موسوعة أخلاق القرآن - ج ٤

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٤

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٣٥

طريقها قدره طالب بها الله عباده ، وحذرهم العاقبة الوخيمة التي تتهددهم اذا أغفلوها أو تركوها ، فقال في سورة الشورى :

«اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ، ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ»(١).

أي أجيبوه فيما أمر به ، وسارعوا الى طاعته قبل أن يأتي اليوم المحتوم الذي لا بد منه ولا مفر عنه ـ وهو يوم الموت أو يوم القيامة ، حيث لا ينفع عنده عمل ، ولا توجد وسيلة للتخلص من عذاب الله ، ولا يستطيع أحد أن ينكر شيئا مما اقترفه من أوزار.

ويؤكد كتاب الله المجيد الأمر بالاستجابة فيقول في سورة الأنفال :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ»(٢).

والمعنى : يا أيها المؤمنون أجيبوا دعوة ربكم بهمة وعزيمة ، وقوة وهمة ، فانما يدعوكم الى ما فيه نفعكم وخيركم ومصلحتكم ، والى ما تتحقق به حياتكم العاقلة الفاضلة ، وما تكمل به فطرتكم الانسانية السليمة القويمة ، ولا تنسوا ان الاستجابة لرسول الله جزء من الاستجابة لله.

«مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ»(٣) ، «قُلْ إِنْ

__________________

(١) سورة الشورى ، الآية ٤٧.

(٢) سورة الانفال ، الآية ٢٤.

(٣) سورة النساء ، الآية ٨٠.

١٦١

كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ»(١).

وهذا تفسير «ظلال القرآن» يعلق على هذه الآية الجليلة بهذه الكلمات : «ان الاستجابة لله وللرسول انما هي استجابة لدواعي الحياة ، فالرسول لا يدعو الناس الا الى الايمان بالله والعمل بشريعته ، تحكما فيهم ولا استعبادا لهم ، انما هو يدعوهم الى الحياة بكل معنى من معاني الحياة. يدعوهم الى عقيدة تحيي القلوب والعقول ، وتطلقها من أوهاق الجهل والخرافة ، ومن ضغط الاوهام والاساطير ، ومن رق التقليد وجمود التقاليد ، ويدعوهم الى شريعة تحيي الافراد والجماعات ، وتهيىء للجميع حياة كريمة متكاملة عادلة ، يأمن فيها كل انسان على دمه وعرضه وماله ، ويطمئن فيها الى عدالة التشريع والقضاء ، وكفالة المجتمع والدولة ، وسعادة الدنيا والآخرة ، ويدعوهم الى القوة والعزة والثقة بدينهم وبربهم ، ومكافحة الظلم والبغي والفساد على ثقة بالنصر من عند الله الذي يتولى الصالحين. ويدعوهم الى الجهاد لاعلاء كلمة الله ، وقد يصيبهم الموت في هذا الجهاد ، ولكن الاستشهاد حياة : حياة عند الله للشهداء ، وحياة لأمتهم في الارض واستعلاء. وهكذا دعاهم الى الموقعة التي أحيتهم وأعزتهم ، وأحيت الاسلام وركزت رايته على الاجيال.

ان الاسلام دين حياة لا عقيدة انعزال. دين ايجابي تنمو الحياة في ظله وترتقي ، لأنه يسبق خطا البشرية دائما ، ويقودها في مدارج التعمير والانشاء والتطور والارتقاء. انه نظام كامل لحياة كاملة ، وليس مجرد عقيدة روحية للتهذيب والارشاد. انه يأخذ من الحياة ويعطي ، ويدفع بالحياة الى الامام محكومة بنظامه الذي لم تعرف له البشرية نظيرا منذ كان الانسان.

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ٣١.

