موسوعة أخلاق القرآن - ج ٤

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٤

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٣٥

والظلم ، وانما أهلكهم ويهلكهم بظلمهم وافسادهم فيها ، كما ترى في الآيات العديدة من هذه السورة (هود) وغيرها.

وفي الآية وجه آخر ، وهو أنه ليس من سنته تعالى أن يهلك القرى بظلم يقع فيها ، مع تفسير الظلم بالشرك وأهلها مصلحون في أعمالهم الاجتماعية والعمرانية ، وأحكامهم المدنية والتأديبية ، فلا يبخسون الحقوق كقوم شعيب ، ولا يرتكبون الفواحش ، ويقطعون السبيل ، ويأتون في ناديهم المنكر ، كقوم لوط ، ولا يبطشون بالناس بطش الجبارين كقوم هود ، ولا يذلون لمتكبر جبار يستعبد الضعفاء كقوم فرعون.

بل لا بد أن يضموا الى الشرك الافساد في الاعمال والاحكام ، وهو الظلم المدمر للعمران.

ويحتمل أن يراد انه لا يهلكها بظلم قليل من أهلها لانفسهم ، اذا كان الجمهور الاكبر منهم مصلحين في جل اعمالهم ومعاملاتهم للناس. أخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي ، عن جرير بن عبد الله قال :

سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسأل عن تفسير هذه الآية ، فقال : «وأهلها ينصف بعضهم بعضا». وروى موقوفا على جرير رضي الله عنه. فتنكير الظلم في هذا للتقليل والتحقير ، وفيما قبله للتعظيم ، وهو مأخوذ من قوله تعالى :

«إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»(١).

والآية تدل على أن اهلاك المصلحين ظلم ، فلذلك يتنزه الله عنه.

وذكر المفسرون في الوجه الثاني القول المشهور عن تجارب الناس ، وهو : ان الامم تبقى مع الكفر ، ولا تبقى مع الظلم».

__________________

(١) سورة لقمان ، الآية ١٣.

٢٢١

ثم يأتي حديث الصوفية عن الصلاح والاصلاح ، فاذا معروف الكرخي يقول على طريقتهم : «ما أكثر الصالحين ، وأقل الصادقين في الصالحين». ويقول ابراهيم بن أدهم :

«اعلم أنك لا تنال درجة الصالحين ، حتى تجوز ست عقاب :

أولاها أن تغلق باب النعمة ، وتفتح باب الشدة.

والثانية أن تغلق باب العز ، وتفتح باب الذل.

والثالثة أن تغلق باب الراحة ، وتفتح باب الجهد.

والرابعة أن تغلق باب النوم ، وتفتح باب السهر.

والخامسة أن تغلق باب الغنى ، وتفتح باب الفقر.

والسادسة أن تغلق باب الامل ، وتفتح باب الاستعداد للموت».

ويقول أبو العباس بن عطاء : «خلق الله الصالحين للملازمة. قال الله تعالى : «وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى».

وبعد ، فلنتوجه الى الله بالرجاء في تحقيق الصلاح والاصلاح لأنفسنا ، فضلا من الله ونعمة. ولندع مع معاوية بن قرة قائلين : «اللهم ان الصالحين أنت أصلحتهم ، ورزقتهم أن عملوا بطاعتك ، فرضيت عنهم. اللهم كما أصلحتهم فأصلحنا ، وكما رزقتهم أن عملوا بطاعتك فرضيت عنهم ، فارزقنا ان نعمل بطاعتك ، وارض عنا».

وعلى الله قصد السبيل.

٢٢٢

الوجل

عرف العلماء الوجل بأنه الفزع. ومنهم من قال انه الخوف ، أو استشعار الخوف. وبعضهم يعرفه بقوله : هو هذه الارتعاشة الوجدانية التي يعبّر عنها بالوجل لمجرد ذكر الله تعالى ، وهي نفسها التقوى ، والقلب المتصل بالله المستشعر لهيبته ينتفض بالوجل لمجرد ذكر اسم الله الاعلى ، لأنه يتمثل ما وراء الاسم من معنى يعيه القلب الواصل ، ويعيا بتصويره اللسان.

