موسوعة أخلاق القرآن - ج ٤

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٤

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٣٥

خيرا جعل له واعظا من قلبه». ولا يصلح القلب أن يعظ فيصدق في وعظه الا اذا كانت فيه فضيلة السلامة والصفاء. وبعد عن هواتف الشيطان ووساوسه ، ولذلك يقول الحديث : «لو لا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا الى ملكوت السماء».

ورضي الله تبارك وتعالى عن الامام علي حين قال : «ان لله تعالى في أرضه آنية هي القلوب ، فأحبها اليه تعالى أرقها وأصفاها وأصلبها : أصلبها في الدين ، وأصفاها في اليقين ، وأرقها على الاخوان».

اللهم ارزقنا سلامة القلب ، وصفاء الصدر ، وقوة اليقين.

١٠١

المعرفة

المعرفة في الاصل هي ادراك الشيء بتفكر وتدبر لأثره ، وقد تشتبه المعرفة بالعلم ، مع أن معنى المعرفة أخص من العلم ، فمعرفة البشر لله تعالى هي بتدبر آثاره ، دون ادراك ذاته ، والعلم هو ما يدرك بواسطة كسب أو بلا واسطة ، والمعرفة هي ما يدرك بواسطة من الكسب فقط. كما أن المعرفة تفترق عن العلم استعمالا في أن العلم يقال لادراك المركب ، والمعرفة تقال لادراك البسيط.

ومن المعرفة جاء وصف «العارف» وهو المختص بمعرفة الله ومعرفة ملكوته وحسن معاملته ، وبهذا تكون المعرفة أعظم درجة من العلم ، ومن هذا الباب تصبح المعرفة خلقا من اخلاق القرآن الكريم ، وفضيلة من فضائل الاسلام العظيم ، وجانبا من هدى الرسول عليه الصلاة والتسليم.

ويعبر بعض أطباء القلوب والارواح عن معنى هذه المعرفة ، فيقول : «المعرفة حياة القلب مع الله». ويقال : العارف من أنس بالله فأوحشه من الخلق ، وافتقر الى الله فأغناه عنهم ، وذل لله فأعزه فيهم ، وتواضع لله فرفعه بينهم ، واستغنى بالله فأحوجهم اليه.

والعارف ابن وقته ، بمعنى انه يشغل نفسه على بصيرة بواجب وقته الحاضر ، فلا يشغلها بما مضى وصار في العدم ، ولا يشغلها بما لم يدخل

١٠٢

في الوجود ، بل همه أن يعمر وقته بواجبه ، حتى لا يضيع عليه واجب.

ولعل كتاب الله المجيد قد أشار الى شيء من مفهوم المعرفة الاخلاقي ، حينما قال في سورة المائدة :

«وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ ، وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ، فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ»(١).

أي اذا سمع هؤلاء ما أنزله الله عز شأنه من القرآن على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ترى ـ أيها الناظر ـ دموعهم تسيل بغزارة من عيونهم. وذلك من أجل ما عرفوه من الحق الذي بينه لهم القرآن ، ولم يمنعهم عن ذلك مانع من استكبار أو عناد أو عتو. وهذه حالهم وقد سمعوا بعضا من القرآن ، فكيف لو سمعوه كله؟. ان المعرفة ستكون أشمل وأكمل.

ويعلق القرطبي على هذا النص الكريم ، فيذكر من أحوال العلماء العارفين بالله أنهم يبكون ولا يصعقون ، ويسألون ولا يصيحون ، ويتحازنون ولا يتموتون ، كما قال الله تعالى :

«اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ

__________________

(١) سورة المائدة ، الآيات ٨٣ ـ ٨٥.

١٠٣

مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ»(١).

