موسوعة أخلاق القرآن - ج ٤

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٤

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٣٥

حقيقتها ، ولا حقيقة الرزق الذي يكون بها ، ولا نبحث عن ذلك لانه من عالم الغيب الذي نؤمن به ونفوض الامر فيه الى الله تعالى.

وقد ورد في القرآن ما هو قريب من معناه من الآية الماضية ، وهو قول الله تعالى في سورة آل عمران :

«وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(١).

وفي سورة البقرة جاء قول الله عز شأنه :

«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ»(٢).

ان هؤلاء القوم قد أصيبوا بالجبن فصارت حياتهم ضعيفة رخيصة كأنها لا حياة ، وقد تمكن أعداؤهم منهم ـ كما يفصل الحديث تفسير المنار ـ ففتك بهم ، ثم أحياهم بفضله ، والمراد بيان سنته تعالى في الامم التي تجبن عن مدافعة المعتدين عليها ، ومعنى موت هؤلاء القوم هو أن عدوهم نكل بهم فأذهب قوتهم ، وأزال استقلال أمتهم ، حتى صارت لا تعد أمة ، حيث تفرق شملها ، وذهبت جامعتها ، فكل من بقي من أفرادها تراهم خاضعين للغالبين ضائعين فيهم ، لا وجود لهم في أنفسهم ، بل وجودهم تابع لغيرهم ، وحياتهم هي عودتهم الى الاستقلال والعزة ، ومن رحمة الله أن يصيب الناس بالبلاء تمحيصا لهم وتطهيرا لنفوسهم مما أصابها

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٦٩.

(٢) سورة البقرة ، الآية ٢٤٣.

١٢١

من دنس الرذائل والقبائح ، وقد أشعر الله أولئك القوم بسوء عاقبة الخوف والجبن والتخاذل فجمعوا كلمتهم ، حتى عادت اليهم وحدتهم القوية فخرجوا من ذل العبودية الى عزة الحرية ، وهكذا يموت أفراد باحتمال الذل والظلم حتى كأنهم أموات ، ويحيا أفراد بتدارك ما فات ، والاستعداد لما هو آت.

واطلاق «الحياة» على الحالة المعنوية الاخلاقية الشريفة في الامم والافراد شيء معروف مألوف في لغة العرب ، ومنه قوله تعالى :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ»(١).

وشتان ما بين حياة وحياة. ان لله عبادا يحيون الحياة الكريمة العظيمة التي تتألق فيها قلوبهم وارواحهم وعزائمهم ، وهناك أقوام يحيون حياة البهائم ، حسبهم الحس والحركة والاكل كما تأكل الانعام ، وهذا يذكرنا بقول الله تعالى عن اليهود في سورة البقرة :

«وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ»(٢).

وقد جاءت هذه الآية في اليهود الذين عرفهم الناس بحرصهم على الحياة ، حتى ولو كانت حياة شقية حقيرة ، فهم يتمنون من اعماقهم وبألسنتهم أن تطول أعمارهم ، وقد فاقوا في هذا الحرص سواهم من الناس

__________________

(١) سورة الانفال ، الآية ٢٤.

(٢) سورة البقرة ، الآية ٩٦.

١٢٢

ومن بعض المشركين الحريصين على الحياة ، فالواحد منهم يتمنى لو يعيش ألف سنة أو أكثر ، مع أن طول عمره ـ مهما امتد ـ ليس منقذا له من العذاب المعد له في الآخرة ، لأنه ميت لا محالة ، ولأنه ملاق ربه لا مفر ، والله محيط بكل أعمالهم لا يغيب عنه شيء منها.

وقد تحدث ابن القيم عن الوسائل التي تحقق الحياة الاخلاقية الفاضلة عند الانسان ، ونوجز هذه الوسائل في عدة أمور منها :

١ ـ معرفة الله تعالى ، والاهتداء الى طريقه ، والقيام بالمأمورات ، والانتهاء عن المنهيات ، في الظاهر والباطن.

