موسوعة أخلاق القرآن - ج ٤

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٤

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٣٥

ويقول ابن بطال : معنى الحديث ليس حقيقة الغنى كثرة المال ، لأن كثيرا ممن وسع الله عليه في المال لا يقنع بما أوتي ، فهو يجتهد في الازدياد ، ولا يبالي من أين يأتيه ، فكأنه فقير لشدة حرصه.

وانما حقيقة الغنى غنى النفس ، وهو من استغنى بما أوتي ، وقنع به ورضي ، ولم يحرص على الازدياد ، ولا ألح في الطلب ، فكأنه غني.

ويقول القرطبي : معنى الحديث : ان الغنى النافع أو العظيم أو الممدوح هو غني النفس.

وبيانه أنه اذا استغنت نفسه كفت عن المطامع فعزت وعظمت ، وحصل لها من الحظوة والنزاهة والشرف والمدح أكثر من الغنى الذي يناله من يكون فقير النفس لحرصه ، فانه يورطه في رذائل الامور وخسائس الافعال ، لدناءة همته وبخله ، ويكثر من يذمه من الناس ، ويصغر قدره عندهم ، فيكون أحقر من كل حقير ، وأذل من كل ذليل.

والحاصل أن المتصف بغنى النفس يكون قانعا بما رزقه الله ، لا يحرص على الازدياد لغير حاجة ، ولا يلح في الطلب ، ولا يلحف في السؤال ، بل يرضى بما قسم الله له ، فكأنه واجد أبدا. والمتصف بفقر النفس على الضد منه ، لكونه لا يقنع بما أعطي ، بل هو أبدا في طلب الازدياد من أي وجه أمكنه ، ثم اذا فاته المطلوب حزن وأسف ، فكأنه فقير من المال ، لأنه لم يستغن بما أعطي ، فكأنه ليس بغني.

ثم ان غنى النفس انما ينشأ عن الرضا بقضاء الله تعالى والتسليم لأمره ، علما بأن الذي عند الله خير وأبقى ، فهو معرض عن الحرص والطلب ، وما أحسن قول القائل :

غنى النفس ما يكفيك من سد حاجة

فان زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا

١٨١

ويتجه الطيبي متجها آخر في فهم الغنى هنا ، فيرى أنه يمكن أن يراد بغنى النفس حصولات الكمالات العلمية والعملية ، والى ذلك يشير القائل :

ومن ينفق الساعات في جمع ماله

مخافة فقر ، فالذي فعل الفقر

أي ينبغي أن ينفق أوقاته في الغنى الحقيقي ، وهو تحصيل الكمالات ، لا في جمع المال ، فانه لا يزداد بذلك الا فقرا.

ولكن الاظهر أن غنى النفس يحصل بغنى القلب ، بأن يفتقر الى ربه في جميع أموره ، كما يرجح ابن حجر ، فيتحقق أنه المعطي المانع ، فيرضى بقضائه ، ويشكره على نعمائه ، ويفزع اليه في كشف ضرائه ، فينشأ عن افتقار القلب لربه غنى نفسه عن غير ربه تبارك وتعالى.

* * *

ثم نطوف بساحة الصوفية الذين يشغلون أنفسهم بالارواح والقلوب ، فنجد لهم سهمهم في تصور الغنى بالله نجد أبا تراب النخشبي يقول : «حقيقة الغنى أن تستغني عمن هو مثلك ، وحقيقة الفقر أن تفتقر الى من هو مثلك».

ويقبل يحيى بن معاذ ليقول شعرا في تحديد صفات الغنى بالله ، الغنى عمن سواه ، فيقول ـ فيما يقول عنه ـ هذه الابيات :

ومن الدلائل زهده فيما يرى

من دار ذل والنعيم الزائل

ومن الدلائل أن تراه مسلما

كل الامور الى المليك العادل

ومن الدلائل أن تراه راضيا

بمليكه في كل حكم نازل

ويحدثنا بعضهم عن خصال المقبلين على الله فيقول : «ثلاث خصال

١٨٢

من صفة الاولياء : الثقة بالله في كل شيء ، والغنى بالله عن كل شيء ، والرجوع اليه في كل شيء».