ولقد استظل مفسر بصير بظلال هذه الآيات الكريمة السابقة ، واستنبط منها جانبا من أحوال هؤلاء العارفين الذين يزدانون بفضيلة المعرفة ، فذكر لهم ان كلمات الله تصل الى قلوبهم بمجرد سماعها ، «فاذا عيونهم تفيض من الدمع تأثرا ورقة وانعطافا ، واذا ادراكهم لمدلول تلك الكلمات يتحول الى «معرفة» لما فيها من الحق ، والمعرفة لفظة دالة على الادراك الكامل ، والتأثر بهذا الادراك ، وامتزاج الذات كلها به ، وامتزاجه بالذات ، فهي أعمق وأشمل من كلمة «العلم» لأن العلم حالة سلبية تهنى عن وصول المعلومات الى العقل. أما المعرفة فحالة ايجابية تعني تأثر العارف بما عرف ، وتسود حالة جديدة في وعيه مما عرف.

هذه المعرفة جعلت القوم هنا تفيض أعينهم من الدمع ، ذلك أن التأثر الذي غمرهم في الوهلة الاولى فاستغرقهم كان من القوة والعمق والاستغراق حتى ما يحده لفظ ، وما يعبر عنه لسان ، وحين يطغى التأثر بوجدان غامر لا يكون المجال للقول ، انما يكون المجال للدمع ، يطلق الشحنة الطاغية ، ويريح الحس والاعصاب.

حتى اذا فاض الدمع ، وخف الضغط ، وهدأت الاعصاب ، انطلق اللسان «يقولون : ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين».

ربنا آمنا ... صدقت قلوبنا واطمأنت واستقرت ، فاكتبنا مع الشاهدين : الشاهدين بأن هذا الدين حق ، وأنه من عند الله ، الآخذين أنفسهم بهذه الشهادة قبل أن يأخذوا بها سواهم ، فهم يؤمنون ويعملون بمقتضى

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية ٢٣.

١٠٤

هذا الايمان ، ثم هم يدلون بشهادتهم للآخرين ، ويدعونهم الى ما آمنوا به ، ويشهدون على ما يكون منهم من استقامة أو انحراف.

وهم في ايمانهم بما عرفوا من الحق أقوياء ، يستنكرون أن ينكر عليهم أحد هذا الايمان : «وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ، ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين»؟.

ان كل ما حولنا ليوحي الينا بالايمان ، فلماذا اذن لا نؤمن؟ لماذا لا نؤمن بالله ، وما جاءنا من الحق من عند الله؟ لماذا لا نرجو ثواب الله ، ونطمع أن يجعلنا من رفقة الكتيبة الصالحة من عباده ، وباب الرجاء مفتوح ، والطامع في فضل الله بالايمان والصلاح لا يخيب؟

فاذا ما قالوا قولتهم المطمئنة الواثقة ، حقق الله لهم الرجاء ، وكتب لهم الفلاح : «فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ».

وكمال المعرفة بالله يقتضي الوجل منه والخشوع لجلاله ، ولذلك نجد القرطبي في جامعه يتعرض لقوله تعالى : «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» وقوله : «وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» ، فيذكر ان هذا الوجل يرجع الى كمال المعرفة وثقة القلب ، فنفوسهم تسكن من ناحية اليقين الى الله ، وان كانوا يخافون الله ، فهذه حالة العارفين بالله ، والخائفين من سطوته وعقوبته ، لا كما يفعله العوام المبتدعون الاراذل ، من الزعيق والزئير والنهاق الذي يشبه نهاق الحمير ، فينبغي أن يقال لمن يفعل ذلك : انك لم تبلغ أن تساوي حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا حال أصحابه في المعرفة بالله ، والخوف منه ، والتعظيم لجلاله ، ومع ذلك كانت حالهم عند المواعظ فهما عن الله ، وبكاء من خوف الله ، ولذلك وصف الحق أحوال أهل المعرفة عند ذكر الله وتلاوة كتابه ، فقال : «وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا

١٠٥

عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» فهذا وصف حالهم ، وحكاية مقالهم ، ومن لم يكن كذلك فليس على هديهم ولا على طريقتهم.

