المناهج التفسيريّة في علوم القرآن

الشيخ جعفر السبحاني

المناهج التفسيريّة في علوم القرآن

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-357-485-7
الصفحات: ٢٦٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

أ. تفسير ما لا يدرك علمه إلّا ببيان الرسول

يظهر من الطبري انّه يخصُّ التفسير بالرأي بتفسير آي القرآن الذي لا يدرك علمه إلّا بنص بيان الرسول ، ومن أظهر مصاديقه ، الآيات الواردة حول الفرائض كالصلاة والزكاة والحجّ حيث إنّ الأجزاء والشرائط والموانع رهن بيان الرسول ، يقول الطبري في ذلك الصدد :

وهذه الأخبار شاهدة لنا على صحّة ما قلنا من أنّ ما كان من تأويل آي القرآن الذي لا يدرك علمه إلّا بنصّ بيان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بنصبه الدلالة عليه ، فغير جائز لأحد القيل فيه برأيه ، بل القائل في ذلك برأيه وإن أصاب الحقّ فيه فمخطئ فيما كان ، من فعله بقيله فيه برأيه ، لأنّ إصابته ليست إصابة موقن أنّه محقّ وإنّما هو إصابة خارص وظانّ والقائل في دين الله بالظن قائل على الله ما لم يعلم ، وقد حرم الله جلّ ثناؤه ذلك في كتابه على عباده ، فقال : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) فالقائل في تأويل كتاب الله الذي لا يُدرك علمه إلّا ببيان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي جعل الله إليه بيانه قائل بما لا يعلم وإن وافق قيله ذلك في تأويله ما أراد الله به من معناه ، لأنّ القائل فيه بغير علم قائل على الله ما لا علم له به. (١)

الظاهر انّ ما ذكره من مصاديق التفسير بالرأي وليس التفسير بالرأي منحصراً به.

ويظهر من السيد الخوئي قدس‌سره احتمال ذلك المعنى ، قال :

______________________

١. تفسير الطبري : ١ / ٢٧.

٦١
 &

ويحتمل انّ معنى التفسير بالرأي ، الاستقلال في الفتوىٰ من غير مراجعة الأئمّة عليهم‌السلام مع أنّهم قرناء الكتاب في وجوب التمسك ، ولزوم الانتهاء إليهم ، فإذا عمل الإنسان بالعموم أو الإطلاق الوارد في الكتاب ، ولم يأخذ التخصيص أو التقييد الوارد عن الأئمّة كان هذا من التفسير بالرأي. (١)

ب. إخضاع القرآن للعقيدة

إنّ المراد من التفسير بالرأي هو أن يكون الرأي والعقيدة المسبقة هو الملاك للتفسير ، فالمفسّـر ـ مكان أن يتجرد عن الآراء المسبقة ويوطِّن نفسه على ما توحيه الآية حسب الأُصول والقواعد ـ يُخضع القرآن لعقيدته ، ويعرضه عليها. مع أنّ القرآن حجّة الله على خلقه وعهده إلى عباده فيجب أن يُحتكم إليه ويصدر عن حكمه لا بالعكس.

إنّ موقف المفسر من كلام الله موقف المتعلّم من المعلم ، وموقف مجتني الثمرة من الشجرة ، فيجب أن يتربص إلى أن ينطلق المعلّم فيأخذ ما يلقيه ، ويجتني الثمرة في أوانها وفي إيناعها ، غير انّ هذه الأدوار تنعكس حين التفسير بالرأي.

ومن هذه المقولة دعم أرباب الملل والنحل آرائهم وحججهم بالقرآن مع أنّ لهم آراء متضاربة ، والقرآن لا يعترف إلّا بواحد منها ، وما ذلك لأنّهم يصدرون عن التفسير بالرأي ولا يحتكمون إلى القرآن بل ـ مكان عرض عقيدتهم على القرآن ـ يعرضون القرآن على العقيدة ويطبقونه عليها.

