موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١٠

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١٠

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ١٠٩

ما تقدّمت به إليك ، ولا تدع منه شيئا ، ولا تبدع فيه أمرا.

ثمّ اقسم بين أهله بالسّويّة والعدل ، واخفض لرعيّتك جناحك ، وواس بينهم في مجلسك ، وليكن القريب والبعيد عندك في الحقّ سواء ، واحكم بين النّاس بالحقّ ، وأقسم فيهم بالقسط ، ولا تتّبع الهوى ، ولا تخف في الله لومة لائم ، فإنّ الله مع الّذين اتّقوا والّذين هم محسنون. وقد وجّهت إليك كتابا لتقرأه على أهل مملكتك ليعلموا رأينا فيهم وفي جميع المسلمين ، فأحضرهم واقرأ عليهم ، وخذ البيعة لنا على الصّغير والكبير منهم إن شاء الله تعالى.

وحوت هذه الرسالة جميع صنوف العدل وما تبنّاه الإمام عليه‌السلام في سياسته المشرقة من إسعاد الشعوب ونشر القيم الكريمة بينهم.

رسالته لأهل المدائن :

وأرسل الإمام عليه‌السلام إلى أهل المدائن هذه الرسالة وأمر عامله حذيفة بقراءتها عليهم ، وهذا نصّها بعد البسملة :

من عبد الله أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب إلى من بلغه كتابي هذا من المسلمين.

سلام عليكم ، فإنّي أحمد إليكم الله الّذي لا إله إلاّ هو وأسأله أن يصلّي على محمّد وآله.

أمّا بعد ، فإنّ الله تعالى اختار الإسلام دينا لنفسه وملائكته ورسله ، إحكاما لصنعه وحسن تدبيره ، ونظرا منه لعباده ، وخصّ به من أحبّه من خلقه ، فبعث إليهم محمّدا فعلّمهم الكتاب والحكمة ، إكراما وتفضّلا

١٤١

لهذه الأمّة ، وأدّبهم لكي يهتدوا ، وجمعهم لئلاّ يتفرّقوا ، ووقفهم (١) لئلاّ يجوروا ، فلمّا قضى ما كان عليه من ذلك مضى إلى رحمة الله حميدا محمودا.

ثمّ إنّ بعض المسلمين أقاموا بعده رجلين رضوا بهديهما وسيرتهما ، فأقاما ما شاء الله ثمّ توفّاهما الله عزّ وجلّ ، ثمّ ولّوا بعدهما الثّالث فأحدث أحداثا ، ووجدت الأمّة عليه فعالا فاتّفقوا عليه ، ثمّ نقموا منه فغيّروا ، ثمّ جاءوني كتتابع الخيل فبايعوني ، وإنّي أستهدي الله بهداه ، وأستعينه على التّقوى.

ألا وإنّ لكم علينا العمل بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والقيام عليكم بحقّه ، وإحياء سنّته ، والنّصح لكم بالمغيب والمشهد ، وبالله نستعين على ذلك ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وقد ولّيت أموركم حذيفة بن اليمان ، وهو ممّن أرضى بهداه وأرجو صلاحه ، وقد أمرته بالإحسان إلى محسنكم والشّدّة على مريبكم ، والرّفق بجمعكم.

أسأل الله لنا ولكم حسن الخيرة والإسلام ورحمته الواسعة في الدّنيا والآخرة ، ورحمة الله وبركاته (٢).

وحكت هذه الرسالة نعمة الله على عباده بأن أرسل لهم رسوله العظيم ، فجاءهم بالإسلام الذي هو الدين القيّم الذي ارتضاه الله تعالى لعباده ، وجعله مشعلا

__________________

(١) أي وقّف الامة على ما أعدّه تعالى من الجنّة للمطيعين والنار للعاصين.

(٢) الدرجات الرفيعة : ٢٨٨. نهج السعادة ٤ : ١٩ ـ ٢٤.

