موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١٠

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١٠

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ١٠٩

عامله كميل على هيت

من ألمع ولاة الإمام عليه‌السلام كميل بن زياد النخعي العالم الجليل الذي احتلّ مكانة مرموقة عند الإمام ، فكان حامل أسراره ـ كما يقول علماء الرجال ـ وقالوا فيه : إنّه كان شريفا مطاعا في قومه ، وإنّه من أجلّ علماء وقته ، وعقلاء زمانه ، ونسّاك عصره (١).

وهو الذي روى دعاء الإمام المشهور الذي هو من أسمى أدعية الإمام ، وقد نسب إلى كميل باعتبار أنّه راويه ، وقد غذّاه الإمام بمكارم الآداب ومحاسن الأخلاق ، وسنذكر وصيّته له ، وما عهد به إليه عند عرض الأنظمة التربوية عند الإمام.

وعلى أيّ حال ، فقد ولاّه على هيت ، وهي بلدة تقع على الفرات ، من نواحي بغداد ، وتتّصل ببادية الشام ، وتشكّل حدودا بين العراق وسوريا (٢).

وقد وجّه معاوية سفيان بن عوف في ستّة آلاف ، وأمره أن يقطع هيت ويغير على الأنبار والمدائن فيوقع بأهلها ، وغار سفيان على هيت فلم يجد بها أحدا ، فتوجّه صوب الأنبار ، وكانت فيه مسلحة للإمام تتكوّن من خمسمائة رجل ، وقد تفرّقوا فلم يبق منهم إلاّ مائتان ، وكان عليهم كميل بن زياد ، فبلغه أن قوما

__________________

(١) أضواء على دعاء كميل : ٨٥.

(٢) معجم البلدان ٥ : ٤٨٣.

١٠١

بقرقيسيا يريدون الغارة على هيت ، فسار إليهم بغير مشورة الإمام عليه‌السلام ، فأتى أصحاب سفيان الأنبار فرأوا قلّة الجيش الذي فيها فطمعوا فيهم فحملوا عليهم ، فقتل قائد جيش الإمام مع ثلاثين رجلا ، ونهبوا ما في الأنبار من أموال أهلها ، ورجعوا ظافرين إلى معاوية ،و لمّا انتهى الخبر إلى الإمام عليه‌السلام تأثّر من كميل ، وأنكر عليه فعله بها ، وكتب إليه :

أمّا بعد ، فإنّ تضييع المرء ما ولّي ، وتكلّفه ما كفي ، لعجز حاضر ، ورأي متبّر (١).

وإنّ تعاطيك الغارة على أهل قرقيسيا ، وتعطيلك مسالحك الّتي ولّيناك ـ ليس بها من يمنعها ، ولا يردّ الجيش عنها ـ لرأي شعاع (٢). فقد صرت جسرا لمن أراد الغارة من أعدائك على أوليائك ، غير شديد المنكب ، ولا مهيب الجانب ، ولا سادّ ثغرة ، ولا كاسر لعدوّ شوكة ، ولا مغن عن أهل مصره ، ولا مجز عن أميره (٣).

وقد عرض بصورة موضوعيّة لدراسة حياته المرحوم الخطيب السيّد علي الهاشمي في كتابه ( كميل بن زياد ).

__________________

(١) متبّر : أي رأي فاسد.

(٢) رأي شعاع : أي غير ملتئم.

(٣) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ٥ : ٣٢٠.

١٠٢

عامله الأشعث على آذربيجان

أمّا الأشعث بن قيس فهو من أخبث المنافقين ، وكان عاملا لعثمان بن عفّان على آذربيجان ، وقد كانت ابنته زوجة لعمرو بن عثمان ، ولمّا قتل عثمان بقي واليا عليها ، فكتب إليه الإمام الرسالة التالية :

أمّا بعد ، فلولا هناة كنّ فيك كنت المقدّم في هذا الأمر قبل النّاس ، ولعلّ أمرك يحمل بعضه بعضا إن اتّقيت الله.