ج. تفسير القرآن بغير الأُصول الصحيحة

تفسير القرآن بغير الأُصول والقواعد التي يتوقف التفسير عليها ، من مقولة

______________________

١. البيان : ٢٨٨.

٦٢
 &

التفسير بالرأي ، فإنّ لتفسير كلّ كلام ـ إلهياً كان أم بشرياً ـ أُصولاً لا يعرف المراد من غيره إلّا في ظلها ، وقد عرفت تلك المقدّمات عند البحث في ما يهمّ المفسّر.

وقد أُريد الوجهان من الروايات الناهية عن التفسير بالرأي ، وقد اختارهما لفيف من المحقّقين ، نذكر ما يلي :

قال أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ( المتوفّى ٦٧١ هـ ) قال ـ بعد نقل روايات ناهية عن التفسير بالرأي ـ :

إنّ النهي يحمل على أحد وجهين :

أحدهما : أن يكون له في الشيء رأي ، وإليه ميل من طبعه وهواه ، فيتأوّل القرآن على وفق رأيه وهواه ، ليحتج على تصحيح غرضه ، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لما يلوح له من القرآن ذلك المعنى. وهذا النوع يكون تارة مع العلم كالذي يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته ، وهو يعلم ان ليس المراد من الآية ذلك ، ولكن مقصوده أن يُلبس على خصمه ، وتارة يكون مع الجهل وذلك إذا كانت الآية محتملة فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه ، ويرجِّح ذلك الجانب برأيه وهواه ، فيكون قد فسّر برأيه ، أي رأيه حملَه على ذلك التفسير ، ولولا رأيه لما كان يترجّح عنده ذلك الوجه.

الثاني : أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية ، من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن وما فيه من الألفاظ المبهمة ، وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير ، فمن لم يُحكِّم ظاهر التفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه ، ودخل في زمرة من فسر القرآن بالرأي ، والنقل والسماع لا بدّ له منه في ظاهر التفسير ليتقى به مواضع الغلط ، ثمّ بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط. والغرائب التي لا تفهم إلّا بالسماع كثيرة ، ولا

٦٣
 &

مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر. (١)

وقد اختار ابن عاشور ( المتوفّـى عام ١٢٨٤ هـ ) هذا المعنى ، فذكر للتفسير بالرأي هذين الوجهين ، أيضاً وقال :

الأوّل : أن يكون له ميل إلى نزعة أو مذهب أو نحلة فيتأوّل القرآن على وفق رأيه ويصرفه عن المراد ويُرغمه على تحمله ما لا يساعد عليه المعنى المتعارف ، فيجرّ شهادة القرآن لتقرير رأيه ، ويمنعه عن فهم القرآن حقّ فهمه ما قيّد عقله من التعصب ، عن أن يجاوزه فلا يمكنه أن يخطر بباله غير مذهبه.

الثاني : انّ المراد بالرأي هو القول عن مجرّد خاطر دون استناد إلى نظر في أدلّة العربية ومقاصد الشريعة وتصاريفها ، وما لا بدّ منه من معرفة الناسخ والمنسوخ وسبب النزول فهذا لا محالة إن أصاب فقد أخطأ في تصوره بلا علم. (٢)

فعلى ذلك التفسير بالرأي يتلخص في أمرين :

الأوّل : أن يتوخى من تفسير القرآن دعم عقيدته ورأيه المُسْبَق حتى يحتج بالآية على الخصم أو يبرر به عمله ، ففي ذلك الموقف ينظر المفسر إلى القرآن لا بنظر الاهتداء بل بنظر دعم موقفه وعقيدته ومذهبه.

الثاني : الاستبداد بالرأي في تفسير القرآن من دون أن يقتفي الأُسلوب الصحيح في تفسير القرآن حسب ما قدمناه عند البحث في مؤهلات المفسر.

ويظهر من السيد الطباطبائي انّه خص التفسير بالرأي بالقسم الثاني ببيان آخر وهو أنّ كلام الله سبحانه لرفع مستواه لا يُفسّر كما يفسّر به كلام الإنسان حيث قال :

______________________

١. تفسير القرطبي : ١ / ٣٣ ـ ٣٤. ولاحظ تفسير الصافي : ١ / ٣٩.

