موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١٠

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١٠

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ١٠٩

٢ ـ وكتب الإمام عليه‌السلام إلى ابن عبّاس هذه الرسالة الحافلة بالنصح والوعظ :

أمّا بعد ، فإنّك لست بسابق أجلك ، ولا مرزوق ما ليس لك ؛ واعلم بأنّ الدّهر يومان : يوم لك ويوم عليك ، وأنّ الدّنيا دار دول (١) ، فما كان منها لك أتاك على ضعفك ، وما كان منها عليك لم تدفعه بقوّتك (٢).

وهذه الرسالة دعوة إلى الاستقامة وعدم الغرور بمباهج هذه الحياة التي لا يدوم سرورها ونعيمها على أحد.

٣ ـ ولمّا أراد الإمام عليه‌السلام الشخوص إلى حرب معاوية كتب إليه :

أمّا بعد ، فأشخص إليّ من قبلك من المسلمين والمؤمنين ، وذكّرهم بلائي عندهم وعفوي عنهم ، واستبقائي لهم ، ورغّبهم في الجهاد وأعلمهم الّذي في ذلك من الفضل.

وأقام الإمام في النخيلة لم يبرح عنها حتى قدم عليه ابن عباس مع أهل البصرة (٣).

اتّهامه بالخيانة :

واتّهم حبر الامّة بخيانة بيت مال البصرة واختلاس ما فيه من أموال ، وقد أعلن ذلك بعض المؤرّخين مستندين إلى كوكبة من الرسائل بعثها الإمام إليه ، وهي صريحة في جرحه واتّهامه بالخيانة ، وما يدرينا لعلّ تلك الكتب مفتعلة للحطّ من شأنه ، والتقليل من أهمّيته ، فقد خلط التاريخ بكثير من الموضوعات افتعلها من

__________________

(١) دار دول : أي لا تدوم لأحد ، فتارة تكون بيد شخص ، واخرى بيد غيره.

(٢) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ٥ : ٢٤٩.

(٣) كتاب متين ٢ : ١١٦. بحار الأنوار ٨ : ٤٧١.

١٢١

لا حريجة له في الدين لدعم بعض السياسيّين في تلك العصور.

وعلى أي حال فإنّا نذكر بعض تلك الرسائل التي بعثها الإمام عليه‌السلام لابن عباس :

١ ـ كتب الإمام عليه‌السلام هذه الرسالة لابن عباس ، وجاء فيها :

أمّا بعد ، فقد بلغني عنك أمر ، إن كنت فعلته فقد أسخطت ربّك ، وعصيت إمامك ، وأخزيت أمانتك.

بلغني أنّك جرّدت الأرض فأخذت ما تحت قدميك ، وأكلت ما تحت يديك ، فارفع إليّ حسابك ، واعلم أنّ حساب الله أعظم من حساب النّاس ، والسّلام.

وقد أجابه ابن عباس نافيا عنه هذه التهمة بما يلي :

أمّا بعد فإنّ كلّ الذي بلغك باطل ، وأنا لما تحت يدي ضابط ، وعليه حافظ ، فلا تصدّق الضنين (١).

وجواب ابن عباس صريح في براءته من تهمة الخيانة ، وأنّه قد اتّهمه بذلك بعض حسّاده وأعدائه.

٢ ـ وكتب الإمام عليه‌السلام إليه رسالة اخرى يسأله فيها ما أخذه من الجزية وجاء فيها :

أمّا بعد ، فإنّه لا يسعني تركك حتّى تعلمني ما أخذت من الجزية من أين أخذته ، وما وضعت منها فيم وضعته ، فاتّق الله فيما ائتمنتك عليه ، واسترعيتك إيّاه ، فإنّ المتاع بما أنست رازمه (٢) قليل ، وتباعته وبيلة

__________________

(١) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ـ المحقّق الكبير المحمودي ، نقلا عن تاريخ الطبري ٤ : ١٠٨.

(٢) رازمه : أي جامعه.

١٢٢

لا تبيد (١) والسّلام (٢).

وفي هذه الرسالة المطالبة بضرائب الجزية ، وتقديم حساب ما صرفه منها في الوجوه المخصّصة لها ، واشتملت وعظه وإرشاده إلى الطريق القويم.