وهذا شاعر يسير نحو الغنى بالله ، فيناجي ربه بقوله :

أنت الغني الذي مدت خزائنه

لطالبي الرزق ، لم تنقص ولم تزد

وكل من هو محتاج يمد بمف

تاح الدعاء لباب الواحد الصمد

نعطي ـ بغير حساب ـ كل مغترف

بالجود ، متكل بالحق ، معتمد

وحين عن غيره تغنيه تجعله

لجود ذاتك محتاجا الى الابد

يا رحمن الدنيا والآخرة ، اكفنا بالغنى بك ، واصرفنا عن الاحتياج لغيرك.

١٨٣

الثقة بالله

كلمة «الثقة» مشتقة من مادة وثق به ، أي ائتمنه وسكن اليه ، والموثق هو الائتمان ، ويطلق على العهد المؤكد كالميثاق ، لأنه يقع به الائتمان. والوثيق : الصلب الشديد. ويقال : عهد وثيق محكم ، وعروة وثيقة أي محكمة لا تنقطع ولا تنفصم ، ويقال للمتمسك بالدين : انه متمسك بالعروة الوثقى ، أي متمسك بحبل قوي متين يعصمه من الزلل. والثقة فيها معاني الركون والاطمئنان والأمان.

والثقة بالله تبارك وتعالى خلق من أخلاق القرآن الكريم ، وفضيلة من فضائل الاسلام العظيم ، وجانب من هدى النبي الامين عليه الصلاة والتسليم ، ويقول الامام الهروي في بيان الشأن العظيم لهذه الفضيلة : «الثقة سواد عين التوكل ، ونقطة دائرة التفويض ، وسويداء قلب التسليم».

ويأتي الامام ابن القيم في كتابه «مدارج السالكين» ويعلق على عبارة الهروي الدقيقة العميقة فيقول :

«ومراده أن الثقة خلاصة التوكل ولبه ، كما أن سواد العين أشرف ما في العين. وأشار بأنه نقطة دائرة التفويض الى أن مدار التوكل عليه ،

١٨٤

وهو في وسطه كحال النقطة من الدائرة ، فان النقطة هي المركز الذي عليه استدارة المحيط ، ونسبة جهات المحيط اليها نسبة واحدة ، وكل جزء من أجزاء المحيط مقابل لها ، كذلك الثقة هي النقطة التي يدور عليها التفويض.

وكذلك قوله : سويداء قلب التسليم ، فان القلب أشرف ما فيه سويداؤه ، وهي المهجة التي تكون بها الحياة ، وهي في وسطه ، فلو كان التفويض قلبا لكانت الثقة سويداءه ، ولو كان عينا لكانت سوادها ، ولو كان دائرة لكانت نقطتها».

ولقد تكررت كلمة «الميثاق» في القرآن ، وهي تفيد معنى العهد المؤكد ، الذي يفي به الانسان ويخلص له ، لأنه يعقده مع مستحق الثقة كلها ، وهو الله جل جلاله الذي تؤمن به النفس وتثق فيه وتطمئن اليه ، وها هو ذا كتاب الله المجيد يقول مثلا :

«وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ»(١).

ونحن نفهم من «المواثقة» هنا أن العباد يثقون بربهم الى درجة اليقين ، ويكون العبد وفيا لربه قدر طاقته ، ويحفظ ميثاقه مع ربه قدر ما يستطيع ، ومقابل هذا ان الله لا يخلف وعده ، ولا يخون عهده : «وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ»؟. فكأن الله تبارك وتعالى قد أثاب ثقة العبد بمثلها ، بل بأكرم منها ، ولله المثل الاعلى.

وآيات القرآن تشير الى أن الله عز شأنه قد أخذ الميثاق ـ وعماده

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٧.

١٨٥

الثقة ـ من النبيين فقال في سورة آل عمران :

«وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ، قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي» (عهدي) «قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ»(١).

وقال في سورة الاحزاب :

«وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً»(٢).

وأخذ الله الميثاق من بني اسرائيل ، فيقول في سورة المائدة :

«لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ»(٣).

وأخذ الميثاق من أهل الكتاب ، فقال في سورة آل عمران :

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ٨١.

(٢) سورة الاحزاب ، الآية ٧.

(٣) سورة المائدة ، الآية ٧٠.

١٨٦

«وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ»(١).

وأخذ الميثاق على النصارى ، فقال في سورة المائدة :

«وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ»(٢).

كأن الاساس في الصلة بين الناس وخالقهم هو «الثقة» القائمة على «الميثاق» ، فالله هو خير من يوثق به ، ولا فلاح للناس الا اذا وفوا بعهدهم وميثاقهم ، فكأن الفيض الالهي الذي تحققه الثقة بالله ، له ثمن ومقابل ، هو الوفاء بالميثاق.