١٦٢

والتعبير يجمل هذا كله ، ويجمل معاني أخرى كثيرة وصورا شتى للحياة المتجددة تكمن كلها في كلمات قليلة :

«اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» ، فكل صورة من صور الحياة ، وكل معنى من معانيها المتجددة ، سواء كانت مستمرة في الضمير ، أو بادية للعيان ، كلها تتراءى من خلال العبارة المجملة وتنبض في الوجدان : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ».

ويمجد القرآن ذكر المؤمنين الذين تحلوا بفضيلة الاستجابة ، فدفعتهم الى مواصلة الجهاد والعطاء والفداء ، على الرغم من آلامهم وجراحهم ، فيقول عنهم في سورة آل عمران :

«الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ، الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ»(١).

يقصد هؤلاء الذي سارعوا الى اجابة الرسول عليه الصلاة والسلام حين أمرهم بالخروج معه الى مواصلة الكفاح والنضال بعد غزوة أحد ، فان الرسول ندبهم ـ على الرغم من الآلام والجراح ـ الى الخروج لمتابعة آثار المشركين ، لأن المشركين بعد الغزوة تلاوموا في الطريق وهم عائدون من غزوة أحد ، وقال بعضهم لبعض :

لم تصنعوا شيئا ، أصبتم شوكتهم وحدهم ، وتركتموهم وقد بقي

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٧٢ و ١٧٣.

١٦٣

منهم رؤوس يجمعون لكم ، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم.

فبلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام ، فنادى في الناس ، وحثهم على المسير وراء أعدائهم لمتابعة خطواتهم وقال صلوات الله وسلامه عليه : «لا يخرج معنا الا من شهد القتال».

فأحسن المسلمون الاستجابة لأمر الله والرسول ، برغم متاعبهم ومخاوفهم وجراحهم ، وكان ردهم : سمعا وطاعة. فسار بهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بلغ بهم «حمراء الأسد» وهو موضع على ثمانية أميال من المدينة. وأقبل معبد الخزاعي نحو النبي فأسلم ، فأمره النبي أن يلحق بأبي سفيان زعيم المشركين حينئذ ، وأن يشيع فيه وفي رفاقه روح الخذلان ، فاستجاب معبد ، حتى لحق أبا سفيان عند مكان يقال له «الروحاء» ، على بعد قرابة أربعين ميلا من المدينة فلما رآه أبو سفيان سأله : ما وراءك يا معبد؟.

فأجاب معبد مخذّلا : محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم ، وخرجوا في جمع لم يخرجوا في مثله ، وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم.

فقال أبو سفيان : ما تقول؟

أجاب معبد : ما أرى أن ترتحل حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة.

فقال أبو سفيان : والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم.

قال معبد : فلا تفعل ، فاني لك ناصح.

وخاف أبو سفيان فانثنى عن عزمه ، ورجع مع رفاقه على أعقابهم الى مكة.

ومع هذا لقي أبو سفيان بعض العرب يقصد مكة فقال له : هل لك أن

١٦٤

تبلغ محمدا رسالة وأوقر لك راحلتك زبيبا اذا أتيت الى مكة؟. قال الرجل : نعم.

فقال أبو سفيان : أبلغ محمدا أنا قد أجمعنا الكرة لنستأصله ونستأصل أصحابه.

ولما بلغت هذه الرسالة النبي والمؤمنين قالوا في ايمان ويقين : «حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ».

وهكذا تتألق منهم فضيلة الاستجابة لله رب العالمين.

ويروى أن الرسول عليه الصلاة والسلام حينما أراد الرجوع الى المدينة يومئذ ركب فرسه ، وأمر المسلمين أن يصطفوا فاصطفوا خلفه ، وعامتهم جرحى ، واصطف خلفهم النساء ، وقال النبي : «استووا حتى أثني على ربي».

وهنا ردد الرسول دعاء أخرجه أحمد والبخاري والنسائي وغيرهم ـ وان تكلم فيه الذهبي ـ وجاء في دعاء الرسول صلوات الله وسلامه عليه هذه الكلمات :

«اللهم لك الحمد ، لا قابض لما بسطت ، ولا باسط لما قبضت ، ولا هادي لمن أضللت ، ولا مضل لمن هديت ، ولا معطي لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت ، ولا مقرّب لما باعدت ، ولا مباعد لما قرّبت.

اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك. اللهم اني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول ، اللهم اني أسألك النعيم يوم العيلة (الفقر) ، والامن يوم الخوف.

اللهم اني عائذ بك من شر ما أعطيتنا ، ومن شر ما منعت منا. اللهم حبّب الينا الايمان وزينه في قلوبنا ، وكرّه الينا الكفر والفسوق

١٦٥

والعصيان ، واجعلنا من الراشدين ...» الخ.

ويتكرر نص القرآن الحكيم على أن الاستجابة من صفة المؤمنين الموفقين المقربين المقبولين ، فهو يقول مثلا في سورة الشورى :

«وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ، وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ»(١).

وانظر كيف قابل بين حزب الاستجابة الفائز ، وحزب الكفر صاحب العذاب الشديد.

ويقول في السورة نفسها :

«وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ»(٢).

والله تعالى يذكر هذا ضمن صفات المؤمنين المتوكلين :

«وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»(٣).

وكأن القرآن المجيد يريد لنا أن نفهم أن أهل الاستجابة لله هم الذين يستحقون الوصف بأنهم أحياء. وأما المجردون من الاستجابة له فهم كالاموات ، ولذلك يقول في سورة الانعام :

__________________

(١) سورة الشورى ، الآية ٢٦.

(٢) سورة الشورى ، الآية ٣٨.

(٣) سورة الشورى ، الآية ٣٦.

١٦٦

«إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ»(١).

والمعنى كما يذكر تفسير المنار هو : انما يستجيب لك أيها الرسول الذين يسمعون كلام الله الداعي اليه بآياته ، سماع فهم وتدبر ، فيعقلون الآيات ، ويذعنون لما عرفوا فيها من الحق ، لسلامة فطرتهم واستقلال عقولهم ، دون أولئك الذين قالوا : سمعنا وهم لا يسمعون ، كالمقلدين الجاحدين ، ودون أولئك الذين قالوا : سمعنا ، من المستكبرين الجاحدين ، فأولئك موتى القلوب والارواح ، الذين هم أبعد عن الانتفاع من موتى الجسوم والابدان. وهؤلاء الموتى سيبعثهم الله يوم القيامة ، ويخرجهم من قبورهم ، ويلاقون سوء الحساب وأشد العذاب.

فالظاهر أن المراد بالموتى هم الكفار الراسخون في الكفر ، المطبوع على قلوبهم وأسماعهم ، فلا ترجى استجابتهم ، وينبغي ترك أمرهم الى الله المنتقم القاهر ، فهو يبعثهم بعد موتهم ، ويجازيهم على كفرهم واعراضهم.

ولم يقتصر القرآن المجيد على التنويه بفضيلة الاستجابة والتكريم لأهلها ، بل ذكر العواقب السود التي تنتظر الذين أعرضوا عن الاستجابة ، فها هو ذا يقول في سورة الاحقاف على لسان الجن :

«يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ، وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي

__________________

(١) سورة الانعام ، الآية ٣٦.

١٦٧

ضَلالٍ مُبِينٍ»(١).

فالمحروم من الاستجابة يصيبه الضلال والوبال ، ويكون غرضا لغضب الله وحربه ، وليس له من نصير أو ظهير يحفظه من نقمة الله جل جلاله.

ويؤيد التنزيل الحكيم هذا الامر فيقول في سورة الرعد :

«لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى ، وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ»(٢).

فأهل الاستجابة لهم الخصلة الحسنى أو الحالة الحسنى ، هم أهل الفوز والفلاح والنجاح ، والذي لا يستجيب له أنواع الحسرة والعقوبة.