١٤٢

للهداية والسلامة من مآثم الحياة ، كما عرضت هذه الرسالة إلى الأحداث المؤسفة التي رافقت وفاة المنقذ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما آلت إليه الامّة بعد أن تقلّد الخلافة من الفتن التي أثارتها قريش ضدّه ، وقد قطع الإمام عليه‌السلام على نفسه عهدا أن يسير بين المسلمين بسنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويطبق على الحياة العامّة منهج القرآن الكريم ، هذا بعض ما حوته هذه الرسالة.

١٤٣

سعد بن مسعود

كان سعد من خيار أصحاب الإمام عليه‌السلام وهو عمّ البطل الخالد المختار ، الذي استأصل شأفة المجرمين من قتلة سيّد الشهداء عليه‌السلام.

عهد الإمام عليه‌السلام بولاية المدائن إلى سعد ، وذلك بعد وفاة حذيفة بن اليمان ، وقد كتب إليه الرسالة التالية :

أما بعد فانك قد أديت خراجك ، وأطعتربك ، وأرضيت إمامك ، فعل البر التقي انجيب ، فغفر الله ذنبك ، وتقبل ، وتقبل سعيك ، وحسن مابك (١)

وحوت هذه الرسالة أجمل الثناء وأطيب الذكر إلى سعد الذي أطاع وأرضى إمامه.

ولمّا أراد الإمام عليه‌السلام الشخوص لمحاربة معاوية كتب إلى سعد هذه الرسالة :

أمّا بعد ، فإنّي قد بعثت إليك زياد بن حصفة ، فأشخص معه من قبلك من مقاتلة أهل الكوفة ، وعجّل ذلك إن شاء الله ، ولا قوّة إلاّ بالله (٢).

ولو لا أنّه ركن وثيق ، وبطل من أبطال الإسلام لما استعان به الإمام لمحاربة خصمه العنيد.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٦.

(٢) تاريخ الطبري ٤ : ٥٩.

١٤٤

عامله على كسكر

وكان عامله على كسكر (١) عجلان بن قدامة ، وقد كتب إليه هذه الرسالة :

أمّا بعد ، فاحمل ما قبلك من مال الله فإنّه فيء للمسلمين ، لست بأوفر حظّا فيه من رجل فيهم ، ولا تحسبنّ يا ابن قدامة أنّ مال كسكر مباح لك كمال ورثته عن أبيك وامّك ، فتعجّل حمله وأعجل في الإقبال إلينا إن شاء الله (٢).

لقد احتاط الإمام عليه‌السلام كأشدّ ما يكون الاحتياط في أموال الدولة وشدّد على ولاته فيها فأقام عليهم العيون ، وراقب جميع تصرّفاتهم وامورهم.

__________________

(١) كسكر : مدينة تقع بين الكوفة والبصرة ، وقصبتها واسط ، وفيها يقول عبيد الله بن الحرّ :

أنا الّذي أجليتكم عن كسكر

ثمّ هزمت جمعكم بتستر

ثمّ انقضضت بالخيول الضّمّر

حتّى حللت بين وادي حمير

جاء ذلك في معجم البلدان ـ باب الكاف.

(٢) نهج السعادة ٥ : ٣٥٠ ، نقلا عن أنساب الأشراف : ٣٣٨.

١٤٥

عامله على الجبل

وأقام الإمام واليا على الجبل سليمان بن صرد الخزاعي ، وهو من أفذاذ شيعته ، وأحد المطالبين بدم سيّد الشهداء عليه‌السلام ، وكان زعيم التوّابين ، وقد كتب إليه الإمام عليه‌السلام الرسالة التالية :

ذكرت ما صار في يديك من حقوق المسلمين ، وإنّ من قبلك وقبلنا في الحقّ سواء ، فأعلمني ما اجتمع عندك من ذلك ، وأعط كلّ ذي حقّ حقّه ، وابعث إلينا بما سوى ذلك لنقسمه فيمن قبلنا إن شاء الله (١).

وترى في هذه الرسالة مدى اهتمام الإمام البالغ في أموال الدولة وصرفها على تطوّر حياة المسلمين ، وإنقاذهم من كارثة الفقر والحرمان.