ثمّ إنّه كان من بيعة النّاس إيّاي ما قد بلغك ، وكان طلحة والزّبير ممّن بايعاني ثمّ نقضا بيعتي على غير حدث ، وأخرجا أمّ المؤمنين وسارا إلى البصرة ، فسرت إليهما فالتقينا ، فدعوتهم إلى أن يرجعوا فيما خرجوا منه فأبوا ، فأبلغت في الدّعاء ، وأحسنت في البقيّة.

وإنّ عملك ليس لك بطعمة ولكنّه أمانة ، وفي يديك مال من مال الله ، وأنت من خزّان الله عليه حتّى تسلّمه إليّ ، ولعلّي ألاّ أكون شرّ ولاتك لك إن استقمت ولا قوّة إلاّ بالله (١).

وحفلت هذه الرسالة بإخبار الأشعث عن تمرّد طلحة والزبير على حكومة الإمام عليه‌السلام ومناجزته لهما حتى أطفأ نار التمرّد ، كما أعرب الإمام عليه‌السلام عن أموال

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٩١. كتاب صفّين : ٢٠.

١٠٣

الدولة فإنّها ليست للأشعث ولا لغيره وإنّما هي للمسلمين فليس له أن يستأثر بأي شيء منها.

عزل الأشعث :

كتب الإمام عليه‌السلام رسالة اخرى إلى الأشعث جاء فيها :

أمّا بعد ، فإنّما غرّك من نفسك وجرّأك على الآخرين إملاء الله لك ؛ إذ ما زلت قديما تأكل رزقه وتلحد في آياته وتستمتع بخلاقك وتذهب بحسناتك إلى يومك هذا ، فإذا أتاك رسولي بكتابي هذا فأقبل واحمل ما قبلك من مال المسلمين إن شاء الله (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٦.

١٠٤

ولاته على البصرة

١٠٥
١٠٦

أمّا البصرة فكان السائد فيها الولاء المطلق لعثمان بن عفّان ، وقد اتّخذها المتمرّدون على حكومة الإمام عليه‌السلام معقلا لهم فزحفوا إليها واحتلّوها ، ووجدوا فيها ميولا فكرية لهم ، وتجاذبا عاطفيا نحوهم ...

وقد استعمل الإمام عليه‌السلام عليها عدّة ولاة كان منهم ما يلي :

عثمان بن حنيف

كان عثمان بن حنيف الأنصاري الأوسي من أعلام الصحابة ، شهد احدا والمشاهد بعدها مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان له رأي ثاقب ، ومعرفة كاملة بالامور (١) ، وقد استعمله الإمام عليه‌السلام واليا على البصرة ، وقد دعاه قوم منها إلى وليمة فأجابهم ، ولمّا علم الإمام ذلك أنكره ، وبعث له الرسالة التالية :

رسالة الإمام لعثمان :

رفع الإمام رسالة لعثمان بن حنيف هذه الرسالة التي تقطع دابر الرشوة عند الولاة ، وتحملهم على خدمة الامّة بإخلاص وإيمان ، وهذا نصّها :

أمّا بعد ، يا ابن حنيف : فقد بلغني أنّ رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى

__________________

(١) الاستيعاب ٣ : ٩٠.

١٠٧

مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان ، وتنقل إليك الجفان (١).

وما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قوم ، عائلهم (٢) مجفوّ (٣) ، وغنيّهم مدعوّ.

فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم (٤) ، فما اشتبه عليك علمه فالفظه (٥) ، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.

ألا وإنّ لكلّ مأموم إماما ، يقتدي به ويستضيء بنور علمه ؛ ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه (٦) ، ومن طعمه بقرصيه.

ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك ، ولكن أعينوني بورع واجتهاد ، وعفّة وسداد.

فو الله! ما كنزت من دنياكم تبرا (٧) ، ولا ادّخرت من غنائمها وفرا (٨) ، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا ، ولا حزت من أرضها شبرا ، ولا أخذت منه إلاّ كقوت أتان دبرة ، ولهي في عيني أوهى وأهون من عفصة (٩)

__________________

(١) الجفان : جمع جفنة ، وهي القصعة.