٣ ـ من الرسائل التي حملت طابع الشدّة والصرامة على ابن عبّاس هذه الرسالة ، التي رواها عبد الله بن عبيد عن أبي الكنود ، قال : كنت من أعوان عبد الله بن عباس بالبصرة ، فلمّا كان من ما كان أتيت عليّا فأخبرته ، فتلا قوله تعالى : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ ) (٣). ثمّ كتب معه هذه الرسالة إلى ابن عباس :

أمّا بعد ، فإنّي كنت أشركتك في أمانتي ولم يكن من أهل بيتي رجل أوثق عندي منك بمواساتي وموازرتي بأداء الأمانة ، فلمّا رأيت الزّمان قد كلب على ابن عمّك (٤) ، والعدوّ ـ يعني معاوية ـ قد حرد (٥) ، وأمانة النّاس قد خربت ، وهذه الأمّة قد فتنت ، قلبت لابن عمّك ظهر المجنّ (٦) ، ففارقته مع القوم المفارقين ، وخذلته أسوأ خذلان ، وخنته مع من خان فلا ابن عمّك آسيت ، ولا الأمانة أدّيت ، كأنّك لم تكن على بيّنة من ربّك وإنّما كدت أمّة محمّد عن دنياهم وغدرتهم عن فيئهم ، فلمّا أمكنتك الفرصة في خيانة الأمّة ، أسرعت الغدرة ، وعاجلت الوثبة ، فاختطفت

__________________

(١) لا تبيد : أي لا تفنى.

(٢) العقد الفريد ٢ : ٢٤٢.

(٣) الأعراف : ١٧٥.

(٤) قد كلب : أي قد اشتدّ.

(٥) حرد : أي غضب.

(٦) قلبت له ظهر المجنّ : أي قمت على خلافه كمن يترك قائده في الحرب ويتّصل بعدوّه.

١٢٣

ما قدرت من أموالهم ، وانقلبت بها إلى الحجاز كأنّك إنّما حزت على أهلك ميراثك من أبيك وأمّك.

فسبحان الله أما تؤمن بالمعاد؟

أما تخاف الحساب؟

أما تعلم أنّك تأكل حراما؟ وتشرب حراما؟

وتشتري الإماء وتنكحهم بأموال اليتامى والأرامل والمجاهدين في سبيل الله الّتي أفاء الله عليهم.

فاتّق الله وأدّ إلى القوم أموالهم ، فإنّك والله! لئن لم تفعل وأمكنني الله منك لأعذرنّ إلى الله فيك ، فو الله! لو أنّ الحسن والحسين فعلا مثل الّذي فعلت ، ما كانت لهما عندي هوادة ، ولما تركتهما حتّى آخذ الحقّ منهما ، والسّلام (١).

وأنت ترى في هذه الرسالة من اللوم والتقريع والاستهانة بابن عباس ما يدعو إلى التأمّل في هذه الرسائل ، فإنّ ابن عباس أجلّ وأسمى من ذلك.

ردّ ما أخذه ابن عباس :

وأعلنت بعض المصادر أنّ ابن عباس ردّ ما أخذه من بيت المال ، فقد كتب أبو الأسود الدؤلي إلى الإمام أنّ ابن عباس أخذ من بيت المال عشرة آلاف درهم ، فكتب الإمام إليه يتهدّده بردّها ، فردّها ابن عباس أو أكثرها ، فلمّا علم الإمام كتب إليه بعد البسملة :

__________________

(١) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ٥ : ٢٢٨ ـ ٢٣٠ ، نقلا عن كوكبة من المصادر.

١٢٤

أمّا بعد ، فإنّ المرء قد يسرّه درك ما لم يكن ليفوته ، ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه ، فليكن سرورك بما نلت من آخرتك ، وليكن أسفك على ما فاتك منها ، وما نلت من دنياك فلا تكثر به فرحا ، وما فاتك منها فلا تأس عليه جزعا ، وليكن همّك فيما بعد الموت ، والسّلام.

ولمّا انتهت هذه الرسالة الحافلة بالوعظ والإرشاد علّق عليها ابن عباس قائلا : ما اتّعظت بكلام قطّ اتعاظي بكلام أمير المؤمنين عليه‌السلام (١).

وعلى أي حال فإنّ الذي أراه بمزيد من التأمّل أنّ اتّهام ابن عباس بالخيانة بعيد كلّ البعد عن سيرة هذا العملاق الذي تربّى في مدرسة الإمام عليه‌السلام ، وأخلص للإمام كأعظم ما يكون الإخلاص.