ولذلك أثنى القرآن الحكيم على أهل الثقة بالله ، الاوفياء بميثاق الله ، الذين وصفهم في سورة الرعد بقوله :

«الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ»(٣).

وأخبر عنهم بقوله :

«أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٨٧.

(٢) سورة المائدة ، الآية ١٤.

(٣) سورة الرعد ، الآية ٢٠.

١٨٧

وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ»»(١).

وأكاد أفهم أن وصف هؤلاء بالصبر هنا فيه اشارة الى أن فضيلة «الثقة بالله» تستلزم الصبر الجميل على كل ما يأتي به الله ، والرضى بالله قسما وحظا في سائر الازمان والاحوال وهو خير الناصرين للواثقين الصابرين.

ويقول كتاب الله في سورة البقرة :

«فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»(٢).

أي ان من يكفر بما خالف أمر الله ، ويصدق بالله ويثق فيه ، وبما جاءت به رسله ، فقد اعتصم بالعصمة الوثيقة ، وعقد لنفسه مع ربه عقدا وثيقا غليظا لا ينقطع ولا يبلى ، ولا تعرض له شبهة ، لأنه مؤمن بالله ، معتصم بحماه ، واثق بجنابه ، مستمسك بأسبابه ، وهو القوي القدير.

وأكد القرآن هذا المعنى في سورة لقمان حين قال :

«وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ»(٣).

__________________

(١) سورة الرعد ، الآية ٢٢ ـ ٢٤.

(٢) سورة البقرة ، الآية ٢٥٦.

(٣) سورة لقمان ، الآية ٢٢.

١٨٨

ومن يثق بالله جل علاه يوقن من أعماق الاعماق أن الله كافيه وكافله ، لأنه نعم الحسيب ، فهو القائم بالتدبير ، وهو المتصرف في المقادير ، ومن أسماء الله «الحسيب» ، والحسيب هو الكافي ، وفي القرآن : «وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً» أي كافيا وكفيلا ، وقد أكد التنزيل المجيد هذا المعنى أقوى تأكيد ، فقال في سورة آل عمران عن المجاهدين في سبيل الله :

«الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ»(١).

وقال في سورة التوبة :

«وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ»(٢).

وهذا توجيه الى الثقة بالله ، وحث على اللجوء الى الله.

ويقول في سورة الأنفال :

«وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ»(٣).

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٧٣ ، ١٧٤.

(٢) سورة التوبة ، الآية ٥٩.

(٣) سورة الانفال ، الآية ٦٢.

١٨٩

ويقول في آخر سورة التوبة :

«فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ»(١).

ويقول في سورة الزمر :

«قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ»(٢).

ويقول في سورة الطلاق :

«وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ»(٣).

ويسوق القرآن الحكيم الينا نموذجا رائعا من نماذج الثقة بالله تعالى ، وهو ما كان من أمر أم موسى عليه‌السلام ، حيث يقول :

«وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ»(٤).

ونعم ما علق به ابن القيم على هذا الموقف ، حيث قال : «فان فعلها هذا هو عين ثقتها بالله تعالى ، اذ لو لا كمال ثقتها بربها لما ألقت بولدها

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية ١٢٩.

(٢) سورة الزمر ، الآية ٣٨.

(٣) سورة الطلاق ، الآية ٣.

(٤) سورة القصص ، الآية ٧.

١٩٠

وفلذة كبدها في تيار الماء ، تتلاعب به أمواجه ، وجريانه حيث ينتهي أو يقف».

* * *

ويحمل القرآن حملة صارمة حازمة على الذين يخونون الميثاق ، ويفقدون الثقة بالله ، فيصبحون فريسة العقاب والضلال ، فيقول القرآن في سورة البقرة :

«الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ، وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ»(١).

ويقول في سورة الرعد :

«وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ»(٢).

ويقول في سورة المائدة :

«فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً»(٣).

وقد قيل في تفسير «عَهْدَ اللهِ» المذكور في الآيتين السابقتين عدة

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٧.

(٢) سورة الرعد ، الآية ٢٥.

(٣) سورة المائدة ، الآية ١٣.

١٩١

أقوال أوردها تفسير الطبرسي بقوله : «وقيل في عهد الله وجوه : أحدها انه ما ركّب في عقولهم من أدلة التوحيد والعدل وتصديق الرسل ، وما احتج به لرسله ، من المعجزات الشاهدة لهم على صدقهم ، ونقضهم لذلك : تركهم الاقرار بما قد بينت لهم صحته بالادلة.

