موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١٠

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١٠

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ١٠٩

انتزعوه تراثه وحقّه في ميدان الصراع المسلّح ، وذلك خشية على الإسلام من أن تشيع فيه الردّة ، وينقلب المسلمون على أعقابهم فصبر على ضياع حقّه وفي العين قذى وفي الحلق شجى ـ كما يقول في خطبته الشقشقية ـ ، ومن بنود هذه الرسالة قوله :

إنّي والله! لو لقيتهم واحدا وهم طلاع الأرض كلّها ما باليت ولا استوحشت ، وإنّي من ضلالهم الّذي هم فيه والهدى الّذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي ويقين من ربّي. وإنّي إلى لقاء الله لمشتاق ، وحسن ثوابه لمنتظر راج ؛ ولكنّني آسى أن يلي أمر هذه الأمّة سفهاؤها وفجّارها ، فيتّخذوا مال الله دولا ، وعباده خولا ، والصّالحين حربا ، والفاسقين حزبا ، فإنّ منهم الّذي قد شرب فيكم الحرام (١) ، وجلد حدّا في الإسلام ، وإنّ منهم من لم يسلم حتّى رضخت له على الإسلام الرّضائخ (٢).

فلو لا ذلك ما أكثرت تأليبكم (٣) ، وتأنيبكم ، وجمعكم ، وتحريضكم ، ولتركتكم إذ أبيتم وونيتم.

ألا ترون إلى أطرافكم قد انتقصت ، وإلى أمصاركم قد افتتحت ، وإلى ممالككم تزوى ، وإلى بلادكم تغزى! انفروا ـ رحمكم الله ـ إلى قتال عدوّكم ، ولا تثّاقلوا إلى الأرض فتقرّوا

__________________

(١) الحرام : وهو الخمر ، وقد شربها علنا عتبة بن أبي سفيان ، وحدّ خالد بن عبد الله في الطائف.

(٢) الرضائخ : العطايا ، ويشير بذلك إلى عمرو بن العاص فإنّه لم يسلم حتى أعطاه النبيّ.

(٣) التأليب : التحريض.

٦١

بالخسف ، وتبوءوا بالذّلّ ، ويكون نصيبكم الأخسّ ، وإنّ أخا الحرب الأرق (١) ، ومن نام لم ينم عنه ، والسّلام (٢).

حكت هذه الكلمات عن يقين الإمام عليه‌السلام بأنّه على ثقة وبصيرة من أمره ، وأنّه على اتّصال وثيق بالله تعالى لا يستوحش من الذين فارقوه وحاربوه ونابذوه ، فإنّهم على ضلال يا له من ضلال ، كما أعرب عليه‌السلام عن زهده في السلطة ، وأنّه لو لا يخاف من أن يحكم المسلمين من لا دين له فيتّخذ مال الله دولا وعباده خولا لما تصدّى إلى الحكم ، ولم يقم له أي وزن لأنّ السلطة عنده ليست مغنما وإنّما هي من سبل الاصلاح الاجتماعي ، فليس فيها إلاّ التعب والجهد والعناء.

ثمّ دعا الإمام الشعب المصري إلى جهاد المارقين عن الإسلام ، وهم الحزب الأموي ، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان الذي أفنى حياته في محاربة الله ورسوله.

العهد الذهبي :

وهو أروع عهد حافل بحقوق الإنسان ، وقضاياه المصيرية لم يقنّن مثله ، ولم يوضع في جميع المحافل الدولية نظيره ، قد صاغه رائد العدالة الاجتماعية في الإسلام الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقد عرضنا إلى معظم بنوده في البحوث التمهيدية التي صدّرنا بها هذا الكتاب ،و قد ختم الإمام عليه‌السلام هذا العهد الشريف بهذه الكلمات القيّمة بقوله :

والواجب عليك أن تتذكّر ما مضى لمن تقدّمك من حكومة عادلة ، أو سنّة فاضلة ، أو أثر عن نبيّنا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أو فريضة في كتاب

__________________

(١) الأرق : السهر.