فقد تولّى بصلابة مقاومة أعدائه ، والردّ عليهم بمنطقه الفيّاض وحججه الدامغة في حياة الإمام وبعد وفاته ، وهو أوّل من دعا له على المنابر (٢) ، وقد حزن عليه كأشدّ ما يكون الحزن ، وبكاه أمرّ البكاء حتى فقد بصره (٣) ، وكان يتوسّل إلى الله تعالى به ، ويجعله واسطة في قضاء مهمّاته ، فكيف ينحرف عنه ، ويخون بيت المال!

وبالاضافة إلى ذلك فإنّ الإمام كان يكبر ابن عباس ويبجّله وقال فيه :

« لله درّ ابن عباس ، إن كان لينظر إلى الغيب من ستر رقيق » (٤).

ومن الجدير بالذكر أنّ هذه الشبهة تصدّى إلى إبطالها عمرو بن عبيد في

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٩٤ ، أدب الدنيا والدين ـ الماوردي : ٦٤.

(٢) مآثر الأناقة ٢ : ٢٣١.

(٣) الدرجات الرفيعة في ترجمة ابن عباس : ١١٨.

(٤) العقد الفريد ٢ : ٣٦٣.

١٢٥

حديث له مع سليمان بن عليّ بن عبد الله بن العباس فقد أنكر قول الإمام في ابن عباس : « يفتينا في القملة والقميلة ، وطار بأموالنا في ليلة » ... كيف يقول هذا وابن عباس رحمه‌الله ، لم يفارق عليّا حتى قتل ، وشهد صلح الحسن ، وأي مال يجتمع في بيت المال بالبصرة مع حاجة عليّ عليه‌السلام إلى الأموال ، وهو يفرغ بيت مال الكوفة في كلّ خميس ، ويرشّه؟ قالوا : إنّه كان يقيل فيه فكيف يترك المال يجتمع بالبصرة؟ وهذا باطل (١) ... وبهذا نطوي الحديث عن ولاية ابن عباس.

__________________

(١) أمالي المرتضى ١ : ١٧٧.

١٢٦

ولاية أبي الأسود

أمّا أبو الأسود الدؤلي فهو من وجوه شيعة الإمام عليه‌السلام واستعمله واليا على البصرة بعد ابن عباس (١).

وقد جعله الإمام عينا له ـ فيما يقول المؤرّخون ـ وكتب له الإمام ما يلي :

أمّا بعد ، فمثلك نصح الإمام والامّة ، وأدّى الأمانة ، ودلّ على الحقّ ، وقد كتبت إلى صاحبك ـ يعني ابن عباس ـ فيما كتبت إليّ فيه من أمره ، ولم اعلمه أنّك كتبت إليّ ، فلا تدع إعلامي بما يكون بحضرتك ممّا النّظر فيه للأمّة صلاح ، فإنّك بذلك جدير ، وهو حقّ واجب عليك ، والسّلام (٢).

وحكت هذه الرسالة مدى سهر الإمام على سيرة عمّاله وولاته وسلوكهم ، واحتياطه التامّ في معرفة شئونهم خوفا من أن يكونوا قد شذّوا عن الطريق القويم ، وخالفوا قواعد الدين الحنيف.

وكانت لأبي الأسود مكانة متميّزة عند ابن عباس ، وقد استخلفه على القضاء ، وممّا يجدر الإشارة إليه أنّه قضى على رجل في أمر فشكاه ، فبلغ ذلك أبا الأسود فقال :

__________________

(١) خزانة الأدب ١ : ٢٨١.

(٢) تاريخ الطبري ٤ : ١٠٨.

١٢٧

إذا كنت مظلوما فلا تلف راضيا

عن القوم حتّى تأخذ النّصف واغضب

وإن كنت أنت الطّالب القوم فاطرح

مقالتهم واشعب بهم كلّ مشعب

وقارب بذي عقل وباعد بجاهل

جلوب عليك الشّرّ من كلّ مجلب

ولا ترتض بالجور واصبر على الّتي

بها كنت أقضي للبعيد على الأب

فإنّي امرؤ أخشى إلهي وأتّقي

عقابي وقد جرّبت ما لم تجرّب (١)

وقد لاقى جهدا وعناء بعد ما آلت الخلافة إلى معاوية بن هند ، فقد ولي ابن عامر على البصرة فجفاه وأبعده وذلك لولائه للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال فيه أبو الأسود :

ذكرت ابن عبّاس بباب ابن عامر

وما مرّ من عيشي ذكرت وما فضل

أميرين كانا صاحبيّ كلاهما

فكلاّ جزاه الله عنّي بما فعل

فإن كان شرّا كان شرّا جزاؤه

وإن كان خيرا كان خيرا إذا عدل (٢)

رحم الله أبا الأسود فقد كان من عمالقة العلماء ومن أفذاذ المصلحين ، وقد عانى الكثير من المصاعب في أيام الحكم الأسود حكم معاوية ابن هند.

