موسوعة أخلاق القرآن - ج ٤

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٤

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٣٥

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

أحمد الله تبارك وتعالى ، وأصلي وأسلم على جميع أنبيائه ورسله ، وعلى خاتمهم سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وأتباعه وأحبائه ، ومن دعا بدعوته باحسان الى يوم الدين.

وأستفتح بالذي هو خير :

«رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا ، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ».

٥
٦

قبس من كتاب الله

«وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ : رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ، رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

«سورة البقرة»

٧
٨

تصدير

هذا هو الجزء الرابع من كتابي «أخلاق القرآن».

وخير ما افتتحه بعد هذا الفضل العميم من رحمة الله ونعمته ، أن أرتل قول الحق تبارك وتعالى في سورة يونس :

«يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ، وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ ، وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ، قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ».

ولا يسأم الانسان الدعاء لله تبارك وتعالى أن يديم منته ، وأن يواصل نعمته ، فنحن الفقراء الى الله ، والله هو الغني.

والمأمول في سعة فضله أن يتم آلاءه بتمام هذا الكتاب المستمد من هدي القرآن المجيد ، وأنوار التنزيل الحكيم.

٩

«وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ، وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ».

وعلى الله قصد السبيل.

أبو حازم

أحمد الشرباصي

١٠

العزيمة

تدل مادة «العزيمة» في اللغة على القوة والسرعة والاقدام ، فالعزيم هو الجري الشديد ، واعتزم الجواد في الجري ، أي مرّ فيه جامحا ، والعزم هو الجد ، والعزم في لغة هذيل هو الصبر ، ومنه قوله تعالى :

«فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ»(١).

وفي حديث أم سلمة : «فعزم الله لي» أي خلق لي قوة وصبرا.

والعزم ـ أو العزيمة ـ عقد القلب على الشيء تريد أن تفعله ، وهو توطين النفس على هذا الفعل لاعتقاد أن الواجب يقضي بأن تفعله ، ولذلك يقال في لغة القرآن : هذا من «عَزْمِ الْأُمُورِ» أي من محكمات الامور التي ظهر رشدها وصوابها ، ووجب على العاقل أن يعزم عليها ويقوم بها ، وهذا معنى يدل على الثبات واستقرار النية والتصميم على القيام بالشيء ، وضد العزيمة هو التردد والاضطراب في الرأي ، ولذلك يقال : ما لفلان عزيمة.

أي ليس له ما يعقد عليه قلبه ، ولا يثبت على شيء لتردده وتلونه ، كأنه لا يمكنه أن يصرم أمره ، بل يختلط فيه ويتردد.

__________________

(١) سورة الاحقاف ، الآية ٣٥.

١١

والعزيمة خلق قرآني ، وفضيلة اسلامية ، أشار اليها التنزيل المجيد أكثر من مرة ، ومن ذلك قول الله تبارك وتعالى مخاطبا نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سورة آل عمران :

«وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ»(١).

هنا يأمر الله تبارك وتعالى نبيه أن يشاور قومه فيما يعرض من أمور تستحق المشاورة ، لأن الشورى فيها تقليب لأوجه الرأي ، لاختيار اتجاه محدد ، فاذا أدت الشورى عملها ، جاء عقبها العزم والمضاء في التنفيذ ، مع التوكل على الله ، دون تردد أو تأرجح ، فالخطة واضحة : رأي ومشاورة ، ثم حسم وعزم ، ثم توكل على الله : «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ».

ولقد تعرض «تفسير المنار» لتفسير الآية فذكر أن العزيمة تأتي بعد الدراسة والمشاورة ، واستعراض وجوه الرأي من أهل المشورة ، واعداد العدة ، حتى تقبل معونة الله ، ويتهيأ النصر ، فنراه يقول : «فاذا عزمت بعد المشاورة في الامر على امضاء ما ترجحه الشورى ، وأعددت له عدته ، فتوكل على الله في امضائه ، وكن واثقا بمعونته وتأييده لك فيه ، ولا تتكل على حولك وقوتك ، بل اعلم ان من وراء ما أتيته وما أوتيته قوة أعلى وأكمل ، يجب أن يكون بها الثقة ، وعليها المعول ، واليها اللجأ اذا تقطعت الاسباب ، وأغلقت الابواب.