(٢) نهج البلاغة ـ محمّد عبده ٣ : ١١٨ ـ ١٢١.

٦٢

الله ، فتقتدي بما شاهدته ممّا عملنا به فيها ، وتجتهد لنفسك في اتّباع ما عهدت إليك في عهدي هذا ، واستوثقت به من الحجّة لنفسي عليك ، لكيلا تكون لك علّة عند تسرّع نفسك إلى هواها.

وأنا أسأل الله بسعة رحمته ، وعظيم قدرته على إعطاء كلّ رغبة ، أن يوفّقني وإيّاك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه ، مع حسن الثّناء في العباد ، وجميل الأثر في البلاد ، وتمام النّعمة ، وتضعيف الكرامة ، وأن يختم لي ولك بالسّعادة والشّهادة ، « وإنّا إلى الله راغبون ».

والسّلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الطّيّبين الطّاهرين ، وسلّم تسليما كثيرا ، والسّلام.

أرأيتم هذه الآداب العلوية الحافلة بجميع مقوّمات السموّ والكرامة ، وما تعتزّ به الإنسانية في جميع أدوارها.

الشهادة :

وخرج الأشتر ميمّما وجهه صوب مصر ، وسارت قافلته تطوي البيداء ، لا تلوي على شيء ، فلمّا انتهت إلى « أبلّة » (١) فالتقى به نافع مولى عثمان بن عفّان ، وقد أرسله معاوية لاغتياله ، وكان لبقا ، فأخذ مالك يسأله :

ـ ممّن أنت؟

ـ من أهل المدينة.

ـ من أيّهم؟

__________________

(١) أبلّة : مدينة تقع على شاطئ دجلة في الطريق إلى البصرة.

٦٣

فأخفى وضعه ، وقال :

ـ مولى عمر بن الخطّاب.

ـ أين تريد؟

ـ مصر.

ـ ما حاجتك بها؟

ـ أشبع من الخبز فإنّا في المدينة لا نشبع منه.

ـ فرقّ له ـ الزمني فإنّي سأصيبك من الخبز.

ومضى مالك في سفره ، وعميل معاوية ملازم له ، حتى انتهى إلى القلزم (١) ، فنزل ضيفا على امرأة من جهينة فرحّبت به ، وقابلته بمزيد من التكريم ، وسألته أي الطعام أحبّ إليه في العراق حتى تصنعه له ، فقال لها : الحيتان الطرية ، فقدّمت له ما اشتهى فلمّا أكل أصابه عطش شديد فأخذ يكثر من شرب الماء ، فقال له نافع مولى عثمان : إنّ الطعام لا يقتل سمّه إلاّ العسل ، فدعا الأشتر بإحضاره من ثقله ، فلم يكن فيه ، فبادر نافع قائلا : هو عندي ، فقال الأشتر : عليّ به ، فأحضره فتناول منه ، وكان قد دسّ فيه سمّا قاتلا ، ولمّا انتهى إلى جوفه تقطّعت أمعاؤه ، وأخذ الموت يدنو منه سريعا ، وطلب الأشتر إحضار نافع فوجده منهزما ، فلم يعثر عليه ، وسرى السمّ في جميع أوصاله ، وقد طوت حياته شربة العسل التي كان يردّدها معاوية « إنّ لله جنودا من عسل » (٢).

لقد انتهت حياة هذا العملاق العظيم الذي جاهد أعداء الله كأعظم ما يكون

__________________

(١) القلزم : مدينة تقع على شفير البحر ليس بها زرع ولا ماء ، يحمل إليها الماء من آبار بعيدة ، وتقع ما بين الحجاز ومصر على ثلاثة أيام منها ـ معجم البلدان.

(٢) مالك الأشتر ـ محمّد رضا الحكيم : ١٧٤ ـ ١٧٥.

٦٤

الجهاد ، وقد كانت شهادته على يد أقذر اموي عرفه تاريخ البشرية ، وهو ابن هند الذي حارب الإسلام هو وأبوه وامّه وقبيلته بجميع ما يملكون من طاقات.