٢. التحرير والتنوير : ١ / ٣٠ ـ ٣١.

٦٤
 &

إنّ الاضافة في قوله « برأيه » يفيد معنى الاختصاص والانفراد والاستقلال ، بأن يستقل المفسر في تفسير القرآن بما عنده من الأسباب في فهم الكلام العربي ، فيقيس كلامه تعالى بكلام الناس ، فانّ قطعة من الكلام من أيِّ متكلم إذا ورد علينا ، لم نلبث دون أن نعمل فيه القواعد المعمولة في كشف المراد الكلامي ، ونحكم بذلك انّه أراد كذا ، كما نجري عليه في الأقارير والشهادات وغيرهما كلّ ذلك لكون بياننا مبنياً على ما نعلمه من اللغة ، ونعهده من مصاديق الكلمات ، حقيقة ومجازاً.

والبيان القرآني غير جارٍ هذا المجرىٰ ، بل هو كلام موصول بعضه ببعض ، في حين انّه مفصول ينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض كما قاله علي عليه‌السلام.

فلا يكفي ما يتحصل من آية واحدة باعمال القواعد المقررة في العلوم المربوطة في انكشاف المعنى المراد منها دون أن يتعاهد جميع الآيات المناسبة لها ويجتهد في التدبر فيها كما يظهر من قوله تعالى : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ). (١)

فالتفسير بالرأي المنهي عنه أمر راجع إلى طريق الكشف دون المكشوف.

وبعبارة أُخرى : إنّما نهى عليه‌السلام عن تفهّم كلامه على نحو ما يتفهّم به كلام غيره وإن كان هذا النحو من التفهّم ربما صادف الواقع ، والدليل على ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الرواية الأُخرى : « من تكلّم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ » فانّ الحكم بالخطأ مع فرض الإصابة ليس إلّا لكون الخطأ في الطريق.

والمحصل : انّ المنهي عنه إنّما هو الاستقلال في تفسير القرآن واعتماد المفسر

______________________

١. النساء : ٨٢.

٦٥
 &

على نفسه من غير رجوع إلى غيره ، ولازمه وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع إليه ، وهذا الغير لا محالة إمّا هو الكتاب أو السنة ، وكونه هو السنّة ينافي القرآن و نفس السنة الآمرة بالرجوع إليه وعرض الأخبار عليه ، فلا يبقى للرجوع إليه والاستمداد منه في تفسير القرآن إلّا نفس القرآن. (١)

ومع انّه فصل الكلام في القسم الثاني من التفسير بالرأي ـ لم تفته الإشارة إلى القسم الاوّل في بعض كلماته قال :

يعرض المفسر الآية على ما توصل إليه العلم أو الفلسفة من نظريات أو فرضيات مقطوع أو مظنون بهما ظناً راجحاً ....

نموذج لكلّ من القسمين

ثمّ إنّ تأويلات الباطنية أو المتصوفة كلّها من قبيل القسم الأوّل ، وسيوافيك البحث عنها في موضعها ، ولتسليط الضوء نذكر مثالاً :

أثبتت الأُصول الفلسفية انّ الأصل هو الوجود وانّ الماهية أمر انتزاعي من حدّ الوجود والمنسوب إلى الجاعل هو الوجود ، غير أن تنزل الوجود لا ينفك عن عروض الحدود ، فالصادر من الله سبحانه هو الوجود غير المحدّد المنبسط على الماهيات.

هذا ما أثبتته الأُصول الفلسفية ، ثمّ إنّ العرفاء يدعمون تلك النظرية بالآية التالية :

يقول سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ) (٢). ويفسرون مدّ الظل ببسط الوجود على الماهيات ،

______________________

١. الميزان : ٣ / ٧٦ ـ ٧٧.

٢. الفرقان : ٤٥.