(٢) العائل : الفقير المحتاج.

(٣) المجفو : المعرض عنه.

(٤) المقضم : المأكول.

(٥) الفظه : أي اطرحه.

(٦) الطمر : الثوب الخلق.

(٧) التبر : فتات الذهب والفضّة قبل صياغتها.

(٨) الوفر : المال.

(٩) العفصة : هو السائل الذي يكون على شجرة البلوط ، وهو مرّ.

١٠٨

مقرة (١) بلى! كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السّماء ، فشحّت عليها نفوس قوم (٢) ، وسخت عنها نفوس قوم آخرين ، ونعم الحكم الله.

وما أصنع بفدك وغير فدك ، والنّفس مظانّها في غد جدث تنقطع في ظلمته آثارها ، وتغيب أخبارها ، وحفرة (٣) لو زيد في فسحتها ، وأوسعت يدا حافرها ، لأضغطها الحجر والمدر ، وسدّ فرجها التّراب المتراكم ؛ وإنّما هي نفسي اروضها بالتّقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر ، وتثبت على جوانب المزلق (٤). ولو شئت لاهتديت الطّريق ، إلى مصفّى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القزّ (٥).

ولكن هيهات أن يغلبني هواي ، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة ـ ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ، ولا عهد له بالشّبع ـ أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى ، أو أكون كما قال القائل :

وحسبك داء أن تبيت ببطنة

وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ (٦)

أ أقنع من نفسي بأن يقال : هذا أمير المؤمنين ، ولا أشاركهم في مكاره

__________________

(١) مقرة : الشيء المرّ.

(٢) أشار بذلك إلى تأميم فدك من قبل أبو بكر.

(٣) الحفرة : أراد بها القبر.

(٤) المزلق : هو الصراط.

(٥) القزّ : ما يصنع منه الحرير.

(٦) القدّ : جلد الشاة غير المدبوغ.

١٠٩

الدّهر ، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش (١)!

فما خلقت ليشغلني أكل الطّيّبات ، كالبهيمة المربوطة ، همّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمّمها (٢) ، تكترش من أعلافها ، وتلهو عمّا يراد بها ، أو أترك سدى ، أو أهمل عابثا ، أو أجرّ حبل الضّلالة ، أو أعتسف طريق المتاهة (٣)!

وكأنّي بقائلكم يقول : « إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب ، فقد قعد به الضّعف عن قتال الأقران ومنازلة الشّجعان ».

ألا وإنّ الشّجرة البرّيّة أصلب عودا ، والرّوائع الخضرة أرقّ جلودا ، والنّابتات البدويّة أقوى وقودا ، وأبطأ خمودا.

وأنا من رسول الله كالصّنو من الصّنو (٤) ، والذّراع من العضد.

والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها ، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها. وسأجهد في أن أطهّر الأرض من هذا الشّخص المعكوس ، والجسم المركوس (٥) حتّى تخرج المدرة (٦) من بين حبّ الحصيد.

ومن هذا الكتاب ، وهو آخره :

__________________

(١) جشوبة العيش : غلظته وخشونته.

(٢) تقممها : المراد بها القمامة ، أي الكناسة.

(٣) المتاهة : الحيرة والهلكة.

(٤) الصنو من الصنو : المراد به شدّة اتّصاله بالنبيّ كالنخلتين اللتين يجمعهما أصل واحد.

(٥) الجسم المركوس : أراد به معاوية بن هند.

(٦) المدرة : القطعة من الطين اليابس.

١١٠

إليك عنّي يا دنيا! فحبلك على غاربك (١) ، قد انسللت من مخالبك (٢) وأفلتّ من حبائلك ، واجتنبت الذّهاب في مداحضك.

أين القرون الّذين غررتهم بمداعبك!

أين الأمم الّذين فتنتهم بزخارفك!

فها هم رهائن القبور ، ومضامين اللّحود.

والله! لو كنت شخصا مرئيّا ، وقالبا حسّيّا ، لأقمت عليك حدود الله في عباد غررتهم بالأماني ، وأمم ألقيتهم في المهاوي ، وملوك أسلمتهم إلى التّلف ، وأوردتهم موارد البلاء ، إذ لا ورد ولا صدر (٣)!