تأبين الإمام لمالك :

ولمّا انتهى النبأ الفجيع بوفاة القائد العظيم إلى الإمام عليه‌السلام ذابت نفسه أسى وحزنا ، وأخذ يذرف عليه أحرّ الدموع قائلا :

« إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والحمد لله ربّ العالمين.

اللهمّ إنّي أحتسبه عندك ، فإنّ موته من مصائب الدّهر ... ».

ثمّ قال :

« رحم الله مالكا فقد وفى بعهده ، وقضى نحبه ، ولقي ربّه ، مع أنّا قد وطّنّا أنفسنا أن نصبر على كلّ مصيبة بعد مصابنا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّها من أعظم المصائب » (١).

وأخذ الإمام يتلهّف وهو يقول بحزن بالغ :

« لله درّ مالك ، وما مالك؟ لو كان من جبل لكان فندا (٢) ، ولو كان من حجر لكان صلدا ، أما والله! ليهدنّ موتك عالما ، وليفرحنّ عالما ، على مثل مالك فلتبك البواكي ، وهل موجود كمالك؟ » (٣).

لقد كانت شهادة مالك من الأحداث الجسام التي مني بها العالم الإسلامي ، وكان الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام من أفجع المصابين به.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٢ : ٢٩.

(٢) الفند : القطعة العظيمة من الجبل.

(٣) الغدير ٩ : ٤٠.

٦٥

سرور معاوية :

وطار معاوية سرورا وبهجة بشهادة مالك ، وخطب الناس ، وقال :

أمّا بعد : فإنّه كانت لعليّ بن أبي طالب يدان يمينان قطعت إحداهما يوم صفّين ، وهو عمّار بن ياسر ، وقطعت الاخرى اليوم ، وهو مالك الأشتر (١).

لقد انتهت حياة عمار ومالك ، وسمت روحهما إلى الله تعالى كأسمى روحين صعدتا إلى السماء ، فقد لفعا بدم الشهادة في أقدس قضية نصرا فيها الإسلام ، فقد وقفا إلى جانب وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يذبّان عنه ، ويحميانه من الردّة الجاهلية المتمثّلة في كسرى العرب.

رثاء مالك :

ورثي جماعة من الشعراء الزعيم مالك كان منهم المثنّى ، يقول :

ألا ما لضوء الصبح أسود حالك

وما للرواسي زعزعتها الدكادك

وما لهموم النفس شتّى شئونها

تظلّ تناجيها النجوم الشوابك

على مالك فليبك ذو الليث معولا

إذا ذكرت في الفيلقين المعارك

إذا ابتدر الخطي وانتدب الملا

وكان غياث القوم نصر مواشك

إذا ابتدرت يوما قبائل مذحج

ونودي بها أين المظفّر مالك

فلهفي عليه حين تختلف القنا

ويرعش للموت الرجال الصعالك

ولهفي عليه يوم دبّ له الردى

وديف له سمّ من الموت حانك

فلو بارزوه يوم يبغون هلكه

لكانوا بإذن الله ميت وهالك

ولو مارسوه مارسوا ليث غابة

له كالتي لا ترقد الليل فاتك

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٢٥٥. تاريخ ابن الأثير ٣ : ١٥٣.

٦٦

فقل لابن هند لو منيت بمالك

وفي كفّه ماضي الضريبة باتك

لألفيت هندا تشتكي على الردى

تنوح وتخبوها النساء العواتك (١)

ورثته السيّدة الفاضلة سلمى أمّ الأسود بهذه الأبيات :

نبا بي مضجعي ونبا وسادى

وعيني ما تهمّ إلى رقادي

كأنّ الليل اوثق جانباه

وأوسطه بأمراس شداد

أبعد الأشتر النخعي نرجو

مكاثرة ونقطع بطن واد

اكر إذا الفوارس محجمات

واضرب حين تختلف الهوادى (٢)

رحم الله مالكا ، وأجزل له المزيد من الأجر لنصرته أخا رسول الله وابن عمّه ، وحشره مع الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء وحسن اولئك رفيقا.