٢ ـ محبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتتبع أخباره ، وتلمس سننه ، والسير على طريقته في حب واجلال.

٣ ـ الاقبال على القرآن الكريم ، والاتقان لترتيله وتدبره ، واستنباط معانيه والاستجابة لدواعيه. فالوحي ـ وهو القرآن المجيد ـ حياة الروح ، كما ان الروح حياة البدن ، ومن فقد هذه الروح القرآنية فقد الحياة النافعة في الدنيا والآخرة.

٤ ـ استحضار صفات الله ذات الجلال والجمال والكمال.

٥ ـ شهود صفة «الحياة الكاملة» في الله الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم.

٦ ـ أن يتقرب الانسان الحي الى ربه تعالى حتى يجد طعم قوله في الحديث القدسي : «لا يزال عبدي يتقرب اليّ بالنوافل حتى أحبه ، فاذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، وان استعاذ بي لأعيذنه».

١٢٣

والحذر كل الحذر من الانغمار في الشهوات والملذات ، فان حياة القلب والروح والبصيرة يضعفها هذا الانغمار ويقضي عليها ، وكيف يصل الى تلك الحياة الفاضلة من هو أسير الشهوات والنزوات؟

وهذا عبد الله المبارك رضي الله عنه يقول :

رأيت الذنوب تميت القلوب

وقد يورث الذلّ ادمانها

وترك الذنوب حياة القلوب

وخير لنفسك عصيانها

وهل أفسد الدين الا الملو

ك ، وأحبار سوء ورهبانها

وباعوا النفوس ولم يربحوا

ولم يغل في البيع أثمانها

فقد رتع القوم في جيفة

يبين لذي اللب خسرانها

اللهم هبنا الحياة العليا وباعدنا عن الحياة الدنيا ، وأحي قلوبنا بنورك يا نور السموات والارض.

١٢٤

التقدير

التقدير في الأصل معرفة قدر الشيء وكميته ، وتقدير الأمر هو التمهل فيه والتروي في انجازه ، وفي مادة «التقدير» معنى الاحكام والاتقان ، كما يقول القرآن الكريم في سورة سبأ :

«أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ»(١).

أي أحكم صنعتك في نسج الدروع. وفي المادة أيضا معنى الشرف والعلو في المكانة ، ولعل هذا بعض السر في تسمية القرآن ليلة نزوله العظيمة باسم ليلة القدر :

«وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ»(٢).

والتقدير من الانسان على وجهين : أحدهما التفكر في الامر بحسب العقل وبناء الامر عليه ، وذلك أمر محمود ، وهو قريب من المعنى الاخلاقي الذي نريده حين نقول ان «التقدير» خلق من أخلاق القرآن

__________________

(١) سورة سبأ ، الآية ١١.

(٢) سورة القدر ، الآية ٢ و ٣.

١٢٥

الكريم ، وفضيلة من فضائل الاسلام العظيم ، وجانب من هدى الرسول عليه الصلاة والتسليم.

والوجه الثاني أن يكون التقدير بحسب التمني والشهوة ، وذلك مذموم ، كقول القرآن في سورة المدثر :

«إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ»(١).

وقد قيل : ان التقدير يعقب التفكير ، لأن الانسان ينظر في الأمر ويفكر فيه ويتدبره ، ثم يرتب في نفسه ما يتعلق به ، ويهيىء له في نفسه ما يناسبه ، فذلك هو التقدير.

ونقول : قدّر الله الامور تقديرا ، أي دبرها ، أو أراد وقوعها بحسب تدبيره ومشيئته ، وجعلها على مقدار مخصوص ووجه مخصوص ، حسبما تقتضي الحكمة.

ومما يسمو بمكانة صفة «التقدير» أن الله تبارك وتعالى وصف ذاته القدسية بها ، وأشرف الاسماء والصفات ما كانت منسوبة الى الله جل جلاله ، ومن فضله على عباده أن زانهم بطائفة من الصفات جاءت أسماؤها كأسماء طائفة من أسماء الله الحسنى ، وان كانت معاني هذه الصفات بالنسبة الى الله سبحانه تختلف اختلافا جوهريا عن صفات العباد ، كما يختلف الخالق عن المخلوق :

«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»(٢).