وثانيها : أنه وصية الله الى خلقه على لسان رسوله ، بما أمرهم به من طاعته ، ونهاهم عنه من معصيته ، فنقضهم لذلك تركهم العمل به.

وثالثها : أن المراد به كفار أهل الكتاب ، وعهد الله الذي نقضوه من بعد ميثاقه هو ما أخذه عليهم في التوراة ، من اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتصديق بما جاء به من عند ربه ، ونقضهم لذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته ، وكتمانهم ذلك عن الناس ، بعد أن أخذ الله ميثاقهم ليبيننه للناس ولا يكتمونه ، وانهم ان جاءهم نذير آمنوا به ، فلما جاءهم النذير ازدادوا نفورا ، ونبذوا العهد وراء ظهورهم ، واشتروا به ثمنا قليلا ، واختار هذا الوجه الطبري.

ورابعها : أنه العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم ، كما وردت به القصة ، وهذا الوجه ضعيف ، لأنه لا يجوز أن يحتج على عباده بعهد لا يذكرونه ولا يعرفونه ، ولا يكون عليه دليل».

* * *

والثقة بالله تعالى ثلاث درجات عند الصوفية :

الدرجة الاولى : درجة اليأس من تغيير ما قدر الله سبحانه ، فهو اذا قضى أمرا فلا مرد له ، ولا معقب لحكمه. وهذا اليأس يجعل صاحبه خاضعا لأمر الله ، لا تتعلق ارادته بسواه ، فحسبه الثقة بمولاه.

الدرجة الثانية : درجة الامن ، حيث لا يأسى على فائت ، بل يطمئن الى أن نصيبه من ربه سيصله حتما ، وهنا تسوده روح الرضى ، فيشعر

١٩٢

بالراحة واللذة والنعيم ، وقد روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ان الله ـ بعدله وقسطه ـ جعل الرّوح والفرح في اليقين والرضى ، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط».

الدرجة الثالثة : شهود القلب بأولية الحق ، وتفرد الله جل جلاله بالازلية ، فلا يتعلق القلب بالوسائل التي يحسب أنها توصل الى المطالب.

وكثير من العلماء يجعل التوكل على الله ، والثقة بالله ، شيئا واحدا.

ولكن عند انعام النظر نفهم أن نسبة الثقة الى التوكل كنسبة الروح الى البدن ، فالثقة روح التوكل ، والتوكل كالبدن الحامل لها ، وذلك كنسبة الاحسان الى الايمان.

وعند ما علق ابن القيم على كلام الهروي عن «الثقة» قال هذه العبارة :

«وقد تقدم أن كثيرا من الناس يفسر التوكل بالثقة ، ويجعله حقيقتها ، ومنهم من يفسره بالتفويض ، ومنهم من يفسره بالتسليم. فعلمت أن مقام التوكل يجمع ذلك كله.

فكأن الثقة عند الشيخ هي روح ، والتوكل كالبدن الحامل لها ، ونسبتها الى التوكل كنسبة الاحسان الى الايمان ، والله أعلم». وقد تحدثت عن فضيلة «التوكل» في الجزء الثاني من كتابي : «أخلاق القرآن» كذا ، وينبغي أن نرجع اليه لنستكمل صورة الموضوع.

ولقد عني الصوفية بفضيلة «الثقة بالله» وشققوا الحديث عنها على طريقتهم ، فهذا هو شقيق البلخي يسأله بعض الناس : بأي شيء يعرف أن العبد واثق بربه؟

١٩٣

فقال : يعرف بأنه اذا فاته شيء من الدنيا يحسبه غنيمة ، واذا أبطأ عليه شيء من الدنيا يكون أحب اليه من أن يأتيه.

ومن كلام حاتم الاصم الصوفي : من أصبح وهو مستقيم في أربعة أشياء فهو يتقلب في رضا الله : أولها الثقة بالله ، ثم التوكل ، ثم الاخلاص ، ثم المعرفة ، والامور كلها تتم بالمعرفة.

ويقول يحيى بن معاذ الرازي : ثلاث خصال من صفات الاولياء : الثقة بالله في كل شيء ، والغنى به عن كل شيء ، والرجوع اليه في كل شيء.

رزقني الله واياك فضيلة الثقة به ، ونعمة الالتجاء اليه.