__________________

(١) الولاة والقضاة ـ الكندي : ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) المصدر السابق : ٢٥.

٦٧

محمّد بن أبي بكر

وبعد ما نكب الإمام عليه‌السلام بشهادة أخيه وعضده مالك الأشتر قلّد محمّد بن أبي بكر ولاية مصر وهو من ألمع الرجال في فضله وتقواه ، ومن أكثرهم حبّا وولاء للإمام عليه‌السلام ، فكان ابنا بارّا للإمام ، وولدا مخلصا له ، وشفيقا عليه.

عهد الإمام لمحمّد :

وزوّد الإمام محمّد بن أبي بكر بالرسالة التالية حينما قلّده ولاية مصر ، وهذا نصّها :

فاخفض لهم جناحك ، وألن لهم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، وآس (١) بينهم في اللّحظة والنّظرة ، حتّى لا يطمع العظماء في حيفك لهم ، ولا ييأس الضّعفاء من عدلك عليهم ، فإنّ الله تعالى يسائلكم معشر عباده عن الصّغيرة من أعمالكم والكبيرة ، والظّاهرة والمستورة ، فإن يعذّب فأنتم أظلم ، وإن يعف فهو أكرم.

ومثّلت هذه الكلمات روعة العدل الذي لم يقنّن مثله في جميع ما شرّع من الشؤون السياسية ، فقد أمر الإمام عليه‌السلام محمّد بالمواد التالية :

__________________

(١) آس : أي ساو بينهم.

٦٨

١ ـ أن يخفض للرعية جناحه ، فلا يتكبّر ، ولا يعلو عليهم ، بل يكون كأحدهم.

٢ ـ أن يلين للناس جانبيه فلا يظهر عليهم العظمة والكبرياء.

٣ ـ أن يبسط للجميع وجهه ، فلا يخصّ قوما ببسماته ويقبض وجهه مع قوم آخرين.

٤ ـ أن يساوي بين الناس حتى في اللحظة والنظرة ، وهذا هو منتهى العدل ...

ويستأنف الإمام في رسالته قائلا :

واعلموا عباد الله! أنّ المتّقين ذهبوا بعاجل الدّنيا وآجل الآخرة ، فشاركوا أهل الدّنيا في دنياهم ، ولم يشاركهم أهل الدّنيا في آخرتهم ؛ سكنوا الدّنيا بأفضل ما سكنت ، وأكلوها بأفضل ما أكلت ، فحظوا من الدّنيا بما حظي به المترفون ، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبّرون ؛ ثمّ انقلبوا عنها بالزّاد المبلّغ ؛ والمتجر الرّابح. أصابوا لذّة زهد الدّنيا في دنياهم ، وتيقّنوا أنّهم جيران الله غدا في آخرتهم. لا تردّ لهم دعوة ، ولا ينقص لهم نصيب من لذّة.

فاحذروا عباد الله الموت وقربه ، وأعدّوا له عدّته ، فإنّه يأتي بأمر عظيم ، وخطب جليل ، بخير لا يكون معه شرّ أبدا ، أو شرّ لا يكون معه خير أبدا.

فمن أقرب إلى الجنّة من عاملها!

ومن أقرب إلى النّار من عاملها!

وأنتم طرداء الموت ، إن أقمتم له أخذكم ، وإن فررتم منه أدرككم ،

٦٩

وهو ألزم لكم من ظلّكم. الموت معقود بنواصيكم ؛ والدّنيا تطوى من خلفكم.

فاحذروا نارا قعرها بعيد ، وحرّها شديد ، وعذابها جديد.

دار ليس فيها رحمة ، ولا تسمع فيها دعوة ، ولا تفرّج فيها كربة.

وإن استطعتم أن يشتدّ خوفكم من الله ، وأن يحسن ظنّكم به ، فاجمعوا بينهما ، فإنّ العبد إنّما يكون حسن ظنّه بربّه على قدر خوفه من ربّه ، وإنّ أحسن النّاس ظنّا بالله أشدّهم خوفا لله.