والمراد بالذكر هنا هو ذكر القلب لعظمة الله وسلطانه وجلاله ، أو لوعيده ووعده ، ومحاسبته لخلقه ، وغير ذلك من صفاته وأفعاله ، سواء كان مع هذا ذكر باللسان أم لا.

ولا يكاد يذكر الوجل في لغة القرآن الا منسوبا الى القلب ، فالقرآن يكرر قوله :

«وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ»(١)

وهو يقول :

__________________

(١) سورة الانفال ، الآية ٢.

٢٢٣

«وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ»(١).

حتى يمكن أن يسمى هو الخلق ـ أو هذه الفضيلة القرآنية ـ وجل القلب.

والوجل قريب من الخوف ، ولقد كتبت عشر صفحات عن فضيلة «الخوف من الله» في الجزء الاول من كتابي هذا «أخلاق القرآن». وهناك قلت اننا اذا واصلنا قراءاتنا في كتب السلف وجدنا جملة ألفاظ متقاربة ، وان لم تكن مترادفة ، منها : الخوف ، والخشية ، والرهبة ، والهيبة ، والوجل ...

وقد فرقوا بين الخوف والوجل بأن الخوف هرب من حلول المكروه عند استشعاره ، والوجل هو رجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته. وفرقوا بين الوجل والخوف بأن الوجل هو استشعار الخوف ، يعني ما يجعل القلب يشعر به بالفعل. وقيل ان الخوف توقع أمر مؤلم في المستقبل قد يصحبه شعور بالالم أو الفزع ، والوجل بمعنى الفزع ، وقد يكون من الاجلال والمهابة ، وقد يكون من العاقبة المجهولة.

وقد جاء ذكر «الوجل» في مواطن من القرآن الحكيم ، ففي سورة الحجر :

«وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ، قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ، قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ، قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ ، قالَ وَمَنْ

__________________

(١) سورة المؤمنون ، الآية ٦٠.

٢٢٤

يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ»(١).

والمعنى اللغوي للوجل هنا أبرز من المعنى الاخلاقي ، فقد أمر الله رسوله أن يخبر الناس عن ضيوف ابراهيم من الملائكة حين زاروه ، فنهض الى اكرامهم ، وقيامه بحقوقهم ، وخدمته بنفسه لهم.

ولكنهم أعرضوا عن طعامه لأنهم ملائكة لا يأكلون ، ففزع ابراهيم أو خاف من ذلك لأن الاعراض عن طعام الكرام يدعو الى الريبة ، ولما علم أنهم ملائكة خاف أن يكونوا قد جاءوا لتعذيب قومه لاجرامهم ، وهو يتمنى هدايتهم.

وهنا قال الملائكة له : لا توجل ، فليس المقام مقام وجل ، ولكنه مقام للفرح ، فقد جئناك لنبشرك بغلام يعيش حتى يصير عليما بفضل الله تعالى. قال ابراهيم : أبشرتموني وقد مسني الكبر ، والكبير قد فاته الوقت الذي يفرح فيه من الدنيا بشيء ، فبم تبشرونني وقد طعنت في السن ، وعن قريب ارتحل الى الآخرة؟. قالوا : بشرناك بالحق فلا تكن من جملة من يقنط من رحمة الله ، ولا يقنط من رحمة ربه الا من كان ضالا. قال : كيف أخطأ ظنكم فتوهمتم أني أقنط من رحمة ربي؟!

وجاء في سورة الانفال قوله تعالى :

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ، أُولئِكَ

__________________

(١) سورة الحجر ، الآية ٥٠ ـ ٥٦.

٢٢٥

هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ»(١).