__________________

(١) أخبار القضاة ١ : ٢٨٩.

(٢) خزانة الأدب ١ : ٢٨٥.

١٢٨

ولاية زياد

وولي زياد بن عبيد الرومي ولاية البصرة من قبل عبد الله بن عباس ، ويتساءل الكثيرون من قدامى ومحدثين أنّه كيف أقرّ الإمام ولايته ولم يبادر إلى عزله مع أنّه ليس له أب شرعي يعرف به حتى قيل فيه زياد بن أبيه ، وقد ألحقه بنسبه معاوية بن أبي سفيان استنادا إلى شهادة أبي مريم الخمّار الذي هو من عهّار الجاهلية ، وقد شهد له بشهادة تندى لها الجبين ، وقد بنى عليها معاوية ، واعتبره أخا له ، لكن لا شرعي.

والتحقيق الذي يقتضيه النظر حسب القواعد الشرعية أنّ زيادا هو ابن عبيد الرومي ، فقد كانت امّه سميّة زوجة لعبيد ، وقد زنا بها أبو سفيان حسب شهادة أبي مريم ، والولد يلحق بأبيه عملا بالحديث النبوي : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » وعليه فلا مجال لتلك الشبهة ، فهو ابن عبيد ، وليس ابنا لأبي سفيان.

رسائل الإمام إلى زياد :

وكتب الإمام عليه‌السلام مجموعة من الرسائل إلى زياد كان منها ما يلي :

الرسالة الاولى :

حدثت في البصرة فتنة أحدثها معاوية بعد شهادة البطل الخالد محمّد بن أبي بكر ، فقد أوعز إلى عبد الله الحضرمي أن يسير إلى البصرة ، ويطلب من أهلها التمرّد على حكومة الإمام ؛ لأنّ الكثيرين منهم يرون أنّ عثمان قد قتل مظلوما ، وقد هلك

١٢٩

جمهور غفير منهم في ذلك ، وسار عبد الله يطوي البيداء حتى انتهى إلى البصرة وعرض على أهلها ما طلب منهم معاوية من التمرّد على الإمام عليه‌السلام ، فأجابه جمهور غفير منهم ، فخاف زياد منهم ، وكتب إلى ابن عباس يخبره بذلك ، وبادر ابن عباس فأحاط الإمام علما بأنّ جلّ أهل البصرة قد خلعوا يد الطاعة وفارقوا الجماعة ، فندب الإمام أهل الكوفة لمناجزة ابن الحضرمي فتكاسلوا عن إجابته ، فقام إليه أعين بن ضبيعة المجاشعي ، فقال له : أنا أكفيك هذا الخطب ، فأمره بالشخوص إلى البصرة ، وزوّده بهذه الرسالة إلى زياد : من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى زياد بن عبيد ، سلام عليك.

أمّا بعد ، فإنّي بعثت أعين بن ضبيعة ليفرّق قومه عن ابن الحضرميّ ، فارقب ما يكون منه ، فإن فعل وبلغ من ذلك ما يظنّ به وكان في ذلك تفريق تلك الأوباش ، فهو ما نحبّ وإن ترامت الأمور بالقوم إلى الشّقاق والعصيان فانبذ من أطاعك إلى من عصاك فجاهدهم فإن ظهرت فهو ما ظننت عليك ، وإلاّ فطاولهم وماطلهم فكأنّ كتائب المسلمين قد أطلّت عليك ، فقتل الله المفسدين الظّالمين ، ونصر المؤمنين المحقّين ، والسّلام.