وقد روى مسلم أن الناس سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى أحفوه في المسألة (أكثروا عليه) فخرج ذات يوم فصعد المنبر وقال : «سلوني ، لا تسألوني عن شيء الا بينته لكم ما دمت في مقامي هذا». فلما سمع القوم ذلك سكتوا ورهبوا وخافوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر.

قال أنس راوي الحديث : فجعلت ألتفت يمينا وشمالا فاذا كل انسان لافّ رأسه في ثوبه يبكي!. وروى الترمذي عن العرباض بن سارية :

وعظنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب.

* * *

وقد ذكروا لصدق المعرفة علامات منها :

١ ـ حصول الهيبة من الله ، لأن من ازدادت معرفته ازدادت هيبته.

٢ ـ الأنس بالله ، وأن يحس الانسان بقرب قلبه من الله ، فيجده قريبا منه.

٣ ـ من كان بالله أعرف كان له أخوف وأخشى :

«إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ»(١).

وكأن المعرفة هي درجة الاحسان التي يصفها الرسول بقوله :

__________________

(١) سورة فاطر ، الآية ٢٨.

١٠٦

الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فان لم تكن تراه فانه يراك». ولذلك يقول القائل :

اذا سكن الغدير على صفاء

وجنّب أن يحركه النسيم

بدت فيه السماء بلا امتراء

كذاك الشمس تبدو والنجوم

كذاك قلوب أرباب التجلي

يرى في صفوها الله العظيم

هكذا استشهد ابن القيم في «مدارج السالكين».

وصلوات الله وسلامه على رسوله القائل : «أنا أعرفكم بالله ، وأشدكم له خشية».

والمعرفة بالله ليست معرفة لذاته ، وانما هي معرفة لمظاهر ربوبيته ودلائل وحدانيته ، ولذلك نسبوا الى أبي بكر رضوان الله عليه أنه قال : «سبحان من لم يجعل للخلق طريقا الى معرفته ، الا بالعجز عن معرفته».

وهناك عند الاشرار نوع من المعرفة المعاندة يشير اليها القرآن المجيد في سورة الانعام حيث يقول :

«الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ»(١).

فهذه معرفة مكابرة لا تثمر ثمرة المعرفة الصحيحة السليمة ، وهذا النوع من المعرفة يجعل أصحابها يعرفون الحقيقة كما يعرفون أبناءهم ، ومع ذلك ينكرون ما يعرفون ، لأن اظهارهم لهذه الحقيقة سيفقدهم جاههم وسلطانهم في الحياة.

ويقول القرآن في سورة البقرة :

__________________

(١) سورة الانعام ، الآية ٢٠.

١٠٧

«الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ»(١).

فالذين أوتوا الكتاب يعرفون صدق ما جاء به رسول الله من عند ربه ، كما يعرفون أبناءهم الذين يتولون تربيتهم ، ولكنهم يكتمون هذا الحق سفها وعنادا ومكابرة.

* * *

والصوفية يهتمون على طريقتهم التي عرفت عنهم بالمعرفة وتصوير الحديث عن أهلها بما يدل على أنهم يجعلون لها مكانة مرموقة عند أهل القلوب والارواح. فيقول الفضيل : «أحق الناس بالرضا عن الله أهل المعرفة بالله عزوجل». وسئل أبو سعيد الخراز عن المعرفة ، فقال : المعرفة تأتي من وجهين : من عين الجود ، وبذل المجهود. وكأنه يقصد أن بعض المعرفة هبة من الله سبحانه ، وبعضها يتحقق بمجهود يبذله المرء. ويقول الشبلي : من علامة المعرفة أن يرى نفسه في قبضة العزة ، ويجري عليه تصاريف القدرة ، ومن علامة المعرفة المحبة ، لأن من عرفه أحبه.

وأساس المعرفة هو الاستقامة ، ولذلك قيل لبعض الصوفية : ما حاجة العارفين؟. فقال : حاجتهم الى الخصلة التي كملت بها المحاسن كلها ، وبفقدها قبحت المقابح كلها ، وهي الاستقامة.

والقرآن الكريم يقول :

«فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»(٢).

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٤٦.