ذكر النص الكريم هنا صفات للمؤمنين حق الايمان هي :

١ ـ وجل قلوبهم عند ذكر الله سبحانه.

٢ ـ زيادة ايمانهم حينما يستمعون الى آيات القرآن المجيد.

٣ ـ التوكل على الله جل جلاله.

٤ ـ اقام الصلاة بخشوع واستقامة.

٥ ـ الانفاق مما رزقهم الله عزوجل.

وأول صفة لهؤلاء المؤمنين ـ كما رأينا ـ هي وجل القلب. والمعنى أنه اذا هم أحد أن يظلم مظلمة ، وقيل له : اتق الله ، كفّ ووجل قلبه ، وانما توجل قلوب المؤمنين عند ذكر الله لقوة ايمانهم ، ومراعاتهم لربهم ، وكأنهم بين يديه.

واذا كان القرآن قد وصف المؤمنين هنا بأنهم اذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، ووصفهم في موطن آخر ، بأنهم تطمئن قلوبهم لذكر الله ، فلا تناقض ، لأن الاطمئنان ناشىء من كمال المعرفة وثقة القلب ، والوجل هو الفزع من عذاب الله ، ولذلك جمع الله بين المعنيين في قوله : «اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ».

أي تسكن نفوسهم من حيث اليقين الى الله ، وان كانوا يخافون الله ، فهذه حال العارفين بالله ، الخائفين من سطوته وعقوبته.

__________________

(١) سورة الانفال ، الآية ٢ ـ ٤.

٢٢٦

ومن هنا قال بصراء المفسرين ان الوجل قد يكون من ذكر الوعيد المخيف ، ومن ذكر الوعد المطمع ، وقد يكون عند ذكر صفات الجلال لله ، وعند ذكر صفات الجمال له سبحانه.

وفي «تفسير المنار» جاءت هذه العبارة : «وقد يقول المؤمن في صلاة التهجد في الخلوة : (الله أكبر) مستحضرا لمعنى كبريائه عزوجل ، فينتفض ويقشعر جلده. فمن خص الذكر هنا بالوعيد غفل عن كل هذا ، وظن أن الوجل لا يكون الا من خوف العذاب ، وكأنه لم يذق طعم الخشية والوجل من مهابة الله وعظمته وكبريائه وعزة سلطانه ، وغير ذلك من معاني أسمائه وصفاته ، ولم يقرأ قوله تعالى : «إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ.» ولم يعلم أن من عباد الله من يخشع قلبه ، ويفيض دمعه ، من ذكر أسماء الله في آخر سورة الحشر : «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ، هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ» الخ.

ولا يجد مثل هذا الوجل عند وصف جهنم وذكر الحساب والجزاء. وانما يأخذ مثل هذا من معاني القرآن من فهمه بظواهر بعض الالفاظ بدون شعور بما لها من التأثير في القلوب ، فيقابل بين هذه الآية وما في معناها ، وبين قوله تعالى في سورة الرعد : «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ». فيظن أن بينهما نعارضا ، فيحاول التقصي منه بحمل هذا على ذكر الوعد ، والآخر على ذكر الوعيد ، ولا تعارض في الحقيقة ولا تنافي ، ففي كل من الوعد والوعيد وصفات الكمال وذكر آيات الله تعالى في الانفس والآفاق اطمئنان للقلوب بالايمان بالله تعالى والثقة بما عنده».

وفي تفسير الرازي : «فان قيل انه تعالى قال ههنا : وجلت قلوبهم.

٢٢٧

وقال في آية اخرى : «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ ،» فكيف الجمع بينهما؟ وأيضا قال في آية أخرى : «ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ؟»

قلنا : الاطمئنان انما يكون عن ثلج اليقين ، وشرح الصدر بمعرفة التوحيد ، والوجل انما يكون من خوف العقوبة ، ولا منافاة بين هاتين الحالتين ، بل نقول : هذان الوصفان اجتمعا في آية واحدة ، وهو قوله تعالى : «تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ». والمعنى : تقشعر الجلود من خوف عذاب الله ، ثم تلين جلودهم وقلوبهم عند رجاء ثواب الله».