وحكت هذه الكلمات النصائح الرفيعة ، والمواعظ الكاملة التي يجب أن يعتبر بها الناس ليكونوا بمأمن من عذاب الله تعالى ، ويفوزوا بمغفرته ورضوانه ...

ثمّ يستمر الإمام في عهده قائلا :

واعلم ـ يا محمّد بن أبي بكر ـ أنّي قد ولّيتك أعظم أجنادي في نفسي ، أهل مصر ، فأنت محقوق (١) أن تخالف على نفسك ، وأن تنافح عن دينك ، ولو لم يكن لك إلاّ ساعة من الدّهر ، ولا تسخط الله برضى أحد من خلقه ، فإنّ في الله خلفا من غيره ، وليس من الله خلف في غيره.

صلّ الصّلاة لوقتها المؤقّت لها ، ولا تعجّل وقتها لفراغ ، ولا تؤخّرها عن وقتها لاشتغال.

واعلم أنّ كلّ شيء من عملك تبع لصلاتك.

وحفلت هذه الكلمات بدعوة محمّد بن أبي بكر بمخالفة هوى نفسه والمنافحة عن دينه ، وأن لا يسخط الله تعالى في أي عمل من أعماله ، فإنّه ليس لله تعالى خلف

__________________

(١) محقوق : أي مطالب بمخالفتك شهوة نفسك.

٧٠

في جميع الكائنات.

ثمّ أوصى الإمام عليه‌السلام محمّدا بأداء الصلاة في وقتها فإنّها من أفضل العبادات ، ومن أعظمها عند الله تعالى ... ويأخذ الإمام في عهده قائلا :

فإنّه لا سواء ، إمام الهدى وإمام الرّدى ، ووليّ النّبيّ ، وعدوّ النّبيّ.

ولقد قال لي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : « إنّي لا أخاف على أمّتي مؤمنا ولا مشركا :

أمّا المؤمن فيمنعه الله بإيمانه.

وأمّا المشرك فيقمعه الله بشركه.

ولكنّي أخاف عليكم كلّ منافق الجنان ، عالم اللّسان ، يقول ما تعرفون ، ويفعل ما تنكرون (١).

وتمثّلت روعة الإسلام وما ينشده من تقوى وهدى واستقامة في سلوك الإنسان بهذا العهد المبارك الذي زوّد به الإمام عليه‌السلام واليه على مصر لينشر في ربوعه العدل والحقّ والمساواة بين المصريّين.

صورة اخرى من عهد الإمام لمحمّد :

وهذه صورة اخرى من عهد الإمام عليه‌السلام لمحمّد رواها الطبري ، وهذا نصّه بعد البسملة :

هذا ما عهد عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى محمّد بن أبي بكر حين ولاّه مصر :

__________________

(١) نهج البلاغة ٣ : ٥١٦ ـ ٥١٨.

٧١

أمره بتقوى الله في السّرّ والعلانية ، وخوف الله عزّ وجلّ في المغيب والمشهد ، وأمره باللّين على المسلم ، والغلظة على الفاجر ، وبالعدل على أهل الذّمّة ، وبإنصاف المظلوم ، وبالشّدّة على الظّالم ، وبالعفو عن النّاس ، وبالإحسان ما استطاع ، والله يجزي المحسنين ، ويعذّب المجرمين.

وأمره أن يدعو من قبله إلى الطّاعة والجماعة ، فإنّ لهم في ذلك من العاقبة ، وعظيم المثوبة ما لا يقدرون قدره ولا يعرفون كنهه.

وأمره أن يجبي خراج الأرض على ما كانت تجبى عليه من قبل ، لا ينتقص منه ولا يبتدع فيه ، ثمّ يقسمه بين أهله على ما كانوا يقسمون عليه من قبل.

وأن يلين لهم جناحه ، وأن يواسي بينهم في مجلسه ووجهه ، وليكن القريب والبعيد في الحقّ سواء.