(٢) سورة هود ، الآية ١١٢.

١٠٨

وعلامة العارف كما يقول ذو النون ثلاثة : لا يطفىء نور معرفته نور ورعه ، ولا يعتقد باطنا من العلم ينقض عليه ظاهرا من الحكم ، ولا تحمله كثرة نعم الله تعالى عليه وكرامته على هتك أستار محارم الله تعالى :

وهناك لونان من المعرفة ، معرفة ايجابية ، ومعرفة عجز ، أو قل ـ كما يرى أحمد بن عطاء ـ معرفة حق ، ومعرفة حقيقة ، فمعرفة الحق هي معرفة وحدانية الله ، على ما أبرز لخلقه من أسمائه وصفاته ، ومعرفة الحقيقة هي ادراك انه لا سبيل الى ادراك هذه الحقيقة ، لقول الله تعالى :

«وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً»(١).

فلا سبيل الى المعرفة هنا على الحقيقة ، لأن الله عزوجل أبرز لخلقه من أسمائه وصفاته ما علم انهم يطيقونه ، ولكن حقيقة معرفته لا يطيقها الخلق.

ويرى بعضهم أن أعمال الابرار بالعلم ، وأن أعمال المقربين بالمعرفة ، وأن المعرفة فوق العلم ، ويعلق ابن القيم على ذلك بقوله : «وهذا كلام يصح من وجه ، ويبطل من وجه ، فالابرار والمقربون عاملون بالعلم واقفون مع أحكامه ، وان كانت معرفة المقربين أكمل من معرفة الابرار ، فكلاهما أهل علم ومعرفة ، فلا يسلب الابرار المعرفة ، ولا يستغني المقربون عن العلم.

وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمعاذ بن جبل. انك تأتي قوما أهل كتاب ، فليكن أول ما تدعوهم اليه شهادة ان لا اله الا الله ، فاذا هم عرفوا الله ، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة» فجعلهم عارفين بالله قبل اتيانهم بفرض الصلاة والزكاة ، بل

__________________

(١) سورة طه ، الآية ١١٠.

١٠٩

جعلهم في أول أوقات دخولهم في الاسلام عارفين بالله ، ولا ريب أن هذه المعرفة ليست كمعرفة المهاجرين والانصار ، فالناس متفاوتون في درجات المعرفة تفاوتا بعيدا».

ولكن ، من الذي يستحق وصف العارف. ان أطباء القلوب والارواح يرون ـ كما يورد ابن القيم ـ أن المعرفة هي العلم الذي يقوم العالم بمقتضاه وموجبه ، فلا يطلقون المعرفة على مدلول العلم وحده ، ولا يصفون بالمعرفة الا من كان عالما بالله ، وبالطريق الموصل الى الله ، وله حال مع الله تشهد له بالمعرفة.

فالعارف من عرف الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله ، ثم صدق الله في معاملته ، ثم أخلص له في قصده ونيته ، ثم انسلخ من أخلاقه الرديئة ، ثم تطهر من أدرانه ومخالفاته ، ثم صبر على أحكام الله في سرائه وضرائه ، ثم دعا اليه على بصيرة بدينه وآياته ، ثم جرد الدعوة اليه وحده بما جاء به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يشبها بآراء الرجال وأذواقهم ومقاييسهم ...

ومن دقائق التعبيرات الدائرة حول فضيلة «المعرفة» قول يحيى بن معاذ : «العارف كائن بائن». ولدقة هذه العبارة تعددت الاقوال في تفسيرها ومعناها : قيل ان معناها أنه كائن مع الخلق بحسه وظاهره ، بائن عنهم بسره وقلبه. وقيل : كائن بربه ، بائن عن نفسه. وقيل : كائن مع أبناء الآخرة ، بائن عن أبناء الدنيا. وقيل : كائن مع الله بموافقته ، بائن عن الناس في مخالفته ...

