موسوعة أخلاق القرآن - ج ٤

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٤

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٣٥

فالله تعالى قد أنجاهم لأنهم عاشوا بين أهليهم في اشفاق من هذا اليوم ، وخوف من لقاء ربهم ، مع أنهم كانوا بين أهليهم وأحبابهم.

ان فضيلة «الاشفاق» القرآنية تعلم صاحبها اليقظة والحذر ، والتنبه للواجب مع الحرص على أدائه ، والابتعاد عن السوء قدر الامكان. وتعلمه أن يبذل أقصى ما في وسعه من طاعة وقربة ، ثم لا يغتر ولا ينخدع ، بل يظل على الدوام في خشية من التقصير ، وهيبة من الغفلة ، وخوف من النسيان ، فمهما بذل أو قدم ، يظل خاضعا لجلال ربه ، خاشعا من هيبته ، سائلا منه العفو والمغفرة والرضوان.

٤١

حسن الظن

تقول اللغة ان الظن هو ما يحصل عن أمارة ، وهو بهذا شك ، ولكنه قد يلحقه تدبر فيصير ضربا من اليقين ، ولكنه دون يقين المعاينة ، وقد تضعف الامارة فيكون الظن توهما ، وفي هذه الحالة يكون الظن مذموما ، واذا قويت أمارته وصار ضربا من اليقين ، فان الظن يكون محمودا حينذاك.

والظن في كثير من الامور مذموم كما يقول الاصفهاني ، وكل ما لا يوثق به فهو ظنين وظنون والظن الحسن هو تغليب جانب الخير على جانب الشر ، وتجنب المسارعة بالاتهام دون برهان.

وقد قال العلماء ان حسن الظن بالله هو أن تظن أنه سيعفو عنك ، ويرحمك بواسع رحمته وأنت على طاعته ، وهذا لا يتعارض مع حذرك اذا كنت عاصيا. وحسن الظن بالناس هو أن تظن أنهم على خير ، وعلى هدى من ربهم فيما بينهم وبينه ، بل ربما كانوا عند الله أحسن منك ، وهذا في المسلمين المستورين ، وأما أهل العصيان والفسوق والاهواء الفاسدة والمجاهرين بالمعصية فلا يتأتى فيهم حسن الظن.

والقرآن الكريم قد عدّ حسن الظن في مواطنه خلقا من أخلاقه وفضيلة من فضائل المجتمع المؤمن ، فتحدث عن الظن الحسن بطريق التصريح حين قال من سورة النور وهو يتحدث عن حديث الافك :

٤٢

«لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً»(١).

وبطريق النهي عن الظن السيء الخبيث في أكثر من آية كما سنرى :

ها هو ذا القرآن المجيد يقص علينا قصة الافك فيقول فيما يقول :

«إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ، وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ ، لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا : هذا إِفْكٌ مُبِينٌ»(٢).

ان هذه الكلمات القدسية تحكي ما حدث من افك وافتراء على الصديقة بنت الصديق عائشة بنت أبي بكر رضوان الله عليهما ، وكان ذلك الافك ناشئا من سوء الظن المتعاون مع النفاق الوضيع. وتشير الآيات الى أن حسن الظن كان أولى وأجدر بالمسلمين ، وكان الواجب على كل من سمع هذا الافتراء القذر ان يرده قائلا : «هذا إِفْكٌ مُبِينٌ» ، وذلك كما فعل أبو أيوب خالد بن زيد الانصاري وزوجته رضي الله عنهما ، فقد روت السيرة أن أبا أيوب قالت له زوجته : يا أبا أيوب ، أما تسمع ما يقول الناس في عائشة رضوان الله عليها؟.

قال : نعم ، وذلك الكذب. ثم سألها : أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟.

__________________

(١) سورة النور ، الآية ١٢.

(٢) سورة النور ، الآيتان ١١ و ١٢.

٤٣

قالت : لا والله ما كنت أفعله.

فقال لها : فعائشة والله خير منك.

ويروى أيضا أن أبا أيوب قال لها عن حديث الافك : ألا ترين ما يقال؟.

فقالت له : لو كنت بدل صفوان بن المعطل ـ وهو الصحابي الجليل الذي اتهموا به عائشة ـ أكنت تظن بحرمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سوءا؟.

قال : لا.

فقالت : ولو كنت أنا بدل عائشة رضي الله عنها ما خنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعائشة خير مني ، وصفوان خير منك.