هيهات! من وطئ دحضك زلق ، ومن ركب لججك غرق ، ومن ازورّ (٤) عن حبائلك وفّق ، والسّالم منك لا يبالي إن ضاق به مناخه ، والدّنيا عنده كيوم حان انسلاخه (٥).

اعزبي عنّي! فو الله! لا أذلّ لك فتستذلّيني ، ولا أسلس (٦) لك فتقوديني.

وايم الله! يمينا أستثني فيها بمشيئة الله لأروضنّ نفسي رياضة تهشّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوما ، وتقنع بالملح مأدوما ؛ ولأدعنّ

__________________

(١) الغارب : الكاهل وما بين السنام والعنق.

(٢) جمع مخلب : وهو أظفار السبع.

(٣) الورد : ورود الماء. الصدر : الانتهاء من شرب الماء.

(٤) ازورّ : مال.

(٥) الانسلاخ : الزوال.

(٦) أسلس : أي انقاد.

١١١

مقلتي كعين ماء ، نضب معينها (١) ، مستفرغة دموعها. أتمتلئ السّائمة من رعيها فتبرك؟ وتشبع الرّبيضة (٢) من عشبها فتربض؟ ويأكل عليّ من زاده فيهجع (٣)! قرّت إذا عينه إذا اقتدى بعد السّنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة (٤) ، والسّائمة المرعيّة!

طوبى لنفس أدّت إلى ربّها فرضها ، وعركت بجنبها بؤسها ، وهجرت في اللّيل غمضها ، حتّى إذا غلب الكرى (٥) عليها افترشت أرضها ، وتوسّدت كفّها ، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم ، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم ، وهمهمت بذكر ربّهم شفاههم ، وتقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم ، ( أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ).

فاتّق الله يا ابن حنيف ، ولتكفف أقراصك ، ليكون من النّار خلاصك (٦).

في هذه الرسالة الغرّاء دعوة إلى الولاة أن لا يجيبوا الوجهاء الذين يدعونهم إلى الولائم التي تستطاب فيها الألوان ، ولا نصيب فيها للفقراء والمحرومين ، وإنّما يدعى لها ذو الثراء العريض ، وإنّما يقيمونها تقرّبا للسلطة ، واستخدامها لقضاء مآربهم وشئونهم الخاصّة ، وقد نهى الإمام عليه‌السلام الولاة من الاستجابة لها حسما للمؤثّرات الخارجية ، واستقلالا للسلطة ، حتى تخلص للحقّ ، ولا تتّبع الهوى ...

كما حفلت هذه الرسالة بامور بالغة الأهمّية والتي منها :

__________________

(١) نضب : غار. المعين : الماء الجاري.

(٢) الربيضة : الغنم التي مع رعاتها.

(٣) يهجع : أي يسكن.

(٤) الهاملة : الغنم التي ترعى بلا راع.

(٥) الكرى : النوم.

(٦) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ٤ : ٣٢ ـ ٤١ ، نقلا عن بحار الأنوار ٤٠ : ٣١٨.

١١٢

١ ـ أنّ الإمام عليه‌السلام أمر عثمان بالاقتداء به ، والسير على منهجه ، وهو عليه‌السلام قد تجرّد تجرّدا كاملا عن جميع متع الحياة الدنيا ، وعاش عيشة البؤساء والمحرومين ، فلم يدّخر من غنائم الدنيا وفرا ، ولم يحز من أرضها شبرا ، وقد صعدت روحه العظيمة إلى الله ، ولم يخلف من حطام الدنيا سوى سبعمائة درهم جمعها من رواتبه ليشتري بها خادما يستعين به على قضاء حوائجه.

٢ ـ أنّ الإمام عليه‌السلام أعرب أنّ أهل البيت لم يملكوا من الدنيا سوى فدك التي منحها النبيّ لبضعته الزهراء ، فأمّمها أبو بكر واستولت عليها السلطة ، وقد سخت نفسه الشريفة ، ولم يقم لها أي وزن.