ويستحسن ابن القيم وجها آخر في التفسير ، هو حسب تعبيره : أنه داخل في الاشياء خارج منها ، فان من الناس من هو داخل فيها ، لا يقدر على الخروج منها ، ومنهم من هو خارج عنها ، لا يقدر على الدخول فيها ، والعارف داخل فيها خارج منها.

١١٠

وما أكثر الكلمات الدقيقة العميقة التي أدارها القوم حول هذه الفضيلة الجليلة «المعرفة» ، وتحتاج الى حسن التلبث في تدبر معناها ومغزاها :

يقول ذو النون : ان العارف لا يلزم حالة واحدة ، انما يلزم ربه في الحالات كلها.

وقال أبو تراب النخشبي : العارف هو الذي لا يكدره شيء ، ويصفو به كل شيء.

وقال يحيى بن معاذ : «الزاهد صافي الظاهر مختلط الباطن ، والعارف صافي الباطن ، مختلط الظاهر.

وقال سهل بن عبد الله : الفتن ثلاث : فتنة العامة من اضاعة العلم ، وفتنة الخاصة من الرخص والتأويلات ، وفتنة أهل المعرفة من أن يلزمهم حق في وقت ، فيؤخروه الى وقت ثان.

ألا ان العارف بالله يمضي على بينة من ربه ومولاه ، لا يعبد أحدا سواه ، ولا تعرض له ريبة ولا ظنة ، بل يمضي على بصيرة من أمره مستشعرا قول ربه :

«قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ، قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ، ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ، يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ

١١١

خَيْرُ الْفاصِلِينَ»(١).

ويذكر أبو عبد الله محمد بن أحمد الانصاري القرطبي أن مصعب ابن عبد الله بن الزبير ، قال في معنى هاتين الآيتين :

أأقعد بعد ما رجعت عظامي

وكان الموت أقرب ما يليني؟

أجادل كلّ معترض خصيم

وأجعل دينه غرضا لديني

فاترك ما علمت لرأي غيري؟

وليس الرأي كالعلم اليقين

وما أنا والخصومة ، وهي شيء

يصرّف في الشمال وفي اليمين

وقد سنّت لنا سنن قوام

يلحن بكل فج أو وجين

وكان الحق ليس به خفاء

أغرّ كغرة الفلق المبين

وما عوض لنا منهاج جهم

بمنهاج ابن آمنة الأمين

فأما ما علمت فقد كفاني

وأما ما جهلت فجنّبوني!!

والوجين : هو شط الوادي. وجهم هو جهم بن صفوان السمرقندي صاحب فرقة ضالة. وابن آمنة هو سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام.

اللهم هبنا المعرفة بك ، والمعرفة منك ، والمعرفة لك. فانك أنت الرؤوف الرحيم.

__________________

(١) سورة الانعام ، الآية ٥٦ ، ٥٧.

١١٢

الحياة

قد يبدو غريبا لدى القارىء أن تكون «الحياة» حلقة في سلسلة «أخلاق القرآن» ، ولكن هذه الغرابة تزول حين يعرف أن المقصود بالحياة ليس مجرد الحياة الحسية التي هي ضد الموت ، اذ قد يراد بالحياة معنى مجازي على التشبيه لاصلاح النفوس بالحياة ، والعرب تقول عن الرجل صاحب الهمة ورقة الخلق انه حي القلب ، وهذا المعنى هو المراد في هذا المجال.

وقد ذكر العلماء أن «الحياة» تستعمل على أوجه ، فقد يراد منها القوة النامية الموجودة في النبات والحيوان ، ومن ذلك قيل : نبات حي.

وقد يراد منها القوة الحساسة ، ومن هنا سمي الحيوان حيوانا ، وعلى هذا جاء قوله تعالى :

«وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ»(١).

وقد يراد منها القوة العالمة العاقلة ، ومن هذا قوله :

«أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ»(٢).

__________________

(١) سورة فاطر ، الآية ٢٢.

(٢) سورة الانعام ، الآية ١٢٢.