١٩٤

التواصي بالخير

الوصية هي العهد بأمر من الامور ، كي يفعل ، مما فيه صلاح عند الموصى. ووصاه بالشيء : رغب اليه في أن يفعله ، وأوصاه بكذا : عهد اليه به ، وتواصى القوم : أوصى بعضهم بعضا ، والوصية تقترن في العادة بوعظ لكي يحبب قائل الوصية من يوصيه في عمل الخير. والتوصية في الميراث هي ذكر ما يراد فعله في المال والقرابة بعد الموت.

وفضيلة التواصي بالخير تفيد أن صاحبها قد تعود أن يتقدم بالنصيحة أو وصية الخير الى من يحتاج اليها ، أو من يطلبها ، وهو مع هذا أو قبل هذا قد تعود أن يطلب من غيره أن يوصيه وينصحه ويوجهه ، وبذلك يكون الانسان ناصحا ومنصوحا ، موصيا وموصى اليه ، وبذلك تتحقق فضيلة التواصي بالخير ، لأن التواصي معناه أن يوصي بعض القوم بعضا ، أي هم يتبادلون الوصية ، فكل منهم معط وآخذ.

وأساس فضيلة التواصي بالخير أن يكون المجتمع قائما على التذكير بالخير ، والندب اليه ، فتكون الوصية بما هو خير شائعة فيه ذائعة ، ومن وراء شيوعها يكون هناك تبادل للوصية ، فيتحقق التواصي بالخير.

وهناك من يقبل الوصية ويستجيب لها ، وهذه منزلة من الخير محمودة ، وهناك من يحرص على بذل الوصية لغيره ، وهذه منزلة أخرى من الخير محمودة ، والاكمل الافضل هو أن يتقبل الانسان النصيحة المخلصة

١٩٥

ويعمل بها ، وأن يبذل الانسان النصيحة المخلصة لغيره ، فذلك جمع بين الحسنيين.

ويكفي الوصية بالخير شرفا وقدرا أن الله تبارك وتعالى قد أوصى عباده ، وتحدث عن الوصايا الالهية أكثر من مرة في تنزيله المجيد ، فقال في سورة النساء :

«وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً»(١).

أي أوصيناكم وأوصيناهم من قبلكم بتقوى الله واقامة دينه ، والتزام شريعته ، حتى تسعدوا في الدين والدنيا ، والاولى والآخرة ، وان أبيتم الوصية ، وأعرضتم عن النصح ، وكفرتم بالله ، وأنكرتم نعماه. فان ذلك لا يضره شيئا ، بل يضركم أنتم ، لأن الله غني عنكم ، وأنتم الفقراء اليه ، وهو محمود بكل لسان :

«وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ»(٢).

وهو غير محتاج الى شكركم :

__________________

(١) سورة النساء ، الآية ١٣١.

(٢) سورة الاسراء ، الآية ٤٤.

١٩٦

«يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ»(١).

وقد تكرر ذكر الوصية من الله جل جلاله في القرآن الكريم مرات ومرات :

في سورة الانعام :

«ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»(٢).

وفيها قوله :

«ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»(٣).

وفيها :

«ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(٤).

وكأن الاستجابة للوصية الالهية هي مفتاح العقل والبصيرة ، وباب التذكر المرشد المسعد ، وسبب التقوى المنجية المعلية.

وفي سورة العنكبوت :

«وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً»(٥).

__________________

(١) سورة فاطر ، الآية ١٥.

(٢) سورة الانعام ، الآية ١٥١.

(٣) سورة الانعام ، الآية ١٥٢.

(٤) سورة الانعام ، الآية ١٥٣.

(٥) سورة العنكبوت ، الآية ٨.

١٩٧

وفي سورة مريم على لسان عيسى :

«وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا»(١).

والتوصية بالخير من سنن الانبياء وعادة المرسلين ، ولذلك يقول القرآن الكريم في سورة البقرة :

«وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ».

أي وصى ابراهيم بملة الحق وكلمة الاخلاص : «لا إِلهَ إِلَّا اللهُ» أو كلمة : «أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» ... ووصى بها ابراهيم بنيه ، وكذلك فعل يعقوب في التوصية ، فكل منهما قد قال لأبنائه : يا أبنائي ، ان الله اختار لكم دين الاسلام فلا تتركوه ، فيصادفكم الموت وأنتم تاركوه فتخسروا. أو الزموا الاسلام حتى آخر لحظة في حياتكم حتى تموتوا وأنتم ثابتون عليه.

* * *

ويتحدث القرآن الكريم في سورة البلد عن صفات الناجين من النار والعذاب ، الفائزين بالنعم والثواب ، فيقول فيما يقول :

«ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ»(٢).

