحد ، لا بجنسيات نتبعها ، ولا بمذاهب نبتدعها ، ولا بمواضعات نضعها ، ولا بسياسات نخترعها ، ثم نهانا عن التفرق والانفصام ، بعد هذا الاجتماع والاعتصام ، لما في التفرق من زوال الوحدة ، التي هي معقد العزة والقوة ، وبالعزة يعتز الحق فيعلو في العالمين ، وبالقوة يحفظ هو وأهله من هجمات المواثبين وكيد الكائدين.

فهذا الامر والنهي في معنى الامر والنهي في قوله تعالى : «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» فجعل الله هو صراطه وسبيله».

ويؤكد القرطبي أن الله تعالى قد أوجب علينا التمسك بكتابه وسنة نبيه ، والرجوع اليهما عند الاختلاف ، وأمرنا الله بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقادا وعملا ، وذلك سبب اتفاق الكلمة ، وانتظام الشتات الذي تتم به مصالح الدنيا والدين.

وينبغي أن نتذكر أن فضيلة «الاعتصام» قد تكون فضيلة فردية

٦٦

حين يتمسك صاحبها بالرجوع الى كتاب الله وسنة رسوله ، يتقيد بهما ، ويسير على ضوئهما ، ويستمد منهما ، وقد تكون فضيلة جماعية حين يلتقي أبناء القرآن وأتباع محمد عليه الصلاة والسلام فيعتصمون بالقرآن والسنة يتخذونهما اماما لهم في أمور دينهم وأمور دنياهم.

ويقرر ابن القيم في «مدارج السالكين» أن الاعتصام نوعان : الاعتصام بحبل الله ، والاعتصام بالله ، والاعتصام بحبل الله هو المحافظة على طاعته ، مراقبا لأمره ـ كما يعبر الهروي ـ والاعتصام بالله هو التوكل عليه ، والاحتماء به ، وهو الترقي عن كل موهوم ، أي عن كل ما سوى الله تعالى.

يقول ابن القيم : «فأما الاعتصام بحبله فانه يعصم من الضلالة ، والاعتصام به يعصم من الهلكة ، فان السائر الى الله كالسائر على طريق نحو مقصده ، فهو محتاج الى هداية الطريق والسلامة فيها ، فلا يصل الى مقصده الا بعد حصول هذين الامرين له ، فالدليل كفيل بعصمته من الضلالة ، وأن يهديه الى الطريق ، والعدة والقوة والسلاح التي بها تحصل له السلامة من قطاع الطريق وآفاتها.

فالاعتصام بحبل الله يوجب له الهداية واتباع الطريق ، والاعتصام بالله يوجب له القوة والعدة والسلاح ، والمادة التي يستلئم بها في طريقه».

* * *

ويقرر كتاب الله في آية اخرى أن المعتصمين بالله يحشرهم ربهم مع المؤمنين المجزيين بأحسن الجزاء فيقول في سورة النساء :

«إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ، إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ

٦٧

وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً»(١).

فالله جل جلاله قد استثنى هنا المعتصمين به من بين المنافقين ، ووعد هؤلاء المعتصمين بالاجر العظيم مع المؤمنين التائبين المصلحين المخلصين ، والاعتصام بالله انما يكون بالتمسك بكتابه ، والتخلق بأخلاقه وآدابه ، والاعتبار بمواعظه ، والرجاء في وعده ، والخوف من وعيده.

ويقول القرآن في سورة النساء أيضا :

«يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً»(٢).

وهذه الكلمات الربانية تفيدنا أن المتحلين بفضيلة الاعتصام بالله هم أهل الرحمة والفضل والهداية الى الصراط المستقيم ، فالله جل جلاله يقول للناس انه قد جاءكم برهان من عند ربكم وهو رسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن معه البرهان وهو المعجزة والحجة ، وأنزل اليكم نورا مبينا وهو القرآن ، فيه تفصيل الاحكام ، فالذين آمنوا بالله واعتصموا بالقرآن ، هم أهل الرحمة والفضل والاهتداء.

وفي تفسير المنار : «فالذين يهتدون بهذا القرآن يدخلهم الله تعالى

__________________

(١) سورة النساء ، الآية ١٤٥ ، ١٤٦.

(٢) سورة النساء ، الآية ١٧٤ ، ١٧٥.

٦٨

في رحمة خاصة منه ، لا يدخل فيها سواهم ، وفضل خاص لا يتفضل به على غيرهم. ويدل على هذا التخصيص تنكير الفضل والرحمة ، ورحمة الله وفضله غير محصورين ، ولكنه يختص من يشاء بما شاء من أنواعهما.