٣ ـ أنّه عليه‌السلام قد روّض نفسه على التقوى وحمّلها رهقا ، حتى تأتي آمنة مطمئنّة يوم الفزع الأكبر.

٤ ـ أنّه لمّا تقلّد الخلافة أعرض عن جميع رغائب الحياة وبات في جميع أوقاته جائعا ، وذلك مواساة لمن لا عهد له بالقرص ، سواء كان في عاصمته أم في غيرها.

٥ ـ أنّه أجاب من يسأل أنّه كيف استطاع أن ينازل الأقران ، ويجندل الأبطال ، ويخوض أعنف المعارك مع بساطة عيشه ، وقلّة طعامه ، فأجاب عليه‌السلام أنّ الشجرة البرّية أصلب عودا ، وأقوى وقودا ، وأبطأ خمودا ، وأنّه من تلك الشجرة ، وأنّه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كالصنو من الصنو ، والذراع من العضد.

٦ ـ أنّه أخبر عن شجاعته النادرة ، فإنّ العرب جميعا لو اجتمعوا على قتاله لما انهزم عنهم ، وقابلهم ببسالة وشجاعة ، وسيجهد نفسه على تطهير الأرض من معاوية وحزبه الذين لا يألون جهدا في محاربة الله تعالى ورسوله.

٧ ـ أنّه أعلن عن محاربته للدنيا ، وأنّها لو كانت جسما مرئيّا لأقام عليها حدود الله تعالى ... ثمّ أعرض إعراضا كاملا عن الدنيا ، وأنّه روّض نفسه الشريفة على

١١٣

البؤس والفقر حتى جعلها تحنّ إلى القرص من الخبز.

هذه بعض محتويات هذه الرسالة الخالدة التي ألقت الأضواء على زهد الإمام عليه‌السلام وتقواه.

رسالة اخرى من الإمام لعثمان :

بعث الإمام عليه‌السلام رسالة إلى عثمان حينما بلغه زحف الجيش الذي تقوده عائشة والزبير وطلحة لاحتلال البصرة وقد جاء فيها :

من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف.

أمّا بعد ، فإنّ البغاة عاهدوا الله ثمّ نكثوا وتوجّهوا إلى مصرك ، وساقهم الشّيطان لطلب ما لا يرضى الله به ، والله أشدّ بأسا وأشدّ تنكيلا.

فإذا قدموا عليك فادعهم إلى الطّاعة والرّجوع إلى الوفاء بالعهد والميثاق الّذي فارقونا عليه.

فإن أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا عندك ، وإن أبوا إلاّ التّمسّك بحبل النّكث والخلاف فناجزهم القتال حتّى يحكم الله بينك وبينهم وهو خير الحاكمين.

وكتبت كتابي هذا إليك من الرّبذة ، وأنا معجّل المسير إليك إن شاء الله (١).

عرضت هذه الرسالة إلى قيام طلحة والزبير وعائشة بالتمرّد على حكومة الإمام عليه‌السلام ، ونكث بيعته ، والتصدّي لهم فإن استقاموا ورجعوا إلى الحقّ قابلهم

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٩ : ٣١٢.

١١٤

عثمان واليه بمزيد من الحفاوة والتكريم ، وإن أصرّوا على الغيّ والعدوان ناجزهم حتى يحكم الله بينهم وبينه ، وقد عرضنا إلى تفصيل هذه الأحداث المؤسفة في بعض فصول هذا الكتاب.

١١٥

ولاية عبد الله بن عبّاس

لعلّ من المفيد جدّا أن نعرض ـ بإيجاز ـ لسيرة عبد الله بن عبّاس وسلوكه ، وولايته عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام لمدينة البصرة ، وما اتّهم به من الخيانة لبيت مال المسلمين ، وغير ذلك ممّا يتعلّق بهذا الموضوع.