١١٣

ومن هذا أيضا قول الشاعر :

لقد أسمعت لو ناديت حيا

ولكن لا حياة لمن تنادي

وقد يراد منها ارتفاع الغم ، كقول الشاعر :

ليس من مات فاستراح بميت

انما الميت ميت الاحياء

وقد يراد منها الحياة الأخروية الابدية ، وذلك يتوصل اليه بالحياة التي هي العقل والعلم ، ومن هذا قوله تعالى :

«يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي»(١).

أي الحياة الأخروية الدائمة.

وقد تحدث ابن القيم عن مراتب الحياة حديثا واسعا ، فبدأ بحياة الارض بالنبات ، تليها حياة النمو والاغتذاء المشتركة بين الحيوان والنبات ، ثم حياة الاحساس والحركة ، ثم حياة الحي الذي لا يغتذي بطعام أو شراب ، كحياة الملائكة ، ثم حياة العلم من موت الجهل ، كما أشار القائل :

وفي الجهل ـ قبل الموت ـ موت لأهله

وأجسامهم قبل القبور قبور

وأرواحهم في وحشة من جسومهم

فليس لهم حتى النشور نشور

ثم حياة الارادة والهمة ، ثم قال الامام :

«المرتبة السابعة من مراتب الحياة حياة الاخلاق ، والصفات المحمودة التي هي حياة راسخة للموصوف بها ، فهو لا يتكلف الترقي في درجات الكمال ، ولا يشق عليه ، لاقتضاء أخلاقه وصفاته لذلك ، بحيث

__________________

(١) سورة الفجر ، الآية ٢٤.

١١٤

لو فارقه ذلك لفارق ما هو من طبيعته وسجيته. فحياة من قد طبع على الحياء والعفة والجود والسخاء ، والمروءة والصدق والوفاء ونحوها ، أتم من حياة من يقهر نفسه ، ويغالب طبعه ، حتى يكون كذلك. فان هذا بمنزلة من تعارضه أسباب الداء وهو يعالجها ويقهرها بأضدادها ، وذلك بمنزلة من قد عوفي من ذلك.

وكلما كانت هذه الاخلاق في صاحبها أكمل كانت حياته أقوى وأتم. ولهذا كان خلق (الحياء) مشتقا من (الحياة) اسما وحقيقة ، فأكمل الناس حياة أكملهم حياء ، ونقصان حياء المرء من نقصان حياته ، فان الروح اذا ماتت لم تحس بما يؤلمها من القبائح فلا تستحيي منها ، فاذا كانت صحيحة الحياة أحست بذلك فاستحيت منه.

وكذلك سائر الاخلاق الفاضلة والصفات الممدوحة تابعة لقوة الحياة ، وضدها من نقصان الحياة. ولهذا كانت حياة الشجاع أكمل من حياة الجبان ، وحياة السخي أكمل من حياة البخيل ، وحياة الفطن الذكي أكمل من حياة الفدم البليد.

ولهذا لما كان الانبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ أكمل الناس حياة ، حتى ان قوة حياتهم تمنع الارض أن تبلي أجسامهم ، كانوا أكمل الناس في هذه الاخلاق ، ثم الامثل فالامثل من أتباعهم».

واذا كانت كلمة «الحياة» قد شغلت صفحات وصفحات من معجمات العربية الكبيرة كلسان العرب ، مما يدل على قوة احساسهم بشؤون الحياة وعنايتهم بما يتعلق بها ، فان مادة «الحياة» قد تكررت عشرات المرات في كتاب العربية الاقدس وهو القرآن المجيد ، والكثير من مواطن استعمالها يفيد معاني أخلاقية ، ومن ذلك قول الحق جل جلاله في سورة الأنعام :

١١٥

«أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ ، وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ، كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ»(١).