__________________

(١) نهج السعادة ٥ : ٣٥١ ، نقلا عن أنساب الأشراف : ٢٣٣.

١٤٦

عمّال الخراج والصّدقات

١٤٧
١٤٨

أمّا الخراج فهو الضريبة المالية التي فرضها الإسلام على غلّة الأرض (١) ، وهو شريان الاقتصاد الإسلامي ، فإنّ معظم واردات الدولة تستند إليه ، كما أنّ نفقاتها كانت عيالا عليه فرواتب الجيش ، ورواتب سائر الموظّفين في جهاز الدولة معظمها من هذه الضريبة ، وقد اعتنى الإمام بها عناية بالغة.

أهمّية الخراج :

وهذا حديث عن أهمّية الخراج في عهده لمالك الأشتر قال عليه‌السلام :

وتفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله ، فإنّ في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم ، ولا صلاح لمن سواهم إلاّ بهم ، لأنّ النّاس كلّهم عيال على الخراج وأهله.

وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج ، لأنّ ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة ؛ ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد ، وأهلك العباد ، ولم يستقم أمره إلاّ قليلا.

فإن شكوا ثقلا أو علّة ، أو انقطاع شرب أو بالّة (٢) ، أو إحالة أرض اغتمرها غرق ، أو أجحف بها عطش ، خفّفت عنهم بما ترجو أن يصلح

__________________

(١) مجمع البحرين ـ مادة خرج ، وجاء فيه : أنّه قيل : يقع اسمه على الضريبة والجزية والغلّة.

(٢) البلّة : ما يبل به الأرض من الماء.

١٤٩

به أمرهم ؛ ولا يثقلنّ عليك شيء خفّفت به المئونة عنهم ، فإنّه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك ، وتزيين ولايتك ، مع استجلابك حسن ثنائهم ، وتبجّحك باستفاضة العدل فيهم ، معتمدا فضل قوّتهم ، بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم ، والثّقة منهم بما عوّدتهم من عدلك عليهم ورفقك بهم ، فربّما حدث من الأمور ما إذا عوّلت فيه عليهم من بعد ما احتملوه طيّبة أنفسهم به ؛ فإنّ العمران محتمل ما حمّلته ، وإنّما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها ، وإنّما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع (١) ، وسوء ظنّهم بالبقاء ، وقلّة انتفاعهم بالعبر (٢).

وحوى هذا المقطع جميع صنوف العدل والشرف ، وما ينشده الإسلام من عمران الأرض ، وإشاعة الرخاء بين الناس ، وقد حفل بامور بالغة الأهمّية كان منها :

١ ـ تفقّد الخراج :

أمّا الخراج فهو من أهمّ واردات الدولة الإسلامية في تلك العصور ، وأمّا كيفيّة شرائطه وشئونه فقد تعرّضت لها كتب الفقه الإسلامي ، وقد عرض الإمام عليه‌السلام في كلامه إلى أنّ صلاح الخراج صلاح لأهله ، وصلاح لجميع المواطنين لأنّهم جميعا عيال عليه.

٢ ـ عمارة الأرض :

وأكّد الإمام عليه‌السلام على ضرورة إعمار الأرض ، وذلك بشقّ الأنهر وما يحتاجه المزارعون في شئون زراعتهم وتنميتها ، فإنّ زيادة الخراج لا يكون إلاّ بعمارة الأرض.

__________________

(١) الجمع : يراد به جمع المسئولين للمال.

(٢) نهج البلاغة : ٤٣٦ ـ ٤٣٧.

١٥٠

٣ ـ إهمال الأرض :

أمّا إهمال الأرض وعدم الاهتمام بها فإنّه يعود بالأضرار الفادحة على المزارعين والمواطنين ، ويشيع البؤس والفقر بين الناس.