ان القرآن الكريم يقول في سورة الأعلى :

__________________

(١) سورة المدثر ، الآية ١٨ و ١٩.

(٢) سورة الشورى ، الآية ١١.

١٢٦

«وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى»(١).

أي أعطى الله كل شيء ما فيه مصلحته ، ووجّه كل مخلوق الى ما ينبغي له ، وهداه لما فيه خلاصه ، اما بالتسخير واما بالتعليم ، كما قال :

«أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى»(٢).

ويقول التنزيل المجيد في سورة الرعد :

«اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ، وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ ، وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ»(٣).

أي كل شيء عنده بقدر واحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه ، كقوله :

«إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ»(٤).

وقوله في الفرقان :

«وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً»(٥).

أي دبر الامور ، أو جعل كل شيء ينهج منهجا صالحا له في الحياة.

ويحتمل أن يكون المراد من قوله : «وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ» أنه تعالى يعلم كمية كل شيء وكيفيته على الوجه المفصّل المبين ، ويحتمل أن

__________________

(١) سورة الاعلى ، الآية ٣.

(٢) سورة طه ، الآية ٥٠.

(٣) سورة الرعد ، الآية ٨.

(٤) سورة القمر ، الآية ٤٩.

(٥) سورة الفرقان ، الآية ٢.

١٢٧

يكون المراد أن الله تعالى خصص كل حادث بوقت معين وحالة معينة بمشيئته الازلية وارادته السرمدية.

ويقول القرآن الحكيم في سورة يونس :

«هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً ، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ، ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ»(١).

وهذه الآية الكريمة تتضمن الاشارة الى مكانة التقدير في الامور والتدبير للاشياء ، ولعل هذا يتضح لنا من عبارة الفخر الرازي حين يقول : «اعلم ان انتفاع الخلق بضوء الشمس ونور القمر عظيم ، فالشمس سلطان النهار ، والقمر سلطان الليل ، وبحركة الشمس تنفصل السنة الى الفصول الاربعة ، وبالفصول الاربعة تنتظم مصالح هذا العالم ، وبحركة القمر تحصل الشهور ، وباختلاف حاله في زيادة الضوء ونقصانه تختلف أحوال رطوبات هذا العالم ، وبسبب الحركة اليومية يحصل النهار والليل ، فالنهار يكون زمانا للتكسب والطلب ، والليل يكون زمانا للراحة ، وقد استقصينا منافع الشمس والقمر في تفسير الآيات اللائقة بها فيما سلف ، وكل ذلك يدل على كثرة رحمة الله على الخلق وعظم عنايته بهم.

فاننا قد دللنا على أن الاجسام متساوية ، ومتى كان كذلك كان اختصاص كل جسم بشكله المعين ووضعه المعين وخيره المعين وصفته المعينة ، ليس الا بتدبير مدبر حكيم رحيم ، قادر قاهر ، وذلك يدل على أن جميع المنافع الحاصلة في هذا العالم ، بسبب حركات الافلاك ومسير لشمس والقمر والكواكب ، ما حصل الا بتدبير المدبر المقدر ، الرحيم

__________________

(١) سورة يونس ، الآية ٥.

١٢٨

الحكيم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

ثم انه تعالى لما قرر هذه الدلائل حتمها بقوله : «ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ» ومعناه انه تعالى خلقه على وفق الحكمة ومطابقة المصلحة ، ونظيره قوله تعالى في سورة آل عمران :

«وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ»(١)

وقال في سورة ص :

«ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا»(٢).

وتقدير الله لمنازل القمر معناه أنه حدد سيره في منازل معينة ، بنظام معين ، ومواقيت معينة ، بعلم وحكمة ورحمة ، ومن هذا يتعلم الانسان العاقل أنه ينبغي له أن يتصرف في أموره المختلفة بتدبير وتقدير ، وأن يصاحب التمهل والأناة ، حتى تثمر له فضيلة التقدير الخير الكثير في دينه ودنياه.