وانتهى أعين إلى البصرة ، وعرض رسالة الإمام على زياد ، فلمّا قرأها قال : إنّي لأرجو أن يكفيني هذا الأمر ، وبادر أعين إلى قومه فحذّرهم وخوّفهم ، فاستجابوا له ، فنهض بهم إلى ابن الحضرمي ، وجرت بينهما مناوشات ومجادلات كلامية ، وأراد زياد مناجزته إلاّ أنّه عدل عن ذلك ، ورفع إلى الإمام رسالة جاء فيها :

أمّا بعد يا أمير المؤمنين! فإنّ أعين قدم علينا بجدّ ومناصحة وصدق يقين ، فجمع إليه من أطاعه من عشيرته فحثّهم على الطاعة ، وحذّرهم الخلاف ، ثمّ نهض بمن أقبل معه إلى من أدبر عنه ، فوافقهم عامّة النهار ، فهال أهل الخلاف تقدّمه ،

١٣٠

وتصدّع عن ابن الحضرمي كثير ممّن كان يريد نصرته ، فكان كذلك حتى أمسى فأتى رحله ، فبيته نفر من هذه الخارجة المارقة فاصيب رحمه‌الله تعالى فأردت أن اناهض ابن الحضرمي فحدث أمر قد أمرت رسولي هذا أن يذكره لأمير المؤمنين ، وقد رأيت أنّ رأي أمير المؤمنين ما رأيت أن يبعث إليهم جارية بن قدامة ، فإنّه نافذ البصيرة ومطاع في العشيرة ، شديد على عدوّ أمير المؤمنين ، فإن يقدم يفرق بينهم بإذن الله ، والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ».

ولمّا وردت الرسالة إلى الإمام دعا جارية بن قدامة ، وعرض عليه الأمر فاستجاب له ، ومضى يجدّ السير حتى انتهى إلى البصرة ، فقام بما عهد إليه ، فاستجاب له خلق من الأزد ، وثابوا إلى الطاعة ونبذ الخلاف.

رسالة الإمام إلى أهل البصرة :

وزوّد الإمام عليه‌السلام جارية بن قدامة بالرسالة التالية فقرأها على أهل البصرة وهي : من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى من قرئ عليه كتابي هذا من ساكني البصرة من المؤمنين والمسلمين ، سلام عليكم.

أمّا بعد ، فإنّ الله حليم ذو أناة لا يعجل بالعقوبة قبل البيّنة ، ولا يأخذ المذنب عند أوّل وهلة ، ولكنّه يقبل التّوبة ، ويستديم الأناة ، ويرضى بالإنابة ، ليكون أعظم للحجّة ، وأبلغ في المعذرة.

وقد كان من شقاق جلّكم ـ أيّها النّاس ـ ما استحققتم أن تعاقبوا عليه ، فعفوت عن مجرمكم ورفعت السّيف عن مدبركم ، وقبلت من مقبلكم ، وأخذت بيعتكم ، فإن تفوا ببيعتي وتقبلوا نصيحتي ، وتستقيموا على طاعتي أعمل فيكم بالكتاب والسّنّة وقصد الحقّ ، واقم فيكم سبيل الهدى.

١٣١

فو الله! ما أعلم أنّ واليا بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أعلم بذلك منّي ، ولا أعمل.

أقول قولي هذا صادقا غير ذامّ لمن مضى ، ولا منتقصا لأعمالهم.

فإن خطت بكم الأهواء المردية ، وسفه الرّأي الجائر إلى منابذتي تريدون خلافي ، فها أنا ذا قد قرّبت جيادي ، ورحّلت ركابي (١).

وأيم الله لئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعنّ بكم وقعة لا يكون يوم الجمل إليها إلاّ كلعقة لاعق ، وإنّي لظانّ ألاّ تجعلوا إن شاء الله على أنفسكم سبيلا.

وقد قدّمت هذا الكتاب إليكم حجّة عليكم ، ولن أكتب إليكم من بعده كتابا إن أنتم استغششتم نصيحتي ، ونابذتم رسولي حتّى أكون أنا الشّاخص نحوكم إن شاء الله تعالى ، والسّلام (٢).

وحوت هذه الرسالة دعوة الإمام عليه‌السلام أهل البصرة إلى السلم والطاعة ، ونبذ التمرّد ، وذكّرتهم بما أسداه عليهم من الإحسان بعد واقعة الجمل فقد غمرهم بلطفه فعفى عن مجرمهم ومسيئهم وأشاع الأمن في ديارهم ولم يقابلهم بالمثل ، وأنّهم إن أطاعوه فيعمل فيهم بكتاب الله تعالى وسنّة نبيّه ، ويحكم فيهم بالحقّ المحض والعدل الخالص ، كما هدّدهم أنّهم إذا ما استجابوا لنصيحته فسوف يقابلهم بالشدّة والصرامة ، ولا يدع أي ظلّ للخائنين والمجرمين ...