٤ ـ الاستجابة لطلبات المزارعين :

وحثّ الإمام عليه‌السلام السلطة على الاستجابة الكاملة للمزارعين فيما يطلبونه من إصلاح لأرضهم ، وما يعود على زرعهم بالنماء فإنّ إهمال طلباتهم يوجب خراب الأرض ، وموت الزرع.

كما أنّ الاستجابة لطلباتهم فيه زين للمسؤولين ، وتبجحّ لهم بإشاعة العدل ، ومن الطبيعي أنّ ذلك يوجب ربط المواطنين بالدولة وإخلاصهم لها.

٥ ـ سبب خراب الأرض :

أمّا السبب في خراب الأرض فإنّه ناجم عن فقر المزارعين وعدم تمكّنهم من إصلاح زرعهم ، ومن المؤكّد أنّ ذلك ناشئ عن جشع المسئولين ، واهتمامهم بجلب الخراج ، ولا يعيرون أي اهتمام لإصلاح الأرض ، وسنتحدّث في بعض بحوث هذا الكتاب عمّا عاناه المزارعون من الظلم والدمار من الجباة أيام الحكم الأموي والعباسي.

التعاليم السامية لعمّال الخراج :

ووضع الإمام عليه‌السلام المناهج الرفيعة لعمّال الخراج ، وأوصاهم بتطبيقها والأخذ بها في ميدان عملهم ، وهذه وصيّته بعد البسملة :

من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى امراء الخراج :

أمّا بعد ، فإنّه من لم يحذر ما هو صائر إليه لم يقدّم لنفسه ولم يحرزها ،

١٥١

ومن اتّبع هواه وانقاد له على ما يعرف نفع عاقبته عمّا قليل ليصبحنّ من النّادمين.

ألا وإنّ أسعد النّاس في الدّنيا من عدل عمّا يعرف ضرّه ، وإن أشقاهم من اتّبع هواه ، فاعتبروا واعلموا أنّ لكم ما قدّمتم من خير ، وما سوى ذلك وددتم لو أنّ بينكم وبينه أمدا بعيدا ، ويحذّركم الله نفسه والله رءوف ورحيم بالعباد ، وأنّ عليكم ما فرّطتم فيه ، وأنّ الّذي طلبتم ليسير وأنّ ثوابه لكثير ، ولو لم يكن فيما نهي عنه من الظّلم والعدوان عقاب يخاف ، كان في ثوابه ما لا عذر لأحد بترك طلبته ، فارحموا ترحموا ولا تعذّبوا خلق الله ، ولا تكلّفوهم فوق طاقتهم وأنصفوا النّاس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم فإنّكم خزّان الرّعيّة ، لا تتّخذنّ حجّابا ولا تحجبنّ أحدا عن حاجته حتّى ينهيها (١) إليكم ، ولا تأخذوا أحدا بأحد إلاّ كفيلا عمّن كفل عنه ، واصبروا أنفسكم على ما فيه الاغتباط ، وإيّاكم وتأخير العمل ودفع الخير ، فإنّ في ذلك النّدم ، والسّلام (٢).

وحفل هذا الكلام بامور بالغة الأهمّية ، وهي :

١ ـ أنّ الإمام عليه‌السلام أوصى عمّال الخراج بتقوى الله تعالى وطاعته ، والاجتناب عن معاصيه ، وممّا لا ريب فيه أنّ من يتّقي الله تعالى فإنّه لا يعتدي ، ولا يظلم ، ولا يقترف إثما ، ويسعد المجتمع في حكمه إذا كان حاكما.

٢ ـ أنّه أمر العمّال بأن لا يكلّفوا الناس فيما يجبونه فوق طاقتهم وعليهم أن يسيروا بين الناس بالمعروف.

__________________

(١) ينهيها : أي يتركها.

(٢) كتاب صفّين : ١٠٨ ، وقريب منه في نهج البلاغة ٣ : ٨٠ ـ ٨١.

١٥٢

٣ ـ وعهد عليه‌السلام لعمّاله بانصاف الناس ، والصبر على قضاء حوائجهم ، فإنّهم خدم الرعية وخزّان أموالها.