ويعلق الرازي المفسر على الآية السابقة فيقول هذه العبارة : «واعلم أنه تعالى ذكر ههنا أحوال السعداء وأحوال الاشقياء ، أما أحوال السعداء فهي قوله : «لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى.» والمعنى ان الذين أجابوه الى ما دعاهم اليه من التوحيد والعدل والنبوة وبعث الرسل والتزام الشرائع الواردة على لسان رسوله ، فلهم الحسنى. قال ابن عباس : الجنة. وقال أهل المعاني : الحسنى هي المنفعة العظمى في الحسن ، وهي المنفعة الخالصة عن شوائب المضرة ، الدائمة الخالية عن الانقطاع ، المقرونة بالتعظيم والاجلال.

__________________

(١) سورة الاحقاف ، الآية ٣١ و ٣٢.

(٢) سورة الرعد ، الآية ١٨.

١٦٨

ولم يذكر «الزيادة» ههنا ، لأنه تعالى قد ذكرها في سورة أخرى ، وهو قوله : «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ».

وذكرت الآية أحوال الاشقياء عقب ذلك ، وهم الذين لم يعرفوا طريق الاستجابة ، وذكر أن لهم أنواعا من العذاب والعقوبة :

النوع الاول قوله «لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ» أي لو استطاعوا لجعلوه فداء أنفسهم من العذاب ، وهيهات هيهات. يقول الرازي : «واعلم أن هذا المعنى حق ، لأن المحبوب بالذات لكل انسان هو ذاته ، وكل ما سواه فانما يحبه لكونه وسيلة الى مصالح ذاته ، فاذا كانت النفس في الضر والالم والتعب ، وكان مالكا لما يساوي عالم الاجساد والارواح ، فانه يرضى بأن يجعله فداء لنفسه ، لأن المحبوب بالعرض لا بد وأن يكون فداء لما يكون محبوبا بالذات».

النوع الثاني : هو قوله : «أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ» ، لأن كفرهم أحبط أعمالهم ، وكل ما شغلك بالله وعبادته ومحبته فهي الحالة السعيدة الشريفة العلوية القدسية ، وكل ما شغلك بغير الله ، فهي الحالة الضارة المؤذية الخسيسة. فالسعداء هم الذين استجابوا لربهم في الاعراض عما سوى الله ، وفي الاقبال على عبادة الله. وأما الاشقياء فهم الذين لم يستجيبوا لربهم فلهذا السبب وجب أن يحصل لهم سوء العذاب.

النوع الثالث : قوله تعالى : «وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ». وذلك لأنهم كانوا غافلين عن طاعة الله ، مشغولين بلذات الدنيا وشهواتها ، فمصيرهم ومقرهم دار العذاب ، وهي جهنم.

* * *

هذا ويذكر الطوسي في «اللمع» تفاوت الناس في الاستجابة لله والرسول والحق ، فيذكر صنفا سمع دعوة الله وأقر بها وقبلها ، ولكنه

١٦٩

شغله عن الاستجابة لها غفلته ومتابعته للنفس ، واختيار الحظوظ على الواجبات ، والميل الى الهوى والشهوة ، وفي مثل هذا يقول القرآن الكريم :

«وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً».

وهناك صنف كريم ، سمع النداء فأجاب وأناب ، وعمل الصالحات ، واقترن بالطيبات ، وصدق في المعاملات ، وأخلص في القربات. وفي مثل هذا يقول كتاب الله تعالى :

«الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ، أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

وقد يدعو غافل ربه فلا تجاب دعوته ، لأنه ليس من أهل الاستجابة ، فكيف يعامل بالاجابة؟.

قيل لابراهيم بن أدهم : ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟.

قال : لأنكم عرفتم الله فلم تطيعوه ، وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سننه ، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به ، وأكلتم نعم الله فلم تؤدوا شكرها ، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها ، وعرفتم النار فلم تهربوا منها ، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه ، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له ، ودفنتم الموتى فلم تعتبروا ، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس.