يا لروعة الظن الحسن الجميل في موطنه الاصيل الجليل.

* * *

ويقول القرآن فيما يقول وهو يتحدث عن أحداث غزوة أحد في سورة آل عمران :

«ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ ، وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ ، يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ، قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ ، يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا ، قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ

٤٤

الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ ، وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ»(١).

فهنا يقارن الكتاب العزيز بين طائفة المؤمنين أهل الاخلاص والظن الحسن بالله ، الذين وهبهم الله سبب الأمن والطمأنينة ، وطائفة أخرى سلط الله عليهم الازعاج والخوف ، وهم المشركون أو المنافقون الذين شغلتهم أنفسهم ، فهم يسيئون الظن ، فيظنون بالله ورسوله غير الحق ظنّ الجاهلية ، ويتوهمون أن الله لن ينصر رسوله ، ولذلك يتساءلون منكرين : هل لنا من النصر نصيب؟ وقد قالوا ذلك على سبيل السخرية والتخذيل للمسلمين ، وكان من قائلي هذا عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه ، ومعتّب بن قشير وأصحابه ، فأمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم : ان الامر كله بيد الله ، ينصر من يشاء ، ويخذل من يشاء ، ولا خاذل لمن نصره ، ولا ناصر لمن خذله ، وربما عجل النصر ، وربما أخره لحكمة يعلمها ، وهو لا يخلف وعده ، ومن أوفى بعهده من الله؟.

واذا كان القرآن يفهمنا أن حسن الظن صفة المؤمنين ، فانه يخبرنا بأن الظن السيء صفة أعداء الله رب العالمين ، ولذلك يخاطب الله جل جلاله أعداءه فيقول لهم فيما يقول في سورة فصلت :

«وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ ، وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ ، وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٥٤.

٤٥

أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ»»(١).

فالقرآن المجيد يحمل هنا على الظن الاثيم من اعداء الله بربهم. ويخبرنا بأن هذا الظن السيء هو الذي أهلك أصحابه ، وقادهم الى جهنم وبئس المصير.

ويوجه القرآن الخطاب الى الاعراب المتخلفين عن الجهاد تهاونا وكسلا وضعف ايمان ، فيقول لهم فيما يقول من سورة الفتح :

«بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً ، وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ ، وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ ، وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً»(٢).

لقد فضحهم القرآن هنا وكشف أستارهم ، ووقفهم ـ كما يقول بعض المفسرين ـ وجها لوجه أمام ما أضمروا من نية ، وما ستروا من تقدير ، وما ظنوا بالله من السوء ، وقد ظنوا أن الرسول ومن معه من المؤمنين ذاهبون الى حتفهم ، فلا يرجعون الى أهليهم ، وقد ظنوا ظنهم ، وزين الشيطان هذا الظن الاثيم في نفوسهم ، حتى لم يروا غيره ، ولم يفكروا في سواه فصاروا بورا ، لا حياة لهم ولا خصب ولا اثمار.

ويقرر القرآن المجيد أن الظن السيء هو صفة المنافقين والمشركين ،

__________________

(١) سورة فصلت ، ٢٢.

(٢) سورة الفتح ، آية ١٢ ، ١٣.

٤٦

فيقول في سورة الفتح :

«ويعذّب المنافقين والمنافقات ، والمشركين والمشركات الظانّين بالله ظنّ السوء عليهم دائرة السّوء ، وغضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم جهنّم وساءت مصيرا» (١).

ويعلق على هذه الآية بعض المفسرين فيقول : «وقد جعل الله صفة المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات هي ظن السوء بالله ، فالقلب المؤمن حسن الظن بربه ، يتوقع منه الخير دائما بتوقع الخير في السراء والضراء ، ويؤمن بأن الله يريد به الخير في الحالين ، وسر ذلك أن قلبه موصول بالله ، وفيض الخير من الله لا ينقطع أبدا ، فمتى اتصل القلب به لمس هذه الحقيقة الاصيلة ، وأحسها احساس مباشرة. فأما المنافقون والمشركون فهم مقطوعو الصلة بالله ، ومن ثم لا يحسون تلك الحقيقة ولا يجدونها ، فيسوء ظنهم بالله ، وتتعلق قلوبهم بظواهر الامور ، ويبنون عليها أحكامهم ، ويتوقعون الشر والسوء لأنفسهم وللمؤمنين ، كلما كانت ظواهر الامور توحي بهذا ، على غير ثقة بقدر الله وقدرته ، وتدبيره الخفي اللطيف».