٤ ـ أنّه أمرهم أن لا يتّخذوا حجّابا يمنعون الناس من الوصول إليهم ، فإنّ ذلك ممّا يوجب شيوع البغضاء بين المواطنين والحكومة.

٥ ـ أنّه أوصاهم أن لا يأخذوا أحدا من الناس بجرم غيره إلاّ أن يكون كفيلا عنه.

٦ ـ أنّه عليه‌السلام نهى عن تأخير أعمال المواطنين ، والواجب أن يقوموا بقضائها بالوقت دون تأخير.

من وصاياه لعمّاله :

وأوصى الإمام عليه‌السلام عمّال الخراج بهذه الوصيّة القيّمة ، وقد جاء فيها :

ولا تبيعنّ للنّاس في الخراج كسوة شتاء ، ولا صيف ، ولا دابّة يعملون عليها ، ولا عبدا ، ولا تضربنّ أحدا سوطا لمكان درهم ، ولا تمسّنّ مال أحد من النّاس ، مصلّ ولا معاهد ، إلاّ أن تجدوا فرسا أو سلاحا يعدى به على أهل الإسلام ، فإنّه لا ينبغي للمسلم أن يدع ذلك في أيدي أعداء الإسلام ، فيكون شوكة عليه. ولا تدّخروا أنفسكم نصيحة ، ولا الجند حسن سيرة ، ولا الرّعيّة معونة ، ولا دين الله قوّة ، وأبلوا في سبيل الله ما استوجب عليكم ، فإنّ الله سبحانه قد اصطنع عندنا وعندكم أن نشكره بجهدنا ، وأن ننصره بما بلغت قوّتنا ، ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم (١).

__________________

(١) مصادر نهج البلاغة ـ قسم الرسائل والوصايا : ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

١٥٣

وحوت هذه الكلمات جميع صور العدل ، وما ينشده الإسلام من الرحمة والرأفة للناس جميعا على اختلاف قوميّاتهم ولغاتهم وأديانهم.

مع عمّال الصدقات :

وضع الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام البرامج الرفيعة والآداب الإسلامية للعمّال الذين يجلبون الزكاة من المواطنين ، انظروا بعمق إلى هذه التعاليم العلوية.

قال عليه‌السلام لبعض عمّاله :

أمره بتقوى الله في سرائر أمره وخفيّات عمله ، حيث لا شهيد غيره ، ولا وكيل دونه.

وأمره ألاّ يعمل بشيء من طاعة الله فيما ظهر فيخالف إلى غيره فيما أسرّ ، ومن لم يختلف سرّه وعلانيته ، وفعله ومقالته ، فقد أدّى الأمانة ، وأخلص العبادة.

وأمره ألاّ يجبههم ولا يعضههم ، ولا يرغب عنهم تفضّلا بالإمارة عليهم ، فإنّهم الإخوان في الدّين ، والأعوان على استخراج الحقوق.

وإنّ لك في هذه الصّدقة نصيبا مفروضا ، وحقّا معلوما ، وشركاء أهل مسكنة ، وضعفاء ذوي فاقة ، وإنّا موفّوك حقّك ، فوفّهم حقوقهم ، وإلاّ تفعل فإنّك من أكثر النّاس خصوما يوم القيامة ، وبؤسى لمن ـ خصمه عند الله ـ الفقراء والمساكين والسّائلون والمدفوعون ، والغارمون وابن السّبيل!

ومن استهان بالأمانة ، ورتع في الخيانة ، ولم ينزّه نفسه ودينه عنها ، فقد أحلّ بنفسه في الدّنيا الذّلّ والخزي ، وهو في الآخرة أذلّ وأخزى.

١٥٤

وإنّ أعظم الخيانة خيانة الأمّة ، وأفظع الغشّ غشّ الأئمّة ، والسّلام (١).