هذا بعض ما حوته رسالة الإمام عليه‌السلام إلى أهل البصرة.

__________________

(١) الجياد : الفرس السريع. الركاب : الإبل التي تحمل جيشه.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٤ : ٥٠. الكامل لابن الأثير ٣ : ١٨٢.

١٣٢

كتابه إلى زياد :

كتب الإمام عليه‌السلام هذه الرسالة إلى زياد بعد ما بلغه أنّه يتكبّر على الناس ، ويكثر من الألوان المختلفة في طعامه ... وهذه رسالته :

أمّا بعد ، فإنّ سعدا ذكر أنّك شتمته ظلما ، وهدّدته وجبهته (١) تجبّرا وتكبّرا ، فما دعاك إلى التّكبّر ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الكبر رداء الله ، فمن نازع الله رداءه قصمه ».

وقد أخبرني أنّك تكثر من الألوان المختلفة في الطّعام في اليوم الواحد ، وتدّهن كلّ يوم ، فما عليك لو صمت لله أيّاما ، وتصدّقت ببعض ما عندك محتسبا ، وأكلت طعامك قفارا (٢) ، فإنّ ذلك شعار الصّالحين.

أفتطمع وأنت متمرّغ في النّعيم تستأثر به على الجار والمسكين والضّعيف والفقير والأرملة واليتيم أن يحسب لك أجر المتصدّقين.

وأخبرني أنّك تتكلّم بكلام الأبرار ، وتعمل عمل الخاطئين ، فإن كنت تفعل ذلك فنفسك ظلمت ، وعملك أحبطت ، فتب إلى ربّك يصلح لك عملك ، واقتصد في أمرك وقدّم إلى ربّك الفضل ليوم حاجتك ، وادّهن غبّا ، فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « ادّهنوا غبّا ولا تدّهنوا رفها » (٣).

حكت هذه الرسالة التنديد بزياد لتكبّره وتجبّره على الناس ، واختياره

__________________

(١) جبهته : أي رددته.

(٢) قفارا : أي خال من الإدام.

(٣) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١٦ : ١٩٦.

١٣٣

للألوان المختلفة في الطعام في اليوم الواحد ، وأنّه بذلك قد استأثر على الفقراء والمساكين والأرامل واليتامى ، فأخذ ما أعدّه الله لهم في بيت مال المسلمين ... هذا بعض ما حوته هذه الرسالة من القيم والآداب.

تحذير الإمام لزياد من أباطيل معاوية :

قام زياد بدور إيجابي في بعض أعمال فارس فضبطها ضبطا صالحا وجبا خراجها وحماها ، وعرف ذلك معاوية فورم أنفه ، فقام لخداعه وجلبه إليه ، وكتب إليه :

أمّا بعد ، فإنّه غرّتك قلاع تأوي إليها ليلا كما تأوي الطير إلى وكرها ، وأيم الله لو لا انتظاري بك ما الله أعلم به لكان ذلك منّي ما قاله العبد الصالح : ( فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ ) (١).

وكتب في أسفل الكتاب شعرا كان منه هذا البيت :

تنسى أباك وقد شالت نعامته

إذ تخطب النّاس والوالي عمر

ولمّا ورد الكتاب على زياد قام خطيبا ، وقال : العجب من ابن آكلة الأكباد ورأس النفاق يهدّدني وبيني وبينه ابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وزوج سيّدة نساء العالمين ، وأبو السبطين ، وصاحب الولاية والاخاء في مائة ألف من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ، أما والله! لو تخطّى هؤلاء أجمعين إليّ لوجدني فحشا (٢) ضرّابا بالسيف.

وكتب إلى الإمام عليه‌السلام يخبره بما جرى وأرسل معه كتاب معاوية إليه ، فبعث الإمام عليه‌السلام هذه الرسالة :

__________________

(١) النمل : ٣٧.

(٢) المفحش : الجريء.

١٣٤

أمّا بعد ، فإنّي قد ولّيتك ما ولّيتك وأنا أراك لذلك أهلا ، وإنّه قد كانت من أبي سفيان فلتة في أيّام عمر من أمانيّ التّيه وكذب النّفس ، لم تستوجب بها نسبا ، وإنّ معاوية كالشّيطان الرّجيم يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ، فاحذره ثمّ احذره ثمّ احذره ، والسّلام (١).