٦٦
 &

حتّى انّ بعض المشايخ من العرفاء كان يدّعي انّ دلالة الآية على هذا المعنى أمر بديهي ، فقد نظر العارف إلى القرآن لا بنظر الاهتداء بل بنظر ما يدعم عقيدته. مع أنّ الآية أجنبية عمّا رامه ، فإنّ الآية وما بعدها بصدد بيان آياته سبحانه الكونية من جعل الليل لباساً والنوم سباتاً والنهار نشوراً ، وإرسال الرياح بشرى بين يدي رحمته ، إلى غير ذلك من الآيات ، فأي صلة لها بالوجود المنبسط على الماهيات ؟!

ومن القسم الثاني ، أعني : تفسير القرآن من غير استناد إلى أصل صحيح ، بل اعتماداً على ظاهر الآية من دون الوغول فيها بالأساليب المعهودة ، يقول سبحانه : ( وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ). (١)

إنّ من يقتنع في تفسير القرآن بالقواعد العربية مع غض النظر عن سائر الأُصول ربما يجعل مبصرة وصفاً للناقة فيصف الناقة بالإبصار مع أنها وصف لموصوف محذوف أي : « وجعلنا الناقة آية مبصرة » فالآية من قبيل الاختصار بحذف الموصوف.

الاجتهاد في فهم القرآن غير التفسير بالرأي

ثمّ إنّ المحظور هو التفسير بالرأي على ما عرفت ، وأمّا السعي وبذل الجهد في فهم مقاصد الآيات ومراميها عن الطرق المألوفة بين العلماء خلفاً عن سلف فليس بمحظور بل هو ممدوح ، بل لا محيص عنه في فهم القرآن الكريم.

فإنّ ما يهتدي إليه المفسر بعد التفكّر والتأمّل في مفردات الآية وجملها وسياقها ونظائرها من الآيات إذا كان له صلة لها فهو تفسير مقبول ولا صلة له

______________________

١. الإسراء : ٥٩.

٦٧
 &

بالتفسير بالرأي ، وإذا كانت الآية ممّا تتضمن حكماً فقهياً يرجع في فهم الموضوع وشرائطه وجزئياته وموانعه إلى الروايات والاخبار المأثورة ، ثمّ يتمسك في موارد الشك في اعتبار شيء ، أو خروج فرد عن تحت الدليل بإطلاقها أو عمومها فلا يعد ذلك تفسيراً بالرأي بل اجتهاداً معقولاً ، مقبولاً في فهم الآية.

ولعلّ كون القرآن كتاب القرون والأجيال لا تنقضي عجائبه يلازم قبول هذا النوع من التفسير الاجتهادي ، ولأجل ذلك لم يزل كتاب الله طريّاً في غضون الأجيال لم يندرس ولم يطرأ عليه الاندراس ، بل هو طريّ ما دامت السماوات والأرض ، ولازم ذلك وجود معارف وحقائق في القرآن يهتدي إليها الإنسان بالتعمّق في دلالاته اللفظية : المطابقية والتضمنية والالتزامية ، وإن كان السلف في الأعصار الماضية غافلين عن هذه المعاني ، ولعلّه إلى ذلك يشير الصادق عليه‌السلام في جواب من سأله أنّه ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلّا غضاضة بقوله : « لأنّ الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ، ولا لناس دون ناس ، وهو في كلّ زمان جديد ، وعند كلّ قوم غض إلى يوم القيامة ». (١)

وبالجملة فإيصاد هذا الباب في وجه المفسرين ، يوجب وقف الحركة العلمية في فهم الكتاب العزيز ، وبالتالي يكون القرآن كسائر الكتب محدود المعنى ومقصور المراد لا يحتاج إلى تداوم البحث وتضافره.

ولأجل إعطاء نموذج من الاجتهاد الصحيح في فهم القرآن نذكر اجتهاد الإمام أبي الحسن الهادي عليه‌السلام في تفسير الآية.

روى ابن شهر آشوب في مناقبه ، قال :

______________________

١. بحار الأنوار : ٩٢ / ١٥ ، باب فضل القرآن ، الحديث ٨.