__________________

(١) سورة مريم ، الآية ٣١.

(٢) سورة البلد ، الآية ١٧ ، ١٨.

١٩٨

أي عملوا الاعمال الصالحة ، مؤمنين بالله ، مبتغين وجهه ، وأوصى بعضهم بعضا بالصبر على طاعة الله ، والابتعاد عن معاصيه ، والاحتمال لما أصابهم ، وأوصى بعضهم بعضا كذلك بالرحمة على الخلق ، فرحموا اليتيم والمسكين والضعيف ، أولئك هم أهل اليمين ، أهل اليمن والتوفيق ، فهم يأخذون صحفهم بأيمانهم ويدخلون جنات النعيم.

ويعلق تفسير الرازي على الآية الكريمة بقوله : «فالمعنى انه كان يوصي بعضهم بعضا بالصبر على الايمان ، والثبات عليه ، أو بالصبر عن المعاصي ، وعلى الطاعات والمحن التي يبتلى بها المؤمن. ثم ضم اليه التواصي بالمرحمة ، وهي أن يحث بعضهم بعضا على أن يرحم المظلوم أو الفقير ، أو يرحم المقدم على منكر فيمنعه منه ، لأن كل ذلك داخل في الرحمة.

وهذا يدل على أنه يجب على المرء أن يدل غيره على طريق الحق ، ويمنعه من سلوك طريق الشر والباطل ما أمكنه.

واعلم أن قوله «ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ» يعني يكون مقتحم العقبة من هذه الزمرة والطائفة ، وهذه الطائفة هم أكابر الصحابة ، كالخلفاء الاربعة وغيرهم ، فانهم كانوا مبالغين في الصبر على شدائد الدين والرحمة على الخلق.

وبالجملة فقوله : «وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» اشارة الى التعظيم لأمر الله ، وقوله : «وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ» اشارة الى الشفقة على خلق الله ، ومدار أمر الطاعات ليس الا على هذين الاصلين ، وهو الذي قاله بعض المحققين : ان الاصل في التصوف أمران : صدق الحق ، وخلق مع الخلق.

ثم انه سبحانه لما وصف هؤلاء المؤمنين بيّن أنهم من هم في القيامة ، فقال : «أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ» وانما ذكر ذلك لأنه تعالى بيّن حالهم

١٩٩

في سورة الواقعة ، وأنهم :

«فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ»(١).

ويتعرض تفسير «في ظلال القرآن» للآية كذلك ، فيشير الى ان الصبر دعامة من دعائم تحقق الايمان ، وأن التواصي به عنوان على تماسك الامة المؤمنة ، وتكافلها في اقامة مجتمع الايمان والصبر ، لأن أبناء هذه الامة كالجسد الواحد ، أو كالبنيان المرصوص ، يتساندون في النهوض بالاعباء ، والالتزام بالتبعات ، والاداء للواجبات ، ويتعاونون على البر والتقوى ، ويتنافسون في الخير والهدى ، فاذا كان كل منهم يتحلى بفضيلة الصبر في نفسه وذاته ، فهو يسهم مع هذا في توفير روح الصبر عند أخيه في الله تبارك وتعالى ، وهو يشارك في اشاعة روح التعاضد والتساند بين أبناء الامة كلهم ، وهو يتعاون مع اخوته في الله في نشر نسمات الرفق واللين والرحمة بين ربوع مجتمعه ، حتى يكون هذا الفرد المؤمن العامل المعاون الراحم من أهل اليمن والامان ، والنجاة والاطمئنان ، فتأتي في التفسير هذه العبارة :

«الصبر هو العنصر الضروري للايمان بصفة عامة ، ولاقتحام العقبة بصفة خاصة ، والتواصي به يقرر درجة وراء درجة الصبر ذاته : درجة تماسك الجماعة المؤمنة ، وتواصيها على معنى الصبر ، وتعاونها على تكاليف الايمان ، فهي أعضاء متجاوبة الحس ، تشعر جميعا شعورا واحدا بمشقة الجهاد لتحقيق الايمان في الارض وحمل تكاليفه ، فيوصي بعضها بعضا بالصبر على العبء المشترك ، ويثبت بعضها بعضا فلا تتخاذل ، ويقوي بعضها بعضا فلا تنهزم.

وهذا أمر غير الصبر الفردي ، وان يكن قائما على الصبر الفردي ،

__________________

(١) سورة الواقعة ، الآية ٢٩ و ٣٠.

٢٠٠