وحذّر الإمام عليه‌السلام في هذه الرسالة زيادا من أضاليل معاوية وخداعه ، فقد حاول أن يلحق زيادا بنسبه ، وذلك شبهة لزنا أبيه بسميّة أمّ زياد ، والقصّة ممّا يندى له جبين الإنسانية ففيها فضيحة لأبي سفيان وسميّة ، ولكن معاوية لم يحفل بالعار في سبيل تدعيم أغراضه السياسية ، وبناء سلطانه ، وأخيرا فقد استجاب زياد لمعاوية ، وصار من أقوى أعوانه وأخذ يتتبّع شيعة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكان بهم عالما ، فجعل يسمل أعينهم ويقطع ألسنتهم ، ويقتلهم على الظنّة والتّهمة.

وبهذا نطوي الحديث عن ولاية زياد للبصرة.

__________________

(١) تهذيب تاريخ ابن عساكر ٥ : ٤١٠. الغدير ١٠ : ٢١٩.

١٣٥
١٣٦

ولاته على

المدائن ـ كسكر ـ الجبل

١٣٧
١٣٨

ألمحنا في البحوث السابقة إلى ولاة الإمام عليه‌السلام على الأقطار والأقاليم والمدن الإسلامية ، وأنّه لم يستعمل أي وال محاباة أو اثرة ، وإنّما كان يبغي الحقّ والمصلحة العامّة للامّة ، وكان يضع العيون والرقباء على تصرّفاتهم ، فمن شذّ في سلوكه وسيرته عن منهج الحقّ بادر إلى عزله كما سنبيّن ذلك في البحوث الآتية :

وعلى أيّ حال ، فإنّا نعرض ـ فيما يلي ـ إلى ولاة الإمام عليه‌السلام على المدائن وكسكر :

ولاته على المدائن

وعهد الإمام عليه‌السلام بولاية المدائن إلى الأشخاص التالية أسماؤهم ، وهم :

حذيفة اليماني

نصّ الباحث الكبير السيّد صدر الدين السيّد علي خان على أنّ الإمام عليه‌السلام أقام الصحابي الجليل حذيفة اليماني واليا على المدائن ، وهو من أبرز الصحابة في فضله وتقواه ، وكان يسمّى صاحب السرّ ؛ لأنّه كان يعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد اتّصل اتّصالا وثيقا بالإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فكان يذيع فضائله ، وينشر مناقبه ، وهو القائل : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سيّد المرسلين ، وإمام المتّقين ،

١٣٩

ورسول ربّ العالمين ، ليس له شبيه ولا نظير ، وعليّ عليه‌السلام أخوه ، وإلى هذا المعنى أشار الصفيّ الحلّي بمدحه للإمام :

أنت سرّ النّبيّ والصّنو وابن

العمّ والصّهر والأخ السّجّاد

لو رأى مثلك النّبيّ لآخاه

وإلاّ فأخطأ الانتقاد

عهد الإمام لحذيفة :

وعهد الإمام عليه‌السلام بولاية المدائن إلى حذيفة ، وكتب إليه هذه الرسالة ، وقد جاء فيها بعد البسملة :

من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى حذيفة بن اليمان

سلام عليك.

أمّا بعد ، فإنّي قد ولّيتك ما كنت عليه لمن كان قبلي من حرف المدائن ، وقد جعلت إليك أعمال الخراج والرّستاق وجباية أهل الذّمّة ، فاجمع إليك ثقاتك ومن أحببت ممّن ترضى دينه وأمانته ، واستعن بهم على أعمالك فإنّ ذلك أعزّ إليك ولوليّك ، وأكبت لعدوّك وإنّي آمرك بتقوى الله وطاعته في السّرّ والعلانيّة ، وأحذّرك عقابه في الغيب والمشهد ، وأتقدّم إليك بالإحسان إلى المحسن ، والشّدّة على المعاند ، وآمرك بالرّفق في أمورك ، والدّين (١) والعدل في رعيّتك ، فإنّك مسائل عن ذلك ، وإنصاف المظلوم ، والعفو عن النّاس ، وحسن السّيرة ما استطعت ، فإنّ الله يجزي المحسنين.

وآمرك أن تجبي خراج الأرضين على الحقّ والنّصفة ، ولا تجاوز

__________________

(١) كذا جاء في النسخة.

١٤٠