من وصاياه الخالدة لعمّال الصدقة :

من وصايا الإمام الخالدة التي حوت الفضائل والآداب الرفيعة هذه الوصية التي عهد بها إلى عمّال الصدقة ، قال عليه‌السلام :

انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له ، ولا تروّعنّ مسلما ، ولا تجتازنّ عليه كارها ، ولا تأخذنّ منه أكثر من حقّ الله في ماله ، فإذا قدمت على الحيّ فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم ، ثمّ امض إليهم بالسّكينة والوقار ؛ حتّى تقوم بينهم فتسلّم عليهم ، ولا تخدج بالتّحيّة لهم (٢) ، ثمّ تقول : عباد الله ، أرسلني إليكم وليّ الله وخليفته ، لآخذ منكم حقّ الله في أموالكم ، فهل لله في أموالكم من حقّ فتؤدّوه إلى وليّه؟

فإن قال قائل : لا ، فلا تراجعه ، وإن أنعم (٣) لك منعم (٤) فانطلق معه من غير أن تخيفه أو توعده أو تعسفه أو ترهقه ، فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضّة ، فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلاّ بإذنه ، فإنّ أكثرها له ، فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلّط عليه ولا عنيف به. ولا تنفّرنّ بهيمة ولا تفزعنّها ، ولا تسوأنّ صاحبها فيها ، واصدع المال (٥) صدعين ثمّ خيّره ، فإذا اختار فلا تعرضنّ لما اختاره. ثمّ اصدع

__________________

(١) نهج البلاغة ٣ : ٢٦.

(٢) تخدج : أي تبخل.

(٣) أنعم : أي قال لك نعم.

(٤) المنعم : هو الذي يدفع الزكاة ، وهذا من روائع الأدب العلوي.

(٥) أصدع المال : أي قسّمه نصفين.

١٥٥

الباقي صدعين ، ثمّ خيّره ، فإذا اختار فلا تعرضنّ لما اختاره. فلا تزال كذلك حتّى يبقى ما فيه وفاء لحقّ الله في ماله ؛ فاقبض حقّ الله منه. فإن استقالك فأقله ، ثمّ اخلطهما ثمّ اصنع مثل الّذي صنعت أوّلا حتّى تأخذ حقّ الله في ماله.

ولا تأخذنّ عودا (١) ، ولا هرمة ، ولا مكسورة ، ولا مهلوسة (٢) ، ولا ذات عوار ، ولا تأمننّ عليها إلاّ من تثق بدينه ، رافقا بمال المسلمين حتّى يوصّله إلى وليّهم فيقسمه بينهم ، ولا توكّل بها إلاّ ناصحا شفيقا وأمينا حفيظا ، غير معنف ولا مجحف (٣) ، ولا ملغب (٤) ولا متعب.

ثمّ احدر (٥) إلينا ما اجتمع عندك نصيّره حيث أمر الله به ، فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه ألاّ يحول بين ناقة وبين فصيلها ، ولا يمصر (٦) لبنها فيضرّ ذلك بولدها ؛ ولا يجهدنّها ركوبا ، وليعدل بين صواحباتها في ذلك وبينها ، وليرفّه على اللاّغب (٧) ، وليستأن بالنّقب والظّالع ، وليوردها ما تمرّ به من الغدر (٨) ، ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جوادّ الطّرق ، وليروّحها في السّاعات ، وليمهلها عند النّطاف (٩) والأعشاب ،

__________________

(١) العود : المسنّة من الإبل.

(٢) المهلوسة : الضعيفة.

(٣) المجحف : الذي يشتدّ في سوق الأنعام حتى تهزل.

(٤) الملغب : الذي أعياه التعب.

(٥) احدر : أي اسرع.

(٦) يمصر : أي يأخذ لبنها.

(٧) الملغب : الذي أعياه التعب.

(٨) الغدر : هو ما يغادره السيل.

(٩) النطاف : المياه القليلة.

١٥٦

حتّى تأتينا بإذن الله بدّنا منقيات ، غير متعبات ولا مجهودات ، لنقسمها على كتاب الله وسنّة نبيّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فإنّ ذلك أعظم لأجرك ، وأقرب لرشدك ، إن شاء الله (١).