وقال الاستاذ الامام ما معناه : ان العزم على الفعل ، وان كان يكون بعد الفكر واحكام الرأي والمشاورة وأخذ الاهبة ، فذلك كله لا يكفي للنجاح الا بمعونة الله وتوفيقه ، لأن الموانع الخارجية له ، والعوائق دونه ،

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٥٩.

١٢

لا يحيط بها الا الله تعالى ، فلا بد للمؤمن من الاتكال عليه ، والاعتماد على حوله وقوته.

ان الله يحب المتوكلين على حوله وقوته ، مع العمل في الاسباب بسنته ، أقول : ومن أحبه الله عصمه من الغرور باستعداده ، والركون الى عدته وعتاده ، والبطر الذي يصرفه عن النظر فيما يعرض له بعد ذلك ، حتى لا يقدره قدره ، ولا يحكم فيه أمره. فبدلا من أن يكون نظره في الامور بعين العجب والغرور. واستماعه لأنبائها بأذن الغفلة والازدراء ، ومباشرته لها بيد التهاون ، يلقي السمع وهو شهيد ، وينظر بعين البصيرة فبصره حينئذ حديد ، ويبطش بيد الحزم فبطشه قوي شديد ، ذلك بأنه يسمع ويبصر ، ويعمل للحق ، لا للباطل الذي يزيّنه الهوى ، ويدلي به الغرور ، فيكون مصداقا للحديث القدسي : «فاذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها».

ثم ذكر التفسير أن الآية صريحة في وجوب امضاء العزيمة المستكملة لشروطها ـ وأهمها في الامور العامة : حربية كانت أو سياسية أو ادارية : المشاورة ـ وذلك أن نقض العزيمة ضعف في النفس ، وزلزال في الاخلاق ، لا يوثق بمن اعتاده في قول ولا عمل ، فاذا كان ناقض العزيمة رئيس حكومة أو قائد جيش ، كان ظهور نقض العزيمة منه ناقضا للثقة بحكومته وبجيشه ، ولا سيما اذا كان بعد الشروع في العمل.

ولذلك لم يصغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى قول الذين أشاروا عليه بالخروج في غزوة أحد ، حين أرادوا أن يرجعوا عن رأيهم ، خشية أن يكونوا قد استكرهوه ، وكان قد لبس ملابس الحرب ، فعلّمهم بذلك أن لكل عمل وقتا ، وأن وقت المشاورة متى انتهى أعقبه العمل ، وأن القائد اذا شرع في العمل تنفيذا للشورى ، لا يجوز له أن ينقض عزيمته ويبطل عمله ، وان كان يرى أن أهل الشورى قد أخطأوا الرأي ، ويمكن أن نرجع

١٣

هذا الى قاعدة ارتكاب أخف الضررين ، وأي ضرر أشد من فسخ العزيمة ، وما فيه من الضعف والفشل وابطال الثقة؟!.

هكذا صور التفسير هذا الرأي في المراد بالعزيمة عقب الشورى ، وهو رأي تستريح اليه النفس ، ولكن هناك رأيا آخر نذكره استكمالا لوجهات النظر ، وقد عبر عنه صاحب «عمدة التفسير» بهذه العبارة :

«معنى الآية واضح صريح لا يحتاج الى تفسير ، ولا يحتمل التأويل ، فهو أمر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم لمن يكون ولي الامر من بعده ، أن يستعرض آراء أصحابه الذين يراهم موضع الرأي ، الذين هم أولو الاحلام والنّهى ، في المسائل التي تكون موضع تبادل الآراء ، وموضع الاجتهاد في التطبيق ، ثم يختار من بينها ما يراه حقا ، أو صوابا ، أو مصلحة ، فيعزم على انفاذه ، غير متقيد برأي فريق معين ، ولا برأي عدد محدود : لا برأي أكثرية ، ولا برأي أقلية ، فاذا عزم توكل على الله ، وأنفذ العزم على ما ارتآه.

ومن المفهوم البديهي الذي لا يحتاج الى دليل أن الذين أمر الرسول بمشاورتهم ـ ويأتسي به فيه من يلي الامر من بعده ـ هم الرجال الصالحون القائمون على حدود الله ، المتقون الله ، المقيمو الصلاة ، المؤدو الزكاة ، هم الذين قال فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليلني منكم أولو الأحلام والنّهى».