وأمره أن يحكم بين النّاس بالحقّ ، وأن يقوم بالقسط ، ولا يتّبع الهوى ، ولا يخف في الله عزّ وجلّ لومة لائم ، فإنّ الله جلّ ثناؤه مع من اتّقاه ، وآثر طاعته ، وأمره على ما سواه.

وكتب هذا العهد عبد الله بن أبي رافع مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لغرّة رمضان سنة ( ٣٦ ه‍ ) (١).

وحفل هذا العهد بجميع ألوان التقوى ، والتمسّك بطاعة الله تعالى التي هي الدرع الحصين لمن ألتجئ إليها.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٢٣١. شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٢ : ٢٥.

٧٢

رسالة محمّد إلى معاوية :

ولمّا استقرّ محمّد في مصر كتب رسالة إلى معاوية يدعوه فيها إلى الجماعة والطاعة ، ويذكر فيها فضائل الإمام عليه‌السلام وهذا نصّها :

من محمّد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر :

سلام على أهل طاعة الله ممّن هو سلم لأهل ولاية الله ، أمّا بعد :

فإنّ الله بجلاله وعظمته ، وسلطانه وقدرته خلق خلقا بلا عبث منه ، ولا ضعف في قوّته ، ولا حاجة به إلى خلقهم ؛ ولكنّه خلقهم عبيدا ، وجعل منهم غويا ورشيدا وشقيّا وسعيدا.

ثمّ اختارهم على علمه ، فاصطفى وانتخب منهم محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاختصّه برسالته ، واختاره لوحيه ، وائتمنه على أثره ، وبعثه رسولا ، ومبشرا ونذيرا ، مصدّقا لما بين يديه من الكتب ، ودليلا على الشرائع ، فدعا إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة.

فكان أوّل من أجاب وأناب ، وآمن وصدّق ، وأسلم وسلّم ، أخوه وابن عمّه ، صدّقه بالغيب المكتوم ، وآثره على كلّ حميم ، ووقاه بنفسه كلّ هول ، وواساه بنفسه في كلّ خوف وحارب حربه ، وسالم سلمه ، فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الأزل (١) ومقامات الرّوع ، حتى برّز سابقا لا نظير له في جهاده ولا مقارب له في فعله.

وقد رأيتك تساميه ، وأنت أنت ، وهو هو السابق المبرّز في كلّ خير أوّل النّاس إسلاما ، وأصدق الناس نيّة ، وأطيب الناس ذرّيّة ، وخير الناس زوجة ، وخير الناس ابن عمّ ، أخوه الشاري لنفسه يوم مؤتة ، وعمّه سيّد الشهداء يوم احد ، وأبوه الذابّ

__________________

(١) الأزل : الضيق والشدّة.

٧٣

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن حوزته.

وأنت اللعين ابن اللعين ، لم تزل أنت وأبوك تبغيان لدين الله الغوائل ، وتجهدان في إطفاء نور الله ، وتجمعان على ذلك الجموع ، وتبذلان فيه المال ، وتؤلّبان عليه القبائل ، على هذا مات أبوك ، وعلى ذلك خلفته ، والشاهد عليك بذلك من يأوي ، ويلجأ إليك ، من بقيّة الأحزاب ، ورءوس النفاق والشقاق لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

والشاهد لعليّ مع فضله المبين وسابقته القديمة أنصاره الذين معه الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن ففضّلهم وأثنى عليهم من المهاجرين والأنصار ، فهم معه كتائب وعصائب ، يجالدون حوله بأسيافهم ، ويهريقون دماءهم دونه ، يرون الحقّ في اتّباعه والشّقاق والعصيان في خلافه ، فكيف ـ يا لك الويل ـ تعدل نفسك بعليّ ، وهو وارث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووصيّه وأبو ولده ، وأوّل النّاس له اتّباعا ، وأقربهم به عهدا ، يخبره بسرّه ، ويطلعه على أمره ، وأنت عدوّه وابن عدوّه.