وعن ابن عباس في معنى : «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» أن المنافقين لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند اداء فرائضه ، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله ، ولا يتوكلون ولا يصلون اذا غابوا ، ولا يؤدون زكاة أموالهم ، فأخبر الله تعالى أنهم ليسوا بمؤمنين ، ثم وصف الله المؤمنين بقوله : «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ».

ويرى القشيري أن الوجل هنا هو شدة الخوف ، فالمؤمنون يوجلون عن مواطن الغيبة ومساكن الغفلة ، ويفيئون الى مشاهد ذكر الله لينالوا السكون منه ، وهم يزيدون عند سماعهم آيات ربهم تصديقا على تصديق ، وتحقيقا على تحقيق ، فاذا طالعوا جلال قدره ، وأيقنوا قصورهم عن ادراكه ، توكلوا عليه سبحانه. واذا كاشفهم ربهم بجلاله وجلت منهم القلوب ، واذا لاطفهم بجماله سكنت هذه القلوب ، وهم يخافون البعد عنه ، ويفرحون للقرب منه.

ولقد قيل للحسن : يا أبا سعيد ، أمؤمن أنت؟.

فقال : الايمان ايمانان ، فان كنت تسألني عن الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، والجنة والنار ، والبعث والحساب ، فأنا به مؤمن. وان

٢٢٨

كنت تسألني عن قول الله تبارك وتعالى : «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» الى آخر الآية ، فو الله ما أدري أنا منهم أم لا.

وهذا الجواب من الحسن يدل على المكانة الرفيعة لفضيلة «الوجل».

وجاء ذكر «الوجل» في موطن آخر من القرآن الكريم : في سورة الحج حيث يقول التنزيل :

«وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ، الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ».

وهنا عدة صفات ذكرها التنزيل عن المخبتين ، والاخبات هو الطاعة باستقامة ودوام ، وقد تحدثت عنه في الجزء الثاني من كتابي «أخلاق القرآن» ص ٢٤٠ ـ ٢٤٨. وهذه الصفات هي :

١ ـ الوجل عند ذكر الله.

٢ ـ الصبر على ما يصيب الانسان.

٣ ـ اقام الصلاة.

٤ ـ الانفاق من رزق الله.

وأول هذه الصفات كما نرى هو الوجل عند ذكر الله.

وعن عمرو بن أوس أن هؤلاء يظهر عليهم الخوف من عقاب الله تعالى ، والخشوع والتواضع لله. ثم ان لذلك الوجل أثرين : الاول هو الصبر عن المكاره ، وذلك هو المراد بقوله : «وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) ،» وعلى ما يكون من قبل الله تعالى ، لأنه الذي يجب الصبر عليه ، كالامراض

٢٢٩

والمحن والمصائب ، فأما ما يصيبهم من جهة الظلمة ، فالصبر عليه غير واجب ، بل ان أمكنه دفع ذلك لزمه الدفع ، ولو بالمقاتلة.

والاثر الثاني هو الاشتغال بالخدمة ، وأعز الاشياء عند الانسان نفسه وماله ، أما الخدمة بالنفس فهي الصلاة ، وهو المراد بقوله : «وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ» ، وأما الخدمة بالمال فهو المراد من قوله : «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ».

وجاء ذكر «الوجل» في سورة المؤمنون ، حيث يقول الحق تبارك وتعالى :

«إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ ، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ ، أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ»(١).