ويقول القرآن في سورة الحجرات :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ»(٢).

__________________

(١) سورة الفتح ، الآية ٦.

(٢) سورة الحجرات ، الآية ١٢.

٤٧

فهذا أمر الهي باجتناب كثير من الظنون ، حتى لا يتركوا أنفسهم نغرق فيما يهجس بداخلها من ظنون وشكوك ، وكأن الآية الكريمة تنهى عن أن يتلوث الانسان بالظن السيء فيقع في الاثم ، وتحث على أن يظل الانسان طاهر القلب نقي الصدر بريء الساحة ، يطوي فؤاده على حسن الظن بالناس.

ولقد تحدث القرآن حديث التعريض بالذين يفتحون على أنفسهم باب الظن السيء بالله حتى في أشد الاحوال وأقسى الظروف ، فذلك حيث يقول في سورة الاحزاب :

«إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا».

ومن الواضح أن سوء الظن ـ دون موجب ـ يؤدي الى الاتهام المتعجل ، وتتبع العورات ، وتسقّط الهفوات ، والتجسس الدنيء. وغير ذلك من الآثام.

* * *

ولقد روى البخاري ومسلم في الحديث القدسي قول رب العزة : أنا عند ظن عبدي بي» أي قادر على أن أعمل به ما ظن اني عامل به ، وكأن هذه اشارة الى ترجيح جانب الامل والرجاء على جانب الخوف ، أو تغليب جانب حسن الظن على جانب سوء الظن.

وفي الحديث الصحيح : «اياكم والظن فان الظن أكذب الحديث». أراد اياكم وسوء الظن وتحقيقه ، أو أراد الشك يعرض للانسان في السيء فبحققه ويحكم به. ويروي أبو داود بسند صالح ان الرسول صلوات الله

٤٨

وسلامه عليه قال : «حسن الظن من حسن العبادة». فتحسين الظن بالناس يحفظه من بغضهم وحسدهم ، ولذا كان عبادة ، كما أن سوء الظن بهم معصية. وأما سوء الظن بالله تعالى فكفر نعوذ بالله منه.

والشيطان يحاول دائما اثارة سوء الظن ، وتحريكه في نفس الانسان ليؤدي به الى المعاطب ، والسنة المطهرة تخبرنا بذلك ، فقد روت أم المؤمنين صفية بنت حيي ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان معتكفا في المسجد ، فذهبت اليه وتحدثت معه ، فلما أمست انصرفت ، فقام رسول الله يمشي معها ، فمر بهما رجلان من الانصار ، فسلما وانصرفا ، فناداهما النبي وقال : «انها صفية بنت حيي».

فقالا : يا رسول الله ، ما نظن بك الى خيرا.

فقال : «ان الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من الجسد ، واني خشيت أن يدخل عليكما».

ويعلق الامام الغزالي على هذا الخبر بقوله في الاحياء : «فانظر كيف أشفق صلى‌الله‌عليه‌وآله على دينهما فحرسهما ، وكيف أشفق على أمته فعلمهم طريق الاحتراز من التهمة ، حتى لا يتساهل العالم الورع المعروف بالدين في أحواله ، فيقول : مثلي لا يظن به الا الخير ، اعجابا منه بنفسه ، فان أروع الناس واتقاهم واعلمهم لا ينظر الناس كلهم اليه بعين واحدة ، بل بعين الرضا بعضهم ، وبعين السخط بعضهم ، ولذلك قال الشاعر :

وعين الرضا عن كل عيب كليلة

كما أن عين السخط تبدي المساويا

فيجب الاحتراز عن ظن السوء ، وعن تهمة الاشرار ، فان الاشرار لا يظنون بالناس كلهم الا الشر ، فمهما رأيت انسانا يسيء الظن بالناس طالبا للعيوب ، فاعلم أنه خبيث في الباطن ، وأن ذلك خبثه يترشح منه ، وانما رأى غيره من حيث هو ، فان المؤمن يطلب المعاذير ، والمنافق يطلب

٤٩

العيوب ، والمؤمن سليم الصدر في حق كافة الخلق».