ويقول الله تبارك وتعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام في سورة الأحقاف : «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ» أي أصحاب الجد والثبات ، والصبر والعزيمة. وقد قيل ان المراد بأولي العزم من الرسل طائفة منهم ، وهم نوح ، لأنه صبر على أذى قومه ، وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه ، وابراهيم الذي قدم ابنه للفداء والذبح ، ويعقوب الذي صبر على فقد الولد وذهاب البصر ، ويوسف الذي صبر على الالقاء في الجب

١٤

والسجن ، وأيوب الذي صبر على المرض والضرر ، وموسى الذي صبر على الاهوال والمتاعب ، وداود الذي بكى طويلا على زلته ، وعيسى الذي لم يضع لبنة على لبنة.

قيل ان أولي العزم من الرسل كل الرسل ، فكأن الله تعالى يقول للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اصبر كما صبر الرسل من قبلك على أذى أقوامهم ، وكانوا أصحاب عزم وعزيمة ، فصبروا وثبتوا.

* * *

ونستطيع أن نفهم من منطق القرآن الكريم أن فضيلة العزيمة تصحب فضيلتي التقوى والصبر ، فان الله تبارك وتعالى يقول في سورة آل عمران :

«لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ، وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً ، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ»(١).

أي ستتعرضون للابتلاء والاختبار في أموالكم بالبذل أو النقص أو الجوائح ، وفي أنفسكم بالمرض أو الجراح أو التعب ، وستسمعون كلاما شديدا مؤذيا من أهل الكتاب ومن المشركين ، وان تتحملوا هذا الابتلاء بصبر وقوة وعزيمة ، وتتقوا المعصية أو الضعف ، فان ذلك من الامور التي يجب أن تعزموا عليها وتصدقوا فيها.

ولا شك أن فضيلة العزيمة تتجلى بصورة رائعة حينما يعقد الانسان ارادته على تحمل أذى القول من أهل الضلال والسفه ، لأن ضبط النفس

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٨٦.

١٥

عند دواعي الغضب والثورة ، مما يدل على قوة الشخصية وثبات الارادة ، ولعل هذا بعض ما نفهمه من الآية الكريمة السابقة ، ومن قول سيدنا رسول الله عليه صلوات الله وسلامه : «ليس الشديد بالصّرعة ، انما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب».

وكذلك نفهم من منطق القرآن أن فضيلة العزيمة تصحب فضيلتي العفو والغفران ، فذلك حيث يقول الحق جل جلاله في سورة الشورى :

«وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ»(١).

أي من الصفات التي يجب أن يعزم عليها المؤمن ويستمسك بها.

وليس من العسير علينا أن نفهم أن فضيلة العزيمة تطوي بين جناحيها مجموعة فضائل. ولعله مما يشير الى ذلك قوله تعالى في سورة لقمان :

«يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ ، وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ ، إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ»(٢).

لقد ذكرت الآية هنا الصلاة ، وفيها عبادة الله باخلاص ، والمحافظة عليها تحتاج الى عزيمة.

وذكرت الأمر بالمعروف ، ولا بد للآمر الصادق بالمعروف من التزام المعروف أولا ، وهذا يحتاج الى عزيمة ، كما أن القيام بالامر بالمعروف يحتاج الى عزيمة.

__________________

(١) سورة الشورى ، الآية ٤٣.

(٢) سورة لقمان ، الآية ١٧.

١٦

وذكرت النهي عن المنكر ، وهذا يقتضي انتهاء الناهي عن المنكر أولا ، وهو يحتاج الى عزيمة ، كما ان القيام بالنهي عن المنكر يحتاج الى صبر واحتمال وعزيمة.

وذكرت الصبر على ما يصيب الانسان ، وهذا الصبر يحتاج الى عزيمة أي عزيمة.

هذه الفضائل الاربع تتجلى فيها العزيمة الراشدة ، ولذلك ختمت الآية بقوله : «إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ».