٦٨
 &

قُدِّم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة ، فأراد أن يقيم عليه الحد ، فأسلم ، فقال يحيى بن أكثم : الإيمان يمحو ما قبله ، وقال بعضهم : يضرب ثلاثة حدود ، فكتب المتوكل إلى الإمام الهادي عليه‌السلام يسأله ، فلما قرأ الكتاب ، كتب : « يضرب حتى يموت ».

فأنكر الفقهاء ذلك ، فكتب إليه يسأله عن العلّة ، فكتب :

( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ) (١) ، فأمر به المتوكل فضرب حتى مات. (٢)

فالآية تدلّ بوضوح على أنّ الإيمان لدفع البأس ، غير نافع في دفعه وعليه جرت سنة الله سبحانه ، فليكن المقام من صغريات تلك الكبرى.

« تمّ الكلام في المقدّمات التمهيديّة فلنشرع في بيان المناهج التفسيرية »

______________________

١. غافر : ٨٤ ـ ٨٥.

٢. مناقب آل أبي طالب : ٤ / ٤٠٣ ـ ٤٠٥.

٦٩
 &

المناهج التفسيريّة

٧٠
 &

المناهج التفسيريّة

٧١
 &

المناهج التفسيريّة

٧٢
 &

إيضاح

المنهج التفسيري غير الاهتمام التفسيري

وقبل الخوض في استعراض المناهج التي يغلب عليها الطابَع العقلي أو النقلي ، نذكر نكتة في غاية الأهمية ، وهي ضرورة التمييز بين موضوعين : هما :

١. المنهج التفسيري.

٢. الاهتمام التفسيري.

فنقول : إنّ هاهنا بحثين :

الأوّل : البحث عن المنهج التفسيري لكل مفسّـر ، وهو تبيين طريقة كل مفسر في تفسير القرآن الكريم ، والأداة والوسيلة التي يعتمد عليها لكشف الستر عن وجه الآية أو الآيات ؟ فهل يأخذ العقلَ أداةً للتفسير أو النقل ؟ وعلى الثاني فهل يعتمد في تفسير القرآن على نفس القرآن ، أو على السنّة ، أو على كليهما ، أو غيرهما ؟

وبالجملة ما يتخذه مفتاحاً لرفع إبهام الآيات ، وهذا هو ما نسمّيه المنهج في تفسير القرآن في كتابنا هذا.

الثاني : البحث عن الاتجاهات والاهتمامات التفسيرية ، والمراد منها المباحث التي يهتم بها المفسّـر في تفسيره مهما كان منهجه وطريقته في تفسير الآيات ، مثلاً تارة يتجه إلى إيضاح المادة القرآنية من حيث اللغة ، وأُخرى إلى صورتها العارضة

٧٣
 &

عليها من حيث الإعراب والبناء ، وثالثة يتجه إلى الجانب البلاغي ، ورابعة يعتني بآيات الأحكام ، وخامسة يصبّ اهتمامه على الجانب التاريخي والقصصي ، وسادسة يهتم بالأبحاث الأخلاقية ، وسابعة يهتم بالأبحاث الاجتماعية ، وثامنة يهتم بالآيات الباحثة عن الكون وعالم الطبيعة ، وتاسعة يهتم بمعارف القرآن وآياته الاعتقادية الباقية عن المبدأ والمعاد وغيرهما ، وعاشرة بالجميع حسبما أُوتي من المقدرة.

ولا شك أنّ التفاسير مختلفة من حيث الاتجاه والاهتمام ، إمّا لاختلاف أذواق المفسرين وكفاءاتهم ومؤهّلاتهم ، أو لاختلاف بيئاتهم وظروفهم ، أو غير ذلك من العوامل التي تسوق المفسر إلى صبِّ اهتمامه إلى جانب من الجوانب المذكورة أو غيرها ، ولكن البحث عن هذا لا يمتّ بالبحث عن المنهج التفسيري للمفسّـر بصلة ، فمن تصور أنّ البحث عن اختلاف الاهتمامات والاتجاهات راجع إلى البحث عن المنهج التفسيري فقد تسامح.