شخصية ابن عباس :

أمّا عبد الله بن العباس فهو ألمع شخصية إسلامية في الاسرة العباسية ، فقد تتلمذ عند الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأخذ منه علومه ، التي منها علم الفقه وتفسير القرآن الكريم ، وقد برز في هذين العلمين ، فإنّك لا تقرأ في مصادر بحوثهما إلاّ وتجد له الرأي الأصيل فيهما ، وكما كان عالما في طليعة علماء عصره فقد كان يتمتّع بالفطنة والذكاء ووفور العقل وعمق النظر في مجريات الأحداث ، حتى اتّخذه الإمام عليه‌السلام مستشارا ووزيرا له ، فكان يستشيره في شئونه السياسية والاجتماعية ، وقد ألمح المؤرّخون إلى كثير من ذلك ، وبالاضافة إلى ذلك كان الإمام عليه‌السلام يبعثه للمناظرة والمحاججة مع المتمرّدين من أصحابه وغيرهم ، فقد بعثه إلى الخوارج فحاججهم وناظرهم ، ولم يستطيعوا المناقشة والرّد عليه ، وظلّوا واجمين.

وكانت له المكانة المرموقة والمتميّزة عند عمر بن الخطّاب ، فكان يجلّه ويحترمه كثيرا ، وجرت بينهما عدّة مناظرات دلّت على سعة افق ابن عباس ووفرة فضله ، ومن بين تلك المناظرات :

١١٦

١ ـ أنّ ابن عبّاس كان مع عمر في بعض سكك المدينة ، ويده في يده ، فقال لابن عباس :

يا ابن عباس ، ما أظنّ صاحبك ـ يعني الإمام ـ إلاّ مظلوما.

فردّ عليه ابن عباس بمنطقه الفيّاض :

يا أمير المؤمنين ، فاردد عليه ظلامته.

فلذعه كلام ابن عباس ، وسحب يده من يده ، ووقف وجعل يهمهم ساعة ثمّ وقف فلحقه ابن عباس ، وانبرى عمر قائلا له :

ما أظنّ القوم منعهم من صاحبك إلاّ أنّهم استصغروه.

فأجابه ابن عباس :

والله! ما استصغره الله حين أمره أن يأخذ سورة براءة من أبي بكر (١).

ووجم عمر ولم يستطع أن يقول شيئا أمام هذه الحجّة الدامغة.

٢ ـ والتقى ابن عباس مع عمر فبادر عمر قائلا :

يا ابن عباس ، أتدري ما منع قومكم منكم ـ أي من الخلافة ـ بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

قال ابن عباس : فكرهت أن اجيبه ، وقلت له :

إن لم أكن أدري فإنّ أمير المؤمنين يدري.

وسارع عمر قائلا :

كرهوا أن يجمعوا لكم النبوّة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحا بجحا ، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت.

وانبرى ابن عباس يفنّد هذه المقالة بلسانه الذرب وحجّته الواضحة قائلا :

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ : ١٨.

١١٧

يا أمير المؤمنين ، إن تأذن لي في الكلام وتمطّ عني الغضب تكلّمت.

تكلّم.

أمّا قولك يا أمير المؤمنين : اختارت قريش فأصابت ووفّقت ، فلو أنّ قريشا اختارت لأنفسها حين اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود ...

وأمّا قولك : إنّهم أبوا أن تكون لنا النبوّة والخلافة فإنّ الله عزّ وجلّ وصف قوما بالكراهة فقال : « ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ».

ومن الغريب جدّا أن يكون موضوع الخلافة ، وانتخاب الخليفة بيد قريش ، وهي التي حاربت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم تأل جهدا في مناجزته حتى فرّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم في جنح الليل البهيم ، وترك أخاه وابن عمّه في فراشه ، ثمّ لاحقوا النبيّ في المدينة فجهّزوا الجيوش للقضاء عليه واستئصال دعوته فكانت واقعة بدر واحد وغيرهما ، وقد قاوموا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بجميع طاقاتهم ، ولمّا أعزّ الله تعالى رسوله ، ونصره النصر المبين فاحتلّ مكّة ، وعفا عنهم بلطفه وفضله ، وكان الأجدر بهم أن تضرب أعناقهم وتسبى نساؤهم كبقيّة المشركين ... إلاّ أنّ للنبوّة فيضا شاملا للأعداء وغيرهم وعلى أي حال فلا علاقة لقريش في الإسلام مطلقا ، وإنّما أمر الخلافة بيد الاسرة النبوية والأنصار الذين نصروا الإسلام في أيام غربته ومحنته.