وقد فسرت الرحمة هنا بالجنة ، والفضل بما يزيد الله به أهلها على ما يستحقون من الجزاء ، كما قال في آية اخرى «وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ».

ويمكن أن يفسّرا بما هو أعم من نعيم الآخرة جزاء وزيادة ، فيشملا ما يكون لأهل الاعتصام بالقرآن ـ الذي هو حبل الله المتين ـ من الخصوصية في الدنيا ، اذ يكونون رحمة للناس بعلومهم وأعمالهم وفضائلهم. ويهديهم اليه صراطا مستقيما : أي ويهديهم تعالى هداية خاصة موصلة اليه ، صراطا مستقيما ، أي طريقا قويما قريبا ، يبلغون به الغاية من العمل بالقرآن ، أما في الدنيا فبالسيادة والعزة والكمال ، وأما في الآخرة فبالجنة والرضوان ، فهذا الصراط المستقيم لا يهتدى اليه الا بالاعتصام بالقرآن الكريم.

فيا خسارة المعرضين ، ويا طوبى للمعتصمين. وقد صدق وعد الله للصادقين ، ففاز من اعتصم من الاولين ، وخاب وخسر من أعرض من الآخرين ، فعسى أن يعتبر بذلك المنتمون في هذا العصر الى هذا الدين»!.

ويقول القرآن في ختام سورة الحج :

«وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ

٦٩

وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ»(١).

أي اعتصموا بدلائله العقلية والسمعية ، وألطافه وعصمته. وقال ابن عباس : سلوا الله العصمة عن كل المحرمات. وقال القفال : اجعلوا الله عصمة لكم مما تحذرون. هكذا نقل الرازي.

* * *

ويقول الله تعالى في سورة المائدة :

«يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ»(٢).

أي : يا أيها الرسول ، أظهر تبليغ الدعوة الى الناس ، ولا تكتف بالدعوة خفية وسرا ، وبلّغ جميع ما أنزل اليك من ربك ، فان كتمت منه شيئا فما بلغت رسالته. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت : «من حدثك أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتم شيئا من الوحي فقد كذب». ثم أخبر الله تعالى رسوله بأنه سيعصمه ويحفظه من الناس. ويا لها من بشرى.

ويروى أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان نائما ، فجاء أعرابي ، ورفع السيف عليه ، ثم قال للرسول : من يعصمك مني الآن ، فأجابه الرسول قائلا : الله. فسقط السيف من يد الاعرابي ، فتناوله الرسول وقال للاعرابي : من يمنعك مني؟ فقال : كن خير آخذ. فعفا عنه الرسول ، فعاد الرجل الى قومه يقول لهم : «جئتكم من عند خير الناس».

__________________

(١) سورة الحج ، الآية ٧٨.

(٢) سورة المائدة ، الآية ٦٧.

٧٠

وعصمة الله للانبياء هي حفظهم أولا بما خصهم الله به من صفاء الجوهر ، ثم بما أولاهم من الفضائل الحسية والنفسية ، ثم بالنصر وتثبيت الأقدام ، ثم بانزال السكينة عليهم ، وبحفظ قلوبهم ، وبالتوفيق. هكذا ذكر الاصفهاني في «مفردات القرآن».

ومع ما من الله به على رسوله من العصمة ، كان عليه الصلاة والسلام يدعو ربه بمثل قوله : «اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري» وقوله : «اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم» وقوله : «واعصمني فيما بقي من عمري».

ولقد عني سيدنا رسول الله بفضيلة الاعتصام بالله وما تفيضه على صاحبها المخلص فيها من الصيانة والرعاية ، وقد روى البخاري قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بعث الله من نبي ، ولا استخلف من خليفة الا كانت له بطانتان : بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه ، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه ، فالمعصوم من عصم الله».

أي المعصوم من وقاه ربه وحماه من الوقوع في الهلاك أو ما يجر اليه ، وقال ابن حجر في «فتح الباري» ان عصمة الله للانبياء عليهم الصلاة والسلام هي حفظهم من النقائص ، وتخصيصهم بالكمالات النفسية ، والنصرة والثبات في الامور ، وانزال السكينة عليهم. والفرق بينهم وبين غيرهم أن العصمة في حق الانبياء بطريق الوجوب ، وفي حق غيرهم بطريق الجواز.

ويعلمنا القرآن أن التجاءنا الى الله ، واعتمادنا عليه ، واستمدادنا منه ، هو المفتاح لعصمته لنا ، ولا نجاة لنا دون هذه العصمة الواقية منه ، ولذلك يقول سبحانه في سورة الاحزاب :

«قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ

٧١

سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً ، وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً»(١).