وإن شئت أن تفرق بين البحثين فنأتي بكلمة موجزة ، وهي أنّ البحث في المناهج بحث عن الطريق والأُسلوب ، والبحث في الاهتمامات بحث عن الأغراض والأهداف التي يتوخّاها المفسر ، وتكون علة غائية لقيامه بالتأليف في مجال القرآن.

أنواع المناهج التفسيرية

إذا تبيّـن الفرق بين البحثين فنقول : إنّ التقسيم الدارج في تبيين المناهج هو أنّ المفسّـر إمّا يعتمد في رفع الستر عن وجه الآية على الدليل العقلي أو على الدليل النقلي ، ونحن أيضاً نقتفي في هذا البحث أثر هذا التقسيم لكن بتبسيط في الكلام.

٧٤
 &

المنهج الأوّل

١

تفسير القرآن في ظل العقل الصريح

قد يطلق التفسير بالعقل ، ويراد به التفسير بغير النقل ، سواء أكان التفسير بالعقل الفطري ، أم بالقواعد الدارجة في المدارس الكلامية ، أو بتأويلات الباطنية ، أو الصوفية ، أو التفسير حسب العلوم الحديثة. والتفسير بالعقل بهذا المعنى يعم جميع هذا النوع من التفسير. وبهذا صار أيضاً ملاكاً لتقسيم المناهج التفسيرية إلى المنهج العقلي والنقلي.

وقد يطلق ويراد به تفسير الآيات من منظار العقل الفطري والعقل الصريح والبراهين المشرقة غير الملتوية الواضحة لكلّ أرباب العقول ، وهذا هو المراد في المقام ، وهو بهذا المعنى قسم من المناهج التفسيرية العقلية فلاحظ. (١)

وبما انّ العقل الصريح يقسم إلى عقل نظري (٢) وإلى عقل عملي (٣) ، فالآيات الواردة حول العقائد والمعارف تفسر في ظل العقل النظري ، كما أنّ الآيات الواردة حول الحقوق والأخلاق والاجتماع تفسر بما هو المسلم عند العقل العملي.

______________________

١. والعقل بالمعنى الأوّل مقسم للمناهج الستة ، وبالمعنى الثاني قسم منه.

٢ و ٣. المراد من العقل النظري : إدراك ما يجب أن يعلم ، كحاجة الممكن إلى العلة ؛ والمراد من العقل العملي ، إدراك ما يجب أن يعمل ويطبَّق على الحياة ، كقولنا : العدل حسن والظلم قبيح.

٧٥
 &

ولأجل إيضاح هذا النوع من التفسير بالعقل الذي يفارق التفسير على سائر المعايير العقلية كما أشرنا إليها ، نذكر نماذج في مجالي العقل النظري والعقل العملي ، ولنقدّم الكلام في الأوّل على الثاني.

١. واحد لا ثاني له

يقول سبحانه : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) (١) فالآية تنفي أن يكون له سبحانه أيُّ مثل وندّ ، وفي سورة أُخرى يقول : ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) (٢) وهذه عقيدة صريحة إسلامية ، يمكن أن يفسر في ضوء الحكم العقلي كالتالي.

أ. صرف الوجود لا يتعدّد

إذا كان الموجود منزهاً عن كلّ حد وقيد بحيث ليس له واقعية سوى الوجود المطلق فهو لا يتكرر ولا يتعدد ، بمعنى انّه لا تتعقل له الاثنينية والكثرة ، لأنّ ما فرضته ثانياً بحكم انّه أيضاً منزّه عن كلّ قيد وحدّ وخليط يكون مثل الأوّل فلا يتميز ولا يتشخص ، وقد قام الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام بتفسير الآية على ضوء هذا الحكم العقلي.