والاستجابة التي ندندن حولها مشروطة بأنها الاستجابة لله وللرسول ، لأنها استجابة الحق والصدق ، وهناك استجابة آثمة ظالمة ،

١٧٠

وهي الاستجابة لهواتف الشيطان ووساوس الخناس ، وعاقبة هذه الاستجابة شر عاقبة ، وحسبنا أن نسمع الحق جل جلاله يقول في سورة ابراهيم :

«وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ، وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ، وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ، فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ، ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ، إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ، إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ»(١).

اللهم هبنا الاستجابة لك ولرسولك ، فانك نعم المولى ونعم النصير.

__________________

(١) سورة ابراهيم ، الآية ٢٢.

١٧١

الغنى بالله

في مادة «الغنى» معنى الكفاية والاجزاء ، ومعنى الاقامة والبقاء ، والغنى هو الكفاية وعدم الحاجة أو قلة الحاجة ، وقد يطلق على سعة التملك. والله جل جلاله هو المستغني بذاته وصفاته وأسمائه عن كل ما عداه ، والمفتقر اليه كل ما سواه ، والمغني : وهو الذي يغني بفضله من يشاء من عباده.

ويقول القشيري : «المغني معطي الغنى لعباده ، ويكون بمعنى معطي الكفاية أيضا. والله تعالى مغن عباده بعضهم عن بعض ، لأن الحوائج ـ على الحقيقة ـ لا تكون الا اليه ، فالمخلوق لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، فكيف يملك ذلك لغيره؟.

ولذلك قيل : تعلّق الخلق بالخلق تعلق المسجون بالمسجون.

وقيل : من رفع حاجته الى الله تعالى ، ثم رجع عن حاجته اليه الى غيره ، ابتلاه بالحاجة الى الخلق ، ثم نزع رحمته من قلوبهم. ومن شهد افتقاره الى الله تعالى ، فرجع اليه عند حاجته ، أغناه من حيث لم يحتسب ، وأعطاه من حيث لم يرتقب.

واغناء الله تعالى عباده على قسمين : فمنهم من يغنيه بتنمية أمواله ،

١٧٢

وهم العوام ـ وهو غنى مجازا ـ ومنهم من يعنيه بتصفية أحواله ، وهم الخواص ـ وهو الغنى الحقيقي ، لأن احتياج الخلق الى همة صاحب الحال أكثر من احتياجهم الى لقمة صاحب المال».

وهي عبارة تثير الذهن ليمضي في شؤون من الفكر وشجون.

ولا يستحق اسم «الغني» في الحقيقة الا الله عز شأنه ، لأنهم عرّفوا وصف «الغنى» بأنه «الملك التام» ، فمن كان مالكا من وجه دون وجه ، فليس غنيا ، والله وحده هو «الغني» المالك من كل وجه ، وما سواه فهو فقير اليه. ولذلك قال ابن الاثير : الله الغني الذي لا يحتاج الى أحد في شيء ، وكل أحد يحتاج اليه ، وهذا هو الغنى المطلق ، ولا يشارك الله تعالى فيه غيره ، وهو المغني الذي يغني من يشاء من عباده.

ولقد تحدثت في حلقة من سلسلة «أخلاق القرآن» عن فضيلة «الافتقار الى الله». وقد يقول قائل : ألا يغني هذا الحديث عن الكلام عن : «الغنى بالله»؟. والجواب عن هذا السؤال يوجد في عبارة للامام ابن القيم يقول فيها : «ومن منازل «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» منزلة الغنى العالي ، وهو نوعان : غنى بالله وغنى عن غير الله ، وهما حقيقة الفقر ، ولكن أرباب الطريق أفردوا للغنى منزلة».