ويقول التنزيل المجيد في سورة الأنعام :

«فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ»(٣).

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٩١.

(٢) سورة ص ، الآية ٢٧.

(٣) سورة الانعام ، الآية ٩٦.

١٢٩

واسم «العزيز» اشارة الى كمال قدرته ، واسم «العليم» اشارة الى كمال علمه ، ولا شك أن تقدير أجرام الافلاك بصفاتها المخصوصة وهيئاتها المحددة وحركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة في البطء والسرعة ، لا يمكن تحصيله الا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات ، وعلم نافذ في جميع المعلومات من الكليات والجزئيات.

فقوله : «ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» يفيد أن ذلك الخلق المحكم مع ذلك النتسبيق المتقن هو تقدير الله الخالق ، الذي وضع المقادير والانظمة مما اقتضاه علمه الواسع ، فهو الفاعل لما يشاء ، على قدر ما تقتضي الحكمة ، لا زائدا عليه ، ولا ناقصا عنه : «فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ»

ويقول القرآن في سورة الحجر :

«وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ»(١).

أي يصرّف المخزون في خزائنه ـ كالمطر ـ الى من يشاء حيث شاء كما شاء ، في وقت مقدر ، في حيز معين ، بصفات معينة : «قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً».

واذا كان الله جل جلاله قد وصف ذاته بالتقدير المقرون بالعلم والحكمة والرحمة والقدرة ، فانه من فضله يعلم عباده ويدعوهم الى فضيلة التقدير في مواطنها المناسبة ، فهو مثلا يدعو عباده الى التقدير في الانفاق ، فيقول في سورة الاسراء :

«وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَ

__________________

(١) سورة الحجر ، الآية ٢١.

١٣٠

الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ، إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ، إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً»(١).

أي لا تجعل يدك كالمغلولة فهي تمسك عن الانفاق وتبخل به ، ولا تتوسع في الانفاق توسعا مفرطا ، بل سر في ذلك بتدبير وتقدير :

«وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً»(٢).

والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يوجه أتباعه الى فضيلة «التقدير» وهي القائمة على التبين والتمهل ، وعلى الحكمة والروية ، وعلى الاتقان والاحكام ، وعلى المسير في الحياة باعتدال وتدبر ، فيقول : «سددوا وقاربوا». ويقول ـ فيما يروي الترمذي ـ : «الاناة من الله ، والعجلة من الشيطان». ويقول ـ فيما يروي أبو داود ـ : «التؤدة في كل شيء خير ، الا في عمل الآخرة».

ويقول أبو الدرداء : «حسن التقدير في المعيشة أفضل من نصف الكسب».

وقال خالد بن صفوان : «لا تطلبوا الحوائج في غير حينها ، ولا تطلبوها الى غير أهلها ، ولا تطلبوا ما لستم له بأهل ، فتكونوا للمنع خلقاء». ولا يستطيع أن ينتفع بهذه النصيحة على وجهها الا من تحلى بفضيلة «التقدير» المستضيئة بعمق التفكر وحسن التدبير.

__________________

(١) سورة الاسراء ، الآية ٢٩ و ٣٠.

(٢) سورة الفرقان ، الآية ٦٧.

١٣١

وقال حكيم لابنه : «اجعل لاقتصادك سلطة على افراطك ، فانك اذا قدرت الامور على ذلك ، وزنتها بميزان الحكمة ، وقومتها تقويم الثّقاف ، لم تجعل للندامة سلطانا على الحلم».