روى الصدوق أنّ اعرابياً قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : يا أمير المؤمنين أتقول : إنّ الله واحد ؟ قال : فحمل الناس عليه ، وقالوا : يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب ، فقال أمير المؤمنين : « دعوه ، فانّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم » ... ثمّ قال شارحاً ما سأله عنه الأعرابي : « وقول

______________________

١. الشورى : ١١.

٢. الاخلاص : ٤.

٧٦
 &

القائل واحد ، يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، أما ترى أنّه كفر من قال : ثالث ثلاثة ».

ثمّ قال : « معنى هو واحد : انّه ليس له في الأشياء شِبْه ، كذلك ربّنا ، وقول القائل إنّه عزّ وجلّ أحديُّ المعنى يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم ، كذلك ربّنا عزّ وجلّ ». (١)

فالإمام عليه‌السلام لم يكتف ببيان المقصود من وصفه سبحانه بأنّه واحد ، بل أشار إلى معنى آخر من معاني توحيده وهو كونه أحديّ الذات ، الذي يهدف إلى كونه بسيطاً لا جزء له في الخارج والذهن. والتوحيد بهذا المعنى هو القسم الثاني من التوحيد الذاتي المبحوث عنه في محلّه.

ب. التعدّد يستلزم التركيب

لو كان هناك واجب وجود آخر لشارك الواجبان في كونهما واجبي الوجود ، ولا بدّ من تميز أحدهما عن الآخر بشيء وراء ذلك الأمر المشترك ، كما هو الحال في كلّ مثلين ، وذلك يستلزم تركب كلّ منهما من شيئين : أحدهما يرجع إلى ما به الاشتراك ، والآخر إلى ما به الامتياز ، والمركب بما أنّه محتاج إلى أجزائه لا يكون موصوفاً بوجوب الوجود ، بل يكون ـ لأجل الحاجة ـ ممكناً وهو خلاف الغرض.

وباختصار لو كان في الوجود واجبان للزم إمكانهما ، وذلك انّهما يشتركان في وجوب الوجود فإن لم يتميّزا لم تحصل الاثنينية ، وإن تميّزا لزم تركب كلّ واحد منهما ممّا به المشاركة وما به الممايزة ، وكلّ مركب ممكن فيكونان ممكنين ، وهذا خلاف الفرض.

______________________

١. توحيد الصدوق : ٨٣ ـ ٨٤.

٧٧
 &

ج. الوجود اللا متناهي لا يقبل التعدّد

هذا البرهان مؤلّف من صغرى وكبرى والنتيجة هو وحدة الواجب وعدم إمكان تعدّده ، وإليك صورة القياس حتى نبرهن على كلّ من صغراه وكبراه.

وجود الواجب غير متناه.

وكلّ غير متناه واحد لا يقبل التعدّد.

فالنتيجة وجود الواجب واحد لا يقبل التعدّد.

وإليك البرهنة على كلّ من المقدّمتين.

أمّا الصغرى : فانّ محدودية الموجود ، ملازمة لتلبّسه بالعدم. ولأجل تقريب هذا المعنى لاحظ الكتاب الموضوع بحجم خاص ، فانّك إذا نظرت إلى أيّ طرف من أطرافه ترى أنّه ينتهى إليه وينعدم بعده ، ولا فرق في ذلك بين صغير الموجودات وكبيرها ، حتّى أنّ جبال الهملايا مع عظمتها محدودة لا نرى أي أثر للجبل بعد حدّه. وهذه خصيصة كلّ موجود متناه زماناً أو مكاناً أو غير ذلك ، فالمحدودية والتلبس بالعدم متلازمان.

وبتقرير آخر : انّ عوامل المحدودية تمحور في الأُمور التالية :

١. كون الشيء محدوداً بالماهية ومزدوجاً بها ، فانّها حد وجود الشيء والوجود المطلق بلا ماهية غير محدد ولا مقيد وإنّما يتحدّد بالماهية.

٢. كون الشيء واقعاً في إطار الزمان ، فهذا الكم المتصل ( الزمان ) يحدّد وجود الشيء في زمان دون آخر.