وقريب من هذا قوله في سورة يونس :

«ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ»(٢).

وقوله في سورة غافر :

«يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ»(٣).

وقوله في سورة هود :

«قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ»(٤).

وقد أكد الرسول صلوات الله وسلامه عليه أن باب الاعتصام بالله هو الاعتصام بكتابه ، فقد قال : «ان هذا القرآن هو حبل الله ، وهو النور المبين ، والشفاء النافع ، وعصمة لمن تمسك به ، ونجاة من اتبعه». وقال : «فاعتصموا بحبل الله ، فان حبل الله هو القرآن». وقال :

__________________

(١) سورة الاحزاب ، الآية ١٧.

(٢) سورة يونس ، الآية ٢٧.

(٣) سورة غافر ، الآية ٣٣.

(٤) سورة هود ، الآية ٤٣.

٧٢

«واني قد تركت فيكم ما لن تضلوا به ان اعتصمتم به : كتاب الله» ، وقال : «ان الله يرضى لكم ثلاثا ، ويكره لكم ثلاثا : يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ، ويكره لكم ثلاثا : قيل وقال ، وكثرة السؤال ، واضاعة المال».

وأعطانا القرآن موقفا رائعا من مواقف الاعتصام بالله ، والاستمساك بحبله وحماه ، وهو موقف يوسف الصديق عليه‌السلام ، حين تواطأت عليه قوى الاغراء المتجبر ، فأبى واستعصم ، يقول القرآن في سورة يوسف :

«وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ»(١).

ويقول أيضا :

«وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ ، قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ، فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية ٢٣ و ٢٤.

٧٣

كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»(١).

ومعنى قوله : «فاستعصم» هو أنه طلب ما يعتصم به من الاستجابة وركوب الفاحشة ، أي تحرى ما يعصمه ، فلم يجد أمامه الا الاعتصام بالله والالتجاء الى حماه.

وللصوفية حديث طويل عن الاعتصام بالله ، على طريقتهم الخاصة بهم ، فهذا هو ابن القيم في «مدارج السالكين» ينقل عنهم انهم يجعلون الاعتصام بالله ثلاث درجات :

الاولى اعتصام عامة الناس بالخبر الوارد عن الله عزوجل ، اذعانا وايمانا وانقيادا واستسلاما ، دون شك أو تردد أو منازعة ، والدرجة الثانية أعلى منها وهي اعتصام الخاصة ، وهو أن تنقطع النفس عن أغراضها ، ولا تريد غير الله جل جلاله ، والدرجة الثالثة وهي أعلى الدرجات عندهم ، وهو اعتصام خاصة الخاصة ، وهو أن يشهد الانسان ربّه وحده منفردا ولا شيء معه.

اللهم هبنا نعمة الاعتصام بك ، والاعتماد عليك.

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية ٣٢ و ٣٣.

٧٤

الفرح بفضل الله

الفرح هو أن يجد الشخص خفة في قلبه ، فينشرح صدره ، وأكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية عند العامة. ولكن أحرار العقلاء يجدون لذة أخرى وسرورا أعلى في الامور المعنوية والروحية. وليس هناك أبهى ولا أعلى من الفرح بفضل الله وخيره ، ولذلك جعل القرآن الكريم «الفرح بفضل الله» فضيلة من فضائله ، وخلقا من أخلاقه ، وقد نوّه الامام ابن القيم بالاثر العميق للفرح في نفس الانسان فقال : «الفرح أعلى أنواع نعيم القلب ولذته وبهجته ، والفرح والسرور نعيمه ، والهم والحزن عذابه ، والفرح بالشيء فوق الرضى به ، فان الرضى طمأنينة وسكون وانشراح ، والفرح لذة وبهجة وسرور ، فكل فرح راض ، وليس كل راض فرحا ، ولهذا كان الفرح ضد الحزن ، والرضى ضد السخط ، والحزن يؤلم صاحبه ، والسخط لا يؤلمه ، الا ان كان مع العجز عن الانتقام».

ومن جلال صفة الفرح الحق انه صفة كمال ، ولهذا يوصف الله جل جلاله بأعلى أنواعه وأكملها ، وقد حدثنا الحديث بأن فرحة الله تعالى بتوبة العبد التائب أعظم من فرحة الواجد لناقته التي عليها طعامه وشرابه ، في الارض المهلكة بعد فقده لها ، ويأسه من حصوله عليها. والفرح هاهنا كناية عن الرضى وسرعة القبول وحسن الجزاء ، لتعذر اطلاق ظاهر الفرح على الله

٧٥

سبحانه وتعالى.