وقد علق الرازي على الآية الكريمة بأن الارواح البشرية لها أربع مراتب في المعرفة ، فالاولى كونها مستعدة لقبول المعارف ، والارواح تختلف في درجات هذا الاستعداد ، فبعض الارواح لديها استعداد كامل قوي شريف ، وبعضها يكون استعدادها ضعيفا قليلا. والمرتبة الثانية أن يحصل لها العلوم الكلية الاولية ، وهي المسماة بالعقل. والمرتبة الثالثة أن يحاول الانسان تركيب البديهيات ليتوصل بتركيبها الى معرفة المجهولات الكسبية ، فاذا شاء استرجاعها واستحضارها قدر عليه اذا كانت غير حاضرة بالفعل ، والمرتبة الرابعة أن تكون تلك المعارف القدسية والجلايا الروحانية حاضرة بالفعل يستضيء بها جوهر ذلك الروح.

فالمراد بقوله تعالى : «فَأَحْيَيْناهُ» هو أن تحصل العلوم البديهية الكلية فيه. والمراد بقوله تعالى : «وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً» هو تركيب البديهيات حتى يتوصل بتركيباتها الى تعرف المجهولات النظرية ، والمراد بقوله تعالى : «يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ» هو الاشارة الى كونه مستحضرا الجلايا القدسية ناظرا اليها.

ويمكن أن يقال : الحياة عبارة عن الاستعداد القائم بجوهر الروح ، والنور عبارة عن ايصال نور الوحي والتنزيل ، فانه لا بد في الابصار من سلامة الحاسة وطلوع الشمس ، والبصيرة لا بد فيها من أمرين : سلامة حاسة العقل ، وطلوع نور الوحي والتنزيل ، ولهذا قيل ان النور في الآية

__________________

(١) سورة الانعام ، الآية ١٢٢.

١١٦

يراد به القرآن ، أو نور الدين ، أو نور الحكمة ، والاقوال متقاربة.

ونفهم مع ابن القيم أن المراد بالميت في الآية السابقة هو من كان ميت القلب ، لانعدام روح العلم والهدى والايمان ، فيقبل فضل الله تبارك وتعالى فيجيبه بروح أخرى غير الروح التي أحيا بها بدنه ، وهي روح معرفته وتوحيده ، ومحبته وعبادته وحده دون شريك ، فلا حياة لروح الانسان الحق ، الا بذلك ، والا فهي في عداد الأموات.

ولهذا وصف الله تعالى من عدم حياة الروح بقوله : «أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً» كما قال :

«إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ»(١).

وسمى الله وحيه روحا لما يحصل به من حياة القلوب والارواح فقال عز شأنه :

«وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا».

ولعله من هنا قد نصح لقمان ابنه فقال له : «يا بني ، جالس العلماء ، وزاحمهم بركبتيك ، فان الله يحيي القلوب بنور الحكمة ، كما يحيي الارض بوابل القطر». وقال معاذ بن جبل : «العلم حياة القلوب من الجهل».

* * *

__________________

(١) سورة النمل ، الآية ٨٠.

١١٧

ويقول الحق تبارك وتعالى في سورة النحل :

«مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ»(١).

ومن الواضح أن المراد بالحياة هنا ليس حياة الجسم والبدن ، وانما هي حياة للقلب والروح والهمة تتوثق علائقها بالمعاني الاخلاقية والروحية. ولقد ذكر القرطبي في تفسيره أن أقوال السلف تعددت في المراد بالحياة الطيبة هنا ، فالمراد القناعة ، أو التوفيق الى الطاعات ، أو حلاوة الطاعة ، أو أن يردّ العبد التدبير الى الله وحده ، أو الاستغناء عن الخلق والافتقار الى الحق ، أو الرضى بالقضاء. وأنت ترى معي أن أغلب هذه الاقوال ـ ان لم تكن جميعها ـ غير مقطوعة الصلة بمكارم الاخلاق.

واذا كان هناك من العلماء من يرى أن «الحياة الطيبة» يراد بها حياة الرزق الحسن ، فان الصواب كما يشرح ابن القيم انها حياة القلب ونعيمه وسروره بالايمان ، ولا حياة أطيب من ذلك الا نعيم الجنة ، ولذلك يقول بعض العارفين : انه لتمر بي أوقات أقول فيها : ان كان أهل الجنة في مثل هذا اني لفي عيش طيب. وقال غيره : انه ليمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربا.