٣. كون الشيء في حيّز المكان ، وهو أيضاً يُحدّد وجود الشيء ويخصّه بمكان دون آخر.

٧٨
 &

وأمّا الكبرى فهي واضحة بأدنى تأمل ، وذلك لأنّ فرض تعدّد اللا متناهي يستلزم أن نعتبر كلّ واحد منهما متناهياً من بعض الجهات حتى يصحّ لنا أن نقول هذا غير ذاك ، ولا يقال هذا إلّا إذا كان كلّ واحد متميزاً عن الآخر ، والتميّز يستلزم أن لا يوجد الأوّل حيث يوجد الثاني ، وكذا العكس. وهذه هي « المحدودية » وعين « التناهي » ، والمفروض انّه سبحانه غير محدود ولا متناه.

فيستنتج من هاتين المقدّمتين انّ وجود الواجب واحد لا يقبل التعدّد.

ومن لطيف القول ما نجده في كلامه سبحانه حيث إنّه بعد ما يصف نفسه بالوحدانية يعقبه بوصف القهارية ويقول : ( الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) (١) ، وما ذلك إلّا لأنّ المحدود المتناهي مقهور للحدود والقيود الحاكمة عليه ، فإذا كان قاهراً من كلّ الجهات لم تتحكم فيه الحدود ، فكأنّ اللا محدودية تلازم وصف القاهرية وقد عرفت أنّ ما لا حدّ له يكون واحداً لا يقبل التعدّد ، فقوله سبحانه : ( وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) من قبيل ذكر الشيء مع البيّنة والبرهان.

٢. لا مدبر للكون إلّا الله

إنّ القرآن يستدلّ على وحدة المدبر ببرهان شيق ، ويقول : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (٢) ، والمراد من الإله في المقام هو الإله الخالق رداً للثنوية الذين يظنون انّ خالق الخير غير خالق الشر أو النصرانية حيث ذهبت إلى التثليث.

وحاصل البرهان : إذا افترضنا انّ للكون خالقين وانّ العالم مخلوق لإلهين ،

______________________

١. الرعد : ١٦.

٢. الأنبياء : ٢٢.

٧٩
 &

فانّه لا بدّ أن نقول ـ وبحكم كونهما اثنين ـ انّهما يختلفان عن بعض في جهة أو جهات ، وإلّا لما صحّت الاثنينية والتعدّد أي لما صحّ ـ حينئذٍ ـ أن يكونا اثنين دون أن يكون بينهما أي نوع من الاختلاف.

ومن المعلوم أنّ الاختلاف في الذات سبب للاختلاف في طريقة التدبير والإرادة بين المختلفين ذاتاً.

فإذا كان تدبير العالم العلوي ـ مثلاً ـ من تدبير واحد من الإلهين وتدبير العالم السفلي من تدبير إله آخر ، فإنّ من الحتمي أن ينفصم الترابط بين نظامي العالمين ويزول الارتباط بينهما ، لأنّه من المستحيل تدبير موجود ذي أجزاء منسجمة بتدبيرين متنافيين متضادين.

وينتج من ذلك التفكك بين جزئي العالم ، وبالتالي فساد الكون بأسره من سماوات وأرض وما بينهما ، لأنّا جميعاً نعلم بأنّ بقاء النظام الكوني ناشئ من الارتباط الحاكم على أجزاء المنظومة الشمسية بحيث لو فقد هذا الارتباط على أثر الاختلاف في التدبير ـ مثل أن تختل قوتاً الجذب والدفع ـ لتعرّض الكون بأسره للخلل ولم يبق للكون وجود ولا أثر.

هذا هو البرهان المشرق الذي يفسر الآية بالعقل الصريح.

٣. الله تبارك وتعالى فوق الرؤية

يقول سبحانه : ( لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (١) ، انّ الذكر الحكيم يجُلُّ سبحانه من أن تدركه الأبصار وفي الوقت نفسه يدرك الأبصار ، ويمكن تفسير هذه الآية بالوجوه التالية :

______________________

١. الأنعام : ١٠٣.

٨٠