واذا كان الغنى بالله فضيلة من فضائل القرآن الكريم ، وجانبا من هدى الرسول الكريم ، فقد قالوا ان الغنى بالله درجات : درجة غنى القلب ، بمعنى تعلقه بالله وحده ، دون تعلق بغيره ، أو تطلع الى سواه ، ثم غنى النفس ـ والنفس من جنود القلب ـ وهو أن تصبح سالمة من تطلعها الى حظوظ الحياة ، وبراءتها من آفة المراءاة ، حيث لا تريد بأعمالها وأقوالها وأحوالها غير وجه الله ، وتدوم على التوجه الى الله ، والطلب منه وحده ثم الغنى بالحق ، ورؤية الانسان جلال ربه قبل كل شيء.

١٧٣

وقد تكرر وصف الله تعالى في القرآن المجيد بوصف «الغني» عدة مرات في سورة البقرة جاء قوله تعالى :

«قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ».

وفي الاسمين الكريمين : «غَنِيٌّ حَلِيمٌ» تنفيس لكرب الفقراء ، وتعزية لهم ، وتعليق لقلوبهم بحبل الرجاء بالله الغني المغني ، وتهديد للاغنياء ، وانذار لهم أن يغتروا بحلم الله ، وامهاله اياهم ، وعدم معاجلتهم بالعقاب على كفرهم بنعمته عليهم بالمال ، فانه يوشك أن يسلبها منهم في يوم من الايام.

ويقول في سورة الانعام :

«وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ»(١).

ويعلق تفسير المنار على الآية بقوله : «هو الغنيّ الكامل الغنى ، وذو الرحمة الكاملة الشاملة ، التي وسعت كل شيء. أما الاول فبيانه أن الغنى هو عدم الحاجة ، وانما يكون على اطلاقه وكمال معناه ـ بل أصل معناه ـ لواجب الوجود ، والصفات الكمالية بذاته ، وهو الرب الخالق ، اذ كل ما عداه ، فهو محتاج اليه في وجوده وبقائه ، ومحتاج بالتبع لذلك الى الاسباب التي جعلها تعالى قوام وجوده.

وانما يقال في الخلق : هذا غني ، اذا كان واحدا لأهم هذه الاسباب ، فغنى الناس مثلا اضافي عرفي ، لا حقيقي مطلق ، فان ذا المال الكثير الذي يسمى غنيا كثير الحاجات ، فقير الى كثير من الناس ، كالزوج

__________________

(١) سورة الانعام ، الآية ١٣٣.

١٧٤

والخادم والعامل والطبيب والحاكم ، دع حاجته الى خالقه وخالق كل شيء ، التي قال تعالى فيها : «يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ ، وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ». وقد كان الله تعالى ولا شيء معه ، غنيا عن كل شيء ، وهو الآن على ما عليه كان ، غير محتاج الى عمل العاملين ، لأنه لا ينفعه ، بل ينفعهم ، ولا الى دفع عمل العاصين ، لأنه لا يضره ، بل يضرهم ، فالتكليف والجزاء عليه رحمة منه سبحانه بهم ، يكمل نقص المستعد للكمال.

ويقول تعالى في سورة البقرة :

«وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ»(١).

أي غني عن عطاء الناس اطلاقا :

«ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ، إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ»(٢).

فاذا بذل الناس شيئا فانما يبذلونه لأنفسهم ، فليبذلوه طيبا ، وليبذلوه طيبة به نفوسهم كذلك ، فالله حميد يتقبل الطيبات ، ويحمدها ويثيب عليها بالحسنى.

وقد تكرر وصف الله بأنه «غَنِيٌّ حَمِيدٌ*» نحو عشر مرات ، ولعل السر في ذلك ـ والله أعلم بمراده ـ هو تأكيد الاشارة الى أن الله مطلق الغنى ، ومع غناه المطلق يحمد العمل الطيب من خلقه ، ويجازي عليه الجزاء الجميل.

والغنى بالله يجعل الانسان موقنا بأن ما عند الله خير وأبقى. وأنه

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٦٧.

(٢) سورة الذاريات ، الآية ٥٧ و ٥٨.

١٧٥

القادر على أن يكفي الانسان ويرزقه بغير حساب عند ما يشاء ، والله بقول لرسوله في سورة الضحى :

«وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى»(١).