ومن أجمل ما قرأت في الحث على فضيلة التقدير للامور ، والنظر الى العواقب ، والموازنة بين الاشباه والنظائر ، والتلفت الى مختلف جوانب الامور ما أوصى به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابنه الحسن ، في وصيته المشهورة التي كتبها اليه وهو منصرف من بلدة «حاضرين» ناحية صفين ، حيث يقول له فيها :

«واعلم أن أمامك طريقا ذات مسافة بعيدة ، ومشقة شديدة ، وأنه لا غنى لك فيه عن حسن الارتياد. وقدّر بلاغك من الزاد ، مع خفة الظهر ، فلا تحملن على ظهرك فوق طاقتك ، فيكون ثقل ذلك وبالا عليك.

واذا وجدت من أهل الفاقة (الفقر) من يحمل لك زادك الى يوم القيامة ، فيوافيك به غدا ، حيث تحتاج اليه ، فاغتنمه وحمّله اياه ، وأكثر من تزويده وأنت قادر ، فلعلك تطلبه فلا تجده ، واغتنم من استقرضك في حالة غناك ، ليجعل قضاءه لك في يوم عسرتك.

واعلم أن أمامك عقبة كؤودا (صعبة) المخف فيها أحسن حالا من المثقل ، والبطيء عليها أقبح حالا من المسرع ، وأن مهبطك بها ـ لا محالة ـ على جنة أو على نار.

فارتد لنفسك قبل نزولك ، ووطّىء المنزل قبل حلولك ، فليس بعد الموت مستعتب ، ولا الى الدنيا منصرف».

ما أروعها من كلمات عميقة دقيقة ، تصور فضيلة التقدير كأنها الحلية الاساسية النفيسة للعقلاء وما أشد حاجة الناس الى هذه الفضيلة النادرة. ان الناس محتاجون الى التقدير في التفكير ، حتى لا يجمح بهم

١٣٢

جامح من الحمق أو الطيش أو سوء النظر.

وما أشد حاجة الناس الى التدبير في التعبير ، حتى يجعلوا لسانهم من وراء عقولهم ، لا أن يجعلوا عقولهم خلف ألسنتهم ، ولو لزموا التدبير في القول والمنطق ، لما ندت عن أفواههم كلمات فيها ما هو أشد من العورات ، ولما صدرت عن ألسنتهم جراح أنكى من اصابة السلاح.

وما أشد حاجة الناس الى التقدير في الاكل والشرب والثياب واللهو ، حتى لا يصيبهم وبال الجموح والاسراف ، فيكونوا داعية الخراب والدمار :

«وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً»(١).

ولله در القائل :

قدر لرجلك قبل الخطو موضعها

فمن علا شرفا عن غرة زلجا

وقول الآخر :

قد يدرك المتأني بعض حاجته

وقد يكون مع المستعجل الزلل

اللهم انا نسألك ـ وأنت القادر المقدر ـ أن تهبنا نعمة التقدير والتدبير ، انك على كل شيء قدير.

__________________

(١) سورة الاسراء ، الآية ١٦.

١٣٣

المودة

المودة من الود ، وهو محبة الشيء وتمني كونه ، والتمني يتضمن معنى الود لأن التمني هو تشهي الانسان حصول ما يوده. ويقال : ودّ فلان الشيء : أي أحبه وهويه وتمنى وقوعه. ووادّ فلان فلانا : أي أحبه ومال اليه وألفه. ومن أسماء الله الحسنى اسم «الودود» ، وهو على وزن فعول بمعنى مفعول ، فهو مودود ، أي محبوب في قلوب أوليائه. ويجوز أن يكون على وزن فعول بمعنى فاعل ، أي أنه يحب عباده الصالحين ، بمعنى أنه يرضى عنهم.

وفي سورة هود يقول الحق جل جلاله :

«وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ»(١).

أي يضاعف الاحسان والانعام لأوليائه ، ويغمرهم برضائه ، وكأن مودة الله تبارك وتعالى ينبغي أن يقابلها استغفار العبد من سالف الذنوب.

__________________

(١) سورة هود ، الآية ٩٠.

١٣٤

والتوبة الى الله فيما يستقبل من الاعمال السيئة ، فالله ودود لمن استغفر وتاب.

وفي سورة البروج :

«وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ»(١).