أي يعطون العطاء وهم خائفون وجلون لا يتقبل منهم ، لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشروط الاعطاء ، وهذا من باب الاشفاق والاحتياط. فهم يعطون ما أعطوا على خشية ووجل ، والعطاء هنا عام شامل ، يدخل فيه ـ كما يعبر الرازي ـ كل حق يلزم ايتاؤه ، سواء كان ذلك من حق الله تعالى كالزكاة والكفارة وغيرهما ، أو من حقوق الآدميين كالودائع والديون وأصناف الانصاف والعدل. وذلك انما ينفع اذا قدموه وقلوبهم وجلة ، لأن من يقدم على العبادة وهو وجل من تقصيره واخلاله بنقصان أو غيره ، يكون لاجل ذلك الوجل مجتهدا في أن يوفيها حقها في الاداء.

__________________

(١) سورة المؤمنون ، الآية ٥٧ ـ ٦١.

٢٣٠

ويضيف الرازي قوله : «واعلم أن ترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن ، لأن الصفة الاولى دلت على الخوف الشديد الموجب للاحتراز عما لا ينبغي ، والصفة الثانية دلت على ترك الرياء في الطاعات ، والصفة الثالثة دلت على أن المستجمع لتلك الصفات الثلاث يأتي بالطاعات مع الوجل والخوف من التقصير ، وذلك هو نهاية مقامات الصديقين رزقنا الله سبحانه الوصول اليها ... ثم انه سبحانه بيّن علة ذلك الوجل ، وهي علمهم بأنهم الى ربهم راجعون ، أي للمجازاة والمساءلة ونشر الصحف وتتبع الاعمال ، وأن هناك لا تنفع الندامة ، فليس الا الحكم القاطع من جهة مالك الملك».

والوجل على هذا ليس خوفا من معاص قد ارتكبها الانسان ، ولكنه خشية من عدم القبول لطاعات قد أداها وقام بها ، فأصحاب الوجل يخلصون الطاعات بلا تقصير أو كسل ، ومع ذلك يوجلون وكأنهم قد ألموا بذنب ، فهم يخافون ألا تقبل اعمالهم الطيبة ، كما قيل :

يتجنب الآثام ثم يخافها

فكأنما حسناته آثام

ولذلك روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا رسول الله ، الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة : هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عزوجل؟.

فقال : لا يا بنت الصدّيق ، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو الذي يخاف الله عزوجل.

والوجل عند ذكر الله أقسام تعرض لها بالحديث صاحب «لطائف الاشارات» ، فذكر أن الوجل عند الذكر اما لخوف عقوبة ستحصل ، أو لمخافة عاقبة بالسوء تختم ، أو لخروج من الدنيا على غفلة من غير استعداد للموت ، أو اصلاح أهبة ، أو حياء من الله سبحانه في أمور اذا ذكر اطلاعه

٢٣١

سبحانه عليها لما بدرت منه تلك الامور التي هي غير محبوبة.

ويقال الوجل على حسب تجلي الحق للقلب ، فان القلوب في حالة المطالعة والتجلي تكون بوصف الوجل والهيبة. ويقال : وجل له سبب ، ووجل بلا سبب ، فالاول مخافة من تقصير ، والثاني معدود من جملة الهيبة. فالخوف اذن أدنى منزلة من الهيبة.

والوجل يأتي من الداخل ، ويثور في الاعماق ، وليس الوجل بالمظاهر الخارجية ، ولذلك لاحظ بعض الناس على الحسن أنه يظل في مواطن الذكر أو التأثر ساكتا ، فسأله عن ذلك فقال الحسن : «وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ»!! ..

ولذلك يفرق القرطبي بين الوجل الصادق والتظاهر بالوجل ، فنراه بعد أن يصور حال الخائفين الوجلين يعرّض بالمتظاهرين المتكلفين فيقول : «فهذه حال العارفين بالله ، الخائفين من سطوته وعقوبته ، لا كما يفعله جهّال العوام والمبتدعة الطّغام (الارذال) من الزعيق والزئير ، ومن النهاق الذي يشبه نهيق الحمير ، فيقال لمن تعاطى ذلك ، وزعم أن ذلك وجد وخشوع : لم تبلغ أن تساوي حال الرسول ولا حال أصحابه في المعرفة بالله ، والخوف منه ، والتعظيم لجلاله ، ومع ذلك فقد كانت حالهم عند المواعظ الفهم عن الله ، والبكاء خوفا من الله ، ولذلك وصف الله أحوال المعرفة عند سماع ذكره وتلاوة كتابه فقال :

«وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ»(١).