والعائل هو المحتاج أو الفقير ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيرا قليل المال ، فأغناه ربه بما وهبه له في التجارة ، وبما يسر له من مال خديجة ، وكذلك صار رسول الله بفضل الله أغنى من كل عباد الله ، لأنه استغنى بمولاه ، فهيأ له في الحياة كل العز والجاه.

وذهب أهل التفسير مذاهب تبهر في كيفية اغناء الله لرسوله هنا ، فمن قائل : أغناه من المال بعد فقره ، ومن قائل : أرضاه بما أعطاه ، وأغناه به عن سواه ، فالغنى هنا غنى النفس ، لا غنى المال ، وغنى النفس هو الغني الحقيقي. ومن قائل : أغناه من هذا ومن ذاك : أغناه من المال ، وأغنى قلبه به.

ويقول الذكر الحكيم في سورة التوبة :

«وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(٢).

أي ان خفتم فقرا فلا تنسوا أن الله عنده الغنى. وسبب نزول الآية كما ذكره ابن عباس هو أن المشركين كانوا يجيئون الى البيت الحرام ، ويجيئون معهم بألوان الطعام يتجرون فيه ، فنهى الله تعالى عن مجيء المشركين الى بيت الله الحرام ، فقال المسلمون : فمن أين لنا بالطعام؟. فنزل قوله تعالى :

__________________

(١) سورة الضحى ، الآية ٨.

(٢) سورة التوبة ، الآية ٢٨.

١٧٦

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ، وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».

فأنزل الله عليهم المطر ، وكثر خيرهم حين ذهب المشركون عنهم.

واذا كان الغنى بالله هو باب الخير ، ومصدر البر ، ومفتاح العز ، فان الاستغناء بغير الله لا يفيد ولا ينفع ، لا اليوم ولا غدا ، ولذلك يقول القرآن في سورة آل عمران :

«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً ، وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ»(١).

أي لا تغني عنهم أي نوع من الغناء ، وقد ذكر النص الاموال والاولاد ، لأن المغرور انما يصده ـ كما يعبر بعض المفسرين ـ عن اتباع الحق أو النظر في دليله ، الاستغناء بما هو فيه من النعم ، وأعظمها الاموال والاولاد.

فالذى يرى نفسه مستغنيا بمثل ذلك ، قلما يوجه نظره الى طلب الحق ، أو يصغي الى الداعي اليه ، ومن لم يوجه نظره الى الحق لا يبصره ، ومن لم يبصره تخبط في دياجير الضلال عمره ، حتى يتردى فيهلك الهلاك الابدي ، ولا ينفعه في الآخرة ماله فيفتدي به ، أو ينتفع بما كان أنفقه منه.

ويقول الله تعالى في سورة المسد عن أبي لهب :

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٠.

١٧٧

«ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ»(١).

أي لم يفده ماله الذي جمعه ، ولم يحقق له غنى ولا عزا ، ولا أبلغه العلو الذي طمح اليه ، بل مضى الى شر منقلب.

وقد أكد القرآن المجيد هذا المعنى ، وهو انه لا يستطيع أحد تحقيق الغنى سوى الله ، ففي سورة الحجر :

«فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ»(٢).

وفي سورة هود :

«فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ»(٣).

وفي سورة الجاثية :

«إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً»(٤).

... الخ.

ومن القرآن الحكيم نفهم أن محاولة الاستغناء من غير طريق الغنى بالله سبحانه تؤدي الى رذيلة الطغيان ، فنجد في سورة العلق : «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى ، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ، إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى».

__________________

(١) سورة الحسد ، الآية ٢.

(٢) سورة الحجر ، الآية ٨٤.

(٣) سورة هود ، الآية ١٠١.

(٤) سورة الجاثية ، الآية ١٩.