فتمتّع في دنياك ما استطعت بباطلك ، وليمددك ابن العاص في غوايتك ، فكأنّ أجلك قد انقضى ، وكيدك قد وهى ، وسوف يستبين لك لمن تكون العاقبة العليا ، واعلم أنّك إنّما تكايد ربّك الذي قد أمنت كيده ، وأيست من روحه ، وهو لك بالمرصاد وأنت منه في غرور والسلام على من اتّبع الهدى ... (١).

وهذه الرسالة ناطقة بالحقّ ، ملمّة بالواقع ، ليس فيها دجل ولا افتراء ، فقد حكت جهاد الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وعظيم مكانته عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما حكت زيغ معاوية وضلاله ، وتطاوله على أخي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومنازعته له بغير حقّ ، وعلى أي حال فهذه الرسالة من غرر الرسائل الحافلة بالواقع والحقّ.

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٥٩. شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٣ : ١٨٨ ـ ١٩٠.

٧٤

جواب معاوية :

وأجاب معاوية عن رسالة محمّد ، بهذه الرسالة جاء فيها :

من معاوية بن صخر إلى الزّاري (١) على أبيه محمّد بن أبي بكر.

سلام على أهل طاعة الله.

أمّا بعد : فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في عظمته وقدرته وسلطانه ، وما أصفى (٢) به نبيّه مع كلام كثير ألفته ووضعته لرأيك فيه تضعيف ، ولأبيك فيه تعنيف ، ذكرت فيه حقّ ابن أبي طالب ، وقديم سوابقته وقرابته من نبيّ الله ، ونصرته له ، ومواساته إيّاه ، في كلّ هول وخوف ، فكان احتجاجك عليّ ، وفخرك بفضل غيرك لا بفضلك ، فاحمد إلها صرف ذلك الفضل عنك ، وجعله لغيرك ، فقد كنّا وأبوك معنا في حياة نبيّنا نعرف حقّ ابن أبي طالب لازما لنا ، وفضله مبرزا علينا.

فلمّا اختار الله لنبيّه ما عنده ، وأتمّ له ما وعده ، وأظهر دعوته ، وأفلج حجّته (٣) ، قبضه الله إليه فكان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزّه حقّه (٤) ، وخالفه على أمره ، على ذلك اتّفقا واتّسقا ، ثمّ انّهما دعواه إلى أنفسهما فأبطأ عنهما ، فهمّا به الهموم ، وأرادا به العظيم ـ أي القتل ـ.

ثمّ إنّه بايعهما وسلّم لهما ، وأقاما لا يشركانه في أمرهما ، ولا يطلعانه على سرّهما حتى قبضا وانقضى أمرهما ثمّ أقاما بعدهما عثمان يهتدي بهديهما ، ويسير بسيرتهما ، فعبته أنت وصاحبك ، حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي ،

__________________

(١) الزاري : العائب.

(٢) أصفى : أي آثره.

(٣) أفلج حجّته : أي أظهرها.

(٤) ابتزّه حقّه : أي سلبه حقّه.

٧٥

وبطنتما وظهرتما ، وكشفتما له عداوتكما وغلّكما ، حتى بلغتما منه مناكما.

فخذ حذرك يا ابن أبي بكر ، فسترى وبال أمرك ، وقس شبرك بفترك ، تقصر عن أن توازي أو تساوي من بزن الجبال حلمه ، ولا تلين على قسر (١) قناته ، ولا يدرك ذو مدى أناته ، أبوك مهّد له مهاده ، وبنى ملكه وشادّه ، فإن يك ما نحن فيه صوابا فأبوك أوّله ، وإن يك جورا فأبوك اسّه ، ونحن شركاؤه ، فبهداه أخذنا ، وبفعله اقتدينا ، ولو لا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب ، ولسلّمنا إليه ، ولكنّا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا ، فاحتذينا مثاله ، واقتدينا بفعاله ، فعب أباك بما بدا لك ، أو دع ، والسلام على من أناب ورجع من غوايته وتاب وناب (٢).