ومن حديث القرآن الكريم عن الفرح نستطيع ان نفهم بصفة عامة ان الفرح في القرآن نوعان : مطلق ومقيد ، فالمطلق يأتي في مواطن الذم له والنهي عنه والتحذير منه ، كقوله :

«لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ»(١)

والمقيد اذا قيّد بالدنيا فهو أيضا مذموم ، لأنه يجعل صاحبه ينسى فضل الله ومنته ، كقوله في سورة الانعام :

«حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ»(٢).

أي يائسون أو مكتئبون. واذا كان مقيدا بفضل الله ورحمته فهو محمود مطلوب كقوله في سورة يونس :

«قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ»(٣).

وهذا النوع من الفرح بفضل الله هو الفضيلة الاخلاقية القرآنية ، التي تجعل صاحبها يتسامى عن خسائس الالوان من الفرح ، ويأخذ نفسه بالاقبال على الله ، والفرح بما يأتيه عن ربه من فضل وخير ورحمة.

ان الله تبارك وتعالى يقول :

__________________

(١) سورة القصص ، الآية ٧٦.

(٢) سورة الانعام ، الآية ٤٤.

(٣) سورة يونس ، الآية ٥٨.

٧٦

«قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ».

أي بهذا الذي جاءهم من الله تعالى من الهدى ودين الحق فليفرحوا ، فانه أولى ما يفرحون به ، وهو أفضل مما يجمعون من حطام الدنيا ، وما فيها من الزهرة الفانية الذاهبة لا محالة. ويؤيد هذا الفهم أن الآية التي سبقت هذه الآية تقول : «يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ».

ويروى أنه حينما قدم خراج العراق الى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، جعل عمر يعد الابل ، فاذا هي كثيرة كثيرة ، فجعل يردد قوله : الحمد لله تعالى. فقال تابع عمر : هذا والله من فضل الله ورحمته ، فرد عليه عمر قائلا : «هذا مما يجمعون ، لأن الله تعالى يقول : «هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ»».

وقد تعرض ابن القيم لهذه الآية فذكر ان الله تعالى قد أمر عباده بالفرح بفضله ورحمته ، وذلك تبع للفرح والسرور بصاحب الفضل والرحمة سبحانه ، فان من فرح بما يصل اليه من جواد كريم محسن برّ ، يكون فرحه بمن أوصل اليه ذلك أولى وأحرى. وفضل الله ـ كما قيل ـ هو الاسلام ، ورحمته هي القرآن ، وفضل الاسلام فضل عام على جميع أتباعه ، ورحمته بتعليم قرآنه لبعضهم دون بعض فضل خاص ، فالله جعلهم مسلمين بفضله ، وأنزل اليهم كتابه برحمته ، كما قال : «وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ».

ثم قال ابن القيم : «وذكر سبحانه الامر بالفرح بفضله ورحمته عقيب قوله «يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ ، وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ». ولا شيء أحق أن يفرح العبد به من

٧٧

فضل الله ورحمته التي تتضمن الموعظة ، وشفاء الصدور من أدوائها بالهدى والرحمة.

فأخبر سبحانه أن ما آتى عباده من الموعظة ـ التي هي الامر والنهي ، المقرون بالترغيب والترهيب ، وشفاء الصدور المتضمن لعافيتها من داء الجهل والظلمة والغي والسفه ، وهو (أي الجهل) أشد ألما لها من أدواء البدن ، ولكنها لما ألفت هذه الادواء لم تحس بألمها ، وانما يقوى احساسها بها عند المفارقة للدنيا ، فهناك يحضرها كل مؤلم محزن ، وما أتاها من ربها هو الهدى الذي يتضمن ثلج الصدور باليقين ، وطمأنينة القلب به ، وسكون النفس اليه ، وحياة الروح به ، والرحمة التي تجلب لها كل خير ولذة ، وتدفع عنها كل شر ومؤلم.

فذلك خير من كل ما يجمع الناس من أعراض الدنيا وزينتها ، أي هذا هو الذي ينبغي أن يفرح به ، ومن فرح به فقد فرح بأجلّ مفروح به ، لا ما يجمع أهل الدنيا منها ، فانه ليس بموضع للفرح ، لأنه عرضة للآفات ، ووشيك الزوال ، ووخيم العاقبة ، وهو طيف خيال زار الصب في المنام ، ثم انقضى المنام ، وولى الطيف ، وأعقب مزاره الهجران».