ومن واجب المسلم أن يتذكر أن رسوله عليه الصلاة والسلام يدعو الى تغليب حسن الظن على سوء الظن ، وينهى عن تتبع الزلات وتطلب العورات ، فيقول : «لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم ، ولا تطلبوا عوراتهم ، فانه من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته». بل لقد نهى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وليّ الأمر عن أن يجعل سوء الظن أساس المعاملة للناس ، فقال : «ان الامير اذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم». أي لا ينبغي معاملتهم بالتهمة القائمة على سوء الظن فربما أفسدهم بذلك.

وكذلك جاء في الحديث : «اذا ظننت فلا تحقق». وقد أشار الغزالي الى أن فتح باب الشر يأتي من طريق سوء الظن ، فقال : «فمن يحكم بشر على غيره بالظن ، بعثه الشيطان على أن يطول فيه اللسان بالغيبة فيهلك ، أو يقصر في القيام بحقوقه ، أو يتوانى في اكرامه ، وينظر اليه بعين الاحتقار ، ويرى نفسه خيرا منه ، وكل ذلك من المهلكات ، ولأجل هذا منع الشرع من التعرض للتهم».

ولكن ... ليس معنى الدعوة الى حسن الظن أن يغفل المسلم عن حيل أعدائه ومكرهم وسوء سعيهم ، بل عليه أن يكون يقظا حذرا ، والقرآن الحكيم يقول في سورة النساء :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ»(١).

وفي الحديث : «احتجزوا من الناس بسوء الظن» أي لا تثقوا بكل أحد فانه أسلم لكم. وقد سبق لي ان تحدثت عن «الحذر» في الجزء

__________________

(١) سورة النساء ، الآية ٧١.

٥٠

الثاني من كتابي «أخلاق القرآن» في احدى عشرة صفحة. وفي ضوء الحذر قال القائل : «ظن المرء قطعة من عقله». وجاء في المثل : «الحزم سوء الظن». وجاء في الأثر : «الظنون مفاتيح اليقين».

كما أن سوء الظن بالنفس الامارة بالسوء شيء محمود مطلوب ، وفي القرآن المجيد في سورة يوسف :

«وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي»(١).

وفي حديث علي : «ان المؤمن لا يمسي ولا يصبح الا ونفسه ظنون عنده» أي متهمة لديه.

وقد تحدث رجال التربية الروحية عن حسن الظن بالله سبحانه ، فجعلوه من درجات التوكل ، وفي هذا المجال يقول الامام ابن القيم : «فعلى قدر حسن ظنك بربك ، ورجائك فيه ، يكون توكلك عليه ، ولذلك فسر بعضهم التوكل بحسن الظن بالله ... والتحقيق أن حسن الظن به يدعوه الى التوكل عليه ، اذ لا يتصور التوكل على من ساء ظنك به ، ولا التوكل على من لا ترجوه».

فلنحسن الظن حيث لا موجب لسوئه ، وليكن حسن ظننا بالله أول ما نلجأ اليه ونستمسك به ، ولنقل في صدق واخلاص مع من قال :

واني لأرجو الله حتى كأنني

أرى بجميل الظن ما الله صانع

نسأل الله تباركت آلاؤه أن يجعلنا ممن يحسنون الظن بفضله وطوله انه أكرم مسؤول وأفضل مأمول.

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية ٥٣.

٥١

الصفح

تقول اللغة ان صفحة الشيء عرضه وجانبه ، كصفحة الوجه وصفحة السيف ، وصفح عن فلان : أعرض عنه ، وولاه قفاه اهمالا. وصفح عن ذنبه : أعرض عن مؤاخذته ، أو أولاه صفحة جميلة ، والوصف صفوح. والصفح ترك التثريب. ويقول الطبرسي ان قولهم : «صفحت عنه» فيه قولان : أحدهما أن معناه أني لم آخذه بذنبه وأبديت له مني صفحة جميلة ، والآخر أنه لم ير مني ما يقبض صفحته.

والصّفوح : الكريم ، لأنه يصفح عمن جنى عليه ، وأما الصفوح فيما يتعلق بالله تعالى فقد جاء في السنة أنه صفة من صفاته عزوجل ، ومعناه أنه العفوّ عن ذنوب عباده ، المعرض عن عقوبتهم تكرما ، والصفح خلق من أخلاق القرآن الكريم ، وفضيلة من فضائل الاسلام العظيم ، وجانب من صفة الرسول عليه الصلاة والسلام. والغالب على استعمال القرآن للصفح هو معنى الاعراض عن الذنب ، والصلة بين المعنى اللغوي للصفح والمعنى الاخلاقي هو أن قولهم : صفحت عنه معناه أوليته مني صفحة جميلة معرضا عن ذنبه ، أو لقيت صفحته متجافيا عنه ، أو تجاوزت الصفحة التي أثبتّ فيها ذنبه من الكتاب الى غيرها ، من قولك : تصفحت الكتاب.