أي المحب لعباده الصالحين ، كما يود أحدكم أخاه بالبشرى والمحبة. أو الذي يوده هؤلاء العباد ويحبونه :

«رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ»(٢).

وقد ذكر الرازي لكلمة «الودود» عدة أقوال : أولها المحب ، وثانيها المتودد الى أوليائه بالمغفرة والثواب. وثالثها أنه محبوب من عباده الصالحين ، لما عرفوا من كمال في ذاته وصفاته وأفعاله ، ورابعها أن الودود هو الحليم.

ونفهم من حديث القرآن الكريم أن المودة الطاهرة خلق من أخلاق القرآن وفضيلة من فضائل الاسلام. وها هو ذا التنزيل المجيد يخبرنا أن هذه الفضيلة نعمة من الله على الاخيار من خلقه ، فهو يقول في سورة مريم :

«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا»(٣).

أي سيرزقهم محبة في القلوب ، وذلك بشارة بسعة الاسلام وبسط سلطانه ، ومحق المنافقين الذين يضمرون البغض للمؤمنين ، أو أن ذلك يكون يوم القيامة ، اذ يتآلف المؤمنون ، ولا يكون في قلوبهم غل.

__________________

(١) سورة البروج ، الآية ١٤.

(٢) سورة البينة ، الآية ٨.

(٣) سورة مريم ، الآية ٩٦.

١٣٥

وقيل ان المراد بالود هنا هو مراعاة الله لهم ، ويروي الاصفهاني أن الله تعالى قال لنبيه موسى عليه‌السلام : «اني لا أغفل عن الصغير لصغره ، ولا عن الكبير لكبره ، وأنا الودود الشكور».

ولكن المعنى الاول أوضح ، لأن الله تعالى يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات محبة ومودة في قلوب عباده الصالحين ، بدليل قول الرسول عليه الصلاة والسلام : «ان الله اذ أحب عبدا دعا جبريل فقال : يا جبريل اني أحب فلانا فأحبه ، فيحبه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء : ان الله يحب فلانا فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الارض.

وان الله اذا أبغض عبدا دعا جبريل فقال له : يا جبريل ، اني أبغض فلانا فأبغضه ، فيبغضه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء : ان الله يبغض فلانا فابغضوه ، فيبغضه أهل السماء ، ثم يوضع له البغضاء في الارض».

ويقول القرآن في سورة الروم :

«وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»(١).

أي خلق لكم من جنسكم اناثا يكن لكم زوجات لتسكنوا اليهن ، وتجدوا لديهن الأمان والاطمئنان والائتلاف ، وجعل بينكم وبينهن محبة ورأفة.

والمودة بين المسلمين أمر واجب ، لأن الله جل جلاله يقول :

«وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ»(٢)

__________________

(١) سورة الروم ، الآية ٢١.

(٢) سورة التوبة ، الآية ٧١.

١٣٦

ويقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا».

وخير من يستحق المودة هم أقارب الرسول عليه صلوات الله وسلامه وهو في أولهم ، ولذلك يقول القرآن في سورة الشورى :

«قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ، وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ»(١).

أي اني لا أسألكم على ما أدعوكم اليه أجرا ، الا أن تودوني لقرابتي منكم ، فأنتم قومي ، وأحق من أجابني وأطاعني ، فاذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى ، ولا تؤذوني ولا تهيّجوا عليّ.

أو لا أسألكم على الايمان أجرا الا أن تودوا أقاربي.

أو لا أسألكم الا أن توددوا الى الله فيما يقربكم منه ، وذلك من التودد اليه بالعمل الصالح.

ويفتح القرآن أمامنا باب الامل والاطماع في اصطناع المودة فيخاطب المؤمنين في شأن الكافرين فيقول في سورة الممتحنة :

«عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(٢).

وهذه المودة تبدأ أو تنشأ بأن يسلم هؤلاء الكافرون فيصبحوا اخوة للمسلمين ، وقد تحقق هذا فعلا حيث أسلم قوم منهم وخالطوا المسلمين ،

__________________

(١) سورة الشورى ، الآية ٢٣.