وتمثّلت جميع صور الكرامة والشرف في هذه الوصية التي عهد الإمام بها إلى عمّال الزكاة ، وكان من بنودها ما يلي :

١ ـ أنّه أوصى الجباة في أخذهم الحقّ الشرعي من المواطنين أن لا يروّعوهم ولا يجتازوا عليهم بالكره والقوّة والاجبار.

٢ ـ أن ينزل الجباة بأمكنة بعيدة عن بيوت المزارعين لئلا يخافوا.

٣ ـ أن يقابل الجباة المزارعين باللطف ، والتواضع ، ولا يبخلوا عليهم بالتحية والسلام ، ويقولون لهم بأدب : إنّ خليفة الله أرسلنا لكم فإن كان عندكم حقّ من حقوق الله فسلّموه لنا ، فإن أجابوا بالايجاب استلموه منهم ، وإن قالوا ليس في أموالنا حقّ فلا يراجعوهم وينصرفوا عنهم من غير إرهاق وعسف معهم.

٤ ـ أنّ الإمام عليه‌السلام عرض إجمالا إلى ما تجب فيه الزكاة ، وهي الذهب والفضّة ، والأنعام الثلاثة ، والحنطة والشعير.

٥ ـ وذكر الإمام عليه‌السلام حكم الزكاة في الماشية والإبل فإذا كان فيها حقّ ، فعلى الجباة أن لا يدخلوا عليها دخول متسلّط ولا عنيف ، وأن يقسّموها إلى قسمين فيما إذا كانت كثيرة ويجعلوا الخيار لصاحب المال فيها ، ثمّ يقسّموها إلى قسمين آخرين ويجعلوا لصاحبها الخيار ، وهكذا يستمرّ التقسيم حتى يأخذ الجباة حقّ الله منها ، وأوصاهم أن لا يختاروا المسنّة والهرمة والمكسورة ولا ذات العوار.

٦ ـ وأوصى الإمام العمّال بمراعاة الحيوان والرفق به ، وأن تصل إليه سالمة

__________________

(١) نهج البلاغة ٣ : ٢٣ ـ ٢٦.

١٥٧

غير مجهدة ... هذا بعض ما في هذا العهد من تعاليم وآداب.

ظلم العمّال أيام الأمويّين والعباسيّين :

بعد ما عرضنا إلى وصايا الإمام الخالدة لعمّال الخراج والصدقة ، وما تنشده من إشاعة العدل ، ونشر العزّة والكرامة والرأفة والرحمة إلى المواطنين ، وحمايتهم من كلّ جور وظلم واعتداء من العمال والولاة ، نعرض ـ إجمالا ـ إلى ما عاناه المسلمون أيام الحكم الأموي والعباسي من المآسي المروعة ، فقد صبّ عليهم الجباة أفحش ألوان الظلم ، وأقسى صور الجور ، وفيما يلي ذلك :

أيام الحكم الأموي :

وبعد ما تسلّم معاوية الحكم بالارهاب والمكر والخداع عهد بأخذ الضرائب إلى أقسى العمّال من ذوي الضمائر الميّتة فأمعنوا في ظلم الناس واستصفاء أموالهم.

يقول عقيبة بن هبيرة الأسدي مخاطبا معاوية :

معاوي إنّنا بشر فاسجح

فلسنا بالجبال ولا الحديد

أكلتم أرضنا فجردتموها

فهل من قائم أو من حصيد؟

فهبنا أمّة ذهبت ضياعا

يزيد أميرها وأبو يزيد

أتطمع في الخلود إذا هلكنا؟

وليس لنا ولا لك من خلود

ذروا خون الخلافة واستقيموا

وتأمير الأراذل والعبيد (١)

وصوّرت هذه الأبيات ما عاناه قوم عقيبة من الاضطهاد والظلم من عمّال معاوية ...