والصفح يذكّرنا بالعفو ، والكثير من الناس يظنون العفو والصفح

٥٢

شيئا واحدا ، حتى ان الطبرسي في «مجمع البيان» يقول : «الصفح والعفو والتجاوز بمعنى». ولقد كتبت عن خلق «العفو» في الجزء الاول من كتابي «أخلاق القرآن» على أساس ان الصفح غير العفو ، لأن الصفح أبلغ من العفو وأعلى منه درجة ، فقد يعفو الانسان ولا يصفح. ولذلك جاء في «مفردات القرآن» : الصفح أبلغ من العفو ، ولذلك قال القرآن الكريم : «فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا» ويقول القرطبي : العفو ترك المؤاخذة بالذنب ، والصفح ازالة أثره من النفس. وفي «تفسير المنار» العفو ترك العقاب على الذنب ، والصفح الاعراض عن المذنب بصفحة الوجه ، فيشمل ترك العقاب وترك اللوم والتثريب.

ومن شرف فضيلة الصفح أن الله تبارك وتعالى أمر بها نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال له في سورة الزخرف :

«فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ»(١).

فقد أمره ربه بأن يصفح عنهم ، وفي ضمن ذلك منعه من أن يدعو عليهم بالعذاب ، بل يرجو لهم الهداية والرحمة ، وأمره بأن يقول لهم : سلام.

يقول ابن كثير في الآية : «فَاصْفَحْ عَنْهُمْ :» أي المشركين. وقل سلام : أي لا تجاوبهم بمثل ما يخاطبونك به من الكلام ، ولكن تألفهم واصفح عنهم فعلا وقولا. فسوف يعلمون : هذا تهديد من الله تعالى لهم. ولهذا أحل بهم بأسه الذي لا يرد ، وأعلى دينه وكلمته ، وشرع بعد ذلك الجهاد والجلاد ، حتى دخل الناس في دين الله أفواجا ، وانتشر الاسلام في المشارق والمغارب».

__________________

(١) سورة الزخرف ، الآية ٨٩.

٥٣

ويقول الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام في سورة الحجر :

«وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ»(١).

والصفح الجميل هو أبلغ ألوان العفو ، وهنا أمر للنبي عليه الصلاة والسلام بأن يخفّف على نفسه كفر من كفر ، كما قال تعالى :

«وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ».

ويقول القرآن الكريم في سورة البقرة :

«وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(٢).

أي : لقد تمنى اليهود لو استطاعوا أن يجعلوكم كفارا بعد أن عرفتم الايمان ، وذلك بسبب حسدهم لكم ، ومن تلقاء أنفسهم ، اذ لم يأمرهم الله بذلك ، ولم يجدوه في كتاب من عند الله ، وقد ودوا ذلك من بعد ما تبين لهم الحق ، وهو رسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقرآن الذي جاء به من عند الله ، فاعفوا عنهم وأعرضوا حتى يأتي الله بالنصر ، ان الله على كل شيء قدير.

ولقد جاء في صحيحي البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد أن رسول

__________________

(١) سورة الحجر ، الآية ٨٥.

(٢) سورة البقرة ، الآية ١٠٩.

٥٤

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ركب على حمار عليه قطيفة مذكية وأسامة وراءه ، يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر ، فسارا حتى مرا بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول ، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي ، فاذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الاوثان واليهود وفي المسلمين عبد الله بن رواحة.

فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة (الغبار) غطّى ابن أبي أنفه بردائه وقال : لا تغبّروا علينا ، فسلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم وقف فنزل ، فدعاهم الى الله تعالى ، وقرأ عليهم القرآن ، فقال له عبد الله بن أبي ابن سلول : أيها المرء ، لا أحسن مما تقول ان كان حقا ، فلا تؤذنا في مجالسنا ، ارجع الى رحلك (منزلك) فمن جاءك فاقصص عليه.

قال عبد الله بن رواحة : بلى يا رسول الله ، فاغشنا في مجالسنا ، فانا نحب ذلك.