ويرى الامام أن فضل الله هو الاسلام والايمان ، وأن رحمته هي العلم والقرآن ، والله يحب من عبده أن يفرح بذلك ويسرّ به ، بل يحب من عبده أن يفرح بالحسنة اذا عملها وأن يسرّ بها ، وهو في الحقيقة فرح بفضل الله ، حيث وفقه الله لها ، وأعانه عليها ويسرها له ، ففي الحقيقة انما يفرح العبد بفضل الله ورحمته.

ومن أعظم مقامات الايمان الفرح بالله والسرور به ، فيفرح به اذ هو عبده ومحبه ، ويفرح به سبحانه ربا والها ، ومنعما ومربيا.

وللامام الفخر الرازي في تفسيره بيان نفيس حول هذه الآية السابقة :

٧٨

«قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ». ونسوقه لنفاسته مع تصرف يسير : المقصود من الآية الاشارة الى ما قرره حكماء الاسلام من ان السعادات الروحية أفضل من السعادات الحسية ، وقوله تعالى «فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا» يفيد الحصر ، أي لا يليق أن يفرخ الانسان الا بذلك ، لأن اللذات الحسية لا معنى لها الا دفع الآلام ، وهذا معنى عدمي ، والمعنى العدمي لا يستحق أن يفرح به. وكذلك نجد أن التضرر بآلام اللذات الجسمية أقوى من الانتفاع بلذاتها ، كما انه لا سبيل الى تحصيل لذات الجسم ، الا عن طريق البطن والفرج ، وأما الآلام فان كل جزء من أجزاء بدن الانسان معه نوع من الآلام. واللذات الجسمية لا تكون خالصة البتة ، بل تكون ممزوجة بأنواع من المكاره. واللذات الجسمية لا تكون باقية ، فكلما كان الالتذاذ بها أكثر كانت الحسرات الحاصلة من خوف فواتها أكثر ، ولذلك قال المعري :

ان حزنا في ساعة الموت أضعا

ف سرور في ساعة الميلاد

فمن المعلوم ان الفرح الحاصل عند حدوث الولد لا يعادل الحزن الحاصل عند موته.

ونرى اللذات الجسمية حال حصولها ممتنعة البقاء لأن لذة الاكل لا تبقى بحالها بل كلما زال ألم الجوع زال الالتذاذ بالاكل ، ولا يمكن استبقاء هذه اللذة.

كما ان الالتذاذ باللذات الجسمانية التذاذ بأشياء خسيسة ، فانها التذاذ بكيفيات حاصلة في أجسام سريعة الفساد مستعدة للتغير ، وأما اللذات الروحانية فانها بضد ذلك ، فثبت أن الفرح باللذات الجسمانية فرح باطل ناقص ، وأما الفرح الكامل فهو الفرح بالروحانيات.

ومن الواجب على العاقل حين تحصل له اللذات الروحية ألا يفرح بها

٧٩

من حيث هي هي ، بل يجب أن يفرح بها من حيث انها من الله تعالى وبفضل الله ورحمته ، ولهذا قال الصديقون : «من فرح بنعمة الله من حيث انها تلك النعمة فهو مشرك ، وأما من فرح بنعمة الله من حيث انها من الله ، كان فرحه بالله ، وذلك هو غاية الكمال ونهاية السعادة».

ويعلق على الآية ذاتها أحد البصراء من المفسرين فيقول : «فبهذا الفضل الذي آتاه الله عباده ، وبهذه الرحمة التي أفاضها عليهم من الايمان ... فبذلك وحده فليفرحوا ، فهذا الذي يستحق الفرح ، لا المال ولا أعراض هذه الحياة ، ان ذلك هو الفرح العلوي الذي يطلق النفس من عقال المطامع الارضية والاعراض الزائلة ، فيجعل هذه الاعراض خادمة للحياة لا مخدومة ، ويجعل الانسان فوقها وهو يستمتع بها ، لا عبدا خاضعا لها.

والاسلام لا يحقر أعراض الحياة الدنيا ليهجرها الناس ويزهدوا فيها ، انما يحقرها ليستمتع بها الناس وهم أحرار الارادة طلقاء اليد ، مطمحهم أعلى من هذه الاعراض ، وآفاقهم أسمى من دنيا الارض. الايمان عندهم هو النعمة ، وتأدية مقتضيات الايمان هو الهدف ، والدنيا بعد ذلك مملوكة لهم ، لا سلطان لها عليهم».

* * *

ويقول الله تعالى في سورة آل عمران :

«وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ، وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ

٨٠