وأعلن الشاعر الرّاعي النمري في أبيات له جور عمّال عبد الملك بن مروان

__________________

(١) خزانة الأدب ٢ : ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

١٥٨

على قومه حتى افتقروا وهربوا في البيداء ، وليس عندهم إلاّ إبل مهزولة يقول :

أخليفة الرّحمن! إنّا معشر

حنفاء نسجد بكرة وأصيلا

إنّ السّعاة عصوك يوم أمرتهم

وأتوا دواهي لو علمت وغولا

أخذوا العريف فشقّقوا حيزومه

بالأصبحيّة قائما مغلولا (١)

حتّى إذا لم يتركوا لعظامه

لحما ولا لفؤاده معقولا (٢)

جاءوا بصكّهم وأحدب أسأرت

منه السّياط يراعة إجفيلا (٣)

أخذوا حمولته فأصبح قاعدا

لا يستطيع عن الدّيار حويلا

يدعو أمير المؤمنين ودونه

خرق تجرّ به الرّياح ذيولا (٤)

كهداهد كسر الرّماة جناحه

يدعو بقارعة الشّريف هديلا

أخليفة الرّحمن! إنّ عشيرتي

أسبى سوامهم عزين فلو لا (٥)

قوم على الإسلام لمّا يتركوا

ما عونهم ويضيّعوا التّهليلا (٦)

قطعوا اليمامة يطردون كأنّهم

قوم أصابوا ظالمين قتيلا

شهري ربيع ما تذوق لبونهم

إلاّ حموضا وخمة وذبيلا (٧)

وأتاهم يحيى فشدّ عليهم

عقدا يراه المسلمون ثقيلا (٨)

__________________

(١) الحيزوم : وسط الظهر. الأصبحيّة : السياط.

(٢) المعقول : الادراك.

(٣) أسأرت : أي بقيت في الإناء بقيّة. الأجفيل : الخائف.

(٤) الخرق : الصحراء الواسعة.

(٥) عزين : الجماعات.

(٦) الماعون : أراد به الزكاة.

(٧) الحموض : المرّ المالح من النبات.

(٨) يحيى : هو أحد السعاة الظالمين.

١٥٩

كتبا تركن غنيّهم ذا عيلة

بعد الغنى وفقيرهم مهزولا

فتركت قومي يقسمون امورهم

إليك أم يتربّصون قليلا (١)

أرأيتم هذا الشعر الطافح بالأسى والألم على ما أصاب الراعي وقومه من صنوف العذاب والفقر الذي صبّه الولاة والعمّال عليهم فإنّهم لم يتركوا لهم لعظامهم لحما إلاّ نهشوه ولا عظما إلاّ هشّموه.

وقد استمرّ جور العمّال حتى في عهد عمر بن عبد العزيز الذي هو أشرف ملك في بني اميّة فإنّ عمّاله لم يألوا جهدا في النهب والسلب ، وقد خاطبه كعب الأشعري بهذه الأبيات :

إن كنت تحفظ ما يليك فإنّما

عمّال أرضك بالبلاد ذئاب

لن يستجيبوا للّذي تدعو له

حتّى تجلّد بالسّيوف رقاب

بأكفّ منصلتين أهل بصائر

في وقعهنّ مزاجر وعقاب (٢)

وكان عمر على المنبر يخطب فانبرى إليه رجل فقطع خطابه وقال له :

إنّ الّذين بعثت في أقطارها

نبذوا كتابك ، واستحلّ المحرم

طلس الثّياب على منابر أرضنا

كلّ يجور وكلّهم يتظلّم

وأردت أن يلي الأمانة منهم

عدل وهيهات الأمين المسلم (٣)

لقد امتحن المسلمون امتحانا عسيرا وارهقوا إرهاقا شديدا من الجباة الذين لا يرجون لله وقارا ، فنهبوا واستحلّوا أموال المسلمين بغير حقّ.

__________________

(١) طبقات فحول الشعراء : ٤٣٩. جمهرة أشعار العرب : ٤٣.

(٢) البيان والتبيان ٣ : ٣٠٨.

(٣) المصدر السابق ٣ : ٣٥٩.

١٦٠