فاستب المشركون والمسلمون واليهود حتى كادوا يتثاورون (يقتتلون) فلم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخفّضهم (يهدئهم) حتى سكنوا.

ثم ركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة ، فقال له : يا سعد ، ألم تسمع ما قال أبو حباب؟ ـ يعني عبد الله بن أبي ـ قال كذا وكذا.

فقال سعد : أي رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، اعف عنه واصفح ، فو الذي أنزل عليك الكتاب بالحق ، لقد جاءك الله بالحق الذي أنزل عليك ، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة (المدينة) على أن يتوّجوه ويعصبوه بالعصابة ، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك (اغتاظ) فذلك فعل ما رأيت.

٥٥

فعفا عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وصفح.

ولنلاحظ أن الآية الكريمة السابقة قد قالت : «فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا» ولم تقل «فاعفوا واصفحوا عنهم» وذلك لارادة عموم العفو والصفح ـ والله أعلم بمراده ـ أي عاملوا جميع الناس بالعفو والصفح ، فان هذا هو اللائق بشأن المؤمنين المتقين ، ما لم يكن ذلك على حساب الدين أو كرامة المسلمين.

وقد يقال : كيف يأمر الله تعالى المسلمين بالعفو والصفح عن أهل الكتاب وقد كان المسلمون يومئذ قلة؟. ويتولى الاستاذ الامام محمد عبده الرد على هذه الشبهة ، فيقول : «في أمره تعالى لهم بالعفو والصفح اشارة الى أن المؤمنين على قلتهم هم أصحاب القدرة والشوكة ، لأن الصفح انما يطلب من القادر على خلافه ، كأنه يقول : لا يغرنكم أيها المؤمنون كثرة أهل الكتاب مع باطلهم ، فانكم على قلتكم أقوى منهم بما أنتم عليه من الحق ، فعاملوهم معاملة القوي العادل للقوي الجاهل.

وفي انزال المؤمنين على ضعفهم منزل الاقوياء ، ووضع أهل الكتاب على كثرتهم موضع الضعفاء ، ايذانا بأن أهل الحق هم المؤيدون بالعناية الالهية ، وأن العزة لهم ما ثبتوا على حقهم ، ومهما يتصارع الحق والباطل فان الحق هو الذي يصرع الباطل».

* * *

ويقول الله عزوجل في سورة المائدة :

«فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ ، فَاعْفُ

٥٦

عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»(١).

والمعنى : أنهم بسبب نقضهم العهد والميثاق لعنهم الله وأبعدهم عن رحمته ، وجعل قلوبهم قاسية صلبة ، لا تعي خيرا ولا تفعله ، وهم يبدلون الكلام ويحرفون معناه ، ونسوا عهدهم الذي أخذه الانبياء عليهم من الايمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنت يا رسول الله لا تزال تطلع على خيانة منهم وفجور ، الا قليلا منهم لم يخونوا ، فاعف عنهم واصفح ما دام بينك وبينهم عهد وهم أهل ذمة.

ويقول ابن كثير هنا : «وهذا هو عين النصر والظفر. كما قال بعض السلف : ما عاملت من عصى الله فيك ، بمثل أن تطيع الله فيه. وبهذا يحصل لهم جمع تأليف وجمع على الحق ، ولعل الله أن يهديهم. ولهذا قال الله تعالى : ان الله يحب المحسنين ، يعني به الصفح عمن اساء اليك».

ويقول الله عز شأنه في سورة التغابن :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ، وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(٢).

قيل ان الآية الكريمة نزلت في بعض المسلمين الذين كانوا اذا أرادوا الخروج للجهاد بكى أولاده وأهله وقالوا له : الى من تدعنا؟. فيرق فيقيم.

وقيل : نزلت في رجال أسلموا من أهل مكة ، وأرادوا أن يأتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة ، فأبى أولادهم وزوجاتهم ، فلما أتوا

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ١٣.

(٢) سورة التغابن ، الآية ١٤.

٥٧

النبي رأوا الناس قد فقهوا في الدين ، فهمّوا بمعاقبة أولادهم وأهلهم ، فأنزل الله قوله :

«وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

ويقول الله جل علاه في سورة النور :

«وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(١).

جاء في تفسير «مفاتيح الغيب» للرازي أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق حيث حلف أن لا ينفق على مسطح بن أثاثة ، وهو ابن خالة أبي بكر ، وقد كان يتيما في حجره ، وكان ينفق عليه وعلى قرابته ، فلما جاءت قصة الافك قال لهم أبو بكر : قوموا فلستم مني ولست منكم ، ولا يدخلن عليّ أحد منكم.