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٨٣.

٢٣٢

فهذا وصف حالهم وحكاية مقالهم ، ومن لم يكن كذلك فليس على هديهم ولا على طريقتهم ، فمن كان مستنا فليستنّ ، ومن تعاطى أحوال المجانين والجنون فهو من أخسهم حالا ، والجنون فنون.

روى مسلم عن أنس بن مالك أن الناس سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أحفوه (أكثروا عليه) في المسألة. فخرج ذات يوم فصعد المنبر فقال : سلوني ، لا تسألوني عن شيء الا بينته لكم ما دمت في مقامي هذا.

فلما سمع ذلك القوم أرمّوا (سكتوا) ورهبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر.

قال أنس : فجعلت ألتفت يمينا وشمالا ، فاذا كل انسان لافّ رأسه في ثوبه يبكي. وذكر الحديث.

وروى الترمذي وصححه عن العرباض بن سارية قال : وعظنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب. الحديث. ولم يقل : زعقنا ولا رقصنا ولا زفنّا (ضربنا بالأرجل) ولا قمنا».

ولقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنها : «ما الوجل في القلب الا كضرمة السّعفة (كاحتراق جريدة النخل) فاذا وجل أحدكم فليدع عند ذلك». وهذا يشير الى أن الوجل الصادق هو مفتاح الاستجابة للدعاء. قال العلماء : والسعفة واحدة جريد النخل ، اذا احترق يسمع له صوت ونشيش. وقد شبهت به السيدة عائشة شعور الوجل الذي يلم بالقلب عند ذكر فيخفق له.

ولا ذكر يشعل سعفة الوجل في قلب المؤمن كتلاوة القرآن الكريم والتدبر في آياته :

٢٣٣

«اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ، ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ»(١).

ومما يؤكد هذا ما روى عن شهر بن حوشب أن أم الدرداء قالت له :

الوجل في القلب كاحتراق السعفة ، يا شهر بن حوشب ، أما تجد له قشعريرة؟. قال شهر : بلى.

قالت أم الدرداء : فادع الله ، فان الدعاء يستجاب عند ذلك.

وقال بعض السلف : اني لأعلم متى يستجاب لي. قيل له : ومن أين لك ذلك؟.

قال : اذا اقشعر جلدي ، ووجل قلبي ، وفاضت عيناي ، فذلك حين يستجاب لي.

اللهم هبنا نعمة الخشوع لك ، ووجل القلوب عند ذكرك ، ولا تحرمنا رضاك ورضوانك ، انك أنت البر الرحيم.

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية ٢٣.

٢٣٤

الفهرست

الموضوع

الصفحة

تصدير......................................................................... ٩

العزيمة......................................................................... ١١

الارادة........................................................................ ٢٠

الاشفاق...................................................................... ٣٣

حسن الظن.................................................................... ٤٢

الصفح........................................................................ ٥٢

الاعتصام بالله.................................................................. ٦٤

الفرح بفضل الله................................................................ ٧٥

سلامة القلب.................................................................. ٩٠

المعرفة....................................................................... ١٠٢

الحياة........................................................................ ١١٣

التقدير...................................................................... ١٢٥

المودة........................................................................ ١٣٤

الافتقار الى الله............................................................... ١٤٨

الاستجابة................................................................... ١٥٩

الغنى بالله.................................................................... ١٧٢

الثقة بالله.................................................................... ١٨٤

التواصي بالخير................................................................ ١٩٥

الصلاح والاصلاح............................................................ ٢٠٨

الوجل....................................................................... ٢٢٣

٢٣٥