١٧٨

وها هو ذا الاستاذ الامام محمد عبده يعلق على هذا النص الكريم بقوله :

«ما أسخف عقل الانسان ، فانه مع ظهور أمره ، وشدة فقره في نفسه ، وظهور أن الله مالك كل شيء عنده ، يطغى ويخرج عن الحد الذي يجب عليه أن يقف عنده ، فيستكبر عن الخشوع لربه ، ويتطاول بالأذى على خلقه ، وذلك «أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى» أي متى أحس من نفسه قدرة وثروة يعد نفسه بهما فوق من دونه من الناس ، فلا يرى انه معهم أعضاء جماعة واحدة ، يحتاج كل الى الآخر ، في استدامة الأمن واستكمال السعادة».

ثم يقول : «ولما كان المغرور يظن أنه في سوء عمله انما يصنع ما هو من حقه ، ضاعف له التأكيد ، فقال «لَيَطْغى» : أي أنه باستغنائه يخرج عن حده قطعا ، ثم بيّن أنه واهم في طغيانه ، كاذب في زعمه أنه ملك ناصية القوة والقدرة ، لأن ما في يده عارية ، وليست نفسه بباقية ، ولا لها من الله واقية ، فقال : «إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى» أي ان المرجع الى الله وحده دون غيره ، فهو مالكك ومالك ما تملكه ، وهو الذي ينتزع روحك فتخرج من هذه الحياة الدنيا ، الى حياة ينكشف عنك فيها غطاء الغرور».

ويروي ابن القيم أنه جاء في الاثر الالهي : «ابن آدم ، اطلبني تجدني ، فان وجدتني وجدت كل شيء ، وان فتّك فاتك كل شيء ، وأنا أحب اليك من كل شيء».

* * *

وننتقل الى روضة السنة المطهرة ، فنجد فيها عناية واضحة بالتوجيه الى الاستغناء بالله دون من عداه ، فيقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرويه عن ربه في الحديث القدسي : «كلكم فقير الا من أغنيت

١٧٩

فسلوني». وجاء في الحديث الشريف : «ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس». وكان من عادة الرسول أن يقول في استفتاحه هذه الكلمات الدالة على غناه بربه ، وكفايته بخالقه ، فهو يقول فيها : «اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت ، واليك أنت ، وبك خاصمت ، واليك حاكمت».

وثمة حديث نبوي يحتل مركز الصدارة حين يدور الحديث عن الغنى بالله ، وهو قول رسول الله فيما يرويه البخاري : «ليس الغنى عن كثرة العرض ، ولكن الغنى غنى النفس». فهو نص في أن المال ليس هو مقياس الغنى ، وان الغنى ليس الاستكثار من متاع الدنيا وزينة الحياة ، وكيف يصح هذا في العقول والقرآن الحكيم يستنكره حين يقول في سورة المؤمنون :

«أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ».

وها هو ذا ابن حجر في «فتح الباري» يربط بين الحديث الشريف والآية الكريمة فيقول : «خيرية المال ليست لذاته ، بل بحسب ما يتعلق به ، وان كان يسمى خيرا في الجملة ، وكذلك صاحب المال الكثير ليس غنيا لذاته ، بل بحسب تصرفه فيه ، فان كان في نفسه غنيا لم يتوقف في صرفه في الواجبات والمستحبات من وجوه البر والقربات ، وان كان في نفسه فقيرا أمسكه وامتنع من بذله فيما أمر به ، خشية من نفاده ، فهو في الحقيقة فقير صورة ومعنى ، وان كان المال تحت يده ، لكونه لا ينتفع به لا في الدنيا ولا في الأخرى ، بل ربما كان وبالا عليه».

ولقد جاءت رواية عن أبي ذر يقول : «قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا أبا ذر ، أترى كثرة المال هو الغنى؟. قلت : نعم. قال :

وترى قلة المال هو الفقر؟. قلت : نعم يا رسول الله. قال : انما الغنى غنى القلب ، والفقر فقر القلب».

١٨٠