فقال مسطح : أنشدك الله والاسلام ، وأنشدك القرابة والرحم أن لا تحوجنا الى أحد ، فما كان لنا في أول الامر من ذنب.

فقال لمسطح : ان لم تتكلم فقد ضحكت.

فقال : قد كان ذلك تعجبا من قول حسان.

فلم يقبل أبو بكر عذره ، وقال : انطلقوا ايها القوم ، فان الله لم يجعل لكم عذرا ولا فرجا.

فخرجوا لا يدرون أين يذهبون وأين يتوجهون من الارض ، فبعث

__________________

(١) سورة النور ، الآية ٢٢.

٥٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى أبي بكر يخبره بأن الله تعالى قد أنزل عليه آيات ينهاه فيها عن اخراجهم ، فكبر أبو بكر وفرح ، وقرأ الرسول عليه ما نزل ، فلما بلغ قوله تعالى : «أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ» قال أبو بكر : بلى يا رب اني أحب أن يغفر لي ، وقد تجاوزت عما كان.

وذهب أبو بكر الى بيته ، وأرسل الى مسطح وأصحابه ، وقال : قبلت ما أنزل الله على الرأس والعين ، وانما فعلت بكم ما فعلت اذ سخط الله عليكم ، أما اذ عفا عنكم فمرحبا بكم.

وجعل لمسطح ضعف ما كان له قبل ذلك.

ونفهم من الآية الكريمة أن أهل الفضل في الدين والخلق لا يقصرون في الاحسان الى المسلمين ، فهم أهل سماحة وصفح ، ونرى أن الله تبارك وتعالى حينما أمر أبا بكر بالاعطاء لقبه بأولي الفضل والسعة ، كأنه سبحانه يقول له : أنت أفضل من أن تقابل اساءته بمثلها ، وأنت أوسع قلبا من أن تقيم للدنيا وزنا ، فلا يليق بفضلك وسعة قلبك أن تقطع برك عنه بسبب ما صدر منه من الاساءة ، وهذا الخطاب يدل على نهاية الفضل والعلو في الدين.

ويعلق الرازي على قوله : «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا» فيقول ان العفو قرينة التقوى ، وكل من كان أقوى في العفو كان أقوى في التقوى ، ومن كان كذلك كان أفضل لقول الله : «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ». والعفو والتقوى متلازمان وقد اجتمعا في أبي بكر ، أما التقوى فلقوله سبحانه : «وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى» وأما العفو فلقوله : «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا».

ولقد قال الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ» وقال في حق أبي بكر : «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا» فهذا يدل على أن أبا بكر كان ثاني اثنين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع الاخلاق حتى في العفو والصفح.

٥٩

ولذلك قالت الآية : «أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ» هكذا بصيغة الجمع على سبيل التعظيم.

وقد علق الله غفرانه على اقدام أبي بكر على العفو والصفح ، وقد حصل فترتب الجزاء على الشرط فتحققت المغفرة لأبي بكر ، وقوله : «يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ» بصيغة المستقبل ، وهو غير مقيد بشيء دون شيء ، فدلت الآية على أنه سبحانه قد غفر لأبي بكر في مستقبل عمره على الاطلاق ، فكان من هذا الوجه ثاني اثنين للرسول عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى : «لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ». وكان هذا دليلا على صحة امامته رضي الله عنه. يقول الرازي : فان امامته لو كانت على خلاف الحق لما كان مغفورا له على الاطلاق ، ودليلا على صحة ما ذكره الرسول في خبر بشارة العشرة بأن أبا بكر في الجنة.

ويقول القرآن في سورة الزخرف :

«أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ»(١).

والمعنى : أفنعرض اعراضا عن أن نذكركم من أجل اسرافكم على أنفسكم في كفركم؟. يقال : ضربت عن فلان صفحا ، اذا أعرضت عنه وتركته.

وقيل ان المعنى على سبيل التهديد ، أي أتحسبون أن نصفح عنكم فلا نعذبكم ولم تفعلوا ما أمرناكم به؟.

ولكن قتادة يفهم من الآية فهما دقيقا يعبر عنه بقوله : «والله لو أن

__________________

(١) سورة الزخرف ، الآية ٥.

٦٠