(٢) سورة الممتحنة ، الآية ٧.

١٣٧

كأبي سفيان بن حرب ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وحكيم بن حزام. وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان ، فاسترخت شكيمته في العداوة ، ولانت منه العريكة ، فكان ذلك تمهيدا لاسلامه عند فتح مكة.

وكذلك فتح الله باب المودة بين المسلمين وغيرهم ممن عرفوا الحق واهتدوا الى نوره ، فيقول القرآن في سورة المائدة :

«لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ، ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ، وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ»(١).

والمودة التي يباركها القرآن المجيد يجب أن تكون على طهارة واخلاص ، والا كانت نفاقا ومراءاة ، ولذلك يقول القرآن في سورة القلم :

«فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ، وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ»(٢).

فهم من نفاقهم تمنوا لو تلين فيلينون لك ، أو ودوا لو ركنت اليهم وتركت الحق فيمالئونك ، أو ودوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم.

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٨٢ و ٨٣.

(٢) سورة القلم ، الآية ٨ و ٩.

١٣٨

ومن هنا تنشأ المودة الحقيقية الصادقة من القلب ومن أعماق الانسان ، ولقد تتباعد الاشباح ويتواد مع ذلك الارواح ، والرسول عليه الصلاة والسلام يشير الى ذلك حين يقول : «الارواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف». وشوقي يقول :

فان القرب بالروح

وليس القرب بالجسم

ولقد كتب أبو الدرداء الى سلمان رضي الله عنهما ، يقول : «القرابة تقطع (يقطعها بعض أهلها ، والمعروف ينكر) (ينكره بعض الناس) ولم ير كتقارب القلوب».

وأبو تمام الطائي يؤكد أن المودة من شأن القلوب لا الاجساد فيقول :

ذو الود مني وذو القربى بمنزلة

واخوتي أسوة عندي واخواني

عصابة جاورت آدابهم أدبي

فهم ، وان فرّقوا في الارض ، جيراني

أرواحنا في مكان واحد وغدت

أبداننا بشآم أو خراسان

والكميت بن معروف يقول :

ما أنا بالنكس الدنيء ولا الذي

اذا صدّ عنه ذو المودة يقرب

ولكنه ان دام دمت ، وان يكن

له مذهب عني فلي عنه مذهب

ألا ان خير الود ودّ تطوعت

به النفس ، لا ود أتى وهو متعب

وعبد الله بن عبد الله بن عتبة يقول :

١٣٩

أبن لي ، فكن مثلي ، أو ابتغ صاحبا

كمثلك ، اني مبتغ صاحبا مثلي

غزيز اخائي ، لا ينال مودتي

من القوم الا مسلم كامل العقل

وما يلبث الاخوان أن يتفرقوا

اذا لم يؤلف روح شكل الى شكل

وكتب صديق الى صديقه يقول له : «اني صادقت منك جوهر نفسي ، فأنا غير محمود على الانقياد لك بغير زمام ، لأن النفس يتبع بعضها بعضا».

ومن هنا قال أحد الاعراب : «لا يظهر الود السليم ، الا من القلب السليم». ولذلك كان من شأن المودة الصادقة أن تبقى وتدوم ، كما يقول القائل لصفيه :

فسر وأقم ، وقف عليك مودتي

مكانك من قلبي عليك مصون

وتحتاج هذه المودة ـ كي تبقى وتدوم ـ الى المعاتبة ، لأن العتاب انما يكون بين الاحبة ، وشوقي الحكيم يقول :

أما العتاب فبالاحبة أخلق

والحب يحلو بالعتاب ويصدق

ويقول آخر :

أعاتب ذا المودة من صديق

اذا ما رابني منه اجتناب

اذا ذهب العتاب فليس ود

ويبقى الود ما بقي العتاب

* * *

واذا كان الاخيار يودون لغيرهم الخير ، ويتمنون الكريم من

١٤٠