وهذه الحياة الطيبة تنال بالهمة العالية ، والمحبة الصادقة ، والارادة الخالصة ، فعلى قدر ذلك تكون الحياة الطيبة ، وأخس الناس حياة أخسهم همة ، وأضعفهم محبة وطلبا ، وحياة البهائم خير من حياة هذا.

ويقول القرآن الكريم في سورة الانفال :

__________________

(١) سورة النحل ، الآية ٩٧.

١١٨

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ»(١).

أي أجيبوا الله تعالى ، وأطيعوه باتباع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله اذا دعاكم لكل حق وصواب يكون فيه لكم الحياة الطيبة الدائمة ، ويدخل في ذلك القرآن والايمان والجهاد وكل أعمال البر. والواجب على المسلم أن يجيب الدعوة بعناية وهمة ، وعزيمة وقوة ، وانما يكون ذلك بحياة الانسان في قلبه وايمانه ، حتى تكمل الفطرة الانسانية في الدنيا ، وتستعد للحياة الابدية في الآخرة.

ونستنبىء «في ظلال القرآن» حول هذه الآية الكريمة فاذا هو يقول ان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو الناس الى الحياة بكل معنى من معاني الحياة ... «يدعوهم الى عقيدة تحيي القلوب والعقول ، وتطلقها من أوهاق الجهل والخرافة ، ومن ضغط الاوهام والاساطير ، ومن رق التقليد وجمود التقاليد.

ويدعوهم الى شريعة تحيي الافراد والجماعات ، وتهيىء للجميع حياة كريمة متكافلة عادلة ، يأمن فيها كل انسان على دمه وعرضه وماله ، ويطمئن فيها الى عدالة التشريع والقضاء ، وكفالة المجتمع والدولة ، وسعادة الدنيا والآخرة. ويدعوهم الى القوة والعزة ، والثقة بدينهم وبربهم ، ومكافحة الظلم والبغي والفساد ، على ثقة بالنصر من عند الله الذي يتولى الصالحين.

ويدعوهم الى الجهاد لاعلاء كلمة الله ، وقد يصيبهم الموت في هذا

__________________

(١) سورة الانفال ، الآية ٢٤.

١١٩

الجهاد ، ولكن في الاستشهاد حياة : حياة عند الله للشهداء ، وحياة لأمتهم في الارض واستعلاء ، وهكذا دعاهم الى الموقعة التي أحيتهم وأعزتهم ، وأحيت الاسلام وركزت رايته على الاجيال.

ان الاسلام دين حياة لا عقيدة انعزال ، دين ايجابي تنمو الحياة في ظله وترتقي ، لأنه يسبق خطى البشرية دائما ، ويقودها في مدارج التعمير والانشاء ، والتطور والارتقاء. انه نظام كامل لحياة كاملة ، وليس مجرد عقيدة روحية للتهذيب والارشاد. انه يأخذ من الحياة ويعطي ، ويدفع بالحياة الى الامام محكومة بنظامه الذي لم تعرف له البشرية نظيرا منذ كان الانسان».

* * *

ويقول الحق جل جلاله في سورة البقرة :

«وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ ، بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ»(١).

ما هذه الحياة التي يحياها المقتول في سبيل الله؟. قيل انها حياة يجعل الله بها الروح في جسم آخر يتمتع به ويرزقه ، كما يشير الى ذلك الحديث القائل : «ان أرواح الشهداء في صور طيور خضر معلقة في قناديل الجنة حتى يرجعها الله يوم القيامة». وقيل : انها حياة الذكر الحسن والثناء بعد الموت ، وقيل ان المراد بالموت والحياة هنا الضلال والهدى ، وقيل انها حياة روحانية محضة.

ويرى الامام محمد عبده ان هذه الحياة حياة غيبية تمتاز بها أرواح الشهداء على سائر أرواح الناس ، بها يرزقون وينعّمون ، ولكننا لا نعرف

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٥٤.

١٢٠