ومهما يكن الأمر فإنّ عمر قد ثقل عليه كلام ابن عباس فقال له :

هيهات والله يا ابن عباس! قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن أقرّك عليها فتزيل منزلتك منّي.

وبادر ابن عبّاس قائلا :

ما هي يا أمير المؤمنين؟ فإن كانت حقّا فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك ، وإن كانت باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه.

١١٨

قال عمر : إنّك تقول : إنّما صرفوها ـ أي الخلافة ـ عنكم حسدا وبغيا وظلما.

وأجابه ابن عباس بأروع الحجّة قائلا :

أمّا قولك يا أمير المؤمنين! ظلما ، فقد تبيّن للجاهل والحليم ، وأمّا قولك :

حسدا ، فإنّ آدم حسد ، ونحن ولده المحسودون.

والتفت إليه عمر بغيظ قائلا :

هيهات ، هيهات ، أبت والله! قلوبكم يا بني هاشم! إلاّ حسدا لا يزول.

وأجابه ابن عباس قائلا :

مهلا يا أمير المؤمنين! لا تصف قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا بالحسد والغش ... فإنّ قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من قلوب بني هاشم.

ولذع هذا الكلام مشاعر عمر ، وصاح بابن عباس :

إليك عنّي يا ابن عباس.

افعل.

وانحاز ابن عباس عنه ، فلمّا أراد الانصراف استحيا عمر فقال له :

يا ابن عباس ، مكانك ، فو الله! إنّي لراع لحقّك ، محبّ لما سرّك.

وسارع ابن عباس قائلا :

يا أمير المؤمنين ، إنّ لي عليك حقّا ، وعلى كلّ مسلم ، فمن حفظه فحظّه أصاب ، ومن أضاعه فحظّه أخطأ.

ثمّ انصرف ابن عباس عنه (١).

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٣ : ٦٣ ـ ٦٤. تاريخ الطبري ٥ : ٣١. شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٣ : ١٠٧.

١١٩

هذه بعض المناظرات التي جرت بين عمر وابن عباس ، وقد دلّت على قدراته العلمية وسعة معارفه وفضله.

ولايته على البصرة :

ومنيت البصرة بعد حادثة الجمل بالفتن والخطوب السود ، فقد شاع فيها الثكل والحزن والحداد لكثرة من قتل فيها من أنصار عائشة ، والطالبين بدم عثمان ، فكان أبناؤهم واخوانهم وأصدقاؤهم يحقدون على الإمام أشدّ ألوان الحقد والبغض.

وقد عهد الإمام عليه‌السلام بولاية هذا القطر الذي شاعت فيه الفتن والأهواء إلى حبر الامّة ليبلور الموقف ، ويحسم الفتن ويفنّد أباطيل أعدائه ، ويوضّح لهم القصد ، ويهديهم إلى سواء السبيل.

رسائل الإمام لابن عبّاس :

وقد زوّده الإمام عليه‌السلام ببعض الرسائل الحافلة بالوعظ والإرشاد ونكران الذات والتي منها :

١ ـ كتب الإمام عليه‌السلام إلى ابن عبّاس هذه الرسالة الموجزة :

أمّا بعد فلا يكن حظّك في ولايتك ما لا تستفيده ، ولا غيظا تشفيه ، ولكن إماتة باطل وإحياء حقّ (١).

وحدّدت هذه الرسالة مسئولية ابن عباس في ولايته على البصرة أن يقيم الحقّ ويميت الباطل ، وأن لا يكون هدفه الحصول على المال أو التشفّي من خصومه وأعدائه ، وهو تصوّر بارع للسياسة الإسلامية التي بنيت على الحقّ المحض والعدل الخالص.

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ١ : ٣٢٧.

١٢٠