وشيء بالغ الأهمّية في رسالة معاوية وهو أنّه عزى مخالفته للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى أبي بكر وعمر فهما اللذان مهّدا الطريق ، وفتحا الباب لمنازعة الإمام ومناجزته ، وقد سلك معاوية ما رسمه الشيخان له ، وهذا الرأي وثيق للغاية فإنّه لو لا منازعة الشيخين للإمام ، وقسرهما له لما استطاع معاوية سبيلا إلى مناجزة الإمام عليه‌السلام.

شهادة محمّد :

ولمّا تسلّم محمّد قيادة ولاية مصر قامت قيامة معاوية فأرسل جيشا بقيادة ابن العاص لاحتلال مصر ، والتحم الجيشان ، فانهزم أهل الشام ، فاستنجد ابن العاص بمعاوية فأمدّه بجيش جرّار بقيادة معاوية بن خديج ، ودارت بين الجيشين معركة رهيبة استشهد فيها القائد العامّ لجيش محمّد ، وعلى أثره فقد انهزم الجيش وفرّ محمّد ، ولم يجد ركنا شديدا يأوي إليه ، فالتجأ إلى خربة فأقام فيها ، وخرج

__________________

(١) القسر : الاكراه.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٦٠. شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ٢٨٤.

٧٦

وفرّ محمّد ، ولم يجد ركنا شديدا يأوي إليه ، فالتجأ إلى خربة فأقام فيها ، وخرج ابن حديج في طلبه ، فأخبره بعض علوج المصريّين أنّه في الخربة فهجم عليه ، وألقى عليه القبض ، وقد بلغ منه العطش مبلغا عظيما ، فطلب الماء فردّ عليه السفّاك الأثيم ابن خديج قائلا :

لا سقاني الله إن سقيتك قطرة ، إنّكم منعتم عثمان الماء ، ثمّ قتلتموه وكان صائما ، والله! لأقتلنّك يا ابن أبي بكر فيسقيك الله الجحيم ...

وتمثّلت الروح الأموية القذرة التي تحمل طبيعة وخسّة الأشرار بهذا الإنسان الممسوخ الذي منع الماء عن أسير عنده ، والتفت إليه البطل قائلا :

يا ابن اليهودية النسّاجة! ... أما والله! لو كان سيفي بيدي ما بلغتم بي هذا.

والتفت ابن خديج إلى محمّد قائلا :

أتدري ما أصنع بك ، ادخلك في جوف حمار ثمّ أحرقه عليك بالنار.

وأجابه البطل المؤمن :

إن فعلتم ذلك بي فطالما فعلتموه بأولياء الله.

وطال الجدل بينهما فانبرى ابن خديج فانفذ فيه حكم الاعدام وألقى جسده الطاهر في جيفة حمار ميّت وأحرقه بالنار بعد أن احتزّ رأسه الشريف ، وأرسله هدية إلى ابن آكلة الأكباد سيّده معاوية ، وهو أوّل رأس طيف به في الإسلام (١).

وانتهت بذلك حياة هذا المجاهد الكبير الذي وهب حياته لله تعالى ، وقد خسر المسلمون بوفاته علما من أعلام العقيدة والجهاد.

ولمّا انتهى الخبر المؤلم بشهادة محمّد إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام بلغ به

__________________

(١) النجوم الزاهرة ١ : ١١٠.

٧٧

الحزن أقصاه ، وراح يصوغ من أساه هذه الكلمات :

« لقد كان لي حبيبا وكان لي ربيبا » (١).

وقال بمرارة وحزن عميق :

ومحمّد بن أبي بكر رحمه‌الله قد استشهد ، فعند الله نحتسبه ولدا ناصحا ، وعاملا كادحا ، وسيفا قاطعا ، وركنا دافعا (٢).

رحم الله محمّدا ، وأجزل له المزيد من الأجر ، فقد كان من عمالقة المجاهدين العارفين للحقّ ، والمستشهدين من أجل رفع كلمة الله في الأرض وحسم مادة الشرك.

__________________

(١) نهج البلاغة ١ : ١١٧.

(٢) نهج البلاغة ٣ : ٦٠.

٧٨

ولاته على

مكّة ـ المدينة ـ اليمن ـ البحرين

٧٩
٨٠