هذا ، ولقد أخذ القرآن الكريم على آدم ـ عليه‌السلام ـ «أن الشيطان وسوس اليه فحال بينه وبين قوة العزم ، في موطن من المواطن ، وهو موقف الأكل من الشجرة في الجنة ، فقال في سورة طه :

«وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً»(١).

أي لم نجد له صبرا أو عزيمة ، حيث لم يحترز عن الغفلة ، ولم يحرص على الاحتياط في الاجتهاد ، فأنساه الشيطان عهده ، فأكل من الشجرة.

* * *

ثم نأتي الى حديث العزيمة في هدى سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وهو المثل الاعلى في الصبر والثبات والعزيمة. وهو الذي كان يدعو ربه فيقول : «اللهم اني أسألك العزيمة في الرشد». والذي قال لنا : «خير الأمور عوازمها» أي فرائضها التي عزم الله علينا بفعلها ، أو هي ما أكدت رأيك وعزمك عليه ، ووفّيت بعهد الله تعالى فيه.

__________________

(١) سورة طه ، الآية ١١٥.

١٧

ولقد جاء في كتاب «البداية والنهاية» لابن الأثير أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأبي بكر : متى توتر؟

فأجاب أبو بكر : أول الليل.

وقال النبي لعمر : متى توتر؟.

فأجاب عمر : من آخر الليل.

فقال الرسول لأبي بكر : أخذت بالحزم.

وقال لعمر : أخذت بالعزم.

أراد صلوات الله وسلامه عليه أن أبا بكر حذر فوات الوتر بالنوم فاحتاط وقدّمه ، وأن عمر وثق بالقوة على قيام الليل فأخّر الوتر ، واذا كان أبو بكر قد أحسن ، لأنه قدم الحزم على العزم ، فان عمر قد أحسن كذلك ، لأن عزيمته وجهته الى طريق الثقة والقوة ، ورضوان الله تبارك وتعالى على العمرين : أبي بكر وعمر.

وهدى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يرشدنا الى أن العزيمة لا تستلزم التشدد أو التنطع ، أو القسوة على النفس في مواطن التيسير ، ولذلك يقول : «ان الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه» والعزائم جمع عزيمة ، وهي الحق والواجب ، فاذا كان صاحب العزيمة يمضي في أداء الواجبات والفرائض بجد واجتهاد ، فانه ينبغي له أن يتقبل بقبول حسن ما يسوقه اليه من تيسير في المواطن التي يناسبها التيسير.

كما يرشدنا الهدى النبوي أن العزم فيه عقد نية ، وهو نوع من الاستقرار وعقد القلب ، فيقول : «لا صيام لمن لم يعزم من الليل». أي لم يعقد نية الصوم من الليل.

وللرسول عليه الصلاة والسلام موقف تجلت فيه القدوة العليا

١٨

للعزيمة الصادقة ، فذلك حيث تحدى قوى الشرك والكفران ، وقال : «والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري ، على أن أترك هذا الامر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه».

ما أشد حاجتنا الى فضيلة «العزيمة» تعلمنا أن نكون أصحاب حزم وعزم ، وأن نفكر فنحسن التفكير ، ثم نقدم اقدام الابطال المغاوير ، وعلى الله قصد السبيل.

١٩

الارادة

يقال : أراد الانسان الشيء يريده ارادة : اذ مال اليه ورغب فيه. ولفظة «الارادة» منقولة من راد يرود ، اذا سعى في طلب الشيء ، ومن هنا قال الامام في صفة الصحابة رضوان الله على الجميع : «يدخلون روّادا ، ويخرجون أدلة» أي يدخلون طالبين العلم ، وملتمسين الحكمة ، ويخرجون أدلة هداة للناس. وفي حديث وفد عبد القيس : «انا قوم رادة» أي نرود الخير والدين لأهلنا ، والرائد هو الذي يتقدم القوم طالبا الخير.

ويرى الأصفهاني في «مفردات القرآن» أن الارادة في الأصل قوة مركبة من شهوة وحاجة وأمل ، وجعلت اسما لنزوع النفس الى الشيء ، مع الحكم فيه بأنه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل ، وقد يراد بها القصد كما في قوله تعالى :

«تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً ..»(١).

__________________

(١) سورة القصص ، الآية ٨٣.

٢٠